نبدأ اليوم حلقة جديدة بعد أن ناقشنا في الحلقات السابقة كيفية تعامل الآباء مع أبنائهم، وناقشنا الثلاثة مفاتيح الأساسية للتعامل مع الشباب وتتلخص هذه المفاتيح في الأب الصديق، والأم الصديقة، ولغة العاطفة التي تشمل الوصول إلى عقل الابن عن طريق قلبه، ثم تحدثنا عن الاحترام والتقدير لأبنائنا عن طريق معاملتهم باحترام بالإضافة إلى مناقشة فكرة الأب القدوة والأم ودورها في حياة أبنائها. وفي هذه الحلقة سوف نحدث نوعا من التوازن؛ لأننا سوف نوجه الحديث إلى الشباب وكيفية تعاملهم مع آبائهم، إننا نسمع كثيرا عن بر الوالدين وطاعتهم، ودوري اليوم هو ملء قلوب الشباب حنانًا نحو آبائهم. إن هدفي بانتهاء هذه الحلقة هو الوصول بالشباب إلى طاعة الله عن طريق التقرب من آبائهم وأمهاتهم، كل فرد منا يريد أن يدرك ليلة القدر ويريد أن يعتق من النار، ويمكن أن تنال هذا العتق بسبب إرضائك لوالديك.
سوف نناقش في حلقة اليوم بعض النقاط العملية المحددة، ومنها أن يريح كل منا ضميره أمام الله عن طريق إرضائه لوالديه. نريد اليوم أن نقول لله أننا نعبده عن طريق إرضاء آبائنا وذلك حتى نبلغ ليلة القدر، وحتى يغفر الله لنا ذنوبنا ويرضى عنا. فإن الهدف من هذة الحلقة هو أن يذهب كل منا - بعد هذه الحلقة- إلى أبيه وأمه ويُقبل يديهم، ويحتضنهم ويبدأ معهم من جديد. إن الهدف الأساسي من هذا البرنامج هو الخروج من الانعزال داخل الأسرة الواحدة ولم شمل الأسرة مرة أخرى وسوف نبدأ بمناقشة ما هو حال الشباب مع أهلهم في هذه الأيام، يوجد الكثير من أشكال انعزال الشباب عن أهلهم وبعدهم عنهم، وسوف أسرد الآن العديد من أشكال انعزال الشباب عن أهلهم.
من أشكال الانعزال:
· أول أسباب الانعزال عن الأهل هو انعدام الحوار؛ حيث إنه لا يوجد أي نوع من أنواع الحديث بين الابن وأهله، ولا يوجد استعداد أصلا عند الابن لإقامة حوار مع أهله، وإذا تم فتح أي حوار لا يجد الشاب ما يقوله لوالديه على الرغم أنه لا يكف عن الحديث مع أصدقائه. إن أسلوب الصمت الذي يتبعه العديد من الشباب مع آبائهم، وانعزالهم في غرفهم بمجرد وصولهم إلي البيت لا يُرضي الله.
· أيضا عدم مشاورة الأهل؛ حيث لا تمثل نصائحهم عاملا أساسيا في حياة الأبناء على الرغم من أنه إذا أعطاه صديقه النصيحة نفسها سوف يستمع إليها.
· وأيضا عدم الاكتراث لما يقوله الآباء وعدم إبداء التقدير لما يقوله الآباء.
· ومن أشكال الانعزال الشعور بالضيق من تصرفات الآباء سواء من طريقة تعاملهم مع أبنائهم، أو من طباعهم، أو من أسلوب توجيههم لأبنائهم، ولهذا يقوم الأبناء بعصيان آبائهم عن عمد لإظهار شعورهم بالضيق من أسلوب التوجيه الذي يتبعه الآباء.
· يعد أيضا عدم الامتنان لما يقدمه الآباء إلى أبنائهم من أشكال الانعزال، وعدم إدراك الابن أن أبويه هما سبب وجوده من الأصل، وطالما أن الابن لا يشعر بفضل أبويه عليه لن يقدم لهما أي نوع من أنواع التقدير.
· أيضا الاستهانة بمشاعر الآباء، والشعور بأنهم من عصر بائد.
· شكل آخر من أشكال الانعزال هو قبول الابن سب أصدقائه له بوالديه وقيامه بالمثل على سبيل المزاح، وهنا يكمن عدم الشعور بأهمية الأب والأم علي الرغم من قول النبي صلى الله علية وسلم: (إن من أكبر الكبائر أن يسب المرء أباه وأمه)؛ فعندما سب أحد الأشخاص سيدنا بلال قائلا له: يا ابن السوداء احمر وجه النبي، وقال له: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، فقام هذا الشخص بوضع وجهه في التراب، وطلب من سيدنا بلال أن يطأ بقدمه فوق وجهه حتي يكفر عن غضب النبي.
· ومن أحد أشكال الانعزال هو كيفية إظهار الشعور بالضيق من تصرفات الآباء إما عن طريق تعابيير الوجه أو التصرف بجفاء.
أطلق القرآن على كل أشكال الانعزال التي ذكرناها الآن (عقوق الوالدين) على الرغم من أنه كان يمكن أن يسميه (عصيان الوالدين) أو إغضاب الوالدين لكنه أطلق عليه كلمة عقوق؛ لأنها أشد بكثير من العصيان أو الإغضاب؛ لأن كلمة "عق الثوب" أي شقه ومزقه حيث إنه عندما يرفع الابن صوته فوق صوت والديه، أو ينظر إليهما نظرة قاسية أو غاضبة فإنه يمزق علاقته بالله عز وجل إلى أن يرضى عنه. ونجد أيضا معنى آخر لكلمة عق "فعق الماء" أي أنه شديد المرارة، والمعنى هنا كناية عن أنه من يؤذي شعور أبويه، أو من يقسو عليهما أو يغضبهما سوف تكون حياته مريرة مثل الماء المر.
أنا لا أوجه حديثي هنا للشباب فقط بل أيضا إلى كل من تقدم في السن وتوفى الله والديه، فتوقف عن الدعاء لهما وإلى كل من سافر بعيدا عن أهله ولم يعد يسأل عنهم، أو يهتم بهم؛ لأن كل هذا يعد من أنواع القطيعة والعقوق و الانعزال. إن هدف الحلقة اليوم هو رحمة الأبناء بآبائهم ومعاملتهم برفق وحنان؛ لأننا لن ننال الجنة إلا برضائهم. يوجد سبع أهداف عملية لحلقة اليوم حتي ننال رضى الله وننال العتق من النار. من طبق هذه الأهداف السبعة فقد قام بواجبه نحو لم شمل أسرته. تتواكب هذه الأهداف السبع مع عصرنا الحديث وهي تعد دواء المشكلة.
الأهداف السبعة:
أولا: مشاورة الأهل في جميع أمورنا والأخذ بنصيحتهم؛ لأننا في أَمَس الحاجة إلى خبراتهم حتى إذا كنت قد اتخذت قرارك مسبقا، فإن مجرد أخذ نصيحة الأهل يعطيهم الشعور بالسعادة ويعطيهم الشعور بأننا امتداد لهم، أو أن مجهودهم لم يضع هباءً وهنا تكمن قيمة البر بالوالدين.
ثانيا: الصبر على ما لا نحب من تصرفات آبائنا، وألا نظهر الضيق منهم أبدا وألا نقول لهم أفَ "..فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا.." (الإسراء/23). حتى إذا ارتكب الآباء أخطاء شديدة يتعين على الأبناء الصبر والتوجيه بطريقة غير مباشرة؛ لأنهم في النهاية آباءنا، وهذا هو قمة البر. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبر أباه من حدَّ إليه النظر)؛ بمعنى أنه من ينظر إلى والديه نظرة تحدٍ يكون غير بار بهما؛ لأن هذه النظرة تغضب الله عز وجل.
ثالثا: سؤال أبويك عن أحوالهم والاهتمام بكل ما يحباه ويهتما به حتى ولو كانت كلها أمور بسيطة مثل: مشاهدة مباراة لكرة القدم مع أبيك حتى لو لم تكن من ضمن اهتماماتك لكنها ستكون سببا في إرضاء أبويك وبالتالي دخولك الجنة.
رابعا: تقديم المساعدة لهما ولو من حين لآخر، وبالأخص في رمضان مثل: تصليح سيارة أبيك أو غسيلها، أو تنظيف الصحون لوالدتك، أو تقديم الطعام بدلا منها أو الذهاب بهما إلى الطبيب لأنك لن تدخل الجنة إلا بدعاء أبويك.
خامسا : إدخال البسمة على وجههما، فأبشر بما سيعم عليك من خير إذا أدخلت البسمة على وجه أبويك كل يوم، ولو عن طريق فكاهة، أو كلمة طيبة، أو بقول كلمة "أحبك"، أو بتقبيل أيديهما، ولو لمرة واحدة، فلا تشعر بتكبر لتقبيل يد أبويك ولو لمرة واحدة، ومراعاة مشاعر أبويك، وإذا حدث وآذيت مشاعرهما فسارع بتقبيل أيديهما ونيل رضائهما، ولو عن طريق تقديم هدية رمزية. كان رسول الله صلي الله عليه وسلم جوادا، معطاء وكان أجود ما يكون في رمضان، فهو كالريح المرسلة - ليس فقط في المال ولكن أيضا في العاطفة-، واعلم أنه كلما أعطيت أبويك حبا وحنانا زاد الحب بينهما، فالشباب أقدر الناس علي إعادة الحب الي أسرهم عن طريق معاملتهم بحب؛ فلن يستطيع أيٌّ من كان استدراج الأب خارج أسرته طالما أنه يجد الاهتمام والعاطفة من أبنائه.
سادسا: السؤال عن أصدقائهم وأقاربهم حتي لو كان عن طريق الهاتف، وهذه النقطة من أعلى درجات البر، فيفتخر الآباء بأبنائهم؛ لأن سؤال الأبناء على أصدقاء وأقارب آبائهم يرفع من شأن الآباء في نظر الآخرين، وبالتالي يشعرون بالفخر على الرغم من أنها خطوة شديدة البساطة.
سابعا: الدعاء لهم سواء كانوا أحياءً أو أمواتا.
إذا أردت أن تكون بارا بوالديك، وإذا أردت أن تدرك ليلة القدر، وأن تعتق من النار، وأن تنال رضا الله عز وجل، وإذا أردت الرزق الوفير، أو الزواج الصالح، فيجب عليك الخروج من فجوة الانعزال عن الأهل مهما ارتكبوا من أخطاء، ولم شملهم وعدم مواجهة الآباء بأخطائهم، إن مخاطر الانعزال عن الأهل والإصرار على عدم الإقبال عليهما شديدة لأن غضب الله عز وجل على العاق بوالديه ليس بيسير.
مخاطر الانعزال:
من ضمن هذه المخاطر ظلام الوجه بل ظلام الحياة؛ لأنها تكون حياة مليئة بالمشاكل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم (احفظ ود أبيك، لا تقطعه، فيطفئ الله نورك). إن كلمة "ود أبيك" المذكورة في الحديث الشريف تتضمن النقاط السبعة التي أوصيت بها. تتلخص النقاط في الصداقة بين الآباء والأبناء "..وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا..ً" (لقمان/15)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رَغِمَ أنف عبد أدرك أبويه أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخلاه الجنة)، ومعنى "رغم أنف عبد" أن يذوق أنواع الذل في الدنيا من أدرك والديه في الدنيا ولم يدخلاه الجنة. لن يشعر بهذا الكلام إلا من فقد والديه. إن أسهل السبل لدخول الجنة هي طاعة الوالدين.
من مخاطر العقوق أيضا: تعجيل العقوبة في الدنيا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا كقطع الرحم وعقوق الوالدين)، إن الله عز وجل يعفو عنا في يوم القيامة لكنه عز وجل يعاقب على عقوق الوالدين في الدنيا. ومن ذلك، أن كل من كان عاقا لوالديه في الدنيا يتبرأ منه النبي صلي الله عليه وسلم يوم القيامة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن أحد النظر الي أبويه، فإني برئ منه يوم القيامة) يتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من الشخص الذي يحد النظر لأبويه، فما بالك بمَن رفع صوته فوق صوتهما، أو مَن سمح لأصدقائه بسبهما، أو مَن عاملهما بقسوة وعدم احترام، أو مَن استهان بمشاعرهما ونصائحهما.
ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى سيدنا "علقمة" أحد الصحابة وهو يحتضر، وكان الصحابي يتحدث بشكل طبيعي، بينما يعجز لسانه عن النطق بالشهادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أله أم؟" قيل: "نعم يا رسول الله" فصاح النبي صلي الله عليه وسلم: "هل أغضبكِ شئ، هل في قلبك شيء من علقمة؟" فقالت: "نعم يا رسول الله، كان يأتي بحلو الفاكهة فيطعمها لزوجته وأولاده، ويأتيني بمر الفاكهة فيطعمني إياها" ، هنا انفطر قلب الأم لأن ابنها فضل زوجته وأولاده عليها، فما بالك بمن يفضل أصدقاءه على أمه! فإياك والتسبب في كسر قلب أمك أو في إغضابها؛ لأنه يمكن أن تكون هذه الليلة هي أخر- آخر ليلة في عمرها، ففي هذه الحالة سوف تقضي سائر عمرك وغضب الله عز وجل عليك.
جاء أحد الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: "أي العمل أحب إلى الله؟" فقال النبي صلى الله عليه وسلم " الصلاة على وقتها؟" قلت: "ثم أي؟" قال: "بر الوالدين" فإذا أردت أن تنال حب الله عز وجل في رمضان فما عليك إلا أن ترضي أبويك. ما رأيك في إسعاد أبويك اليوم، أو إضحاكهما، أو مساعدتهما، أو الصبر على ما يغضبك من تصرفاتهما، أو في الأخذ بمشورتهما، أو في زيارة أقربائهما أو أصدقائهما، أو أن تدعو لهما؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الإسراء والمعراج: "دخلت الجنة فسمعت بها قرارة، فقلت لمن هذا؟ فقيل: لحارثة بن النعمان، فقلت: فلم هذا؟ فقيل لي أنه كان برا بأمه، فقلت كذلكم البر كذلكم البر" فإنك لن تنال أفراح الجنة إلا برضى أبويك.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله ما تأمرني بعد الإسلام؟ قال: بر أمك" فانطلق الرجل ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى وقال: "ما تأمرني بعد الإسلام؟ فقال: بر أمك" يقول الرجل فذهبت وعدت الثالثة فقال: بر أمك فذهبت وعدت الرابعة فقال: بر أبوك، فقلت والله هما الأفضل". هل تدرون لما أطلق الله عز وجل على هذه الطاعة "بر الوالدين" وليس "طاعة الوالدين"؟ لأن كلمة البر تشمل كل أنواع الخير والعطف والحنان والعطاء والمساعدة وإسعادهما، لكن كلمة الطاعة تعني إطاعة أوامرهما فقط.
المصدر: http://www.amrkhaled.net/articles/articles2759.html