بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، أهل بكم في حلقة جديدة مع "عمر صانع حضارة".
نتناول في كل حلقة صفة من صفات صانع الحضارة، ونرى كيف تعلم عمر هذه الصفة من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف قام بتطبيقها. ولكن عند الحديث عن صفات القوة والشجاعة يجب أن ترافق هاتان الصفتان صفات المرونة واللين. ولم يكن عمر يملك هذه الصفة، ولكنه تعلمها من الرسول صلى الله عليه وسلم.
دعني أوجه إليك هذا السؤال: هل تتسم شخصيتك بالمرونة؟ الشخصية المرنة يمكن تشبيهها بكرة التنس، فهي مرنة، إن ألقيتها وأرتطمت بالأرض ترتد إليك، إن ضغطت عليها تجدها مرنة. ولكن زجاجة المياه المعدنية على سبيل المثال إن ضغطت عليها بيديك أنكسرت ولم تتحمل الحمل. هذا هو الفارق بين الشخصية المرنة والشخصية الغير مرنة، تستطيع الشخصية المرنة تحمل ضغوطات الحياة في سعيها نحو إقامة حضارة، ولكن الشخصية الغير مرنة تنكسر مع أحداث الأيام. فهل أنت شخص مرن؟ هل تستطيع الدنيا وأحداثها المختلفة أن تكسرك؟
رسول الله يقرر الذهاب إلى مكة لأداء العمرة
نستعرض حدث هام في حياة عمر، تعلم فيه المرونة في الحق، في العام السادس الهجري وفي شهر ذي القعدة، قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب لمكة لآداء العمرة، وقد حرمت قريش على المسلمين الذهاب إلى مكة لآداء العمرة. ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أو المسلمين قد ذهبوا لآداء العمرة منذ ست سنوات. وقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ذاهب لآداء العمرة مصطحباً معه الهدي وليس السلاح. وقد تحمس عمر بن الخطاب لمثل هذا الموقف لما يحمله من شدة وقوة في التعامل مع قريش. خرج الرسول ومعه ألف وربعمائة صحابي، ولكن أراد النبي أن يذهب أحد ليكون عين له في قريش ليعرف موقف قريش من ذهابه لآداء العمرة، فأرسل بشر بن سفيان، وقد كان كافراً، ولكن استعان به الرسول صلى الله عليه وسلم في آداء المهمة، مما يدل على سمات المرونة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يتعامل مع غير المسلمين ويثق بهم ويثقوا به. وفي طريق النبي صلى الله عليه وسلم لمكة يأتي إليه بشر ويخبره أن قريش قد أرتدت زي النمور وجهزت الأحابيش استعداداً للقتال، وأقسموا أنهم لن يسمحوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدخول مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" والله إني لمعتمر"، وهذا موقف يتسم بالقوة.ثم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" من رجل يدلني على طريق بعيد عن طريق قريش، أسلك به حتى أصل إليهم"، (وهذا موقف يتسم بالمرونة). ويصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وهي منطقة يفصلها عن مكة خمسة عشر كيلو، وهنا تبرك ناقة النبي صلى الله عليه وسلم القصواء، ويحاول الصحابة تحريكها ولكنها لا تتحرك فيقول الصحابة:" خلأت القصواء"، فيقول النبي:" ما خلأت القصواء، وما ذلك لها بخلق، ولكنها حبسها حابس الفيل"، فهي لا تريد أن تدخل مكة عنوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يدخل مكة عنوة (وهذا موقف يتسم بالمرونة)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يُعظم فيه شعائر الله وحرمة البيت الحرام إلا أجبتهم إليه. فتعلم بذلك قريش فترسل له من يفاوضوه على الرجوع عن دخول مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم يفاوض على الدخول إلى مكة.
مفاوضات الحديبية ومواقف النبي بين القوة واللين..
ترسل قريش جزيل بن ورقاء من قبيلة خزاعة ليتفاوض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم إنا ما جئنا إلا لنعتمر، وإن قريش قد أنهكتهم الحرب، وأضرت بهم، وإنا لم نأتي لقتال، ولو شاءوا لمددناهم مدة (صلح) عشرة سنوات على أن يُخلوا بيني وبين الناس فإن أبوا فوالله ما أنا بتارك هذا الأمر (القوة بعد المرونة) حتى تنفرد سالفتي (أي حتى تنفصل رقبتي عن جسدي). فيعود إليهم جزيل ويقول لقريش أن يتركوه يعتمر لأنه مصمم على الأمر، فترفض قريش وترسل غيره ليتفاوض.
ترسل قريش مكرز بن محصن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومكرز شخص معروف عنه الغدر، فيقول له الرسول الكلام ذاته ولكن بقوة أكثر، فيعود مكرز إلى قريش ويخبرهم بأن محمد مُصر على رأيه.
ترسل قريش سيد الأحابيش وهو ممن يعظمون شعائر الله، فعندما يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم من بعيد يقول للصحابة أطلقوا له الهدي، فعندما رأى الهدي عاد إلى قريش قائلاً:" يا معشر قريش أيُترك العرب يطوفون بالبيت ويعتمروا ويُصد بن عبد المطلب، والله إنه لعار أن يُصد بن عبد المطلب.
ثم ترسل قريش عروة بن مسعود الثقفي، وهو رجل سئ في تعامله مع الناس، فذهب عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمسك بلحيته وهو يقول له أن يرجع، فجاء الصحابي المغيرة بن شعبة وضرب عروة على يده بظهر الزند الذي يوضع فيه السيف، ويقول له أرفع يدك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتألم عروة وقال: "من هذا يا محمد؟"، فتبسم النبي وقال له:" أولا تعرفه؟ هذا قريبك المغيرة بن شعبة." ثم يقول عروة للنبي صلى الله عليه وسلم ما أراك قد جمعت إلا أوباش الناس والله إن دخلت إلى مكة لفروا وتركوك، فشتمه أبو بكر، وتعجب عروة لما يعرفه من حلم أبو بكر. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام ليتوضأ، فتجمع حوله الصحابة، ليأخذوا مياه وضوئه ويتنافسوا على التوضأ بها، فحين رأى عروة هذا عاد إلى قريش وقال لهم يا معشر قريش لقد رأيت كسرى في ملكه، والله ما رأيت ملكاً في أصحابه، كما رأيت محمد في أصحابه.
النبي يرسل إلى قريش ليفاوضهم
قرر الرسول بإتخاذ موقف آخر يتسم بالمرونة بأن يُرسل إليهم رسولاً، وأمر عمر بن الخطاب بالذهاب إليهم ليخبرهم أن الرسول ما جاء لقتال، ولكنه جاء معتمراً، ويبدو أن عمر بن الخطاب بدأ في تعلم المرونة، فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس له عزوة في قريش، وأنهم يعلمون غلظته عليهم، فطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرسل عثمان بن عفان فهو أكثر مرونة منه، هنا بدأ عمر بن الخطاب اكتساب صفات المرونة، فقال له رسول الله:" أشرت يا عمر، قم يا عثمان"، وهذا موقف نتعلم فيه المرونة في تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع آراء الصحابة.
إشاعة مقتل عثمان بن عفان
حبست قريش عثمان بن عفان لديهم حتى يروا ماذا سيفعلون، فتخرج إشاعة مقتل عثمان، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" إن كان قد قُتل أخيكم، فمن يبايع على الموت"، فيقوم الصحابة لمبايعة رسول الله وتسمى بيعة الرضوان، وينزل قول الله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)، وأثناء ذلك يعود عثمان بن عفان ومعه سهيل بن عمرو وهو خطيب قريش، وحينما يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو قادماً قال:" والله ما أرسلت قريش سهيل إلا وهي تريد الصلح، والله لا تدعوني قريش إلى صلح إلا أجبتهم إليه"، وهنا يتسم موقف النبي صلى الله عليه وسلم بالمرونة فهو يغير خطته حينما يرى سهيل ويقبل التفاوض.
المفاوضات مع سهيل بن عمرو
يقف الصحابة ويقف عمر بن الخطاب ليتعلم المرونة وفن التفاوض مع سهيل بن عمرو، يطرح سهيل شروط الصلح الأربعة:
1. يرجع المسلمون هذا العام، على أن يعودون العام القادم لآداء العمرة.
2. مدة الصلح عشر سنوات (وهذا ما يريده النبي لأن انتشار الاسلام وقت السلم أوسع من انتشاره وقت الحرب، ففي وقت السلم يستطيع الناس التفكير والتعرف على الحق).
3. إن أرادت قبيلة الدخول في حزب محمد فلها ذلك، وإن أرادت قبيلة الدخول في حزب قريش فلها ذلك.
4. تسترد قريش أي مسلم يرتد عن دينه، وأي كافر يعلن إسلامه تأخذه قريش أيضاً.
وقف الصحابة يشاهدون علي بن أبي طالب يكتب الصلح وهم غير راضون عن شروطه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب أكتب:" بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيل:" لا لا نعرف ما الرحمن ولا الرحيم، أكتب ما نعرفه نحن وآباءك وأهلك أكتب: بسمك اللهم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أمحوها يا علي، أكتب بسمك اللهم"، فقال علي:" لا والله لا أمحو بسم الله الرحم الرحيم"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا علي أمحوها"، فمحاها علي. قال الرسول أكتب يا علي:" هذا ما عاهد عليه محمد عبد الله ورسوله" فقاطعه سهيل:" لا لو نعلم أنك رسول الله لأتبعناك، أكتب أسم أبيك محمد بن عبد الله"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أمحوها يا علي"، فقال علي غاضباً:" والله ما أمحوها"، فقال له رسول الله:" أرينيها يا علي"، فمسحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لعلي:" أكتب يا علي هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو وقريش"، وفي أثناء ذلك أسلم أبو جندل أبن سهيل بن عمرو وهو صديق عمر بن الخطاب، فربطته قريش بالحديد ليأخذوه، فقال له النبي أنهم لم يوقعوا بعد على العهد، فقال له سهيل أن هذا هو أول العهد، فقال له النبي:" أتركه لي يا سهيل"، فقال له سهيل:" والله إن أخذته فلا عهد بيني وبينك"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" يا أبو جندل أرجع وسيجعل الله لك مخرجاً".
تخيل موقف عمر بن الخطاب وهو يسمع كل ذلك ومدى غضبه. أخذ عمر بن الخطاب سيفه وجلس بجانب أبو جندل وقال:" هيييه يا أبو جندل إن الرجل ليقتل أباه في سبيل الله"، فيسكت أبو جندل، فيهز عمر سيف ويقول: "يا أبا جندل إن الرجل ليظلم، ثم يأتي ابنه فيرده إلى الله"، فقال أبو جندل:" فلما لا تقتله أنت يا عمر؟"، فيرد عمر:" ما كان لي أن أعصي أمر رسول الله"، فقال أبو حندل:" ولا أنا عمر لا أعصي أمر رسول الله".
حديث عُمر مع رسول الله بعد توقيع الصلح..
يذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له:" يا رسول الله ألست رسول الله؟ ألسنا على الحق؟"، قال رسول الله بلى، فقال له عمر:"أليسوا على الباطل؟"، فقال رسول الله بلى، فقال عمر:" فما نعطي الدنية في ديننا؟!"، فقال له الرسول:" يا عمر إني على الحق، وإني رسول الله، وإن الله لن يضيعني"، فقال له عمر:" ألم تقل لنا أننا سنطوف بالبيت الحرام وسنعتمر؟"، فقال الرسول:" بلى ولكن هل أخبرتكم أنه هذا العام؟"، فقال عمر:"لا"، فقال له الرسول:" إنك ستطوف بالبيت". ثم ذهب عمر لأبا بكر وأعاد عليه الأسئلة ذاتها، فحذره أبو بكر وقال له إنه رسول الله ولن يضيعه.
ثم نزل الله تعالى قوله: ) إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1)لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)، فذهب عمر بن الخطاب إلى النبي يسأله:" يا رسول الله أفتح هو؟!"، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:" هو والله فتح".
يقول عمر بن الخطاب فعدنا وما هي إلا عامين حتى أسلمت قبائل العرب، وأسلم عدد أكبر من العدد الذي أسلم منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى صلح الحديبية، وعلم عمر أنه الفتح وأن قول رسول الله أفضل من قوله، وأستغفر لربه، يقول عمر:" ووالله لا زلت أتصدق وأصوم وأقوم الليل حتى يغفر الله كلماتي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم".
تعلم عمر بن الخطاب وأكتسب صفة المرونة، فهل تعلمتم أنتم؟، المرونة من أهم صفات صناع الحضارات. فالقوة والمرونة أيضاً من أهم صفات القادة صناع الحضارة. تخيل هذا الجيل الذي تربى على يد النبي صلى الله عليه وسلم وتعلم على يديه، لكم كنت أتمنى أن أترك أولادي عند رسول الله ليخدموه ويتعلموا منه كما فعلت والدة أنس بن مالك، كم أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشتاق إليه. أرأيتم ماذا فعل نع عمر الصلب وكيف تعلم من رسول الله اللين؟! جزاك الله عنا خير يا رسول الله، سنتعلم من سنتك حتى وإن لم نراك، اللهم أجمعنا معه في الفردوس الأعلى من الجنة.
إلى اللقاء وغداً إن شاء الله نرى كيف يتعلم عُمر الحب من رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قام بتحريرها: قافلة التفريغ والإعداد بدار الترجمة
Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة
يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كأنت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخرى فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع
للاستعلام:management*daraltarjama.com