التفسير المطول - سورة الأعراف 007 - الدرس(51-60): تفسير الآيتان 178 - 179، هداية الله إلى خلقه بكونه - وبكلامه ، ومعجزاته
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-11-14
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
هداية الله عز وجل على أربعة أنواع :
1 ـ هداية الدلالة :
أيها الأخوة الكرام ... مع الدرس الواحد والخمسين من دروس سورة الأعراف ، ومع الآية الثامنة والسبعين بعد المئة ، وهي قوله تعالى :
﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
هذه الآية تشير إلى حقيقة دقيقة وعميقة وخطيرة في القضاء والقدر ، ما لم يكن الإنسان مخيراً لا يُثمّن عمله ، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة ، إن الله أمر عباده تخييراً وكلف يسيراً ، ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، لكن حينما تعزى الهداية إلى الله هداية الدلالة ، الله عزّ وجل هدى عباده جميعاً هداية دلالة ، دلّهم عليه ، هذا الكون ينطق كل شيء فيه بوجود الله ، وبكماله ، وبوحدانيته ، الكون مظهر لأسماء الله الحسنى ، وصفاته الفضلى ، دلّك عليه بالكون ، دلّك عليه بالفطرة ، دلّك عليه بالعقل ، دلّك عليه بالأنبياء والرسل ، دلّك عليه بالكتب .
الله عز وجل هدى عباده جميعاً في كل ما تقع أعينهم عليه :
إذاً الله عز وجل هدى عباده جميعاً ؛ مؤمنهم ، وكافرهم ، هداهم جميعاً إليه ، هذه الهداية هداية الدلالة .
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾
( سورة فصلت الآية : 17 )
لأنهم في الأصل مخيرون ، والاختيار أحد خصائص الإنسان .
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
( سورة الإنسان )
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
( سورة البقرة الآية : 148 )
الآيات التي تؤكد أن الإنسان مخير لا تعد ولا تحصى ، بل إن الأصل في كل هذه الآيات قوله تعالى :
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾
( سورة الأنعام )
إذاً الله عز وجل هدى كل الخلق إليه ، هداهم بخلقه ، هداهم بأفعاله ، هداهم بكلامه ، هداهم بالفطرة ، هداهم بالعقل ، هداهم في كل ما تقع أعينهم عليه ، فالإنسان مخير ، إما أن يستجيب لهذا الهدى الدلالي ، وإما لا يستجيب ،
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾
2 ـ هداية التوفيق :
إذا عُزي الهدى إلى الله هو الهدى الدلالي ، هداهم هداية دلالة ، لكن :
﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾
( سورة الإسراء )
هذا الهدى الثاني هدى التوفيق ، أنت حينما تختار طريق الحق ، حينما تختار الجنة ، حينما تختار طاعة الله عز وجل ، حينما تختار العمل الصالح ، حينما تختار أن تكون عبداً لله ، تأتيك هداية ثانية ، هداية توفيق ، الله عز وجل يشرح لك صدرك لهذا الدين العظيم ، الله عز وجل يسوقك لهذا الهدف الذي اخترته ، يُمكّنك من العمل الصالح ، يطلق لسانك في الدعوة إلى الله ، هو يختار لك زوجة صالحة ، تعينك على أمور دينك ، يختار لك عملاً شريفاً نظيفاً طاهراً ، أنت حينما تختار طاعة الله ، تأتيك هداية ثانية هداية التوفيق ،
﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾
﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ﴾
( سورة محمد الآية : 17 )
عندنا هداية أولى وثانية .
3 ـ هداية المصالح :
بل إن العلماء قالوا : هناك أربع هدايات ، هداك إلى مصالحك ، كيف ؟
الإنسان أودع الله في أذنه جهاز توازن ، فإذا مال لا يتابع الميل ، يعدل وقفته ، الجهاز دقيق جداً ، هو التوازن ، ولولا هذا التوازن ما مشى إنسان على قدميه .
هداك بالعين ترى ما حولك ، فأنت في غرفة ترى كل شيء فيها ، لكن سمعت صوتاً الصوت يغطي كل البيت ، يقول لك : هناك حركة في البيت ، فالصوت هداية .
وأحياناً يوجد شيء متفسخ ليس له صوت ، ولا تراه ، يوجد رائحة ، هداك بالصور وبالأصوات ، وبالروائح ، أعطاك حواساً خمس ، أعطاك عقلاً ، هيأ لك أجهزة ، تعينك على أمر دنياك ، يوجد تقيؤ ، التقيؤ معنى ذلك أن الطعام سام ، يوجد قلب يعمل بانتظام وأنت لا تدري ، هداك لآلاف الخصائص ، بالأجهزة ، بالأعضاء ، بالأنسجة .
وأنت نائم أودع بالجسم مراكز إحساس بالضغط ، فإذا كان وزن الهيكل العظمي مع ما فوقه من عضلات ضاغطاً على ما تحته من عضلات ، مراكز الضغط وأنت نائم تعطي إشارة إلى الدماغ ، فالدماغ وأنت نائم يصدر أمراً بأن يقلبك ذات اليمين وذات الشمال ، والنائم يتقلب .
وحينما يزداد اللعاب في فمك تذهب رسالة إلى الدماغ ، والدماغ يعطي أمراً بأن لسان المزمار يغلق القصبة الهوائية ، ويفتح المريء ، من أجل أن تبتلع اللعاب .
هداك لأجهزة بالغة التعقيد ، هداك للقلب الذي يعمل بانتظام ، الهضم الذي يعمل بانتظام ، هداك إلى طعامك وشرابك ، خلق لك كائنات من أجل غذائك ، خلق لك النباتات ، هداك إلى مصالحك ، هذه الهداية الأولى ، والهداية الأولى يشترك فيها الخلق جميعاً ، إنسان ، وحيوان ، ونبات .
الله عز وجل هدى كل شيء إلى مصالحه :
النبات حينما لا يسقى ، لو أنه استهلك ماء الجذر لمات فوراً ، من علمه أن يستهلك ماء الأوراق ، أول ماء يستهلكه حينما لا يسقى يستهلك ماء الأوراق ، وبعد ماء الأوراق يستهلك ماء الأغصان ، وبعد ماء الأغصان يستهلك ماء الفروع ، وبعد ماء الفروع يستهلك ماء الجذع ، وآخر ماء يستهلكه ماء الجذر ، هدى النبات إلى أن يبقى إلى أمد طويل بلا ماء من أجل ألا تخسر هذه الشجرة أيها الإنسان ، هدى النبات .
هدى الحيوان ، الحيوان يقوم بأشياء مذهلة ، هناك طائر اسمه البطريق ، يعيش في القطب الجنوبي يتجمع عشرة آلاف بطريق بمكان ، يصبح تزواج ، والبيضة التي تلدها الأنثى يأخذها الذكر يضعها على قدميه ، ويغطي القدمين بالريش ، من أجل أن تكون في دفء عميم ، ويبقى واقفاً لا يتناول طعاماً ولا شراباً لمدة أربعة أشهر حفاظاً على هذه البيضة ، وفي حوصلته وجبة غذائية ثمينة لهذا المولود الذي يخرج بعد فقص البيضة ، يفتح فمه ، ويضع هذه الوجبة في فمه .
هدى الحيوانات إلى مصالحها ، هدى النبات ، هدى كل شيء ، الحديث عن الهداية الأولى هداية المصالح حديث لا ينتهي ، أول هداية هدى المخلوقات إلى مصالحها ، ثم هدى المكلفين من المخلوقات الإنس والجن إليه ، إذاً أول هدايةٍ هداية المصالح ، والهداية الثانية هداية الدلالة ، والهداية الثالثة هداية التوفيق .
4 ـ هداية إلى رسله :
الهداية الرابعة :
﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾
( سورة محمد )
هداية إلى رسله ، فالله عز وجل تولى بذاته العلية هداية الخلق ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾
( سورة الليل )
وحيث ما جاءت على مع لفظ الجلالة معنى ذلك أن الله تولى بذاته العلية هداية الخلق
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾
( سورة النحل الآية : 9 )
أي وعلى الله تبيان الطريق الموصل إليه .
الحق واحد لا يتعدد :
إذاً الآية الكريمة :
﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ﴾
لا يوجد هداية أخرى إلا هداية الله ، فإن لم تكن على الحق فأنت على الباطل قطعاً ، لا يوجد هدايات متعددة ، أنت على أحدها ، الحق واحد لا يتعدد ، والدليل :
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾
( سورة الأنعام الآية : 153 )
فالحق لا يتعدد ، لذلك قالوا : إن المعركة بين حقين لا تكون ، لأن الحق لا يتعدد ، والمعركة بين حق وباطل لا تطول لأن الله مع الحق ، أما المعركة بين باطلين لا تنتهي ، الحق واحد .
﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾
( سورة البقرة الآية : 257 )
ما قال الله عز وجل يخرجهم من الظلمات إلى الأنوار ،
﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾
وما قال يخرجهم من الظلمة إلى النور ، الباطل متعدد ، الباطل لا يعد ولا يحصى ، كما أنه بين نقطتين لا يمر إلا خط مستقيم واحد ، لكن بين النقطتين يمر آلاف ، بل مئات ، بل ألوف الألوف من الخطوط المنحنية والمنكسرة ، فالباطل كثير .
بطولة الإنسان أن يستوعب الحق الذي لا يتعدد أبداً :
لذلك أعمار البشر جميعاً لا تكفي لاستيعاب الباطل ، الباطل كثير ، لكن عمر الإنسان وحده يستوعب الحق .
فلذلك إذا أنت وفقت إلى استيعاب الحق ، كان هذا الحق مقياساً لك ، فالبطولة أن تستوعب منهج الله ، أن تستوعب منهج السماء ، أو تستوعب الحق الذي لا يتعدد أبداً .
﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ﴾
لا يوجد هداية أخرى .
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾
( سورة القصص الآية : 50 )
الطاقات في الإنسان من خلق الله وتوجيهها بيد الإنسان :
أيها الأخوة ،
﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ﴾
لكن لو شخص توهم أن الله سبحانه وتعالى هدى زيداً ، وأضلّ عبيداً ، مشكلة ، أقول : الإنسان حركته اليومية ، هي أفعال ، مشى إلى المسجد في عضلات ، في أرجل ، وضع يده على كتف يتيم وربت على كتفه تحبباً له ، هناك حالة ثانية ضرب إنساناً ، هناك حالة ثالثة أعطى إنساناً مال كصدقة ، في حركة ، في عضلات ، في سير ، في بطش .
النقطة الدقيقة أن الإنسان عنده طاقة ، الحركة طاقة ، بالمناسبة الكون كله مادة وطاقة ، وقد تتحول الطاقة إلى مادة ، هناك مركبة وزنها طن ، بصفيحة البنزين تنتقل إلى مسافة 200 كم ، هذا فعل ، ما أصله ؟ صفيحة البنزين ، الطاقة تحولت إلى فعل ، عندنا بالكون طاقة ، و عندنا فعل ، الله عز وجل أودع في الإنسان طاقات ، هذه الطاقات من خلق الله ، أما توجيه هذه الطاقات بيد من ؟ بيد الإنسان ، قام ليصلي ، الله أمده بالطاقة ، لكن هو أراد أن يصلي ، فأمده الله بالطاقة ، فالفعل فعل الله ، والإرادة إرادة الإنسان ، ضرب إنساناً ، هذا فعل سيء ، هو اختار الضرب ، الله أمده بهذه الطاقة .
لذلك حينما يقولوا علماء العقيدة : الأفعال أفعال الله عز وجل كلامهم صحيح والبواعث إلى الأفعال من قبل الإنسان كلام غير صحيح ، لو قلنا : إن مدير الثانوية اتخذ قراراً بترسيب طالب في صفه ، قرار المدير ، لكن لماذا أمر أن يرسب هذا الطالب في صفه ؟ لأن الطالب كسول ، بالامتحان ما جمع علامات كافية ، فصار السبب من الإنسان ، والفعل من الله .
فإذا عزوت الأفعال إلى الله فأنت على صواب ، وإذا عزوت البواعث إلى الإنسان أنت على صواب ، فالفعل هو توجيه الطاقة إلى إحداث شيء ، فالطاقة أودعها الله فينا هي فعله ، والانبعاث إلى توجيه هذه الطاقة لفعل شيء من قبل الإنسان ، فالإنسان محاسب ومسؤول ، هو انبعث إلى الخير فيثاب على هذا الانبعاث والفعل فعل الله ، وانبعث إلى الشر فيعاقب على هذا الانبعاث ، والفعل فعل الله ، هذا المعنى دقيق جداً إذا الله عز وجل قال :
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
( سورة الزمر الآية : 62 )
صح ، لأن الفعل فعله ، و إذا قال :
﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾
( سورة البقرة الآية : 286 )
أيضاً صواب ، الفعل الانبعاث له من قبل الإنسان إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .
الإضلال الجزائي و الضلال الاختياري :
﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ ﴾
إذا عُزي الإضلال إلى الله ماذا يحدث ؟ يعني أن هذا الإضلال جزائي مبني على ضلال اختياري .
مدير شؤون الطلاب بالجامعة أصدر قراراً بترقيم قيد هذا الطالب ، وطرده من الجامعة ، الفعل فعل مدير شؤون الطلاب في الجامعة ، نقول له : لماذا ؟ يقول لك : لم يداوم ولا ساعة ، ولم يقدم أي امتحان ، وجاءه إنذار ، تلو إنذار ، تلو إنذار ، فلم يستجب ، فرغبة هذا الطالب ألا يدرس ، أصرّ على أن لا يدرس ، صمم ألا يدرس ، هذا اختياره ، فجاء ترقيم القيد تنفيذاً لاختياره ، فإذا قلت إن مدير شؤون الطلاب هو الذي أمر بطرد هذا الطالب الكلام صحيح ، وإذا قلت إن الطالب الكسول الذي لم يلتحق بالجامعة ، ولم يؤدِ هذا الامتحان هو السبب في هذا الطرد ، أيضاً صحيح ، هذا المعنى الدقيق .
الانبعاث من الإنسان ، والفعل من الله عز وجل ، أنت في ضوء هذه الحقيقة تفهم من مئات الآيات الفعل فعل الله ، والكسب كسب الإنسان ،
﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾
( سورة فصلت الآية : 46 )
أما فعل العمل الصالح فعل الله ، وفعل الإساءة فعل الإنسان .
الله عز وجل خلق الإنسان ليسعده :
أيها الأخوة ، من الإنسان الإرادة ، ومن الله أن يمدك باختيارك ،
﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
وقد يقول الله عز وجل :
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾
( سورة الأنعام )
هل يستقيم إيماننا جميعاً إذا توهمنا أن الله خلق لجهنم أشخاصاً معينين ؟ مستحيل وألف ألف ألف مستحيل ، خلقنا ليسعدنا .
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
( سورة هود الآية : 119 )
ماذا نفعل في هذه الآية ؟
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ﴾
أي بثثنا ، ذرأ بثّ ونشر ، أي خلق
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ﴾
يعني معقول مواطن ، ولد بريء ، يؤخذ إلى أماكن يدرب على الجريمة من قبل الدولة وبعد أن يرتكب جريمة نسوقه إلى السجن ، هذا مخلوق للسجن ، هذا لا ترضاه أنت لإنسان ، لا ترضاه لعاقل ، إلا أن هذه اللام قال عنها العلماء : لام المآل ؟ .
لام المآل و لام التعليل :
خلق ربنا عز وجل
﴿ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾
مخيرين ، مؤهلين للهداية ، أو لعدم الهداية ، مؤهلين للطاعة ، أو للمعصية ، فالذي حصل أن كثيراً من الإنس والجن عصوا ، فهذه اللام ليست لام التعليل هي لام المآل ، توضح بهذا المثل :
﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾
( سورة القصص الآية : 8 )
أي معقول إنسان يلتقط طفلاً ليكون عدوه ؟ الآية معناها هذا الطفل في النهاية هو الذي قضى على ملك فرعون ، اسمها لام المآل ، أعتقد واضحة ، لام التعليل شيء ، مثلاً لام التعليل :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
( سورة الذاريات )
هذه لام التعليل ، علة وجودنا في الأرض العبادة ، خلقنا كي نعبده فإذا عبدناه سعدنا بقربه في الدنيا والآخرة ، خلقنا ليرحمنا ، خلقنا ليسعدنا ، خلقنا ليكرمنا .
لذلك
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
هذه اللام لام التعليل ، علة وجودنا ، أما حينما يقول الله عز وجل
﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾
معنى ذلك هو التقطه .
﴿ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾
( سورة القصص )
لماذا التقطوه ؟
﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا ﴾
ما الذي كان في المآل ؟ أنه كان عدواً له واضحة ؟ إذاً هذه الآية لا تفهم على معنىً ما أراده الله عز وجل .
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ﴾
ذرأنا خلقاً كثيراً من الجن والإنس ، في المآل والنهاية كثير منهم عصوا ، وخانوا الأمانة ، واستحقوها ،
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾
الإنسان إذا أحبّ شيئاً لا يرى غيره :
سؤال آخر :
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾
هناك سؤال آخر ، وسؤال دقيق : إذا كان يا رب قلب هذا الإنسان لا يفقه ، وأذنه لا تسمع ، وعينه لا تبصر ، ما ذنبه ؟ الجواب :
(( حُبُّكَ الشيءَ يُعْمِي ويُصِمّ ))
[أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء ]
الإنسان إذا أحبّ شيئاً لا يرى غيره ، إذا أحبّ شيئاً لا يسمع كلاماً آخر يرفضه ، إذا أحب شيئاً يملأ هذا الشيء عقله .
إذاً
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾
هذا من خصائص الإنسان إذا أحبّ الشيء تعلق به ، ولا يلتفت لا إلى أية نصيحة ، ولا إلى أي تحذير ، ولا إلى أي تفسير لهذا الشيء .
إذاً من شأن الإنسان أنه إذا أحبّ شيئاً أقبل عليه .
إذاً
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾
من كان مع الله قذف الله في قلبه نوراً يفرق به بين الحق والباطل :
لذلك المؤمن له ميزة كبيرة جداً ، ما هذه الميزة ؟ أن الله سبحانه وتعالى حينما يتصل به المؤمن يلقي في قلبه النور ، يريه الحق حقاً ، والباطل باطلاً ، هذه نعمة كبرى .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾
( سورة الحديد الآية : 28 )
﴿ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً ﴾
( سورة الأنفال الآية : 29 )
تفرق به بين الحق والباطل ، فلذلك أنت حينما تكون مع الله أنت مستنير ، ترى الحق حقاً فتتبعه ، وترى الباطل باطلاً فتجتنبه ، أنت حينما تكون مع الله ترى حقائق الأشياء ولا ترى صورها .
يجوز تجد ترى جامعة بناؤها متواضع جداً ، على الشبكية بناء متواضع ، في بعض البلاد النامية الجامعات بناؤها ضعيف ، لكن هذا البناء الضعيف أحياناً في الشتاء الجو بارد ، غير مدفأ ، بالصيف غير مكيف ، وهناك اختصاص طلاب ، هذه الجامعة ماذا تخرج ؟ علماء ، أطباء مهندسون ، قادة للأمة ، وهناك دور قمار تكلفة الصالة ثلاثمئة مليون تزيينات ، على الشبكية الملاهي فخمة جداً ، وجميلة جداً ، والجامعات على الشبكية بناء متواضع جداً ، هذه صور الأشياء ، أما حقائقها الجامعة تخرج قادة للأمة والملاهي تخرج منتحرين .
هناك شخص دخل إلى دار القمار فخسر كل ما يملك من الدولارات في أمريكا ، يملك اثنان ونصف مليون دولار ، فجاء إلى البيت معه مسدس ، أطلق على زوجته وأولاده الخمسة ثم انتحر ، وهكذا .
فالبناء فخم ، البناء جميل جداً ، تزيينات رائعة ، فأنت حينما تكون مع الله يقذف الله في قلبك نوره ، يريك الحق حقاً والباطل باطلاً .
من شرد عن منهج الله عز وجل خسر الدنيا و الآخرة :
أيها الأخوة ، إذاً هؤلاء الذين شردوا عن الله
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
أي انقطاعهم عن الله عز وجل جعلهم يتجهون إلى شهواتهم بقوة ، والإنسان حينما يتجه من أجل شهوته إلى جهة ما لا يرى شيئاً ، وقد ورد :
(( حُبُّكَ الشيءَ يُعْمِي ويُصِمّ ))
[أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء ]
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾
( سورة البقرة )
إذاً
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
هذه من بعدهم عن الله ، وأن تكون لهم
﴿ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا ﴾
هذا أيضاً من بعدهم عن الله ، وأن تكون
﴿ لَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾
إذاً من بعدهم عن الله ، لو أنهم أقبلوا على الله لقذف الله في قلبهم النور ، ومن أدعية النبي عليه الصلاة والسلام :
(( اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ))
يعني أي إنسان يرتكب معصية يتخيل أنها تسعده ، لو كان مؤمناً يعلم علم اليقين أنها تسخطه ، مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح ، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر .
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾
هذا من نتيجة بعدهم عن الله وإقبالهم على الشهوة .
(( حُبُّكَ الشيءَ يُعْمِي ويُصِمّ ))
الأنعام حينما تخطئ لا تعد عاصية بينما الإنسان يعد عاصياً لأن معه منهج السماء :
الله عز وجل يقول :
﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾
لماذا هم أضل ؟ .
أخوانا الكرام ، الحيوان يتحرك بغريزته فقط ، قد يقوم بأعمال مذهلة ، لكن هذا فعل غريزته ، الإنسان الله أعطاه فكراً ، أعطاه عقلاً ، أعطاه اختياراً ، فالحيوان لا يثاب على تفوقه ولا يعاقب على إساءته ، لا يوجد عنده تكليف ولا التزام ، فإذا تحرك بدافع من غريزته لا يوجد مشكلة عنده ، لا يعد ضالاً ، أما الإنسان إذا تحرك بدافع من شهوته فقط معه تكليف ، معه شرع ، معه وحي ، معه عقل ، معه فطرة ، هذا الإنسان أضل من الأنعام ، الأنعام تحركت بغرائزها ، لا تحاسب ، أنت إذا أقدمت هرة على خطف قطعة لحم هل تعد سارقة مثلاً ؟ لا هي تعد جائعة علاقتها مع اللحم علاقة غريزة فقط ، لا يوجد عندها حرام وحلال .
فالأنعام حينما تخطئ لا تعد عاصية ، لأنها ما معها تكليف ، أما الإنسان إذا تحرك بقضاء شهوته بلا منهج ، لو اعتدى على أعراض الناس ، أو اعتدى على ممتلكاتهم ، معه تكليف ، معه عقل ، معه شرع ، معه منهج ، معه فطرة ، معه افعل ولا تفعل ،
﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾
شخص أعطي عملة مزورة فقبلها ، لا يوجد عنده معرفة دقيقة بالعملات المزورة ، الثاني معه جهاز إلكتروني يكشف له العملة المزورة ، ومعه بالجيب الثاني أرقام العملات المزورة ، وقبض ثمن بيته بعملة صعبة ، لم يستخدم الجهاز ، ولم يقرأ أرقام العملات ، هو أضل من الأنعام ، الأول أخطأ لكن ما عنده أجهزة ، لو كان معه جهاز إلكتروني في جيبه الأيمن يكشف له العملة المزورة ، معه أرقام العملات المزورة للكشف في جيبه الأيسر ، وقبض ثمن بيته عملة مزورة الذي معه أجهزة هو أضل ، أما الأول ما عنده معلومات ، أخذها بعفوية وسذاجة .
إذاً هذا معنى قوله تعالى :
﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ ﴾
تحركوا بلا عقل ، تحركوا بلا فطرة ، تحركوا بلا منهج ، تحركوا بلا تبصر ، بلا تأمل ، لم يسأل ، تحرك بشهوته .
أكبر مرض يصيب الإنسان أن يكون غافلاً عن الله عز وجل :
الإنسان حينما يعصي الله عز وجل همه أن يمتع نفسه ، حلال ، حرام ، يجوز ، لا يجوز ، يوجد عقاب وراءها ، يوجد ثواب ، همه المتعة واللذة ، فهذا الإنسان حينما يتخلى عن عقله وعن فطرته ، وعن وحي السماء ، وعن منهج الله ، وعن القرآن ، ويتحرك بشهوته فقط هو دون الحيوان .
الإمام علي رضي الله عنه يقول : ركب الملك من عقل بلا شهوة ، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل ، وركب الإنسان من كليهما ، فإذا سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان .
إذاً
﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾
وأكبر مرض يصيب الإنسان أن يكون غافلاً عن الله عز وجل ، لذلك يقابل الغفلة اليقظة ، المؤمن يقظ .
(( المؤمن كيس فطن حذر ))
[ رواه الديلمى والقضاعى عن أنس رفعه وهو ضعيف]
والحمد لله رب العالمين
http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=1967&id=97&sid=101&ssid=253&sssid=254