بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين. تحدثنا سابقا عن أن العقوبة ليست الطريقة المناسبة ولا البديل الأول في توجبه الأبناء بل هي آخر البدائل، ومنها:
البديل الأول: العفو الإيجابي:
أي أن يعلم ولدك أنك حزين لما فعله من أخطاء، وأنك قادر على أن تعاقبه ولكنك عفوت عنه على ألا يقوم بفعلته مرة أخرى؛ والآية واضحة للغاية "... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: 134). لماذا نطبق هذه الآية على الناس ولا نطبقها على أبنائنا؟ إن لم يكن لديك المساحة لتعفو عن أبناءك فكيف ستعفو عن باقي الناس؟ ولماذا تنظر إلى ابنك على أنه لن يفهم كم لهذا العفو من تأثير؟ لماذا تنظر إلى العفو على أنه ليس من الطرق التربوية المؤثرة؟ انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عندما عفا عن الناس كلها قائلا لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، فأتاه أحدهم - واسمه "فضالة"- واقترب منه حتى وصل إلى ظهره، وكان معه خنجر في عباءته، فأحس به النبي صلى الله عليه وسلم والتفت إليه وقال: بم تحدثك نفسك يا فضالة؟
قال: إني أذكر الله.
فنظر إليه النبي في عينيه وابتسم له وقال: اتقِ الله.
يقول فضالة فظل يمسح على صدري وهو يقول: اتقِ الله. يقول قبل أن يضع يده على صدري كان أبغض أهل الأرض إلى قلبي، فما إن رفع يده عن صدري حتى صار أحب أهل الأرض إلىَّ.
لو كان فضالة قد عوقب كان سيموت أو يُقتل كافرا، وكان مآله النار ولكنه أسلم وحسن إسلامه. هل رأيت العفو؟
كان لسيدنا "زين العابدين بن الحسن بن علي" جارية أوقعت الماء المغلي على ابنه، فماذا سيفعل فيها يا ترى؟ وبينما هو في غضبه نظرت إليه وقالت له: "... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ...".
قال: كظمت غيظي.
قالت: "... وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ...".
قال: عفوت عنكِ.
قالت: "... وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ...".
قال: اذهبي فأنتِ حرة.
هذا موقف غير طبيعي، وصعب صنعه مع الجارية ولكنني أقول لك: أولادك، أوصيك بأولادك، ألا تملك في قلبك الاستعداد لأن تعفو إلى هذه الدرجة مع ابنك ويكون عفوك إيجابيا مؤثرا؟
البديل الثاني: ركز على مشاعرك:
وهو من البدائل اللطيفة والذكية جدا ومرتبط بلغة العاطفة، فبدلا من أن تقول لابنك أنه أخطأ في كذا وكذا تحدث عن نفسك، وركز على مشاعرك وأحاسيسك: (أنا حزين- أنا متأثر- أنا أشعر أنني لم أنجح كأب- خيبت ظني يا خسارة - أنا متألم - أنا صنعت من أجلك كذا وكذا، أتفعل معي كذا؟) والله يا جماعة هذا البديل قوي جدا يهز قلوب الشباب من الداخل، لا تستهينوا به.
أخبر أحد الشباب أباه أنه سيأخذ السيارة لتصليحها وأنه سيعود في الرابعة، وعندما أنهى الأمر ووجد أن الوقت لا يزال مبكرا عن موعده فذهب إلى السينما، فتأخر ووجد أن الساعة صارت السادسة فقرر أن يكذب على أبيه، ويخبره أن سبب التأخير هو تصليح السيارة، وأنها تحتاج إلى يوم آخر في الصيانة، فوقف أمام أبيه وبدأ الكذب.
فقال له أبوه: أنا حزين لأنك تكذب علىَّ.
قال له: أنا أقول الحقيقة.
قال له أبوه: أنت لا تقول الحقيقة؛ لأنني اتصلت بك في الصيانة عندما تأخرت.
طبعا الشباب متخيل ماذا يمكن أن يحدث الآن - وخصوصا وأن الأب لديه بديل المعاقبة؟ أتعرفون ماذا فعل الأب؟
قال له: أنا لست حزينا منك، أنا حزين من نفسي، يبدو أنني لم أنجح كأب في أن أجعل ابني لا يكذب علىَّ، ويبدو أنني فعلت أخطاءً كثيرة في التربية.
وترك ابنه وقرر العودة سيرًا على الأقدام. يحكي الابن ويقول: وأنا في وسط دموعي كنت اترجل من السيارة مرة تلو الأخرى لأرجوه أن يصعد إليها. يا ليته عاقبني، إن ما فعله أقوى من العقوبة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم هذه الطريقة، يقول أنس بن مالك – خادم النبي-: خدمت النبي عشر سنين فما قال لي أُفٍّ قط، وما قال لشيء فعلته "لم فعلت ذلك؟"، وما قال لشيء لم أفعله "هلا فعلت ذلك؟". إذًا، فكيف كان يربيه النبي صلى الله عليه سلم؟ هناك بدائل أخرى. إليك هذه القصة والتي تشرح الحديث، يقول أنس: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقضي له أمراً، فلقيت الغلمان في الطريق فظللت ألعب معهم، ونسيت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فبينما ألعب رأيت خيالاً يأتي خلفي، ثم يقف ويضع يده على كتفي، فالتفت فإذا رسول الله يبتسم إلىَّ يقول لي: ألم أرسلك؟
فقلت: أنا ذاهب يا رسول الله.
ابتسم رسول الله وقال له ألم أرسلك؟ – فقط-!
يا جماعة، حينما يكون بيننا وبين أولادنا عاطفة تكون هذه العاطفة أقوى من سلطة العصا؛ سنملك عقول أولادنا وقلوبهم بالحب أكثر من الخوف والصوت والعقوبة. هل رأيت ماذا فعل الرسول مع أنس؟ الذي حكى لنا هذه القصة هو أنس؛ لأنها أثرت فيه مع أنه كان وقت حدوثها يملك من العمر عشر سنوات فقط، ووصلت لنا اليوم وربما لو كان الرسول قد عاقبه لم يكن ليحكيها، أو ربما كان ليحكيها وهو متأثر منها بالسلب.
البديل الثالث: التحفيز للنجاح:
الإمام مالك - وهو أحد الأئمة الأربعة الذين نقلوا الفقة إلى الأمة، وإلى الآن مذهبه هو مذهب أهل المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا- لم يكن وهو صغير من المحبين للدراسة، فقام أبوه وأمه بعمل مسابقة لها جوائز كل يوم جمعة بعد الصلاة – انظر إلى التحفيز وإلى مهارة وعقل أم في القرن الثاني الهجري- يقول الإمام مالك: في مرة، فاز أخي الأصغر بالمسابقة وأخذها مني، فغضبت وقلت والله لأنجح –ربما لو عاقبه الأب والأم على عدم الاستذكار لما كان هناك الإمام مالك- وقرر أن يكون مغنياً، ولم يكن صوته بالصوت الجميل، فقالت له أمه توجهه: إن لم يكن المغني حسن الصوت سوف لا يسمعه أحد وإن كان حسن المظهر.
فقال: ماذا أفعل؟
قالت: ولكن العلم والعلماء يجعلك في مكان آخر.
وذهبت واشترت له جبة وعمامة العلماء وهو لا يزال بعد في سن السابعة - انظر التحفيز- وأعجب الإمام مالك بالأمر وقال لأمه: أريد العلم. فقالت له: اذهب إلى ابن ربيعة فخذ أدبه قبل علمه.
البديل الرابع: المشاركة في إصلاح الأخطاء:
استغل طفلان خلو منطقة حمام السباحة من الرواد والعمال فأخذا يلهوان ويلعبان برمي المقاعد والمناشف فيه في الماء، وعرف والد أحد الأطفال بما حدث من ابنه بعدما أخبره أنه لن يعاقبه إن هو قال له ماذا حدث؟ فألهم الله الأب أن ينفذ البديل الثاني أولاً وأخبر ولده أنه حزين من أجل العمال الذين سوف يعملون في الصباح على إعادة كل شيء إلى مكانه، فتألم الولد. وهنا قام الأب بتنفيذ البديل الرابع ألا وهو المشاركة في إصلاح الخطأ، وبالفعل عادا إلى حمام السباحة وأعادوا كل شيءٍ مكانه وأصلحوه بمساعدة الأب. الضرب سهل والعقاب سهل، لكنك لن تستفيد شيئاً، صدقوني غيروا الطريقة وها أنا ذا أعرض عليكم طرق أخرى.
ولقد استخدم النبي الأسلوب نفسه، وذلك عندما خالف كلا من "سمرة بن جُندُب" و"رافع بن خديج" أوامره صلى الله عليه وسلم عندما أمر صحابته بألا يتبعه في غزوة بدر الصغار، وخرجا وهما في الرابعة عشر من عمرهما مع الجيش مستخفيين من غير أن يُشعرا بهما أحد، إلى أن وصل الجيش كله إلى مكان بدر وتفاجأ الرسول والجميع بوجودهما مخالفين لأمر النبي، وهم في حالة غزو، إذًا، لابد من إعادتهما بل وعقابهما، ولكن انظر إلى النبي التربوي وماذا سيفعل؟ إن أعادهما النبي أمام الجيش سيكون في ذلك كسرٍ لرجولتهما، فبحث لهما النبي عن بديل آخر. سألهم: هل فيكم من يجيد الرمي؟
قال رافع: أنا أجيد الرمي.
قال النبي: تعال معنا.
قال سمرة: يا رسول الله إن تركتني على رافع بن خديج لصرعته.
قال: فصَارِعه. ففاز سمرة فأجازه النبي وقال لهما: تكونان خلف الجيش ومعكما فلان، إن قال لكما ارجعا فارجعا. طبعا، ليس الأمر سيان، هما الآن محترمان ومُقدران.
البديل الخامس: اللقاءات الخاصة:
من يقرأ السيرة جيدا سيجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا البديل (أخذني رسول صلى الله عليه وسلم فخرج بي خارج المدينة، ويدي في يده) فعلها مع عمر بن الخطاب، ومع أبو هريرة، وأنس بن مالك، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس، وفعلها مع زوجاته ومنهن السيدة عائشة.
اذهب أنت وابنك، أو أنتِ وابنتك أو ابنِك في لقاءٍ خاص وحدكما في جو الأب الصديق أو الأم الصديقة، جربوا اللقاءات الخاصة هذه يا جماعة.
أعرف طفلة صغيرة - ثلاثة عشر عاما- درست اللغة الإنجليزية في مصر، وسافرت مع أبيها حيث جاءته بعثة إلى إنجلترا، وانتقلت إلى مدرسة بريطانية حيث الفرق في نطق اللغة والثقافة المختلفة فارتبكت البنت واهتزت، وأصعب مادة عندها كانت الرياضيات، وهي تريد أن تُظهر نفسها أمام البنات في فصلها فبدأت بالغش أثناء الامتحانات، وكان من نتيجة ذلك أن حصلت على الدرجات النهائية في الامتحانات، وبدأ المدرس يعاملها معاملة خاصة، وكثر غشها في الامتحانات فبدأت تنهار وبدأت سلوكياتها تتغير، فأحس الأب بهذا التغير في ابنته وعرض عليها لقاءً خاصًّا
ركز فيه على الحب والود وعلى طمأنتها، فإذا بها تصرخ بأنها تغش في الرياضيات، وألقت بنفسها عليه وبدأت في البكاء، لم ينهرها ولم يعاقبها بل أتي بأمها وطمأناها بأنهما سوف يحلان الموضوع مع المدرسة. هل رأيتم الأب العاقل؟ هي البنت نفسها التي تقول لو لم ينجدني أبي وقتها لكنت إلى الآن غشاشة.
حلقة اليوم خطيرة؛ لأنها بمثابة تغيير عُرف في المجتمع. فما رأيكم يا آباء، ويا أمهات، أن نصنع شيئا جميلاً؛ وهو أن نصنع قانون بيننا وبين بعضنا البعض نتفق عليه، وهو أن يكون لك في الشهر ثلاث عقوبات فقط لا غير، إن انتهوا تبحث في البدائل الأخرى. أنا لست من الموافقين على أي نوع من أنواع العقاب فالأصل لا عقاب، ولكنني أعلم أنك لن تستطيع ذلك.
وإن كنت من المُصِرّين على العقاب فإليك هذه الأشياء السريعة:
1) ضع قانون لنفسك بأن تكون العقوبات ثلاث مرات فقط في الشهر.
2) استعمل فكرة (1/2/3) أو "سيم"/ لغة رمزية بينك وبين ابنك إن تجاوزها ضع له العقوبة، ويكون هناك اتفاق بينك وبينه على العقوبة، وإن كان هناك عقوبة لا تقولها أمام الجميع.
3) إياك أن تضرب أولادك.
4) إياك والعقاب وأنت غاضب؛ لأنك ستخطئ، وعليك أن تهدأ أولاً.
5) راجع نيتك قبل العقاب: أنا أعاقب من أجل تصحيح سلوك لا من أجل نفسي.
6) لابد من توضيح أسباب العقاب.
وفي النهاية، وبعد كل ما قلته، أنصحك بعدم استخدام العقاب.
المصدر: http://www.alresalah.net/morenews.htm?id=433_0_2_0