نعيش في هذه الحلقة الماتعة مع فضيلة الدكتور راغب السرجاني ويحدثنا فيها عن حال الأمة الإسلامية والضعف الذي أصابها وتشرذم أبنائها وعوامل سقوطها في قبضة الحملات الصليبية، وكذلك حال أوروبا قبيل الحملات الصليبية والدوافع التي قادتها لتجميع جندها وتسيير حملاتها للقضاء على الهوية الإسلامية والاستيلاء على خيراتها.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ..
بسم الله الرحمن الرحيم ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
أما بعد..
فأهلا ومرحبا بكم في هذا اللقاء المبارك ، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذه اللحظات في ميزان حسناتنا أجمعين ..
مع الحلقة الرابعة من قصة عماد الدين زنكي ، وتحدثنا في الحلقات الماضية على أن الوضع الذي كانت عليه الأمة الإسلامية قبيل الحروب الصليبية كان ينذر بقدوم جيش من الجيوش العدائية للأمة الإسلامية من أي مكان ، وهذا الجيش سيسقط الأمة الإسلامية لا محالة ، كان هذا الجيش صليبيا أو كان هندوسيا أو كان صينيا .. من اي مكان كان سيأتي ، لأن حالة الأمة الإسلامية في ذلك الوقت كانت تستدعي الإهلاك ، كما ذكر ربنا عز وجل : { فأهلكناهم بذنوبهم } ..
وذكرنا أن المشكلة الرئيسية التي كانت تمر بها الأمة الإسلامية ، أنه تفشى فيها أمران خطيران ، أما الأمر الأول فكانت المعصية ، والذنوب والمنكرات ، والبعد عن كتاب الله عز وجل ، وارتكاب المعاصي بشتى أنواعها ، وذكرنا الربا ، ذكرنا الزنى ، ذكرنا منع الزكاة ، ذكرنا الخمور ، ذكرنا الخلاعة والمجون ، قبول الظلم ..
هذه الأشياء تفشت في الأمة الإسلامية في هذه الفترة ومن ثم كانت علامة من علامات الضعف الكبيرة التي مرت بها الأمة .
أما الأمر الثاني فكانت الفرقة والتشرذم ، والتشتت ، وتقطيع الأوصال ، وانقسام الأمة الإسلامية الكبيرة إلى عشرات الدويلات الصغيرة التي لا يسمن جيشها ولا يغني من جوع .
وكان السبب في هذين الأمرين هو : انبساط الدنيا .
وذكرنا أن الدولة السلجوقية كانت قد بلغت درجة كبيرة من العلو والتمكين ، وكثرة الأموال ، واتسعت البلاد ، وكانت هناك فتنة للمسلمين بهذا الملك الكبير ، وهي نتيجة طبيعية لتمكين المسلمين ولكثرة أموالهم .
كان هذا هو حال الأمة الإسلامية ، ولعل من أشد المناطق التي تعرضت للتفتيت في الأمة الإسلامية وللضياع ، كانت منطقة الشام ، وذلك أ ُخذ المسلمون من هنا ، وأتى الصليبيون إلى هذا المكان تحديدا .
على سبيل المثال نقول أن الوضع في منطقة بلاد الشام كان حرجا للغاية بعد موت ( تتش ابن ألب أرسلان ) ، و تتش بن ألب أرسلان هو الذي كان من نصيبه حكم منطقة سلاجقة الشام ، كما ذكرنا في الحلقة السابقة ، وكان رجلا ظالما ، وكان رجلا بعيدا كل البعد عن كتاب ربنا عز وجل ، على خلاف تام ما كان عليه أبوه رحمه الله ، هذا ابن البطل الإسلامي الفذ ألب أرسلان ، صاحب الانتصار الضخم في موقعة ملاذكرد .
لكن تتش بن ألب أرسلان كان على خلافه تماما ، وكان من الذين دعوا إلى الحرب بين سلاجقة الشام وسلاجقة الروم ، وكان منشقا حتى على أخيه الأكبر ( ملكشاه ) ..
الوضع كان مؤسفا للغاية .
لكن الأسوأ ما حدث بعد وفاته ..!
بعد وفاته قسم تتش ابن ألب أرسلان منطقة الشام إلى قسمين كبيرين ، أعطى القسم الأول لأحد ابنائه اسمه
( رضوان ) ، وكان مركزه في حلـب ، وأعطى القسم الثاني إلى ( دُقاق بن تتش ) وهذا كان مركزه في دمشق ,,
وتصارع الأخوان !
الاثنان أبناء تتش ابن ألب أرسلان ، تصارعا سويا ودارت بينهما حروب شتى ، وسقط قتلى من الفريقين ، القتلى هنا مسلمون ، والقتلى هنا مسلمون ..
ثم زاد التفتيت بعد ذلك جدا حتى قسمت سوريا ، منطقة سوريا فقط إلى أكثر من خمس إمارات مستقلة .!
كل إمارة لها زعيمها ، ولها جيشها ولها سفاراتها ، ولها وزراؤها ، ولها شعبها ..
فكانت هناك : إمارة حلب ، إمارة دمشق ، إمارة حمص ، إمارة حماة ، وإمارة شيزر .. واحيانا كانت هناك إمارة اللاذقية .. كل هذا في قطاع واحد من قطاعات الشام وهو قطاع سوريا .
كذلك حدث في لبنان ، حدث في فلسطين ، حدث في الأردن ، قسمت بلاد الشام إلى عشرات الدويلات ، بمساحة صغيرة جدا ، وكان الفارق بين دولة ودولة ، أو بين إمارة وإمارة ، لا يعدو مسيرة يوم وليلة ..!
طبعا في هذه الظروف التفريقية المبالغ فيها ، كان من الطبيعي جدا أن تأتي القوات الصليبية وتقتحم البلاد دون عسر كبير .
الحقيقة يا إخواني هناك نقطة مهمة جدا لا بد أن نقف عندها ، وهي أن الصراع بين المسلمين وغيرهم هي معادلة من طرفين ، المسلمون في ناحية ، وغيرهم في ناحية أخرى ، وذلك إذا أردنا حقيقة أن نفهم طبيعة الأمور ، وأن نفهم معادلة الصراع كما ينبغي أن تفهم ، لا بد أن ندرس الحالتين ، لا بد أن ندرس طرفي المعادلة .
فإذا ذكرنا الآن بالتحليل أن الأمة الإسلامية كانت تستحق أن تقتحم ، وكانت تستحق أن تسقط وأن تهزم ، لأنها تفشت فيها كذا وكذا من الأمور ، هذا تحليل خاص بالأمة الإسلامية ، فماذا كان عليه الطرف الآخر ؟ ماذا كان عليه الصليبيون عندما قدموا إلى بلاد المسلمين ؟
بعض المحللين ، وخاصة إذا قرأت في كتب الإسلاميين الذين يكتبون عن الحروب الصليبية ، يهتم كل الإهتمام يتحليل موقف عماد الدين أو نور الدين أو صلاح الدين ، أو قبلهم او بعدهم .. الجانب الإسلامي فقط ، ولا ينظر بحال من الأحوال ، أو قد ينظر بصورة عاربرة إلى الوضع في أوروبا ، ما هي خلفيات أولئك الذين قدموا لحربنا ، لا يمكن بحال من الأحوال أن نحاربهم حربا سليمة ، وأن نتعامل معهم تعاملا سويا إلا إذا عرفنا خلفياتهم ..
لماذا أتوا غلى بلادنا ؟ مالذي يدفع هذا العدو لأن يأتي إلى بلادنا ؟ كيف يفكر ؟ ما هي الدوافع التي تحركه ؟ ما هي مكونات الشعب الذي أخرج هذا الجيش ؟ ومن هو القائد الذي على هذا الجيش ؟
كل هذه الامور إذا عرفناها سهل علينا فهمهم ، أما إذا كنا ننظر إليهم على أنهم شيء مجهول ، لا نعرف أوله ولا آخره ولا الدوافع التي وراءه ، ولا الخفية الثقافية والاقتصادية والدينية ، والاجتماعية التي تحكمه ، فإننا في ذلك نضيع وقتا طويلا .
وأنا أسقط مثل هذا الكلام على واقعنا إخواني واخواتي ، في هذا الوقت مع وجود الصحوة الإسلامية ، ووجود المحاولات للإصلاح والتغيير ، ومحاولات لتحرير فلسطين نسأل الله عز وجل أن يجعلها محاولات صائبة وأن يحرر هذا البلد الكريم الاصيل بكامله ، من أوله لآخره ، هذه المحاولات إذا كانت تركز فقط على تحليل أوضاع المسلمين ، وعلى تحليل واقع الأمة الإسلامية فقط ، دون النظر إلى خلفية هؤلاء الذين ظلمونا واحتلونا وقهرونا ، فإن هذا يعتبر تحليلا ناقصا ، وتحليلا لا يصل بنا إلى المراد .
لابد أن نقف في زماننا ونسأل ، لماذا تقف أمركيا مع الصهاينة ، لماذا تساعد أمريكا الصهاينة للدخول في أرض فلسطين ، أو للثبات في أرض فلسطين ، ما هي الخلفيات لهذا الأمر .
هل لأن الأمريكان بروتستانت ومن عقيدة البروتستانت أن لن ينزل المسيح إلى الأرض إلا إذا أقيمت لليهود دولة في داخل أرض فلسطين ، وهذه الدولة لا بد أن تجمع اليهود من شتات العالم ، هذه في عقيدة البروتستانت فعلا ، وغالب الأمريكان بروتستانت ، فهل لهذا السبب تقف أمريكا وكانت تقف إنجلترا قبل ذلك لنفس السبب ، لأنها أيضا بروتستانت.
أم هل هناك دوافع اقتصادية مثلا ، ضغوط يهودية اقتصادية على أمريكا .
أم أن هناك دوافع إعلامية ، ضغوط إعلامية يهودية ، أو أن هناك مصالح أمريكية في المنطقة ، مصالح عسكرية ، ام أنهم يخافون من الأمة الإسلامية والإسلام بشكل عام ، يريدون زرع شيء معين يقوم كحائط صد أولي أمام الأمة الإسلامية ، أم لهذه الأمور مجتمعة ، أم بعضها يغلب على بعض ..؟
لا بد أن تحلل هذه الأمور ، إذا حللنا هذه الأمور وعرفنا أن هناك خلفية قوية لأمريكا تحتم عليها أو تجبرها أن تقف في جوار الصهاينة ، فلعلي أخرج بنتيجة ، لعلي أخرج أنه من المستحيل لرجل مخلص أو لقوم مخلصين أن يحملوا قضية فلسطين إلى أمريكا ..!
لأن أمريكا نفسها صاحبة مصلحة في وجود اليهود في داخل أرض فلسطين ، فلا يمكن أبدا أن تقنع أبدا بخروج اليهود من أرض فلسطين ، بل لا بد أن تُرغم على خروج اليهود من أرض فلسطين .
هذه حقيقة ما عرفناها إلا بدراسة الواقع الأمريكي ، بدراسة التاريخ الأمريكي ، بدراسة الخلفيات عند أمريكا.
ما قلناه في حق أمريكا ، نقوله في حق دخول أمريكا إلى أرض العراق ، لماذا دخلت أمريكا لأرض العراق ؟
هل دخلت من أجل البترول ، هل دخلت من أجل أن تكون قريبة من روسيا والصين ؟!
هل دخلت لحرب الإسلام ؟ هل دخلت لكذا وكذا ..
ما هي خلفية امريكا عند الدخول ؟
إن عرفنا هذه الخلفية وتاريخ المفكرين والمنظرين الأمريكان الذين ينظرون لهذه الحرب ، وتاريخ القادة الذين يحركون هذه الجيوش ، عرفنا الكثير والكثير ، وصرنا ننظر للمعادلة نظرة متساوية،ننظر للمسلمين ..وننظر للجانب الآخر من المعادلة .
هذا يطبق على كل مراحل التاريخ ، سواء التاريخ الحديث ؛ ما نعاني منه الآن من أزمات ، أو سواء تاريخ الحروب الصليبية وما نتعرض له في برنامجنا ، او سواء أي مرحلة من مراحل التاريخ .
رسولنا صلى الله عليه وسلم في زمان حربه مع المشركين كان يعرف دقائق العالم جميعا ، كان يعرف ان العالم يحكم من دولة الفرس ودولة الرومان ، وأنه هناك ملكا في الحبشة لا يظلم عنده أحد ، وأن هناك ملكا عظيما في مصر اسمه المقوقس ، وأن الرجل الذي يحكم فارس كسرى كان اسمه كذا ، وخلفياته كذا ، ويحركه كذا وكذا ..
ذكر هذه الأمور وتعرف عليها ودرسها ، وحدث بها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ، وفيها أحاديث كثيرة نقلت إلينا ، كل هذا ليوسع مداركنا ، لا بد أن ننظر إلى العالم أجمع من حولنا ، لا نحلل ما يخصنا فقط في تاريخنا ونظن أننا معزولون عن بقية أنحاء العالم .
كل هذا يضعنا أمام السؤال الكبير : ماذا كانت حالة أوروبا قبل الحروب الصليبية ؟
ما هي الخلفيات التي دفعت الجيوش الصليبية لتأتي بحدها وحديدها من أقصى غرب أوروبا ، حتى تصل الشام ، في عقر دار المسلمين ، في ظروف صعبة ، مسافات كبيرة ، أعداد كبيرة جدا من المسلمين في هذه المنطقة ، مقدسات للمسلمين في هذه المنطقة .. لماذا اختاروا هذا المكان ؟ ما هي خلفياتهم ؟ كيف يفكرون ؟ وما هي دوافعهم في هذا الأمر ؟
من أوائل الأشياء التي تلفت الأنظار : الخلفية الدينية لأوروبا في ذلك الوقت – طبعا وضع أوروبا في ذاك الوقت كان مختلفا عن وضعها الآن بعد الثورة الفرنسية سنة 1989 م ، كانت هذه الثورة علمانية فصلت الدين كلية عن الدولة ، فأصبح الناس يذهبون للكنيسة كما يشاؤون ، وحياتهم بعد ذلك منفصلة كل الانفصال عن دينهم وعن عقيدتهم - .
الوضع أيام الحروب الصليبية كان مختلفا كل الإختلاف ، كان للكنيسة السيطرة التامة على عقائد الناس وعلى دينهم في كل ربوع أوروبا الغربية .
وأنا أقول أوروبا الغربية لأن أوروبا في ذلك الوقت كانت منقسمة إلى قسمين رئيسيين ، أوروبا الشرقية ومركزها في القسطنطينية ، وأوروبا الغربية مركزها في روما ، هذا القطاع الضخم من البشر كان يحركه رجل واحد في الكنيسة هو البابا، له أفكار وله عقائد وله طرق في التعامل تطبق أو تنفذ على كل فرد في أوروبا .
كيف كان يفعل هذا الأمر ؟ وما هي الأسباب التي دعت لذلك الأمر ؟
نعرفه بعد الفاصل إن شاء الله فابقوا معنا –
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
ذكرنا قبل الفاصل أن أوروبا وأن خلفيات أوروبا تهم المسلمين بشكل كبير عند تحليل الحروب الصليبية ، وأنه يجب على المسلمين أن يحللوا كيف يفكر أعداؤهم ، وما هي خلفياتهم وطموحاتهم في هذه البلد التي يدخلون عليها .
وذكرنا قضية الخلفية الدينية ، اوروبا في العصور الوسطى أيام الحروب الصليبية كانت متأثرة بشكل كبير جدا بكنيستها ، كانت الكنيسة في روما تسيطر على كل أوروبا الغربية ، وكانت الكنيسة في القسطنطينية تسيطر على كل أوروبا الشرقية.
انقسمت أوروبا إلى قسمين كبيرين سنة 476م ، وكل قسم كان له توجه خاص ، كان هناك كاثوليك في الشرق و أورثودوكس في الغرب ، وكل له مذهبه الخاص المختلف كلية عن المذهب الآخر .
البابا الموجود في روما كان بيده كل مقاليد الأمور في أوروبا ، هذا الرجل كان يستطيع أن يغير الحكام ، يغير الأمراء ، يغير الملوك ، يحرك الجيوش ، له سطوة عجيبة جدا على الناس ، لأن الشعور والعقيدة الدينية التي كانت عندهم في ذلك الوقت أنهم لن يدخل أحد منهم الجنة إلا بإذن من هذا الرجل ، لن يستطيع أحد أن يُغفر له إلا إذا أراد هذا الرجل أن يُغفر له .
هذا الأمر تطور فيما بعد الحروب الصليبية إلى ما يعرف بـ(صكوك الغفران ) ، صك يكتبه البابا بيده ، أو القس في الكنيسة ، يكتب ورقة بيده أنك ستدخل الجنة وقد غفرت لك ذنوبك ، ويأخذ على هذا الصك مبلغ من المال من هذا الإنسان ، هكذا كانوا يعتقدون في كل غرب أوروبا في ذلك الوقت .
طبعا البروتستانت كانوا لم يظهروا في ذاك الزمن بعد .
العقيدة التي كانت سائرة في ذاك الوقت ايضا ، ان البابا إذا لم يرض عن ملك ، فإن هذا الملك لا بد أن يعزل ، وإن لم يعزل فإن الشعب بكامله يدفع الثمن ، يدفع الثمن عند الله يوم القيامة عند البعث فلا يدخل الجنة .!!
لذلك كان لا يستطيع ملك أن يستقر في حكمه إلا إذا كان على وفاق مع البابا ، إلا إذا رضي عنه البابا ، وإلا يضيع حكمه ويثور عليه الناس .
من أشهر الأمثلة على هذا الأمر ، التي ترينا مدى قوة البابا في ذاك الزمان ، وحجم قوة الكنيسة الدينية في هذا الوقت ، ما حدث بين إمبراطور ألمانيا والبابا الموجود في روما ، كان غريغور السابع البابا الكاثوليكي الموجود في روما على خلاف مع هنري الثالث ، وكان أحد كبار قواد ألمانيا في ذلك الوقت .
ألمانيا يا إخواني هي التي ورثت ميراث الدولة الرومانية ، فهي أكبر دولة من دول الدولة الرومانية الغربية التي بقيت بعد زوال الدولة الرومانية الغربية ، فدولة عظيمة وكبيرة تضم بين طياتها ألمانيا بكاملها وعدة دول من الدول المعاصرة المحيطة بألمانيا .
فهذا الرجل اختلف مع البابا ، وحدث بينهما نزاع ، ورفض أن يعطي البابا بعض الأعطيات وبعض الجيوش في بعض القضايا ، هنا غضب عليه البابا غريغور السابع ، وطرده من الرحمة ، وحرمه من الجنة ، هكذا طبعا كانوا يعتقدون .
ولم يهتم هنري الثالث بذلك الأمر ، فجاء إليه وزراؤه وبطانته ومقربوه وقالوا له : إن الشعب سيقبلك عدة أيام أو عدة شهور ، بعدها لا يمكن بحال من الأحوال أن تستقر في كرسي عرشك بحال من الأحوال مهما كنت قويا إلا أن يرضى البابا بذلك .
وحاول معهم هنري الثالث ، لكنهم وضحوا له حقيقة الأمر ، وكانت الحقيقة فعليا ، فأراد ان يعتذر هنري الثالث لغريغور السابع بابا روما ، فماذا فعل ؟
تخيلوا أنه قطع الطريق من ألمانيا ، إلى روما في إيطاليا ماشيا حافيا على القدمين ، ماشيا حافيا .!
لماذا ؟ لأنه يريد أن يعلن الولاء الكامل للبابا ، وأنه ما أتى لذلك إلا ليغفر له البابا هذه الخطيئة التي وقعت في حقه .
وبالفعل ، سار الإمبراطور العظيم الكبير صاحب الملك الضخم ، من ألمانيا إلى روما ، ووصل إلى الكنيسة في روما .
وعندما وصل لم يسمح له البابا غريغور السابع بالدخول ، بل أبقاه خارج الكنيسة ثلاثة أيام ، في المطر والبرد والثلج ، وهو يقف حافي القدمين ، وهذا إمبراطور هائل معروف جدا في تاريخ أوروبا هنري الثالث !
ومع ذلك لم يسمح له البابا ، إلا بعد ثلاثة أيام أن يدخل كنيسته الإمبراطور ، وارتمى بين يدي البابا وسجد له ، وعندها سمح له البابا أن يذهب وقد غفر له ، وقد سمح له بدخول الجنة .!!
هذا الاعتقاد المترسخ عند الملك ، وعند الوزراء وعند البطانة وعند الشعب ، كان يعطي البابا قوة هائلة .
زاد من هذه القوة أن أشيع في أوروبا قبيل السنة الألف الأولى من الميلاد أن العالم سينتهي عند العام الألف ، مع الألفية الأولى لميلاد المسيح ، وعندما شاع هذا الأمر سارع الناس لطلب المغفرة ، فيوم القيامة سيقوم ، والمغفرة بيد البابا ، فهذا أعطى البابا قوة كبيرة جدا .
فكل الناس كانت تطلب وده ، وتدفع له ، وتبدي له الاحترام والتوقير والتبجيل ، من عامة الشعب ومن كبار الملوك والحكام والأمراء .
لكن جاءت سنة ألف ولم تقم الساعة .!
فأصدرت الكنيسة بيان أن قيام الساعة سيكون بعد ألف سنة من انتهاء عهد المسيح عليه السلام ، بدل سنة ألف ، سنة ألف وثلالثة وثلالثين - المسيح مات وعمره ثلاثة وثلاثين سنة .
وجاءت سنة ألف وثلاثة وثلاثين ولم تقم الساعة ولم تنتهي الدنيا ولم تقم القيامة ، فكانت أزمة كبيرة جدا في أوروبا ، وشعر الناس أن هناك بعض الألاعيب ، وأن هناك عدم ثقة بدأ يستشري بين الناس في إمكانيات البابا ، وفي معرفة نهاية الكون وقضية الغفران .
كل هذا هز قليلا من قيمة أو وضع الكنيسة في أوروبا ، الناس بدأت تتساءل ، وبدأ يكون بينها وبين بعضها حوارات حول هذه القضية .
هذه الأمور كلها في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي . قلنا سنة 1033 م ، لم تقم القيامة ، و الحروب الصليبية بدأت سنة 1095م ، بعد هذه الأحداث بحوالي خمسين ستين سنة.
فأنا أعطيك خلفية : يا ترى كيف كانت أوروبا تفكر في ذلك الوقت ؟
الكنيسة كانت رقم واحد في التفكير ، والكنيسة هي التي تقود كل الأمور ، والكنيسة هي التي في يدها مقاليد الأمور .. لكن بدأت نسبيا تفقد هيبتها الدينية لعدم صدق ما أخبرت به للناس في قضايا قيام الساعة ، وفي قضايا انتهاء الكون وانتهاء الدنيا .
فهذه خلفية نضعها في أذهاننا لأنها ستؤثر بعد ذلك على قرار الحروب الصليبية كما سنرى .
الكنيسة يا إخواني لم تكن فقط كيانا دينيا في أوروبا الغربية في ذلك الزمن ، إنما كانت كذلك كيانا اقتصاديا ، تخيلوا الكنيسة كان عندها إقطاعات ضخمة كبيرة جدا ، عندها مزارع هائلة تملكها ، عندها قرى تملكها ، عندها إقطاعيات كبيرة جدا تملكها ، كانت الكنيسة أغنى وأغلى كيان اقتصادي في أوروبا الغربية جميعا .
البابا في ذلك الوقت ، أو الكنيسة التي يتحكم بها البابا كانت أغنى من أي ملك ومن أي أمير أو من أي سلطان أو من أي صاحب إقطاعية أو أي تاجر ، كان وضعها مختلفا تمام الاختلاف عن بقية القطاعات الموجودة في أوروبا .
فالكنيسة بهذه السيطرة الاقتصادية الكبيرة كانت تملك مقدرات الشعوب ، وليس هذا فقط بل كانت الكنية أيضا تملك ميليشات ، تخيلوا !!
ميليشيات عسكرية تابعة للكنيسة لا تحرك إلا بأمر تابع الكنيسة أو البابا ، وكذلك الكنائس الموجدة في المدن الصغيرة ، في المدن الكبير في القرى .. أي كنيسة موجودة كان يتبعها جزء من المليشيات العسكرية ، يتبع القس الذي يملك هذه الكنيسة .
وكانت كل كنائس أوروبا مرتبطة بالبابا في روما ، فهذه شبكة من القوات العسكرة التي تتحرك بأمر البابا .
فشبكة دينية ، شبكة اقتصادية ، شبكة عسكرية ، كل ذلك بيد البابا بيد الكنيسة ، كل هذا الوضع أعطى الكنيسة قدرة هائلة على تجييش الشعوب وعلى تحريك الشعوب وعلى تغيير الأمور في أوروبا بشكل عام .
فهذه الخلفية هي أول خلفية ، وهي الخلفية الدينية ، ترينا قيمة الكنيسة عند الشعوب الأوروبية تعطينا انطباع لماذا عندما قام البابا يتكلم ، لم يكن لأوروبا إلا أن تسمع لكلامه .
القضية الثانية ، قضية الحالة الاقتصادية في أوروبا بشكل عام ، أوروبا في الحقية في ذاك الوقت كانت مقسمة إلى فريقين متميزين تماما ، فريق من الاقتصاديين أصحاب الأموال الهائلة ، وفريق كبير جدا هائل من الفقراء الذين لا يملكون أصلا ما يكفي طعامهم وشرابهم وسكنهم .
هذا طبعا نظام الإقطاعات المشهور في أوروبا في ذلك الزمن ، فكان هناك قلة من الناس تملك الأموال ؛ بعض الملوك ، بعض الأمراء ، بعض التجار الكبار ، وطبعا الكنيسة .
وهناك كثرة طاغية من الشعب الذي لا يجد ما يسد رمقه ، والذي لا يجد طعاما ولا شرابا .
لا بد أن نضع هذه الخلفية في أذهاننا عند الحديث عن الحروب الصليبية ، هناك أغنياء كبار جدا يريدون دائما تكثير ثروتهم ، وتكثير أموالهم ، وهناك أناس لا يستطيعون أن يأكلوا أصلا أو أن يشربوا .
بل إنه قبل الحروب الصليبية بعشرة أعوام فقط حدثت مجاعة كبيرة جدا ضخمة هائلة شملت معظم أجزاء أوروبا ، وكانت اشد ما تكون في شرق فرنسا وشمالها ، وفي غرب المانيا .
ولعل هذا ما يفسر لنا أن الجيوش التي خرجت إلى الحروب الصليبية كانت في معظمها من هذه المنطقة ، من هذه المنطقة التي عانت مجاعة ضخمة جدا .
مع أن الطرق في أوروبا في ذلك الوقت كانت صعبة جدا ، لم يكن هناك نهضة حضارية في حال من الأحوال ، فلم يكن هناك إلا الإقطاعية التي يعيش فيها الملك في قصره أو الأمير في قصره ، وغير ذلك ليس هناك اي نوع من البنية التحتية الموجودة في أوروبا ، فليس هناك طرق ، فإن حدثت مجاعة في مكان ما ، فإلى أن يصل لها الطعام والشراب يكون قد هلك المئات والآلاف ، بل واحيانا الملايين من البشر في هذه المجاعة .
وانتشار الأمراض بشكل شنيع في أوروبا في ذاك الوقت أيضا ، لأن الخدمة الطبية كانت منعدمة ، لم يكن هناك من الأطباء إلا قليل القليل ، وكانت طرق الطب فيها بدائية للغاية .
كل هذا يؤدي لمجاعات كبيرة جدا وإلى أزمات طاحنة عانى منها الشعب الأوروبي بشكل عام في كل أرجائه تقريبا ، ولم يكن يعيش على الحضارة في أوروبا في ذلك الوقت إلا بلد واحد فقط ، وهو الأندلس ، وكان بلدا إسلاميا .
كانت الأندلس تحكم بالإسلام في ذلك الوقت ، وكانت في أوج مجدها ، والحضارة مزدهرة ، وكان الغرب ينظرون إليها على أنها أعظم ما يمكن أن يصل إليه الإنسان .
أوروبا طبعا كانت بعيدة كل البعد عن هذه الحضارة ، فهذه خلفية اخرى مهمة جدا ، الخلفية الاقتصادية ؛ الشعب كان جائعا كله ، لا يجد طعاما ولا شرابا ولا دواءً ولا سكنا ، ولا أي نوع من مقومات الحياة .
وفي مقابل ذلك كان هناك قلة قليلة من البشر تتمتع بكل ثروات أوروبا .
إذن ، كانت هذه هي الخلفية الدينية ، والخلفية الاقتصادية لأوروبا في ذلك الزمن ، وليست هذه فقط هي الخلفيات التي تهمنا في قصتنا ؛ ولكن هناك الخلفية السياسية ، والخلفية الاجتماعية ، وغيرها من الأمور التي كانت تسير في أوروبا في ذلك الزمن .
نتعرف على هذه الأمور بإذن الله في الحلقة القادمة .
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه ، وأن يعلمنا ما ينفعنا ،وأن ينفعنا بما علمنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...