الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .
سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
في غزوة اليرموك حضر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وبقية المسلمين لرفع لا اله إلا الله ,
وكان من قادة من حضر , من أعيان من حضر " عكرمة بن أبي جهل " قد قتل أبوه في بدر كافراً .
وعكرمة تأخر إسلامه , وهو في الأصل لما أراد أن يسلم خاف من الرسول عليه الصلاة والسلام ففر إلى البحر وقيل في جهة اليمن .
وأتت زوجته مسلمة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مؤمنة , ولكن حنينها إلى زوجها , وأخبرت أنه خاف من الرسول صلى الله عليه وسلم .
قالت : أريد الأمان منك يا رسول الله , وهو أحلم الناس واصبر الناس وأكرم الناس عليه الصلاة والسلام , فأعطاها الأمان .
قالت : أريد علامة .
قيل أعطاها عمامة وعصا , عصاه وعمامته صلى الله عليه وسلم .
فذهبت تشير إلى زوجها واقتربت , وقالت : هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ,
فأتى لما اقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنفه صلى الله عليه وسلم , بل قام صلى الله عليه وسلم ورحب به وحياه .
قال : مرحباً بالراكب المهاجر .
لم يقل المهزوم , أو الفر , أو الشارد , بل رفع معنويته وأعطاه اسم شرعي , اسماً عظيماً , قال : مرحباً بالراكب المهاجر .
أنت مهاجر الأن , واستمر عكرمة في الإيمان وحضر اليرموك في سبيل الله عز وجل .
ولما جاءت المعركة كان جيش الروم كثيراً وكثيفاً أكثر من مئة ألف , وحاول المسلمون دافعوا دفاعاً مستميتاً عظيماً وقتل منهم أبطال .
فلما رأى عكرمة أن صولات الجيش الباطل جيش الروم أصبحت تحطّم جيوش المسلمين أو صفوف المسلمين , وأخذ يشعرون أن البحر يدور أمام المسلمين .
قال عكرمة : من يبايعني على الموت ؟ .
لبس أكفانه وأخذ سيفه فبايعه أربعمائة .
قال : احموا ظهري .
فشق صفوف الروم , وضرب قلب الجيش , وأخذ يعيث فيهم قتلى وتجريحاً .
ثم عاد رضي الله عنه وقد أثقل بالجراح .
فلما وقع في الرق الأخير وإذا بابنه أيضاً جرح معه وأصبح في الرق الأخير يودع الحياة .
وإذا بعمه الحارث ابن هشام عم عكرمة , وهو أخو أبي جهل معهم أيضاً في سكرات الموت , ورجل رابع من المسلمين .
جمعهم خالد بن الوليد وكان قائد المعركة سيف الله المسلول , فكانوا يشيرون بعينهم يريدون ماءً .
وكان الجريح إذا أشرف على الموت وخاصةً في شدة الحر أحسن وألذ ما يطلب وأغلى ما يطلب الماء .
فأحضر خالد لهم ماءً بارداً من خيمة في كوز وفي كوبٍ كبير .
وانظر الأن قتلى وجرحى ومشرفون على الموت وظمئ فأتى بالماء وسلمه لعكرمة ليشرب .
فالتفت إلى عمه , وهم لا يستطيعون أن يتكلمون إنما بالعيون يشيرون فقط بالعيون , إشارات فقط بالعيون .
فأشار إلى عمه فهو أولى , فأعطوا عمه فرفض أن يشرب قبل الغلام الذي هو ابن عكرمة .
فسلموه للشاب الغلام فرفض أن يشرب قبل المسلم الأخر إيثاراً .
فأعطوا المسلم الرابع فوجدوه قد مات .
فعادوا الماء وهذا الإناء البارد بالماء إلى عكرمة فوجدوه قد فارق الحياة .
حولوا الماء إلى الحارث ابن هشام وإذا أيضاً مات ولم يشرب .
حولوا الماء إلى الغلام إلى ابن عكرمة , فوجدوه قد مات وقد فارق الحياة .
الأربعة لم يشربوا قطرة , لم يعني يظفروا بشيء من الماء ولا شربة , حرموا من الماء البارد , تداولونه في سكرات الموت ودماءهم تصب في الأرض وفي شدة الحر , ويرفض كل واحد أن يشرب قبل الأخر .
يا لله ! أي نفوس هذه النفوس ! , ما أعظم هذه النفوس ! , ما أرفع هذه الأرواح ! , ما أجلّ هذه الهمم ! .
في هذه الساعة يقول على ظمئ .
لو أن في القوم حاتماً على جوده ظنت به نفس حاتم .
ومع ذلك يرفض أحدهم أن يشرب قبل الأخر , ويدور الموت عليهم جميعاً قبل أن يدور عليهم الماء .
تساقوا شراب الموت عذباً بنهيةٍ فساروا إلى العليا كل مشرقِ .
فأتى هنا أتى خالد فأخذ الإناء وبكى رضي الله عنه .
والله انه مشهد مثير , ولو عندنا لهيب الإيمان لكنا انصدعنا قبل هذا المشهد , وانه والله لمشهد مؤثر .
أخذ الماء بيده , وينظر إليهم وهم ماتوا فارقوا الحياة , بقوا يتداولون الماء بينهم وما استطاع أن يشرب أحد قبل الأخر , ثم يحرمون الماء , فيبكي خالد
وكان عزيز الدمع ما يبكي إلا في مواقف مؤثرة .
لأنه شجاع وقوي سيف الله المسلول , وأخذه فرمى بالكوب , وقال : اسقهم من جنتك , والتفت إلى السماء يدعو الله سبحانه وتعالى فقد ماتوا وقتلوا في سبيلك يا رب العالمين .
أسأل الله أن يسقينا من جنات النعيم , وأن يجمعنا بهم في دار الكرامة .
فيالي هذه النفوس الكبيرة العظيمة ! .
وقصة عكرمة قصة رواه المؤرخون بأسامي ثابتة , وهي تدلك على الإيثار عند الصحابة , وعلى صبرهم , وعلى تحملهم .
يا اللـــه بل الواحد منا ونحن أصحاء لا يؤثر أخاه حتى بشربة أو بوجبة , أو بشيء من القوت , أو بشيء من اللباس , ونحن في الأمن وفي الصحة وعندنا ما يعوضنا الشيء الكثير .
بل بعضنا الأن يسكن القصر وبجانبه أناس يسكنون في بيوت الصفيح وفي الخيام ويسكنون في بيوت الطين , ولا يجدون شربة لبن ولا يجدون قطعة لحم , ولا كسرة خبز .
ومع ذلك يموت هو ويمرض بالتخمة , ويعالجه الأطباء من كثرة الأغذية التي تناولها .
فأين الرحمة ؟ .
وهؤلاء هم في سكرات الموت وجرحى , وعطشى , وفي شدة الحر ويطلبون ماءً ثم يرفض الواحد منهم أن يشرب قبل أخيه .
لا الابن , ولا الأب , ولا العم , ولا الرجل المسلم ويدور عليهم الماء البارد وهم بحاجة ماسة إليه ويرفضون .
ويلقون الله وهم ظمأ وهم في تلك الحالة , عسى الله أن يسقيهم من الكوثر .
أسأل الله أن يعيدنا إلى هذا الدين العظيم وان يخلقّنا بأخلاق سيد المرسلين وأصحابه الكرام .
والى اللقاء , وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته .
http://www.alresalah.net/#textsdetail.jsp?pid=324&sec_id=4426