بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. جعل الله سبحانه وتعالى لنا دائرتين، دائرة الأسرة - أنا وأمي وأبي وإخوتي- وهذه تحدثنا عنها طوال الحلقات الماضية، والدائرة الأخرى الأوسع وهي دائرة العائلة. للأسف العائلات الكبيرة في الواقع الآن مفككة، وكل أسرة صغيرة في جزيرة منعزلة بمفردها، مع أنهم لو فكروا في التجمع لأصبحوا قوة، ولاختفت الكثير من المشاكل، وهدف حلقة اليوم هو عودة التكامل والحضن والتكافل والتواد والتآلف والتفاهم بين العائلة الكبيرة.
أشكال الانعزال:
في بلادنا الآن شكلان من الانعزال داخل العائلات:
1. الشكل الأول: قطيعة؛ نتيجة اختلاف حول ميراث، أو مشكلات وخلافات بسبب عدم استطاعة أفراد العائلة التعايش مع بعضهم في نفس المكان، فتجدهم لا يتحدثون مع بعضهم بعضاً، ويمنعون أولادهم من التواصل مع بعض أفراد العائلة، كيف ينصر الله أمة العائلة الواحدة فيها لا تستطيع التعايش مع بعضها بعضاً؟!!
2. الشكل الثاني: كلٌ منهم في حاله؛ نتيجة انشغالهم بهموم الدنيا وصعوبتها، فتجدهم يتقابلون في المناسبات والأعياد والأفراح أو المآتم، فقط وخصوصاً أهل المدن، وحتى هذه الاجتماعات لا تكمل؛ فتجد الشباب داخل الأسرة يفضلون أصدقاءهم على الذهاب في المناسبات إلى عائلاتهم، وذلك بعكس ما كان يحدث في الماضي من تجمع لأفراد العائلة الواحدة في أيام الإجازات في بيت العائلة الكبير، والسفر إلى المصايف مع بعضهم بعضاً، ولعب الأطفال الصغار مع بعضهم بعضاً، وجلوسهم مع الكبار، والاستماع إليهم في دفء وأمان عائلي.
صحيح ليس هاهنا قطيعة بالمعنى المعروف، ولكن بمفهوم صلة الرحم هذا ليس صلة رحم بل مايحدث ثقافة في منتهى الخطورة لا تُرضي الله عز وجل.
كيف يريد الله منا صلة الرحم؟
صلة الرحم أمر رباني، وفرض على كل منا، انظر إلى الحديث القدسي: "أنا الرحمن وهي الرحم، اشتققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته" أي أنه من وصلها وصله الله برحمته، ومن قطعها قطع الله عنه رحمته. يوم أن خلق الله الخلق تعلقت الرحم بعرش الله، وقالت: يا رب هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: أما ترضين أن أصل من وصلك؟ هل علمتم لماذا نشعر أحياناً بأن حياتنا نكدة، وأن الرحمة منزوعة من حياتنا؟ لماذا نعيب زماننا بينما العيب فينا وما لزماننا عيب سوانا؟ أرجعوا صلة الأرحام وحضن العائلة وانظروا كيف ستحلو الدنيا.
يوم القيامة والجميع صامتون {هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } (المرسلات:35/36)، الوحيد الذي سيتكلم هو الرحم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " تقول الرحم يوم القيامة: يا رب ظُلمت، يا رب قُطعت، يا رب أُذيت، فيقول الله تبارك وتعالى لها: أما ترضين في ذلك اليوم أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك؟".
أثناء العبور على الصراط في طريقك إلى باب الجنة، تكون الرحم والأمانة كلاهما على جانبي الصراط، فتقول الرحم:" يا رب لا يمر حتى يعطيني حقي..."
عندما تجدون شيئاً يتحدث عنه الله تبارك وتعالى، ويُشدد عليه جداً، فاعلموا أن وراءه خير كبير جداً لحفظ ولنصر ولنهضة الأمة.
مبادرات:
يا عائلات.. يا كبراء العائلة.. يا عم فلان.. يا خال فلان.. ويا شباب، ما المانع في أن تبدأوا في تجميع العائلة؟ ما المانع في أن يذهب الشباب إلى كبير من كبراء العائلة وله مركزه داخلها لتجميع العائلة؟ ما المانع في حصر أسمائهم وأرقام هواتفهم والمحتاجين منهم للعمل أو الزواج؟ لماذا لا يكون العيد هذا العام لقاءً لتجميع العائلة ولحضن العائلة، وليس لقاءً عشوائياً؟
أنا لا أتحدث في مجاملات رسمية نفعلها لمجرد أن نرضي بها بعض أفراد عائلاتنا لكي لا يغضبوا منا، أنا أتحدث عن الدين والقرآن، لا يوجد دين سماوي إلا وتحدث ووصى بصلة الرحم سواء كان الإسلام أو المسيحية أو اليهودية.
لا تحرموا أنفسكم وأولادكم من شئ جميل، ألا وهو ذكريات تجمع العائلة عندما يكبرون؛ فتجمع العائلة له حلاوة ليس لها مثيل.
اضطر رجل لظروف ما إلى ترك بلده، وهو بعيد كان يفتعل المناسبات ليتحدث إلى أفراد العائلة فرداً فرداً، ويخبرهم بأنهم مدعوون وأولادهم في بيت أبيه في يوم وموعد محددين، صحيح إنه لن يستطيع التواجد معهم، ولكنه كان يفعل هذا من كثرة حبه للعائلة، ورغبته في تجميعهم، وكان يؤكد على والديه على أن يتصل به أفراد العائلة عبر الهاتف بعد اجتماعهم؛ لأنه يريد أن يشعر ويحس بحضن العائلة، وبعد انتهائه من محادثتهم كان يشعر كأنه عبد الله تعالى أسبوعاً كاملاً.
أحاديث..
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه". ليلة عرفة اجتمع النبي والصحابة للدعاء، فإذا بالنبي يقول: " لا يجلس بيننا الآن قاطع رحم، فإن الرحمة لا تنزل على قوم بهم قاطع رحم". فقام رجل ومضى، ثم عاد بعد قليل....
فقال له النبي: أين كنت؟
قال: يا رسول الله، لىَّ خالة قاطعتها منذ سنين، فسمعتك تقول ما تقول فعدت إليها، وقبلت يديها حتى رضيت، فبكت وبكيت لبكائها، فقالت: غفر الله لي ولك ولأمك.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعال اجلس بجواري.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا رسول الله، فعلت كبيرة، فهل لى من توبة؟
فقال له النبي: ألك أم؟
قال: لا.. ماتت.
فقال له النبي: ألك خالة؟
قال: نعم.
قال: اذهب فبرها، يغفر الله لك.
هل تريد وضوحاً أكثر من هذا؟ هل تريد أحاديث وآيات أوضح من ذلك؟ من سيتحرك يا ترى؟ مَن مِن الشباب سيقول: أنا سوف أقوم بتجميع شباب العائلة؟ تعالوا نجتمع ونسافر ونقرأ القرآن ونذهب للعمرة ونعبد الله سوياً، للأسف بلادنا الآن فرط كل ما فيها بعد ما كان مجمعاً صار فرطاً، صحيح هناك أشياء ليست بأيدينا ولكن بأيدي حكومات ووزارات، ولكن ما بقى لنا ونستطيعه هو عائلتنا.
النبي صلى الله عليه وسلم والعائلة:
أول ما يُؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان الإسلام { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ...} (الحجر:94) بعد أن ظل سراً لمدة ثلاث سنوات، يا ترى يبدأ بمن؟؟ يبدأ بالعائلة، وينزل القرآن ويقول له:
{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } (الشعراء: 214)، وتتجمع العائلة، ويعرض عليهم الإسلام حتى يأتي أبو لهب ويُفسد الاجتماع، بعدها يجمع العائلة مرة أخرى، ويقول لهم: والله لو أضللت الناس جميعاً ما أضللتكم، ولو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، يا صفية _عمة النبي_ انقذي نفسك من النار، يا عباس _عم النبي_ انقذ نفسك من النار، يا فاطمة بنت محمد انقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم شيئاً غير أن لكم رحماً سأبلوها ببلاها.
أما عن آخر الرسالة فينزل القرآن {... قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ...} (الشورى:23 ).
كان ولدا أبي لهب عتبة وعتيبة قد عقدا زواجهما بابنتي النبي رقية وأم كلثوم، فمن غِل أبي لهب أمرهما بتطليق ابنتي الرسول صلى الله وعليه وسلم، وأشاع بين قريش أن لا يتزوج أحد ابنتي محمد، واستجابت قريش- ماذا تفعل لو فعل أحد أقاربك هذا ببناتك؟- انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، ماذا فعل؟.
قال: أين عتبة وعتيبة ابني عمي؟
فقال العباس: أنا آتيك بهما يا رسول الله.
فجاء عتبة وعتيبة يرتجفان، فقال: يا عتبة ويا عتيبة يا ابني العم، والله لو كذبت الناس ما كذبتكم، ولو أضللت الناس ما أضللتكم، والله لا أريد لكم إلا الخير، وإني أعرض عليكما الإسلام.
فقالا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فأخذهما من أيديهما إلى الكعبة، يقول عمر بن الخطاب: فرأيت النبي يمسك بأيديهما، ويضع خده على الكعبة، ويلصق بطنه بالكعبة بالملتزم، ويقول: يا رب اهدِ عتبة وعتيبة، اهدِ ابني عمي. يقول عمر: كلما نظرت في وجهيهما رأيت الهداية في وجهيهما.
يأتي أبو سفيان يوم فتح مكة من بعيد، فيقابله سيدنا علي بن أبي طالب، فيقول أبو سفيان له: كيف سأقابل محمداً الآن؟ قال سيدنا علي: إذا دخلت عليه فقل له ما قاله إخوة يوسف ليوسف: {... تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } (يوسف:91). فقال أبو سفيان: أوتنفع يا علي؟ قال: نعم. فدخل على النبي عليه الصلاة والسلام، وقال {... تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم برد يوسف {... لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ ...} (يوسف:92).
يحب الرسول صحابته، ولكنه يحب الصحابة من عائلته حب آخر، يموت جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة في غزوة مؤته، لكن يبكي الرسول على جعفر بكاءً ليس له مثيل. سيدنا أبو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي يموت شهيداً في غزوة بدر، فيظل يبكي ويقول: اللهم إني أشهدك أن أبا عبيدة بن الحارث وَفّى. ويوم غزوة أُحُد يموت عمه سيدنا حمزة بن عبد المطلب فيظل يبكي بنحيب، ويوم غزوة الخندق يدخل سيدنا على بن أبي طالب مبارزة مع عمرو بن وُد وكان لا يُهزم أبداًً، فيدعو النبي، ويقول: اللهم إنك أخذت أبا عبيدة بن الحارث وهو من أهلي، اللهم إنك أخذت حمزة يوم أحد وهو من أهلي، اللهم إن علياً بن أبي طالب اليوم من أهلي، لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين.
يوم غزوة بدر يتم أسر العباس عم النبي، فيظل النبي مستيقظاً طوال الليل لا ينام، فيقولون له: لمَ لا تنام يا رسول الله؟ فيقول: أنين العباس في أذني.
هل تعرف أن تحب عائلتك بهذا الشكل؟
المصدر: http://www.amrkhaled.net/articles/articles2771.html