التفسير المطول - سورة التوبة 009 - الدرس (18-70):تفسير الآيات 19-22 ـ أجر العمل بقيمته لا بحجمه.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2010-07-23
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الإيمان أعلى شهادة يحملها الإنسان :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثامن عشر من دروس سورة التوبة، ومع الآية التاسعة عشرة وما بعدها وهي قوله تعالى:
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
أيها الأخوة الكرام، سيدنا العباس عم رسول الله، قبل أن يسلم قال: نحن نسقي الحجيج، ونرعى البيت، ونفك العاني، ونقوم بعمارة البيت، كأنه يريد أن يقول: هذا يكفي، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن ينفي هذه المقابلة بين خدمة البيت وبين الإيمان بالله.
للتقريب: إنسان نال دكتوراه، والثاني طبع الكتب، الذي طبع الكتب عمله جيد لكن هذه الطباعة لا ترقى بالطابع إلى مستوى الدكتوراه.
الإيمان أعلى شهادة يحملها الإنسان، الإيمان مرتبة أخلاقية، والإيمان مرتبة علمية، والإيمان مرتبة جمالية، أي أذواق المؤمن أذواق عليا، سعادته في الاتصال بالله، أهدافه نبيلة، منطلقاته سليمة، مبادئه واضحة، قيمه سامية، الإيمان شيء مهم جداً، الإيمان مرتبة علمية عالية، لكن من يعمل في طبع الكتب، وتأمين مستلزمات الجامعة، وتأمين القرطاسية، وضبط الدوام، هذه الأعمال لا بدّ منها، لكن هذا العمل لا ترقى إلى مستوى أن تكون عالماً.
فلذلك هؤلاء العرب الذين كانوا على إدارة بيت الله الحرام، معهم مفاتيح هذا البيت، هؤلاء يرون قبل أن يؤمنوا أن هذه الأعمال تكفي، أن هذه الأعمال تقوم مقام الإيمان، طبعاً هذه آية تغطي حالة مستمرة، والآن مع أن الأغنياء والله مشهورون أحياناً، أنت عمرت جامعاً، ممتاز، جزاك الله خيراً، بارك الله بك، ونفع بك، وكثّر من أمثالك، لا يكفي أن تعمر جامعاً و لست مستقيماً على أمر الله، ولا يكفي أن تعمر جامعاً ولم تطلب العلم، هذا العمل عند الله محفوظ، تكافأ عليه أضعافاً مضاعفة، لكن يجب أن تجمع بين عمارة المسجد وبين معرفة الله.
مرة ثالثة: هناك أعمال متعلقة بالكتب، وطباعة الكتب، وتأمين المواد الأولية للطلاب، والقرطاسية، وضبط الدوام، كله جيد، لكن هذه الأعمال لا ترقى أن تكون طالباً جامعياً، تنتقل من شهادة إلى شهادة، ومن مرتبة إلى مرتبة، حتى تصبح عالماً كبيراً، هذه شيء وهذا شيء، الخدمات لا بدّ منها، لكن يجب أن تجمع بين هذه الخدمات وبين طلب العلم، هي أمثلة من حياتنا اليومية للتقريب.
الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق :
لذلك قال تعالى حينما قال بعضهم قبل أن يسلم: نحن نسقي الحجيج، ونرعى البيت ونفك العاني، ونقوم بعمارة البيت، انتهى، لكن الله سبحانه وتعالى نفى نفياً قاطعاً أن تكون هذه الأعمال ـ وهي محمودة، ومن يفعلها يؤجر عليها ـ توازي أن تكون مع رسول الله، أن تؤمن به، أن تدافع عنه، أن تنشر هذا الدين، على كلٍّ:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
[سورة الأنعام الآية: 132]
أقول لكم: الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، لكن يمكن أن تقوم بخدمة مسجد ليس غير، لكن ينبغي أن تكون طالب علم فيه، ما أروع أن تكون طالب علم ترقى بعلمك من مقام إلى مقام، ومن حال إلى حال، ومع ذلك لك أعمال صالحة كثيرة منها رعاية المسجد، أما أن تكتفي برعاية المسجد عن طلب العلم، وعن معرفة الله، فهذا ما أراده الله لإنسان يبتغي رضوانه:
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
أحياناً طلب العلم يحتاج إلى جهد، وإلى وقت، وإلى متابعة، وإلى تطبيق، وإلى مجاهدة النفس والهوى، ولكن أهون بكثير أن تدفع مئة مليون وأنت تملك ألف مليون لعمارة مسجد، أنشأ هذا المسجد المحسن الكبير فلان الفلاني، شيء سهل، أي الغني الذي معه آلاف الملايين فرضاً، إن دفع عشرة ملايين لمسجد فهذا عمل رائع لكن لا يوازي أن تكون طالب علم، أن تكون مؤمناً إيماناً يرقى بك إلى أعلى عليين، لا توازن بين هذا وتلك، أقول لكم: اجمع بينهما، لا بدّ من أن تصل إلى الله، لا بدّ من أن تستقيم على أمره، لا بدّ من أن تتقرب إليه، لا بدّ من أن تحبه، لا بدّ من أن تجعل من عملك وسيلة إلى القرب إلى الله عز وجل، إضافة إلى هذا الطلب، وإلى هذا المسعى، وإلى هذا الطموح، لا مانع أن تجعل بعض أعمالك الصالحة خدمة المساجد، لا أن تكتفي بالخدمة.
على الإنسان أن يجمع بين طلب العلم والتقرب إلى الله وخدمة المساجد :
أخواننا الكرام، الذين يقدمون لهذا المسجد شيئاً كثيراً من وقتهم، ومن خدماتهم، هم طلاب علم فيه، يجمعون بين طلب العلم وبين التقرب إلى الله وبين خدمة هذا المسجد.
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾
عمل عظيم،
﴿وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾
أي أهون بمليون مرة، وأنا أقول لكم كلاماً دقيقاً، أن تدفع مئة مليون عن أن تنضبط بمنهج الله مئة في المئة، هذه تحتاج إلى إرادة قوية، وإلى إصرار على طلب مرضاة الله، تحتاج إلى جهد كبير، هناك منازعة، وأهواء، أما إنفاق المال بعيداً عن الاستقامة فقضية ليست صعبة، ولاسيما إذا كان المبلغ المنفق لا يساوي واحد بالمليون من ثروتك، تبرع لهذا المشروع المحسن الكبير فلان الفلاني، شيء جميل جداً، لكن هذا التبرع واحد بالألف من ثروته، يا ترى هو سلك طريق الإيمان؟.
مرة ثانية وثالثة: طالب دخل الجامعة، عنده مواد كثيرة، ويلتقي مع كبار المدرسين، ويبحث عن الحقيقة، ويرقى مع كل مادة، يرقى في كل عام، من السنة الأولى إلى السنة الثانية، إلى السنة الثالثة، إلى السنة الرابعة فالسنة الخامسة، ثم ينال الإجازة، ثم الدبلوم العام، والدبلوم الخاص، ثم الماجستير، ثم يؤلف الكتب، هذا إنسان غير إنسان مكلف بطبع الكتب للجامعة، هذا عمل إداري، عمل خدمي، له أجر، وعند الله مقبول، لكن لا توازن بين هذا وذاك، هناك مسافة كبيرة جداً،
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾
الكلمات التي كثر استعمالها فقدت مدلولها :
لكن أخوتنا الكرام، أريد أن أقول لكم كلمة: في اللغة قاعدة وهي أن الكلمة إذا كثر استعمالها فقدت مدلولها، مثلاً كلمة قتله، أي ضربه، معنى قتله يعني سفك دمه في اللغة، من كثرة استعمال هذه الكلمة فقدت مدلولها، فلان قتله، أي ضربه الآن، الأستاذ قتلني، أي ضربني وليس ذبحني، هناك فرق، معناها ذبحه، لكن من كثرة استخدام هذه الكلمة فقدت معناها، أحياناً تسأل إنساناً ملحداً: كيف الصحة؟ يقول لك: الحمد لله، تحمد من؟ أنت تنكر وجودة أصلاً، كلمة الحمد لله ليس لها معنى الآن، يقولها ملحد أحياناً، فلذلك الكلمات التي كثر استعمالها فقدت مدلولها.
على المؤمن أن يوازن بين طاعة الله وبين طاعة هوى نفسه :
من هنا أقول:
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ﴾
كل إنسان يدعي أنه مؤمن، ولا تجد في سلوكه ما يؤكد ذلك، عفواً لو سألت مليار مسلم، أنا سأقول هم مليار وخمسمئة مليون، أنا أتصور أن الخمسمائة مليون شردوا عن الله دعهم، المليار مسلم لو سألته هل أنت مؤمن باليوم الآخر؟ لا أعتقد هناك إنسان يقول: لا، لو دققت في أعمال الناس، هذا الذي يغتصب بيتاً، أو يغتصب شركة، أو يغش المسلمين، بماذا يؤمن؟ لا تبتعد كثيراً، نحن في رمضان الذي يضيف مادة مسرطنة لإنتاجه الغذائي ، لكنها ترفع السعر، هذا من أجل ربح محدود ضحى بصحة المسلمين، ما الذي رأى؟ هذا رأى أن هذا المال أكبر عنده من الله، وفي العيد نقول: الله أكبر، من أطاع زوجته وعصى ربه، فهو ما قال الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة، ماذا رأى؟ رأى أن طاعة زوجته أكبر عنده من طاعة الله، الذي يغش المسلمين بمادة غذائية، يضيف مادة تضر بالصحة لكنها تبيض هذا الإنتاج، فإذا ازداد بياضه ارتفع ثمنه، هذا جاء العيد قال: الله أكبر مع المصلين، أقسم لكم بالله ولا أبالغ: لو قال مليون مرة هو في الحقيقة ما قالها ولا مرة، لأنه رأى أن هذا المبلغ الذي سيحصّله من غشه لهذه المادة أكبر عنده من الله.
القضية مع الإيمان دقيقة جداً، لا تكن بسيطاً، تتعامل مع خالق الأكوان، تتعامل مع الله من أجل جنة عرضها السموات والأرض، أيعقل أن تسمح لنفسك أن تقدم للمسلمين مادة سيئة جداً بأسعار غالية جداً؟ هذا المبلغ الذي تربحه من غشك للمسلمين هو أكبر عندك من الله؟! وأنت حينما تستجيب لزوجتك في معصية لا ترضي الله من أجل أن ترضى عنك، أنت ما قلت ولا مرة الله أكبر، لأنك رأيت أن رضاها أكبر عندك من رضاه الله عز وجل.
مرة امرأة سألت زوجها شيئاً من الدنيا، ألحت عليه فقال لها هذا الكلام: أيتها المرأة إن في الجنة من الحور العين، ما لو أطلت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن، أهون من أن أضحي بهن من أجلك، المؤمن يوازن بين طاعة الله وبين طاعة هوى نفسه.
مرة ثانية: كلمات نقولها كل يوم، نقولها ولا معنى لقولها إطلاقاً، الله أكبر، هذا الذي يؤذي المسلمين ليربح منهم، ما الذي رآه؟ هذا المال الحرام الذي ربحه منهم بسبب إيذائهم هو أكبر عنده من الله، ما كل كلمة نقولها تنطبق علينا، فبطولتك إذا قلت الله أكبر أن يكون الله عندك أكبر من كل شيء.
عمارة المسجد عمل عظيم ولكن لا تحل محل الإيمان بالله :
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾
مع أن عمارة المسجد عمل عظيم، وله عند الله ثواب كبير، إنك تعتني ببيت الله الحرام، هذا عمل كبير جداً، لكن لا يحل محل الإيمان، لا يحل محل طلب العلم، لا يحل محل أن تكون مؤمناً صادقاً، أنت تكون مؤمناً متصلاً بالله عز وجل.
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾
الإنسان أحياناً يدرس دراسات جامعية عليا، من سنة أولى إلى سنة ثانية إلى ثالثة فرابعة، نال اللسانس دخل في الدراسات العليا، دبلوم عامة، دبلوم خاصة، ماجستير، دكتوراه، وإنسان عنده محل جانب الجامعة، يطبع الكتب الجامعية، عمل جيد، مهنة شريفة، ودخلها حلال، لكن لا يوازن مع إنسان يطلب العلم ليكون أحد أعمدة الأمة، هناك فرق كبير.
الذي أريد أن أقوله: لا يحل محل طلب العلم، ولا محل طلب رضوان الله ، هذا شيء آخر، الأشياء الأخرى لها أجرها عند الله أيضاً، ولها ثمنها، وصاحبها يحمد على ذلك، لكن هذه لا تحل محل هذه.
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ﴾
بطولة الإنسان أن يكون في خدمة الخالق حتى يحبه الخلق :
أخواننا الكرام، معنى
﴿ آَمَنَ بِاللَّهِ ﴾
أي آمن الإيمان الذي يحمله على طاعة الله، ومعنى آمن باليوم الآخر أي آمن الإيمان الذي يمنعه أن يؤذي مخلوقاً، هؤلاء الذين يدمرون الشعوب، يقصفون، يقتلون، يبيدون، ينهبون ثروات أمة من الأمم، هؤلاء ما عرفوا الله إطلاقاً، فلذلك البطولة أن تكون في خدمة الخالق حتى يحبك الخلق، آمن بالله إيماناً منعه أن يعصيه، وآمن باليوم الآخر إيماناً منعه من أن يؤذي أحداً،
﴿ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾
بنفسه وماله، هؤلاء الذين فعلوا هذا لا يستوون عند الله،
﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
أريد أن أؤكد لكم من خلال هذه الآية أنه لا شيء يغني عن طلب العلم، ولا شيء يغني عن طلب مرضاة الله، ولا شيء يغني عن طلب الجنة، طلب العلم والعمل به، وطلب الجنة، هذه تعد من سرّ وجودك، وغاية وجودك، الأعمال الأخرى جيدة، ومقبولة، ومن يفعلها له عند الله أجر كبير،
﴿ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
طبعاً جاهد بماله ونفسه.
من لم يستقم على أمر الله فلن يقطف من ثمار الدين شيئاً :
﴿ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
في الآية إشارة دقيقة، إنسان قد يأكل مالاً حراماً، فإذا أكل مالاً حراماً ظلم الناس، أي غشهم في بضاعتهم، أخذ ما ليس له، أي مال حرام مبني على ظلم، قدم شيئاً بمواصفات أقل مما ينبغي، فربح أرباحاً طائلة، فهذا ظالم، الآن هذا الإنسان الذي أعماله صالحة لا تعفيه من محاسبته على أخطائه، هذه الأعمال التي يفعلها بعض الناس وهي مشكورة ومحمودة عند الله لا تغني صاحبها عن طاعة الله، وطلب رضوانه.
﴿ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
الظلم ظلمات يوم القيامة، نحن على يقين أنك لو صمت شهر رمضان كله صياماً وفق ما جاء في كتب الفقه تماماً، ولك أعمال لا ترضي الله، هذا الصيام لا يقدم ولا يؤخر، العبرة أن تستقيم على أمر الله، وقبل الاستقامة لا تستطيع أن تقطف ثمار الدين إطلاقاً.
أحياناً الإنسان يتمنى أن يضغط الدين كله بكلمة، أو كتمهيد هل يمكن أن تضغط التجارة كلها بكلمة واحدة؟ ممكن، لها نشاطات لا تعد ولا تحصى، لها آلاف النشاطات، لكن يمكن أن تضغط بكلمة واحدة، إنها الربح، فإن لم تربح فلست تاجراً، كما أنه يمكن أن تضغط الدين كله بكلمة واحدة هي الاستقامة، فإن لم تستقم لن تقطف من ثمار الدين شيئاً، الدين بلا استقامة كما ترون، مليار وخمسمئة مليون مسلم ليست كلمتهم هي العليا، وليس أمرهم بيدهم، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح يقول:
((ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ))
[أخرجه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عباس]
اثنا عشر ألفاً لا يغلبون، والمليار والخمسمائة مليون لا ينتصرون، إن لم يستقيموا على أمر الله.
حدثني عالم جليل من علماء دمشق ـ وقد توفاه الله ورحمه ـ هو من بلد من أوربا الشرقية، من ألبانيا، قال لي: كلما أسافر إلى بلدي، أزوره في العام مرة، ألقي خطبة في العاصمة وفي أكبر مسجد، ويقول لي: أمامي عشرة آلاف مسلم، من شدة تأثرهم بكلامي، معهم بجيوبهم زجاجات خمر، من شدة تأثرهم بخطبة هذا الخطيب يشربون الخمر في المسجد، أي تجد المسلمين اسماً فقط، لا يوجد استقامة أبداً، لا وزن لهم عند الله.
((ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ))
ائتِ باثني عشر ألف مسلم مؤمن مستقيم، هؤلاء لا يغلبون إطلاقاً.
لذلك أيها الأخوة المشكلة واضحة جداً، العدد الكبير لا قيمة له، التجمع الكبير لا قيمة له، القيمة باستقامة المسلمين.
على الإنسان أن يفتخر بمعرفة الله و القرب منه لا بأشياء لا تقدم و لا تؤخر :
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾
قال: السقاية مكان للماء، تجمع الماء اسمه سقاية، والإناء الذي نشرب به اسمه سقاية، وعملية السقاية اسمها سقاية، فبين أن تكون السقاية ماءً أو إناءً أو عملية شرب،
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾
وهذا العمل يقبل أو لا يقبل.
﴿ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ ﴾
بناء المسجد، تأسيسه، إلقاء خطبة فيه، كله من عمارة المسجد،
﴿ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِر ﴾
أي ينبغي ألا تفتخر بعمل مادي إن لم تكن طالب علم تسعى لمرضاة الله، الأصل أن تطلب العلم، الأصل أن تؤمن الإيمان الذي يريده الله عز وجل.
العرب قبل الإسلام من بيدهم أمور بيت الله الحرام يفتخرون، هذا يفتخر معه مفتاح الكعبة، طلحة، و سيدنا العباس قبل أن يسلم كان مسؤولاً عن سقاية الحاج، سيدنا علي قال: صليت ستة أشهر ـ قبل الناس أسلم بوقت مبكر جداً ـ وأنا صاحب جهاد، فهذه المفاخرة هذا بعمارة المسجد، وهذا بسقاية الحاج، وهذا وهذا، عندما سمع العباس الآية قال: لقد رضينا بالله رباً، لا تفتخر افتخر بقربك من الله، افتخر بمعرفة الله، افتخر بطلب العلم.
بطولة الإنسان أن يعتمد مقاييس الله عز وجل :
أخواننا الكرام بالمناسبة: هناك مقاييس لله عز وجل، وهناك مقاييس للبشر، بطولتك أن تعتمد مقاييس الله عز وجل، الله ماذا قال:
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
[سورة الأحزاب الآية:71]
الفوز العظيم في القرآن هو طاعة الله، وطاعة رسوله، فافتخر بمقياس ذكره الله في القرآن، قال:
﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
[سورة الزمر الآية:10]
افتخر أن تكون صابراً، أي كل آية يثني الله فيها على فئة من المؤمنين هي مقياس، لكن لا تفتخر بشيء، لا ينتمي إلى عملك، وإلى جهدك ، افتخر بوسامتك، الوسامة من الله عز وجل أكرمك بها، افتخر بشيء من كسبك، أي الله عز وجل أعطى النبي الكريم عليه أتمّ الصلاة والتسليم آلاف الخصائص، لكن حينما أثنى عليه، أثنى على خلقه العظيم، لأن خلقه العظيم من كسبه، أما الوحي من عند الله، إنزال القرآن عليه من عند الله، فكل شيء ينبغي أن تفتخر به ينبغي أن يكون من كسبك:
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾
[سورة التوبة]
أما إنسان يقول لك: أنا معي لسانس، ما معنى هذه الكلمة؟ أي معه ابتدائي، وإعدادي، و ثانوي، وجامعة، كلمة لسانس أي أربع شهادات، قال لك: معي دكتوراه؛ أي معه ماجستير، دبلوم عام، دبلوم خاص، وماجستير.
فكلمة مؤمن سبحان الله مرتبة علمية عالية جداً، مرتبة أخلاقية، مرتبة جمالية، لكن كل إنسان يدّعي أنه مؤمن، فهذا مصطلح غير منضبط .
كلٌ يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك
* * *
هؤلاء المؤمنين حقاً.
الإيمان مرتبة علمية وأخلاقية وجمالية :
﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
آمنوا، يقول لك: أنا مؤمن، متى طلبت الإيمان؟ كم درساً حضرت؟ أي كتاب قرأت؟ من العالم الذي تتلمذت على يده؟ هناك إنسان يقول لك: أنا معي لسانس لكن ما درست أبداً، وما دخلت جامعة لكن معي لسانس، ما هذا اللسانس؟ أقل شيء أن تنتمي إلى جامعة، لكن معك لسانس و لم تداوم بحياتك، و لم تفتح كتاباً، فهذا كلام مضحك.
فلذلك الإيمان مرتبة، مرتبة علمية، مرتبة أخلاقية، مرتبة جمالية، المؤمن له أذواق عالية جداً، المؤمن له مبادئ أخلاقية قيمة جداً، المؤمن عالم، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه، إذا قلت مؤمناً أي عنده حد أدنى من العلم، قلت مؤمناً أي عنده حد أدنى من الأخلاق، قلت مؤمناً أي عنده حد أدنى من الذوق العالي، أذواقه عالية جداً.
﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا ﴾
الهجرة حركة ما إن يستقر الإيمان في قلب المؤمن حتى يعبر عن نفسه بحركة، إيمان سكوني لا يوجد، إيمان أساسه إعجاب سلبيي لا يوجد، المؤمن متحرك يتحرك إلى عمل صالح، إلى دعوة إلى الله، إلى طلب مرضاة الله، إلى أمر إلى المعروف، إلى نهي عن المنكر، ما لم تتحرك لتعبر بهذه الحركة عن إيمانك فلست مؤمناً.
الإيمان موقف وحركة وسلوك وعطاء :
﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا ﴾
أي آمنت بالله، لك أصدقاء بعيدون عن الله ينبغي أن تعتزلهم، وأن يكون لك أصدقاء من نوع آخر، لك حرفة لا ترضي الله ينبغي أن تدعها، كلمة مؤمن أي هناك حركة، حركة بحرفتك، حركة ببيتك، حركة بزواجك، حركة بأولادك، ببناتك، مادام آمنت فهناك حركة، أما إيمان سلبي فلست مطبقاً شيئاً من الإيمان، أنا والله مؤمن الحمد لله، ما الذي يؤكد هذا الإيمان؟ موقف تأخذه، عطاء تعطيه، امتناع تمتنع عنه، ما لم تصل لله، وتقطع لله، وتعطي لله، وتمنع لله، وترضى لله، وتغضب لله، لست مؤمناً، الإيمان موقف، والإيمان حركة، والإيمان سلوك، والإيمان عطاء.
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا ﴾
هاجر لها معان واسعة جداً، قد تنتقل من مكان إلى مكان هذه هجرة، لكن هاجر إنسان أي تعرف إلى الله، له مجموعة أصدقاء لا يرضون الله عز وجل، يحتاج أن ينتقل من مجموعة لمجموعة، له سكن ضمن بؤرة فساد كبير جداً، يجب أن يبحث عن منزل آخر، له حرفة سيئة جداً ابحث عن حرفة أخرى، الإيمان حركة، وما لم تتحرك حركة وفق إيمانك، لا يعد هذا الإيمان كافياً ولا مجزياً.
﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾
هناك بذل جهد، بذل عطاء، بذل انضباط، امتناع، وصل، قطع، إرضاء، غضب، هناك مواقف، ومشاعر، وحركة.
الفائز من يجاهد في سبيل الله بماله و نفسه :
﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾
وطن نفسك، مؤمن، مستقيم، لك أعمال صالحة، تجاهد نفسك وهواك، تحب من حولك، تقدم لهم كل معونة، تمثل منهج الله عز وجل، عندئذٍ هذا الإيمان ظهر في حياتك، قال: هؤلاء الذين
﴿ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ﴾
أي أنفق ماله
﴿ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾
ضبط نفسه
﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾
الفوز الحقيقي.
﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ ﴾
الرحمة عطاء، أحياناً لك ابن وأنت ميسور طلب منك حاجة، أحببت أن ترتاح منه فأعطيته إياها، أعطيته وأنت لا تحبه، لكن الكلمة الدقيقة:
﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ ﴾
يرحمهم ويرضى عنهم، قد ترحم إنساناً لا ترضى عنه، لكن يرحمهم ويرضى عنهم:
﴿ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾
أيها الأخوة الكرام، هذه الآيات:
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾
﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾
العظيم يقول لك:
﴿ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾
فكم هو هذا الأجر؟.
والحمد لله رب العالمين
http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=4098&id=97&sid=101&ssid=257&sssid=258