الحلقة الثالثة من قصة عماد الدين زنكي، بسبب حالة الفوضى والبعد عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم استطاع الصليبيون بسط نفوذهم وإحكام سيطرتهم على كثير من البلاد المسلمة، وإنشاء إمارات صليبية جديدة؛ تمهيدًا للقضاء التام علي الإسلام والمسلمين. ونعيش في هذه الحلقة مع فضيلة الدكتور راغب السرجاني لتحليل عوامل سقوط الأمة الإسلامية تحت أقدام الصليبيين مع كونهم أقل عددًا وعدة من المسلمين؟
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ..
بسم الله الرحمن الرحيم ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
أما بعد..
فأهلا ومرحبا بكم في هذا اللقاء المبارك ، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذه اللحظات في ميزان حسناتنا أجمعين ..
مع الحلقة الثالثة من قصة عماد الدين زنكي رحمه الله ، وذكرنا في الحلقات السابقة أن الأمة الإسلامية هي خير أمة أخرجت للناس ، وهذه حقيقة ذكرها ربنا عز وجل في كتابه ، وذكرها حبيبنا صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه ، وصدّقها التاريخ ، ويصدقها الواقع .
لكن هذه الأمة مع عظم قدرها وجلالة مكانتها ، تهزم في كثير من مراحلها ، لماذا يمكن ربنا عز وجل غير المسلمين ، أعداء الأمة الإسلامية في مواقف كثيرة مرّت في التاريخ ، في مواقف كثيرة ، في حروب ، في نزالات ، في قتالات ، لماذا يمـّكن هؤلاء الأعداء من الأمة الإسلامية وهم لا يعبدون الله عز وجل ..؟
ذكرنا كلمة عمر رضي الله عنه وارضاه ، والإشارة العظيمة التي أشار بها في منتهى العمق ، أن الأمة الإسلامية تهزم إذا كانت على معصية ، إذا تركت كتاب ربها عز وجل ، إذا تركت كتاب نبيها صلى الله عليه وسلم ، وهنا يمكن ربنا جل وعلا للأعداء الذين لا يعبدون الله عز وجل من هذه الأمة الشريفة الكريمة الخيرية الجليلة .. أمة الإسلام ..
لأن الله عز وجل لا يقبل لأمة أن ترفع كتابه وتحمل سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهي مضيـّعة ومفرطة لهما ، وهي تعصي الله جل وعلا وهي تكثر من الذنوب .
ذكرنا أن الأمة الإسلامية في زمان الحروب الصليبية كانت على درجة كبيرة جدا من المعصية ، تركت كتاب ربها عز وجل ، منعت الزكاة ، ولم تكن تجمع الزكاة ، شربت الخمر ، تعاملت بالربا ، تعاملت بالزنى ، قبلت بالظلم الذي كان متفشيا هنا وهناك ،،، هذه الأعراض الكثيرة يا إخواني ويا أخواتي لماذا انتشرت في الأمة الإسلامية في هذا الزمن ؟
لماذا حدث هذا الانكسار غير المقبول في إيمانيات الأمة الإسلامية ؟ ونحن كما ذكرنا في بداية الحلقات أننا في هذه القصة لا نقف على كل تفصيل من تفصيلات هذه القصة ، لا نقوم بمجرد السرد للأحداث ، إنما يكفينا أن أن نضع يدنا في كل حلقة على عامل من عومال القيام ، وعلى عامل من عوامل السقوط ،
لماذا قامت الأمة الإسلامية في هذا الزمن ..؟ ولماذا سقطت في غيره ..؟
ونحن الآن في تحليل نقطة سقوط ، لماذا سقطت الأمة الإسلامية تحت أقدام الصليبين مع أنهم كانوا أقل عددا وعدة من المسلمين ، ومع أنهم دخلوا في عمق البلاد الإسلامية ، ومع أن المدد عندهم كان يأتي من فرنسا ومن إيطاليا ومن أسبانيا ، على بعد مئات بل آلاف الأميال من بلاد المسلمين ، ومدد المسلمين كان قريبا ، وعدتهم كانت كثيرة واعدادهم كانت هائلة ..
لماذا حدث هذا الفساد وهذا الانقلاب في المعادلة ، لأن المسلمين كانوا على معصية كبيرة ،
لكن السؤال ,, لماذا كان المسلمون على معصية كبيرة في هذا الزمن ؟
أقول لكم .. المسلمون – يا إخواني – عندما يتمكنون في الأرض عندما تزداد قوة المسلمين ، عندما يحدث تمكين في الأرض ، يفتن المسلمون بهذا التمكين .
هذا ليس حدثا عابرا في زمن من الأزمان ، إنما هو سنة مطـّردة ، أمر مستمر دائم .. { فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا }
إذا مُكـِّنا في الأرض ، إذا كانت لنا السيطرة والهيمنة ، إذا عظم ملكنا جدا ، إذا كثرت أموالنا جدا ، إذا زادت سيطرتنا جدا ، فإن المسلمون يفتنون بهذا الملك وهذا السلطان ، وهذه الأبهة ، وهذه الكثرة في المال والعَرَض ، ولهذا حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من كثرة العرض ، وحذرنا من كثرة الدنيا ، ونبهنا إلى فتنة المال ،
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف :
" فوالله ما الفقر أخشى عليكم .." ..
لو تعيشوا فقراء أزمانا طويلة وعقودا كثيرة ، فلا خوف على المسلمين ،إنما من أين يأتي الخوف ، ومن أين يأتي المرض .. قال :
" فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم " .
الذي أهلك الأمم السابقة أنهم كثرت أموالهم جدا ، واتسعت دنياهم جدا ، بسطت عليهم الدنيا كما عبر حبيبنا صلى الله عليه وسلم ، فقام التنافس والتنازع على الدنيا ، وسقطت الأمة في براثن المعصية ..
الخمور تشرب بكثرة في زمان التمكين ، والربا يتعامل به بكثرة في زمان التمكين ، والزنى والخلاعة والمجون والغناء ..وغير ذلك من ألوان اللهو تنتشر بكثرة في زمان التمكين ..
المسلمون في زمان الاستضعاف قريبون من الله عز وجل ، يرفعون أيديهم إليه ليل نهار أن يعيد إليهم مجدهم ، وأن يعيد إليهم نصرهم ، وأن يمكن لهم في الأرض ، قريبون جدا من الله عز وجل ، يعبدون الله عز وجل كما يجب أن يعبد في ومان الاستضعاف ، فإذا مكنوا .. سقطوا ..
لذلك يا إخواني يفسّر ذلك لنا مواقف هائلة في التاريخ الإسلامي ، هذه القصة التي نحن بصددها ، قصة الحروب الصليبية وقثة عماد الدين زنكي رحمه الله ، ونور الدين محمود بعد ذلك وصلاح الدين الأيوبي ، تخيلوا الإعداد الذي قام به المسلمون للوصول إلى التمكين ، للوصول إلى نقطة حطين ، للوصول إلى نقطة فتح بيت المقدس ، إلى تحرير فلسطين ، أخذت كم سنة ؟
أخذت أكثر من ثمانين سنة من الإعداد .. !
لو أخذنا الحروب الصليبية أنها بدأت سنة 491 هـ في العالمي الإسلامي ، وتدرّجنا مع المجاهدين والمجددين والعلماء والذين حملوا هم هذه الأمة ، سواء الذين سبقوا عماد الدين زنكي أو في زمان عماد الدين زنكي رحمه الله ، حيث استلم الحكم فترة من الزمن وسلـّمه لنور الدين محمود بعد ذلك ، الذي سلـّمه لصلاح الدين الأيوبي رحمه الله .. وصلنا هكذا إلى سنة 583 هـ .. عندما جاءت موقعة حطين وفتح بيت المقدس ..
أكثر من ثمانين سنة إعداد .. وانتصرنا بفضل الله ، ومكنا في الأرض ، ومات صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ، ما الذي حدث بعد موته رحمه الله ..؟
انفرط العقد ، وتفرقت الدولة ، وتتشتت ، وفتن المسلمون مرة ثانية بالدنيا ،
كم كانت فترة التمكين ؟؟ ست سنوات ..!!!
الله أكبر ..
أي عملنا ثمانين سنة ، كي نمكن في الارض من سنة 583 هـ إلى سنة 589 هـ ، عندما توفي البطل الفذ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى ، وبعده انفرط العقد ، وبعده هزم المسلمون ، وبعده قطـّعت الدولة التي بذل فيها الصالحون جهدا كبيرا جدا ، كل هؤلاء الصالحين الذين ذكرنا اسماءهم بذلوا جهدا مضنيا ، وبذلوا دماء ً غالية وصرفوا أموالا هائلة ، وبعد ذلك انفرط العقد وقسمت الدولة على أولاد صلاح الدين وعلى إخوته ، وضاعت القضية ..
بل وأقول لكم في منتهى الحسرة ، سُلـّم بيت المقدس هدية للصليبيين دون قتال ..!
بيت المقدس .!! الذي بذل فيه عماد الدين زنكي ونور الدين محمود ، ثم صلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جهودا هائلة ، وسالت في دماء كثيرة ، ودخلناه فاتحين في زمان صلاح الدين الأيوبي .. بعد موت صلاح الدين الأيوبي بسنوات قليلة سلّم الأيوبيون الذين استلموا التركة العظيمة والملك الكبير بعد صلاح الدين الأيوبي ، سلموا هذا الملك للصليبيي ، دون ثمن ودون قتال ، ودون حرب ، هكذا ..
ما الذي حدث يا إخواني .؟
الذي حدث انبساط الدنيا وكثرة الأموال ، وهي فتنة لن تتغير ، ولن تتبدل ، لا يقول أحد : درسنا التاريخ ، وعرفنا أحواله ، وعرفنا الأزمة .. فليكن عندنا ظرف مستقبلي لا ننظر فيه إلى الدنيا ولا نفتن في بالدنيا ، ولا تسقط أقدامنا فيه بالدنيا .. أقول لكم هذا وهم ..!
هذا لا يمكن أن يتحقق .. هي سنة ماضية.
الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ، لماذا تركوا أماكنهم يوم أحد فوق الجبل ، والقائد الأعلى لهذا الجيش ، لا أقول عماد الدين زنكي ولا أقول صلاح الدين الأيوبي ، إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضّح لهم وبين لهم ، وفقَّههُم ، وعلمهم .. ومع ذلك تركوا كل شيء ونزلوا إلى الأرض مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ..
لماذا حدثت المعصية ؟ لماذا ترك الرماة أماكنهم ؟ لماذا فرّ بعض المسلمين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من أرض الجهاد ..إلى كل مكان ، حتى وصل بعضهم في فرارهم إلى المدينة المنورة .. ؟!!
ذكر ذلك ربنا عز وجل ، تصريحا في كتابه الكريم : { منكم من يريد الدنيا } : هؤلاء الذين فروا ، { ومنكم من يريد الآخرة } : هؤلاء الذين ثبتوا .
القضية في منتهى الوضوح ، إذا تغلغلت الدنيا في قلوب المسلمين ، إذا كثرت الأموال ، إذا ألقيت الغنائم على الأرض ، نسي المسلمون أوامر رسولهم صلى الله عليه وسلم ، مع وجوده في وسطهم ، فكيف به إذا لم يكن موجودا صلى الله عليه وسلم بجسده وسط المسلمين ، نسوا ذلك مع وجوده في وسطهم ونزلوا ، قالوا أمط عنا يدك يا عبد الله بن جبير ، عندما كان يحذرهم ويذكرهم بكلام حبيبنا الله صلى الله عليه وسلم ، و قالو الغنائم الغنائم .. الأموال .. الأموال .. وانطلقوا إليها ..
كذلك حدث في كل الأزمان التي سقط فيها المسلمون ، إذا نظرنا للفترة التي سبقت الحروب الصليبية مباشرة نجد فترة علو ظاهر للمسلمين ، دولة السلاجقة العظام ، الدولة العظيمة المجاهدة الكبيرة التي جاهدت سنوات طوال وأعدت إعدادا مضنيا وعظيما ، وسنتعرض بإذن الله إلى جهد دولة السلاجقة ، كانت وصلت إلى قمة مجدها ، كانت وصلت إلى أعلى درجات العلو ، كانت وصلت إلى دولة تحكم من الصين والهند شرقا ، إلى الشام ودولة بيزنطة غربا ، دولة هائلة تضم في طياتها من دول زماننا المعاصر أكثر من عشرين دولة.
عندما وصلت إلى هذا العلو الكبير ، فتنت بالدنيا ، وهذا شيء طبيعي جدا ، وتنافسوا الدنيا ، وكثرت فيها الذنوب والمعاصي ، فكانت نتيجة حتمية لا مواربة فيها ولا جدال فيها ، وليس هناك أمل للمسلمين أبدا إذا حدث هذا الأمر أن يمكنوا في الأرض أو يستمر تمكينهم ، إنما يحدث الأمر الذي يجب أن يحدث ، المعصية تورث الهلكة ، والذنوب تورث السقوط ، وكان هذا أمرا رأيناه بعد دولة السلاجقة وكان من نتيجته أن دخل الصليبيون إلى بلاد العالم الإسلامي .
هل كان هذا هو العامل الوحيد الذي رأيناه للدنيا .؟
لا ، لقد كان هناك عامل مهم جدا جدا ، أثـر في بناء الأمة الإسلامية ..
نتعرف عليه بعد الفاصل فابقوا معنا - ..
بسم الله والحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول
الله ..
ذكرنا إخواني – قبل الفاصل – أن الأمة الإسلامية إذا مكنت في الأرض ، وإذا اررتفعت شوكتها ، وقوي سهمها وكثر مالها وزاد سلطانها واتسع ، فإنها تفتن بالدنيا ..
وهذه أمور لا يمكن أبدا أن نهرب منها ، لذلك هي سنة من سنن رب العالمين سبحانه وتعالى ، وكان يحذرنا صلى الله عليه وسلم من الدنيا وكان يحذرنا منها بأكثر من طريقة ، بأكثر من وسيلة ذكر فيها أن حجم الدنيا قليل ، وأنها مهما زادت فلن تعدو أن تكون جناح بعوضة ، " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء " ..
يحاول أن يلفت أنظار المسلمين إلى حقارة هذه الدنيا وإلى قلة أهميتها ، لكن هذا لا يمنع أن يسقط المسلمون مهما عظموا ، مهما عظموا حتى إيمانيا ، كما رأينا الجيش الإسلامي في زمن الحبيب صلى الله عليه وسلم ، يفتن بالدنيا .
رأينا المسلمين في حنين يفتون بأعدادهم ، إذا كثرت الأعداد فإن المسلمين ينظرون إلى الأعداد وينظرون إلى العدة .
قبل الحروب الصليبية مباشرة ، ارتفع سهم الدولة السلجوقية جدا ، كبرت بحجم كبير جدا ، وصلت من الصين إلى الشام ، فكانت تضم في طياتها أكثر من عشرين دولة ، وهذا أعطاها نوع من الإعتداد بالقوة ، والإعتداد بالدنيا ، والإعتداد بالمال ، والإعتداد بالجيش ، ولم يعتـّدوا بربهم عز وجل ، .. " إنكم لا تنصرون على عدوكم بكثرة العدد والعتاد ، ولكن تنصرون عليهم بطاعتكم لربكم ومعصيتهم له ، فإن تساويتم في المعصية ، كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العدة والعتاد " .. كلمة الفاروق رضي الله عنه وارضاه ، وهي كلمة خالدة وكلمة في منتهى العمق ..
دولة السلاجقة في ذاك الزمن اعتدت بمالها وتركت كتاب ربها عز وجل وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ، فـشـُُربت فيها الخمور ، وتعومـِل فيها بالزنى ، وبالربا ، وانتشرت فيها الخلاعة والمجون ، وقل فيها دور العلم ، فكانت فيها النتيجة الحتمية ، المعصية ، كثرت المعاصي بشكل كبير .
لكن هناك عامل آخر خطير ، يحدث عند انتشار الدنيا ، عندما تبسط الدنيا على المسلمين ، وهو عامل التنازع بين المسلمين ، كما قال صلى الله عليه وسلم .. : " فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم " .
إذا انتشر التنازع بين المسلمين على المال ، المسلمون في زمن الفقر لا يتنازعون سويا ، إنما يتنازعون في زمن الغنى ، عندما تكثر الأموال ، وتصبح الغنيمة كبيرة ويصبح العرض واسع ، هنا يتصارع المسلمون ، وربنا عز وجل يذكر حقيقة واضحة بارزة ، في كتابه .. قال :
{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } .. ولا تنازعوا فتفشلوا ,, هذه حقيقة قرآنية واضحة جدا ، الفشل قرين التنازع ،
{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } .. الوحدة تحتاج إلى صبر ، والمسلمون افتقروا إلى هذا الفقر وافتقدوه ، في هذه الفترة ، فقسـّمت الأمة الإسلامية قبل الحروب الصليبية إلى عشرات الدويلات الصغيرة ، عندما تنظرون إلى خرائط اعالم الإسلامي في ذلك الوقت تجدون أمرا مفجعا ،
وإذا نظرتم إلى خريطتنا في زماننا الآن في القرن الواحد والعشرين ، ستجدون تفسيرا وتبريرا واضحا لما يحدث مع أمة الإسلام .. المعاصي والذنوب التي تحدث في كل مكان ، والفرقة الهائلة التي تتعرض لها الأمة ...!
كيف كانت الأمة الإسلامية قبل الحروب الصليبية ؟
كان هناك على سبيل المثال الخلافة العباسية ، والحقيقة أن التاريخ الإسلامي يا إخواني يحتاج أن يكتب من جديد ، من الظلم الشديد لتاريخنا الإسلامي أن نصف الفترة الهائلة الطويلة من سنة 132 هـ ، إلى سنة 656 هـ ، يعني أكثر من خمسمائة سنة ، نصف كل هذه الفترة الطويلة بفترة (( الخلافة العباسية )) .
واقع الأمر أن الخلافة العباسية الحقيقية كانت عبارة عن مئة سنة ، أو مئة وخمسون سنة على أكثر تقدير ..!
لغاية سنة 254 هـ فقط .
أي من سنة 132 هـ إلى سنة 254 هـ .
بعد ذلك انتهى زمن الخلفاء العظام ، انتهى زمن هارون الرشيد ، وزمن المأمون ، وزمن أبي جعفر المنصور ، والمعتصم ، الذين كانوا يحكمون دولة هائلة وممكن لها ، ولها سطوة ولها جيوش قوية ، ولها كلمة مسموعة في العالم .. انتهى هذا الزمن ..
وسيطر الأتراك في تارة ، وبنو بويه في تارة ، والسلاجقة في تارة ، على مقدرات الخلافة العباسية ، وتقلـّص جدا حجم الخلافة إلى أن وصل أن الخلافة العباسية في بعض فتراتها كانت لا تحكم إلا العراق فقط من كل أرجاء العالم الإسلامي ، بل إنها في بعض فتراتها – وهذا يتزامن مع الحروب الصليبية - كان الخليفة العباسي لا يحكم فقط إلا بغداد ، وأحيانا لا يحكم فقط إلا قصره ..!
ليست له كلمة مسموعة إلا على زوجته وأولاده ، وليس له شأن أبدا لا مع الجيوش ، ولا مع الوزارات ، ولا مع الإمارات ، ولا مع حكام المسلمين ، ولا مع الشعب الذي يعيش معه في نفس المدينة في بغداد ،..
فكيف يوصف التاريخ في هذه الفترة بأنه تاريخ عباسي ؟!! ويوضع تحت الخليفة العباسي أسماء ضخمة جدا ، مثل عماد الدين زنكي ، ونور الدين محمود ، وصلاح الدين الأيوبي ، وألب أرسلان ، وطغرل بك ، ويوسف بن تاشفين ,, وكثير من هؤلاء عاصروا الدولة العباسية ، فنحتاج إعادة كتابة التاريخ من جديد .
ففي هذه الفترة ، الخليفة العباسي لم يكن يسيطر إلا على أجزاء قليلة جدا من العراق ، بغداد وبعض القرى ، وأحيانا قليلة كانت تضم إليها البصرة ، غير ذلك ليس له من ملكه شيء ، فهذا أول قطاع ، قطاع منطقة العراق بكاملها ، مفتت ومشرّد ، جزء منه تحت قيادة الخليفة ، وجزء آخر تحت قيادات أخرى مختلفة .
دولة السلاجقة العظام التي كانت تسيطر على العالم الإسلامي حقيقة وكانت دولة عزيزة ودولة مجاهدة ، ودولة تقيـّة ، سيطرت على العالم الإسلامي فترة من الزمان ، تقريبا من منتصف القرن الخامس الهجري إلى قبيل الحروب الصليبية .
كانت وصلت إلى قمة مجدها قبل الحروب الصليبية بسنوات خمس ، لكن ما الذي حدث ؟
عندما مات ( ملكشاه ) وكان من أعظم الحكام في تاريخ الدولة السلجوقية ، عندما مات أو قتل سنة 485 هـ ، قبل الحروب الصليبية بأربع أو خمس سنوات ، عندما مات انفرط العقد ، وتقطعت دولة السلاجقة إلى خمسة اقسام رئيسية ، وفي داخل هذه الأقسام الخمسة هناك قتالات شتى ، وصراعات كثيرة ، بين الأشقاء ، بين أفراد بني سلجوق أنفسهم ، بين قواد دولة السلاجقة ، بين أبناء
( ألب أرسلان ) القائد الفذ العظيم ، هكذا حدث ..
لماذا كل هذا ؟
لكثرة الأموال ، كثرة العرض ، انبساط الدنيا ،
" فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم " ، كان من أهم هذه الأقسام التي انقسمت إليها دولة السلاجقة :
ما يسمى بـ ( دولة السلاجقة العظام ) ، هذا قسم كان على زعامته رجل اسمه ( برقياروق ) ، وبرقياروق هذا ابن ملكشاه ، حفيد ألب أرسلان وكان رجلا طيبا ، وكان رجلا مجاهدا ، لكنه لم يكن على مستوى ألب أرسلان أو ملكشاه .
وكانت هناك ( سلاجقة كرمان ) في منطقة جنوب إيران ومنطقة باكستان .
( سلاجقة كردستان ) في منطقة شمال العراق .
( سلاجقة الشام ) في منطقة الشام ، وهؤلاء الذين تعرضوا للضربة الرئيسية من الحروب الصليبية .
و ( سلاجقة الروم ) كان يعيشون في منطقة آسيا الصغرى ، أو تركيا اليوم .
خمس أقسام مختلفة ، وهذه الأقسام لم تكتفي بتقسيم الدولة الكبيرة إلى قطع صغيرة ، إنما دارت بينها الصراعات الكبيرة ، ولعلنا نذكر صراعا كبيرا دار في سنة 478 هـ ، قبل دخول الحروب الصليبية للعالم الإسلامي بعشر أو إحدى عشر سنة ، دار صراع كبير جدا بين سلاجقة الروم وسلاجقة الشام ، بين المسلمين في المنطقة المعروفة الآن بتركيا ، وبين المسلمين في منطقة سوريا ولبنان وفلسطين ، صراع ضخم هائل ، قتل على آثره ( سليمان بن قتلمش ) وكان هذا زعيم منطقة سلاجقة الروم ، قتل على إثره هذا القائد الكبير وكان النصر لسلاجقة الشام .
لكن هذه المعركة التي دارت بين الفريقين أورثت عدم ثقة بين الطائفتين ، ولذلك عندما جاءت الحروب الصليبية ، واقتحمت آسيا الصغرى ، لم تجد أي معونة أو أي تأييد أو أي نصر من سلاجقة الشام ، المسلمين الذين يعيشون في أرض الشام ، وظنوا أن الأمر يخص سلاجقة الروم وحدهم ، ويخص هذه المنطقة الجغرافية وحدها ، وليس للمسلمين في منطقة الشام أي علاقة بها ..
لكن دارت الدوائر ، ودخل الصليبيون بعد ذلك أرض الشام ، واحتلوا بعد ذلك سوريا ، أجزاء من سوريا ، واحتلوا أجزاء من لبنان ، واحتلوا فلسطين بكاملها، حدثت كل هذه الأمور ولم يتحرك لهم سلاجقة الروم ، والأيام دول .
هكذا حدث .. وهكذا كانت الفرقة ، هنا فرقة وهنا فرقة ، هنا صراعات وهنا صراعات ، فكانت النتيجة الحتمية دخول الصليبيين .
لم يكن هذا الحال فقط في هذه المنطقة التي تعرضت للحروب الصليبية ، إنما في العالم الإسلامي أجمع ، كان مفرقا ، وكان مشتتا .
إذا نظرنا إلى مصر في ذلك الوقت ، كانت مصر تحت الحكم العبيدي الإسماعيلي ، في الدولة المسماة بالفاطمية ، وكانت تتنازع أيضا مع دولة السلاجقة ،
وكانت لا تمتلك في ذلك الوقت إلا مصر وبعض أجزاء فلسطين ، ولكنها قبيل الحروب الصليبية ، بسنة أو سنتين احتلت بيت المقدس ، فصارت فلسطين ، تحت حكم الدولة العبيدية الإسماعيلية ، وكانت في صراعات كبيرة مع السلاجقة .
رأينا كذلك اليمن ، وكان مفرقا ومشتتا ، بين أكثر من دولة في ذاك الزمن ، اليمن مع كونه دولة واحدة ليست بالحجم الكبير ، إلا أنها قسمت بين ثلاث دول .
دولة الغزناويين في شمال العالم الإسلامي ، أيضا قسمت و دخلت في طور ضعفها .
دولة تونس كانت تحت حكم دولة آل زيري ، أيضا ضعفت جدا وتشتت حتى سقطت منها صقلية ، صقلية يا إخواني ويا أخواتي سقطت سنة 484 هـ ، قبل الحروب الصليبية بسنوات خمس أو ست ..
العالم الإسلامي كله كان يعاني من فرقة ، وتشتت وتشرذم ، ومن كانت هذه حاله ، سواء في زمن الحروب الصليبية ، أو في زماننا ، أو في أي زمن ، لا يرجى معه قيام ، لذلك انتصر الصليبيون بأعدادهم القليلة على الأعدادا الإسلامية الهائلة ، وهي سنة لا بد أن يضعا المسلمون في أذهانهم ..
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه ، وأن يعلمنا ما ينفعنا ،وأن ينفعنا بما علمنا ،إنه ولي ذلك والقادر عليه ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...