الحقوق محفوظة لأصحابها

راغب السرجانيصلاح سلطان
في هذه الحلقة من صناعة العلماء صور رائدة من صبر العلماء على طلب العلم، وخاصة الصبر على المباحات فضلا عن الصبر على المحرمات، فلا يوجد عالم إلا وصبر على الكثير من المباحات التي أحلها الله تعالى له كالنوم والأكل وغير ذلك، فمع نماذج من التاريخ والواقع يستعرضها الدكتور راغب السرجاني والدكتور صلاح سلطان

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نستهديه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله أما بعد فأهﻻً و مرحباً بكم في هذ اللقاء المبارك و أسأل الله عز و جل أن يجعل هذه اللحظات في ميزان حسناتنا أجمعين . حلقة جديدة من برنامج صناعة العلماء , تحدثنا في الحلقات الماضية عن صفات كثيرة و جليلة للعلماء الربانيين نسأل الله عز و جل أن يكثر منهم في أمتنا و أن يجعل نهضة اﻷمة و مجدها و تقدمها و سيادتها على أيدي هؤلاء العلماء الربانيين و أن يجعل كل المشاهدين و المشاهدات من المشاركين في هذا العمل الجليل صناعة العلماء .

مازلنا مع أستاذما الفاضل اﻷستاذ د. صلاح سلطان ، أهلاً بكم و نسأل الله سبحانه و تعالى أن يتقبل منا و منك ، حدثتنا كثيراً في قضية العلماء و آخر حلقة كنا نتحدث عن صبر العلماء و لا شك أن هذا المجال واسع و الحديث عنه لا ينقطع خاصة و أن هذه الصفة لا يمكن بحال من اﻷحوال أن تغيب عن ذهن أو عمل عالم حقيقي من العلماء ذكرنا ، حتى أن هذه الصّفة يتصف بها العلماء المسلمين و غير المسلمين فكلّ العلماء لا بد أن يتصفوا بهذه الصفة الجليلة حتى يصلوا إلى العلم الحقيقي .

بالتأكيد هناك الكثير من اﻷمثلة عن صبر العلماء على المعاناة الطويلة بل و أقول صبر العلماء أحياناً على ترك المباح للوصول إلى ما يريدون من تحقيق العلم ما رأيكم في هذه القضية ؟

د. صلاح : بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على حبيبنا سيدنا رسول الله اللهم صلي و سلم و بارك على سيدنا محمد و على آله و صحبه و من والاه ، أما بعد :

أحب أن أقول لإخواني و اخواتي أنه هناك عذوبة فعلاً في الحوار مع أخي و حبي في الله فضيلة الدكتور راغب السرجاني فأشعر أن كلامه أول من ينتفع و يتعلم به هو العبد الفقير لله سبحانه و تعالى و كثيراً ما أدعو له في ظهر الغيب و أتمنى على الله سبحانه و تعالى و ثيراً ما أدعو الله له وامتنى على الله أن أن يفتح به قلوب العباد و ان يهيء له البلاد إن شاء الله لكي يكون فتح جديد إن شاء الله . . .

المهم : الموضوع صبر العلماء الحقيقة أننا لو أردنا أن نسقط على أرض الواقع اﻵن أنا أدعو إخواني العلماء الّذين فعلاً تهيّؤوا للعلم و شباب العلماء الّذين يريدون فعلاً التهيء للعلم إلى أن يصبر ليس عن الحرام فقط ﻷن الحرام لو دخل :

(( إن الرجل ليذنب ذنباً فينسى به باباً من العلم ))

هناك صبر عن المحرمات هو أمرٌ أساسي مفروغ منه :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

و أخبرني بأن العلم نور

و نور الله لا يهدى لعاصي

إنما الفتن الكثيرة الموجودة اﻵن في المباحات هي التي تعطل كثيراً من ذوي اﻹرادات أن يكونوا من العلماء الربانيين ، الشاب الّذي نشأ في بيئة الناس فيها كي يخوض تجربة الزواج يحتاج إلى 3 أو 4 حفلات ليتزوج و هذا له مصاريف و البيت يجب أن يكون كل ما فيه كامﻻً و الشقة لا بد أن يكون فيها عدد من الغرف و المهر . . . دخلنا في إطار من المباحات جعل كثيراً من الشباب الّّذي لديه ضغط داخلي يريد أن يتعفف و يتزوج و ضغط خارجي عرف عام لا يسمح للشاب أن يتزوج إلا أن يهيء هذه اﻷسباب و اﻷشياء و بالتالي يضطر أن يترك الكتاب و المكتبات و يذهب ليعمل في الليل و النهار لكي يحصّل هذه اﻷشياء .

حسناً المسألة هذه من الممكن أن نقول أنها عرف طاغي يضغط عليه ، ما بال الهوى الداخلي الضاغط عليه أيضاً أنه هو لم يعد بإمكانه أن يأكل صنف من الطعام بل صنفين من الطعام و لا يستطيع أن ينهى عن نفسه اﻷسواق و ما يرى فيها من الأنواع الكثيرة و اﻹعلانات و المجلات . . . فهو يريد أن يعيش ها هنا رأيت كثيراً من أخواني يتعجّلون .

تقول له المرحلة اﻷولى لا تتعجل المال و لا تتعجل رغد العيش تعجّل أن تقرأ بالليل و النهار و أن تبحث و تفكر و تتدبر و أن تبتكر و تخترع و أن يكون لديك الجديد و أنت في ريعان الشباب إذا درجت على طلب العلم و الصبر عليه سيظل ديدنك إلى أن تلقى الله لكن المرحلة اﻷولى من حياتك إذا انسقت وراء الحلال لن تجد وقتاً .

الحقيقة بعض الشباب و هم نادرون لا أقول قليلون بل نادرون النادر أقل من القليل بكثير جداً هم الّذين يستجيبون لذلك و البعض اﻵخر ينتهي ، أذكر مثاﻻً على هذا أحد طلابي في دار العلوم راسلني كثيراً و أنا في أمريكا أرجوك أنا ظروفي قاسية و أريد أن آتي آخذ الحد اﻷدنى من الراتب لكن هدفي اﻷصلي هو أن ألازمك كي أتعلم منك و كي أكون بإذن الله من علماء اﻷمة يقول مثلك - و انا لا أعتقد أني من العلماء و لكني من طلاب العلم - فأشفقت عليه و أرسلت له و أتى بالفعل و كان يأخذ راتباً يستطيع أن يتعيش منه و هو أعزب معيشة جيدة جداً و أن يدخر منه ادخاراً طيباً فقلت له تعال نجلس لنضع خطة علمية . . . القرآن أريدك أن تقرأ كذا الحديث تقرأ كذا السيرة كذلك علوم العقيدة . . . -هذا كان في أمريكا- نمشي ببرنامج ثم وضعنا البرنامج ألاحظ أنه يتهرب مني في المتابعة يا بني نريد أن ننتهي من فصل من باب من مقرر من غيره ففوجئت أنه هو يذهب في أعمال إضافية إلى غير العمل الّذي كان يعمله و كنت أعطيتي له نصف عمل و بأجر طيّب فوجئت أنه يذهب أعمال في أماكن أخرى للمال !

بعدها قلت له يا فلان اصدقني هل أنت فعلاً تريد العلم أم تريد المال لا تتعبني ﻷنني لا أتعمل مع المهرجين و لا مع أنصاف الجادين فقال لي بصراحة أنا أريد المال و أنا أريد أن آخذ شقة جيدة في مصر و اعيش . . . فقلت له إذاً :

(( قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ))

( الكهف / 78 )

أنت فعلاً لم تصبر على هوى داخلك قلت له انظر :

نحن عشنا حياةً قاسية جداً في بداية حياتنا و كان بإمكاننا أن نتوسع حتى لما جاءتنا اﻷموال كان الهدف اﻷساسي من هذه اﻷموال أن نشتري الكتب و نبقى مرابطين على القاعدة الفقهية :

(( من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه ))

يا بني خذ سنتين أو 3 أو 4 أو 5 ثم دكتوراه و أمورك ستستريح مادياً بعد ذلك لكن لا تتعجل لكنه تعجّل و إلى اﻵن لم يحصل على الدكتوراه و تعب جداً و تزوج و طلق . . .

د. راغب : الهدف ليس موجوداً فالهدف غير موجود من البداية . . . فلنأخذ المشاهد مرة التاريخ و مرة أخرى من الواقع لننوع له من عبرة التاريخ :

- أسد بن الفرات :

أسد بن الفرات رحمه الله ترك أسرته و أهله كان يعيش في تونس و تركها للبحث عن العلم و كان عندها من العلماء الكبار في بلده عندما ترك البلد ، لكن قضيّة أن أبحث عن العلم بتجرد فيجد أن هناك من هو أعلم منه فيذهب إليه و يحرص تماماً كالقصة التي ذكرتها هذا الرجل الذي انتقل ﻷمريكا ليجاور حضرتك ليتعلم تماماً هو ما فعله أسد بن فرات لكن بطريقة أخرى ذهب للمدينة المنورة و جالس اﻹمام مالك رحمه الله و تعلم على يده علماً غزيراً و بعد أن انهى علم اﻹمام مالك و اﻹمام ما زال موجوداً ، سأل فوجد الكثير من العلم في العراق عند أبي حنيفة لكن أبا حنيفة كان عندها مات لكن تلامذته موجودين : أبو يوسف و محمد بن الحسن الشيباني . . . لكن بعد كل علم اﻹمام مالك الغزير خرج ﻷنه لديه حرص حقيقي على تحصيل العلم ﻷن العلم الذي حصله قد لا يتحصّل عليه عامة اناس في زمانه ذهب بالفعل إلى العراق و ذهب إلى مجالس محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله يقول دخلت المسد وجدت المسجد مﻵناً عن آخره و هو طبعاً مسجد في ذلك الزمن مسجد ضخم هائل و لا مكبرات للصوت فيه فأخذ يستمع في آخر صفٍّ بعيد عن اﻹمام محمد بن الحسن الشيباني فأخذ يستمع بمشقة و صعوبة فأخذ يبكر كل يوم حتى يتقدم في المجلس إلى أن وصل أن جلس أمام محمد بن الحسن الشيباني وصل إلى ما يطمح إليه عامة طلاب العلم في ذلك الوقت ، فوجدها فرصة ليكلمه قال له :

(( يا إمام أنا رجلٌ فقير قليل النفقة و السماع منك نذر . . . و بلادي بعيدة و نفقتي قليلة ما أستطيع المكوث فترة طويلة ))

أريد أن أتعلم لوقت معين ﻷعود ، انظر إلى وضوح الرؤيا لديه القضية في منتهى الوضوح هو اتى ليتعلم علماً معيناً في لحظة معينة لينتهي و يعود إلى بلده .

د. صلاح : لاحظ ، يريد الرجوع إلى بلده .

د. راغب : نعم ، فقال اﻹمام محمد بن الحسن الشيباني كلمات في غاية الروعة ترينا كم يكون العالم متجرداً و كيف من الممكن ان يورث العالم العلم لﻵخرين ، و كيف أن اﻷسد بن فرات حريص على وصول العلم حتى و لو ترك اﻷهل لكن لديه سقف يريد ان يعود بناءً عليه لا يريد أن يتعلم و بعد أن ترك الدنيا بما فيها سنوات و سنوات ليترك المهمة التي جاء من أجلها .

فقال له كلمة جميلة : قال :

(( قد جعلت النهار للعراقيين فاسمع معهم و جعلت الليل لك ! ))

فلتأتي فلتبيت عندي في داري . . . . -اقشعر جسدي عندما قرأت هذه القصة- محمد بن الحسن لا يريد أن يستريح . . . فيقول :

(( كنت أجلس مع العراقيين في الصباح و أذهب إليه في المساء بعد أن ينتهي من دروسه بعد العشاء فأجلس معه في الطابق اﻷسفل -كان منزله دورين- فيعلمني ما شاء الله له ان يعلمني ثمّ يغلب علي النعاس فيصعد إلى الطابق اﻷعلى و ينزل و معه طبق من الماء فكلما نعست رشّ على وجهي الماء . . . ))

د. صلاح : يعلمه الصبر . . .

د. راغب : محمد بن الحسن صاحي و هو الّذي يعلم و يعطي و يرش عليه الماء إلى أن يستيقظ فيأخذ منه العلم و هكذا . . . . يصحيه بالماء . . . حتى أخذ علم محمد بن الحسن الّذي هو علم أبي حنيفة فأصبح يجمع علم اﻹمام مالك و اﻹمام بن أبي حنيفة ثم انتقل إلى مصر و تعلم على يد اﻹمام سحنون الّذي هو من تلامذة اﻹمام مالك ثم عاد إلى تونس و كان هو الّذي نشر المذهب المالكي ليس في تونس بل في الشمال اﻷفريقي كله و من ثم في اﻷندلس بعد ذلك ، من طالب علم نجيب و من معلم متجرد هذه المنظومة هي التي أفرزت هذا العلم و انتشر العلم في عدة دول بفضل هذا الجهد .

هذه أمثلة عن ناس لا رغبة لديها إلا في تحصيل العلم فعلاً لله عز و جل .

د. صلاح : و لذلك انظر يا دكتور لما يكون أحدنا واضح و صادق مع ربنا سبحانه و تعالى يوفق توفيقاً كبيراً جداً و أيٍ من شباب العلماء النبغاء أول ما يبدأ في العلم ستأتيه فتنتان فتنة اﻹغواء و فتنة اﻹيذاء و الصبر هنا يجب أن يكون مزدوجاً و الصبر نوعه يجب أن يكون صبراً جميﻻً و ليس أي صبر :

(( فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا ))

( المعارج / 5 )

فتنة اﻹغواء ستجد اﻷعمال تأتي لك أنت طبيب و لديك النبوغ و . . . ستأتيك 100 عيادة و مستشفى لتشغلك تماماً عن طلب العلم . . . في صحيح البخاري :

(( رقم الحديث: 6

(حديث موقوف) أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْبَادَا ، أَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ ، ثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ عُمَرَ " تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا " يَقُولُ : تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ مَا دُمْتُمْ صِغَارًا قَبْلَ أَنْ تَصِيرُوا سَادَةً رُؤَسَاءَ مَنْظُورًا إِلَيْكُمْ ، فَإِنْ لَمْ تَعَلَّمُوا قَبْلَ ذَلِكَ اسْتَحْيَيْتُمْ أَنْ تَعَلَّمُوا بَعْدَ الْكِبَرِ فَبَقِيتُمْ جُهَّالًا تَأْخُذُونَ مِنَ الْأَصَاغِرِ ، فَيُزْرِي ذَلِكَ بِكُمْ ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ : " لَنْ يَزَالَ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ عَنْ أَكَابِرِهِمْ فَإِذَا أَتَاهُمْ مِنْ أَصَاغِرِهِمْ فَقَدْ هَلَكُوا " . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَفِي الْأَصَاغِرِ تَفْسِيرٌ آخَرُ بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ : أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ بِالْأَصَاغِرِ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَلَا يَذْهَبُ إِلَى السِّنِّ . ))

قبل أن تصيروا سادة في الناس خذ نفساً علمياً عميقاً و لا تستعجل ففتنة اﻹغواء تعرض عليك اﻷعمال و ألوان من الجمال ﻷن النابغة ترغب فيه الناس ( نساء – بيوت – عائلات . . . ) إن كانت لديه الرؤيا واضحة أريد أن أكون عالماً ربانياً فمن يخدمني في هذه المسألة ، كما سبق و أشرت . . . لما تكلمنا عن الزواج للعلماء ، الدكتور راغب قال في نهاية الحلقة و قال يتزوج من تساعده على استمرار طلب العلم و تعليم الناس ﻷن ليست كل النساء ترغب في ذلك . . . العالم لا يعرف غرفة نومه دون أن يكون فيها الكتب فحياته كلها للعلم .

المهم أن هؤلاء الشّباب تعرض عليهم هذه الفتن و أنا أقول انها من المباح و الحلال و الخطورة هنا انها من المباح الحرام أو الشبهات ، قلب اﻹنسان إذا لديه أدنى درجة من اﻹيمان التقوى تدفعه إلى أن لا يقربها

د. راغب : كيف نوفق هذا القول مع اﻵية :

(( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ))

( اﻷعراف / 32 )

(( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ))

( البقرة / 249 )

إنما إذا أردت ان يكون معك رواحل لا بدّ أن يتجاوزوا مرحلة الصبر عن الحرام إلى الصبر عن المباح

د. راغب : و من الممكن أن نقول انه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فالعالم واجبه أن يعلم اﻷمة كلها .

د. صلاح : اﻷمة منكوبة بشكل غير عادي و اﻷمة كاﻷيتام في مأدبة اللئام و اليتيم الّذي مات أبوه و هو طفل صغير تنبت فيه الرجولة مبكراً و يشعر بالمسؤولية عن أمه و عن أخواته البنات و يبدأ يذاكر في الليل و يعمل في النهار و يراعي و يدير البيت ﻷنه يتيم ذو مروؤة ، أنا أريد من أخواننا الّذين يريدون أن يتأهلوا ليكونوا علماء ربانيين كما ذكرتم في أول الحلقات أنّه يعرف دوره في الحياة أنه :

(( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ))

( آل عمران / 110 )

هدفه إسعاد العالم و تغيير العالم و إنصاف العالم و الحاكم و الأمة فهو هنا لديه رؤيا تجعله يقول ما لهذا خلقت و انت تعلم ان اﻹمام يحيى لما كان عند اﻹمام مالك و هو جالس في المسجد و دخلت الفيلة إلى المدينة و النظر إلى الفيلة من الحلال فكل طلاب العلم الّذين كانوا أمام اﻹمام مالك خرجوا إلا اﻹمام يحيى الّذي ظلّ جالساً

اﻹمام مالك : قال ما منعك ان تخرج لترى الفيلة كما خرج طلاب العلم

قال : ما جئت من أجل الفيل يا إمام . . . إكراماً له اﻹمام مالك ظلّ يحدّث لم يتوقّف و رواية هذا اﻹمام العظيم هي الرواية الوحيدة الكاملة التي فيه 8 احاديث زيادة لا توجد في روايات اﻵخرين ﻷنهم لما خرجوا ليروا الفيلة لم يستمعوا إليها . . . رواية الفيل . . . فخصه اﻹمام مالك بهذه الروايات ﻷنه ترك من المباح ما جعله أهﻻً ليأخذ مالم يأخذه غيره فإذا لم يترك طالب العلم المباح من النوم فيصير النذوم غمضاً و يصير الطّعام قوتاً و يصير الكلام ندراً فيقلل من الكلام لحساب طلب العلم و الذّكر و قراءة القرآن و الورد القرآني مالم يفعل هذه اﻷشياء اﻷكل من المباح الموجود امام الإنسان لكنّ نتيجته أنّه قعﻻً إذا أكل أكثر مما يلزم سينام .

د. راغب : ابن عقيل كان يفضل أن يأكل اﻷكل المسفوف الخبز المفتت عن الخبز السّليم ﻷنه ينتهي و يبلع سريعاً فيأخذه بدقيقتين بدل الخمس طبعا قد يقول البعض أن هذه مبالغة . . . نجاوب ان ابن عقيل كتب كتاب الفنون 800 مجلد و هو اكبر موسوعة ألفها إنسان في تاريخ البشرية كلها هناك موسوعات أكبر ألفتها مؤسسات أكثر من عالم يشتركون لكن أن يؤلف مؤلف واحد فقط 800 مجلّد من موسوعة الفنون في كل فنون اللغة و فنون الفقه و الشريعة و فنون اﻷدب وا لشعر . . . جمع كل هذه الفنون في كتاب ﻷنه كان على هذه الصّورة لما كان يدخل البيت و يقرأ يتركه أهله ﻷنه في محراب حقيقي يقرأ فإذا جاء وقت الطعام يأتي ابنه أو ابنته يمسكون الكتاب و هو يأكل ليقرأه عليه . . . و في ذات الوقت هو يختصر وقت اﻷكل طبعاً قد يراه الناس تضييق جداً ﻷبواب واسعة هذا ليس أي إنسان هذا عالم و العالم هذا يقود الأمة و ما يباح لعموم اﻷمة يصعب على العالم ذلك و إلا ضاعت اﻷمة .

د. صلاح : أنا قمت بنفسي أمراً مماثﻻً أتعبني لسنوات :

كنت في الثانوية العامة أذاكر و الحمد لله انا في الثانوية و غير الثانونية العامة أحب القراءة جداً و أقرأ ليﻻً و نهاراً ، الحمد لله ، و كانت الجماعة في أول يوم من الامتحان قد جهزوا الملوخية و الملوخية عندنا أصولها ان تأكلها بالخبز و أنا أريد أن أختصر الوقت جداً كي أقرأ و أذاكر فشربت الملوخية و لم آكلها بالخبز و فكانت النتيجة انّ هذه الملوخية كانت أول سنة الدولة ترش القطن بالمبيدات بالطيران كان دائماً يرش يدوياً فهم رشوا القطن و الزراعة كان فيها ملوخية على رأس الحقل الّذي فيه القطن فرشوا لك شيء و نحن تخيلنا أن الطيار يكون على السنت ، المهم كل البيت تسمم لكن ﻷنني شربت و لم آكل نزل كنت جائعاً الملوخية كنت نقلت إلى المشفى في حالة تسمم و لم أبرأ إلا بعد سنتين عندما ذهبت إلى الحرم فشربت ماء زمزم أجعت نفسي و أول ما نزلت الحرم و قبل السعي جلست و شربت ماء زمزم فأذهب الله سبحانهو تعالى عني البأس فهذه المسائل فعلاً أنا لا أتصور أن أحداً من طلاب العلم يجلس ساعة على اﻷكل يأكل براحته . . . ضعوا المائدة لما تجتمعون تجلسون و المائدة يجب أن يكون آخر من يجلس و أول من يقوم العالم ﻷنه عليه البحث و الكتاب . . .

د. راغب : الناس الّذين يستصعبون هذا الكلام إذا كنا نحن مسلمين و لدينا أهداف كبرى كثيرة و اخروية لهذا العمل فحتى غير المسلمين الّذين لا يرتبطون بمثل هذه اﻷهداف و يريدون ان يكونوا من العلماء و يبذلوا مثل هذا الجهد و لعله أشد في كثير من اﻷحايين أضرب مثالين سريعين قبل انتهاء الوقت :

- هناك مثل ﻷديسون :

و أديسون الّذي هو من اخترع امصباح الكهربائي يقول أنّه حاول مائة محاولة و في المائة و واحد نجح في صناعة المصباح الكهربائي و كان في كل محاولة يبذل التجربة فالناس الّّذين يعملون معه أحبطوا بعد العديد من المحاولات فوجدوا أنه سعيد و سهران في المعمل ليعمل فيقولون له ألم تشعر باﻹحباط و اليأس

فقال : أنا هنا عرفت أنّ هذه الوسيلة و كل وسيلة جربتها لا تعمل المصباح الكهربائي فهذا نجاح إذاً لا بد من وسيلة تعمله حتى وصل إلى الوسيلة 101 .

- القصة الثانية :

لويس باستيور مكتشف الجراثيم كان في ليلة عرسه بحثوا عنه و تأخر . . . فوجدوه في المعمل يعمل و نسي موعد العرس و أهله و اهل العروس ينتظرونه . . . هذا مثال لديه قضية علمية و كل العلماء الّذين برعوا و أنتجوا سواء من المسلمين أو غير المسلمين القدامى أو المحدثين كل التاريخ و الواقع يحمل أن من يريد ان يصل إلى العلم لا بدّ له من الصبر حتى عن المباح كما ذكرت فضيلتكم دقيقة لك و نختم إن شاء الله .

د. صلاح : فعلاً أوصي شباب العلماء بشكل خاص أن لا يستعجل رغد العيش و لو اكتفى بالكفاف و أعلى شيء الكفاية ﻷنه حتى و لو كنت ميسوراً فأخذت من كل المباح فسيعطلك هذا قطعاً أن تصل إلى الصمود العلمي الّذي يوصلك إلى الرسوخ في العلم كما قال ربنا سيحانه و تعالى :

(( ))

( / )

في عصر نريد فيه عالماً موسوعيّاً عنده أفق واسع جدّاً أن يقرأ في فنون كثيرة و علوم كثيرة حتى يتاهل أن يكون لديه فقه مادّة التخصص و فقه الواقع الّذي يعيشه كيف ينقذ أمته في تخصصه سواء كان تخصصه شرعياً أو من تخصصات علوم الحياة كيف يرتقي بها ارتقاءً يصل بها إلى مصافي اﻷمة الرائدة و ليست اﻷمة الراكدة .

د. راغب : جزاكم الله كل خير

سعدنا بصحبتكم تكلمنا عن صفة العالم الرباني عن الصبر و التي من المستحيل أن تنتهي في حلقة أو حلقتين و لو أعددنا برنامجا خاصاً بصبر العلماء لوجدنا مادة غزيرة جداً صفة لازمة لا يمكن في حال من اﻷحوال أن تحقق العلم إلا أن تكون صابرا و يكفي أن نختم هذه الحلقة بكلمة يحيى بن أبي كثير (( لا يستطاع العلم براحة الجسم ))

نسأل الله عز و جل ان يتقبل منا و منكم و نشكر الد. صلاح على تعليمه و تربيته و إضافته

جزاكم الله خيراً و جزى الله خيراً المشاهدين و المشاهدات على متابعتهم و إلى حلقة قادمة

و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .

* * *