بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
قانون الهجرة :
أعزائي المشاهدين ... أخوتي المؤمنين ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ولازلنا في قوانين القرآن الكريم ، والقانون اليوم : ( قانون الهجرة )
الهدف الأساسي من وجود الإنسان في الدنيا عبادة الله عز وجل :
أيها الأخوة الأكارم ، الإنسان أحياناً ينتقل من مكان إلى مكان ، هناك انتقالات كثيرة لا تعني شيئاً ، ولكن هناك انتقالاً يعد هجرة هو انتقال هادف ، فالنبي عليه الصلاة والسلام عاش في مكة ، لكن أهل مكة كذبوه ، ونكلوا بأصحابه ، وبالغوا بالإساءة إليه ، حتى أن الله سبحانه وتعالى سمح له أن ينتقل من مكة المكرمة إلى المدينة ، فهو المهاجر الأول وأصحابه الكرام هاجروا معه .
إذاً هناك معنىً دقيق يستنبط من الهجرة ، علة وجودك في الدنيا أن تعبد الله هذه علة أساسية ، أي الهدف الأساسي من وجود الإنسان في الدنيا أن يعبد الله ، لقوله تعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
( سورة الذاريات )
على كل إنسان أن يغادر المكان الذي يحول بينه و بين عبادته لربه :
إذا حالت بيئة أو حال مكان بينك وبين أن تعبد الله ، وقد ألغيت علة وجودك فلابد من أن تهاجر من هذا المكان الذي ألغى وجودك الإيماني ، وألغى علة وجودك ، إلى مكان آخر يمكن أن تحقق فيه وجودك ، بل يمكن أن تحقق فيه الهدف الذي خلقت من أجله .
هذه حقيقة دقيقة فنحن لو أردنا أن نوضحها بمثل :
طالب ذهب إلى بلد أجنبي ، وإلى عاصمته ليلتحق بجامعتها الكبرى في هذا البلد وينال الدكتوراه ، علاقته بهذه العاصمة على أنها متسعة ، وفيها نشاطات لا تعد ولا تحصى ، علاقته بهذه العاصمة أن يلتحق بالجامعة لينال الدكتوراه ، نقول : علة وجوده في هذه المدينة نيل هذه الشهادة ، فإذا لم يقبل في هذه الجامعة لا معنى إطلاقاً لبقائه في هذه المدينة .
فالإنسان حينما يعرف أن الله سبحانه وتعالى خلقه ليعبده ، فإذا حال مكان بينك وبين أن تعبده ، فالأولى أن تبحث عن مكان آخر تحقق فيه الهدف من وجودك الذي أراده الله لك ، هذا منطلق الهجرة .
الهجرة أحد أكبر النشاطات الإيمانية :
مكة المكرمة كذبت النبي ، آذت أصحابه ، ونكلت بهم ، وسخرت منه ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حينما انتقل إلى المدينة هناك من رحب بدعوته ، ونصره ، وأعانه ، إذاً الهجرة أحد أكبر النشاطات الإيمانية .
لذلك قال الله تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾
( سورة الأنفال الآية : 72 )
يعني ليس في الإسلام ما يسمى اليوم بالموقف السلبي ، بالإعجاب السلبي ، ليس المؤمن الذي يقنع بهذا الدين ، لكن المؤمن الذي يلتزم بأحكامه ، وما إن تستقر حقيقة الإيمان في نفس المؤمن إلا وتعبر عن نفسها بعطاء ، بالتزام ، فالمؤمن يصل لله ، ويقطع لله ، ويعطي لله ، ويمنع لله ، ويرضى لله ، ويغضب لله ، فأحد أكبر أسباب الهجرة في العالم الإسلامي هجرة في سبيل الله ، هجرة من بلد لا يستطيع أن يعبد الله فيه إلى بلد آخر يوفر له الحرية الدينية كي يعبد الله ، ويحقق الهدف من وجوده .
من حالت جهة قوية بينه وبين عبادته لله فلابد له من محاولة إصلاح المجتمع :
ولكن أيها الأخوة ، هناك آية دقيقة جداً هي الأصل في موضوع الهجرة ، هذه الآية لو تأملناها بدقة فهي ذات مدلول مستقبلي خطير ، هذه الآية يقول الله عز وجل :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾
( سورة النساء الآية : 97 )
يعني ما عرفوا ربهم ، ولا عرفوا منهجه ، ولا حملوا أنفسهم على طاعته .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
( سورة النساء الآية : 97 )
يأتي الرد الإلهي :
﴿ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾
( سورة النساء )
لابد أيها الأخوة ، من وقفة متأنية عند كلمة
﴿ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
يعني إذا حالت جهة قوية في بلد تسكنه ، حالت بينك وبين أن تعبد الله ، بينك وبين أن تؤدي صلواتك ، بينك وبين أن تحجب بناتك ، حينما تحول جهة قوية ، بينك وبين أن تعبد الله فلابد من محاولة إصلاح المجتمع ، فإن لم تستطع فلابد من أن تغادر ، النتيجة خطيرة جداً
﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾
ولكن ، أنت حينما تكون في بلد ، القوى تمنعك أن تطيع الله ، بقمع شديد لابدّ من المهاجرة من هذا البلد إلى بلد تحقق فيه ذاتك عن طريق الأداء لشعائر الله عز وجل .
للاستضعاف معنيان ؛ استضعاف أمن واستضعاف إغراء :
لكن هناك من العلماء من فهم الاستضعاف بمعنىً آخر ، حينما تكون في بلد الحريات فيه مطلقة ، ولكن الشهوات أقوى من قناعاتك ، وأقوى من إرادتك ، تضعف أمام الشهوة ، وتضيع أولادك ، ومن حولك ، هذا أيضاً نوع من الاستضعاف ، لكن هناك استضعاف قمعي ، وهناك استضعاف ذاتي ، فإذا كنت في بلد لا تستطيع أن تقيم شعائر الله من شدة الصوارف ، والعقبات ، والإغراءات ، بل إذا كنت في بلد لا تستطيع أن تضمن لأولادك سلامتهم الإيمانية ، والسلوكية .
إذاً لابدّ من أن تفكر في بلد آخر تحقق فيه ذاتك أولاً ، وتضمن فيه سلامة أهلك وأولادك ثانياً .
أيها الأخوة ، الاستضعاف إذاً له معنيان ، استضعاف أمن ، واستضعاف إغراء فأنت ينبغي أن تعرف سر وجودك ، وغاية وجودك ، والله عز وجل حينما قال :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه :
أما البشارة الطيبة ، حيث يقول الله عز وجل :
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾
( سورة النساء الآية : 100 )
يعني هو في بلد دخله وفير ، حاجاته مؤمنة ، طلباته محققة ، لكن خاف على أولاده ، خاف على مصيرهم ، خاف على عقائدهم ، خاف على انتمائهم لأمتهم ، خاف على تضييع دينهم ، أموره المادية ميسرة ولكنه ضحى بكل هذه الميزات ، وأراد أن يعود إلى بلد يمكن أن يطيع الله فيه ، أو أن يطيع الله هو وأهله وأولاده ، هذه هجرة اسمها في سبيل الله قال تعال :
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ﴾
( سورة النساء الآية : 100 )
سعة في الرزق ، وكأن الله أغراه أنك إذا أدرت إرضائي أنا أضمن لك رزقاً وفيراً في البلد الذي سوف تأتي إليه ، لذلك المقولة الرائعة :
ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه .
من اتخذ قراراً مصيرياً يخدم سرّ وجوده و غاية وجوده فشأنه عظيم عند الله عز وجل :
هناك ملمح دقيق : أنت حينما تتخذ قراراً مصيرياً ، أنت حينما تتخذ قراراً يخدم سرّ وجودك ، وغاية وجودك ، أنت حينما تتخذ قراراً يضمن لك سلامة دينك ، أنت حينما تتخذ قراراً يضمن لك سلامة دين أولادك ، هذا قرار خطير ومصيري ، وهو قرار عند الله له شأن كبير ، ولكن من أجل أن ترى عظمة هذا العمل الله عز وجل يجعلك تدفع ثمنه باهظاً .
ففي أول مرحلة من الهجرة قد لا تجد ما كنت تصبو إليه من دخل وفير ، الله عز وجل قال :
﴿ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾
( سورة التوبة الآية : 28 )
سوف للاستقبال ، أي لابدّ من فترة تدفع فيها الثمن ، وبعدها يأتي فرج الله عز وجل :
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾
( سورة النساء )
الهجرة نوعان ؛ هجرة في سبيل الله وهجرة في سبيل الشيطان :
أيها الأخوة ، يمكن أن نقسم الهجرة إلى هجرتين ، هجرة في سبيل الله ، وهجرة في سبيل الشيطان ، إذا كنت في بلد إسلامي تعيش حياة كريمة ، حياةً تؤدى فيها العبادات التي يتمنى كل عبد أن يؤديها ، وضحيت بهذه النعمة الكبيرة ، وانتقلت إلى بلد ترتكب فيه الفواحش على قارعة الطريق ، ولا تضمن سلامة أولادك من هذه البيئة الفاسدة ، فأنت في مشكلة كبيرة يمكن أن تسمى هذه الهجرة هجرة في سبيل الشيطان .
على كلٌ باب الهجرة قد أُغلق بين مكة والمدينة ، ولكنه مفتوح على مصاريعه بين كل مدنيتين تشبهان مكة والمدينة ، وإن الهجرة من الأعمال العظيمة التي تهدم ما كان قبلها ، بل إن الهجرة في زمن الفتن ، وزمن النساء الكاسيات العاريات ، وزمن الاضطراب هذه الهجرة تعد عند الله جهاداً كبيراً ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( وإِنَّ العِبادَةَ في الهَرْج كهجرة إلي ))
[أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ]
يعني أنت ممكن أن تبقى في بلدك ، وأن تهجر كل منكر ، فالمهاجر من هجر المنكر ، بل إن عبادة الله في بلد عبادة دقيقة هادفة يمكن أن تعد هجرة كاملة إلى الله ورسوله .
البلاد التي حول الأقصى بلاد مباركة بنص الآية التالية وبنص الأحاديث الصحيحة :
لذلك قال :
(( بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام ))
[ أخرجه البزار عن أبي الدرداء ]
إلى بلاد الشام بالمعنى القديم الواسع لأن الله عز وجل يقول :
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾
( سورة الإسراء الآية : 1 )
فالبلاد التي حول الأقصى بلاد مباركة بنص هذه الآية ، وبنص هذه الأحاديث الصحيحة .
من هاجر في سبيل الله له أجر عظيم عند ربه :
إذاً يمكن أن نعد الهجرة من مكان يعصى الله فيه ، أو لا تستطيع أن تقيم أمر الله فيه ، إلى بلد يمكن أن تعبد الله فيه عبادة متفنة أنت وأهلك ومن يلوذ بك ، تعد هذه الهجرة في سبيل الله ، ولها أجر كبير ، والهجرة كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( وأن الهجرةَ تهدِم ما كان قبلها ))
[أخرجه مسلم عن عمر بن العاص ]
والهجرة تحقق إن شاء الله بحسب وعد الله عز وجل دخلاً وفيراً ينسيك البلد الذي كنت تنعم به بدخل كبير .
أيها الأخوة الأحباب ، هذا موضوع دقيق يحتاجه كل مسلم حينما يفكر أن ينتقل من مكان إلى مكان .
أعزائي المشاهدين إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
والحمد لله رب العالمين