بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أهلا بكم ونكمل سويا برنامجنا "الجنة في بيوتنا".
في الحقيقة حلقة اليوم استكمال لحلقة الأمس، كانت حلقة الأمس أو قاعدة الأمس ( أنتِ غالية يا أمي ) بمثابة حفلة التكريم أو حلقة التكريم للأم. وما زلنا نتوجه بحديثنا للأم في حلقة اليوم ونقول لها شيئا مختلفا: هناك دور كبير منوط بكِ، فباستطاعتكِ أن تصنعي نهضة لهذه الأمة. المطلوب منكِ عدة أدوار في تعاملكِ مع ابنكِ، ومن خلال هذه الأدوار سيخرج لنا رجل عظيم وستخرج لنا فتاة عظيمة. إذا كنا في الحلقة السابقة قد قلنا: إننا لن نطلب منكِ شيئا لأنها حلقة تكريم ففي هذه الحلقة سنطلب منكِ أشياءَ.
حلقة اليوم، أو قاعدة اليوم "الأم المحفزة للنجاح". سنحكي دور الأم في عدة نقاط، ونتوقف عند كل نقطة في منتصف الحلقة لنقول: الأم المحفزة للنجاح أي التي تدفع ابنها لينجح. وتخيلوا لو كان لدينا عشرة آلاف أم أو عشرون ألف أم أو حتى ثلاثين ألف أم من هذه النوعية.
ذكرنا بالأمس أنكِ العاطفة كلها ونقول لكِ اليوم - إلى جانب ما ذكرناه بالأمس- إنكِ العاطفة والرحمة كلها: أنكِ أنت القادرة على تحفيز الشباب للنجاح حتى لو لم تكن لديه تلك الإمكانات إلا أنه بتحفيزكِ يستطيع أن ينجح.
يمر ابنك معك بأربعة مراحل:
· المرحلة الأولى: منذ ولادته وحتى يبلغ الثالثة من عمره: في هذه المرحلة امنحيه الحنان على قدر استطاعتكِ. المطلوب منكِ في هذه المرحلة هو الحنان والعطف والرقة واللطف والحب والاهتمام وإياكِ أن تتركيه وكوني معه ليل نهار.
جاءت امرأة إلى السيدة عائشة رضي الله عنها ومعها صبيان صغيران وجلست عندها قليلاً ثم قالت: يا أم المؤمنين أنا جائعة – ليس معها نقود – فبحثت السيدة عائشة فلم تجد سوى ثلاث تمرات فأعطتها إياها، أعطت المرأة ابنها الأول تمرة والآخر كذلك وأخذت هي تمرة، فإذا بالطفلين قد التهما تمرتيهما بسرعة من شدة الجوع ثم أخذا ينظران إلى الأم التي معها تمرتها، ففعلت الأم ما كانت ستفعله أي أمّ تسمعني الآن حيث قسمت تمرتها بين طفليها نصفين وظلت هي على جوعها. تأثرت السيدة عائشة بالموقف ولما جاء النبي أخبرته خبرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما أخبرتِها بأن الله قد رحمها برحمتها لصبييها؟
كم من مرة كان ابنك جائعا ففضلته على نفسك؟ كثيرا أليس كذلك؟ أي أنه تصرف عاديّ تفعله كل أم بشكل طبيعي، أتخيلتِ هذا الحديث؟ إن الله قد رحمها، أي إنه إن شاء الله قد رحمكِ وغمرتكِ رحمته. أرأيت كم أنتِ غالية؟ هذه هي المرحلة الأولى.
· المرحلة الثانية: من سن الثالثة إلى سن السادسة: انتبهي إلى أن ابنك في هذه المرحلة شغوف بالتعرف على أبيه والتقرب منه، يريد أن يراه ويتعرف على عالم الرجولة – خاصة إن كان ذكرا وقد قلنا ذلك في حلقة الأب- والكثير من النساء في هذه المرحلة يتملكها شعور بالغيرة وتشتاط غضبا لأنها تقوم يوميا بأعباء الغسيل والكي والنظافة ... إلخ، وإذا بالابن مصاحب لأبيه ويطيعه ويتقرب إليه، فأقول لها: إن هذا أمر طبيعي وفطري في هذه المرحلة، وليس خاصا بابنكِ وأبيه، لأنه يريد استكشاف الرجل وذلك بحكم المرحلة حتى وإن كانت بنتا، فذكاء المرأة أن تترك المجال للابن ليتعرف على أبيه ولا تغضب؛ لأن هذا هو المطلوب. خير مَن تستقين منه هذا الفن السيدة هاجر؛ فقد كان إبراهيم يقطن في فلسطين ويغيب طويلاً بينما هي وإسماعيل في مكة، ولكن حينما يعود يجد أن إسماعيل يحبه ويطيعه على الرغم من أنه لم يعش معه كثيرا، وهنا يظهر دورها في ربط الابن بأبيه ولذلك لما قال له: يا بني إني أرى كذا وكذا، قال: يا أبتِ افعل ما تؤمر، ولما قال له: يابني إن الله أمرني أن أبني الكعبة أتعينني؟ قال: أعينك، وما ذلك إلا لأنه تربى على أنه وأباه متلاحمين كما أن الأم ساعدت على ربط الابن بأبيه.
· المرحلة الثالثة: من سن السادسة إلى سن العاشرة: هذه المرحلة هي مرحلة القيم، ضعي قيما قدر استطاعتكِ وربيه على كل الخصال الجميلة - إلى جانب العطف والحنان- من صدق، وأمانة وإخلاص، ورحمة، وأدب، وفن تعامل مع الناس، وصلاة، وحب الله، وكل ما تريدين غرسه، تغرسين جزءا منه في حكاية ما قبل النوم وجزءا في موقف معين وهكذا. لو جاء أحد لهذا الابن ليصلحه بينما هو في الثلاثين أو الأربعين من عمره فقد يتمكن وقد لا يتمكن، فما غرستيه في هذه السنين الخمس هو الذي سيبقى، وكما قال النبي: (كل مولود يولد على الفطرة). فهذا الابن قد وهبه الله لكِ وترك لكِ مهمة تشكيله، وما ستغرسينه في ابنكِ هو ما ستجدينه إن شاء الله، حتى وإن ابتعد قليلاً في سن المراهقة، وإن انحرف عن الجادة يوما، فلا تخافي لأن البذرة التي غرستها في هذه المرحلة ستكبر وتؤتي أكلها كما غرستِ. فانظري أي قدوة ستقدمين له؟ وكيف ستكون شخصيتكِ أمامه؟ فما ستغرسينه هو الذي سينتج. أرأيتِ مقدار حاجة ابنكِ لك؟
· المرحلة الرابعة: دخول فترة المراهقة: في هذه المرحلة يحتاجكِ ابنكِ ،كثيرا وإن كنت تظنين أن الشباب لم يعد يؤيد الجلوس معكِ ويتهرب منكِ، ولكن إذا أجريتِ تعديلاً بسيطا جدا على طريقة حبكِ وحنانكِ فسيلجأ إليكِ. فهو يحتاج منكِ إلى عاطفة جديدة إيجابية تدفعه للنجاح. استمري في إعطائه الحنان والعطف ولكن امنحيه إلى جانب ذلك يدًا تدفعه للأمام: أنتَ ستنجح. أنتَ ستستطيع. فمتى قدمتِ له ذلك تصبحين الأم الصديقة، وستكونين الأم المثالية بل أعظم أم في عيني ابنكِ. نريد منكِ لشبابنا حنانا ممزوجا بقوة دفع لنصنع النهضة لهذه الأمة.
نريد أمًّا كأم موسى واجعلي سورة القصص، وقصة أم موسى نموذجا لك، يدٌ تُرَبِّت: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ...."، واليد الأخرى ماذا تفعل؟ ".... فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي....." (القصص:7) فهكذا هي الدنيا. ابنك - وهو في مقتبل الخامسة عشرة والسادسة عشرة- في بداية مواجهة صعوبات الحياة ومعوقاتها ومشاكلها فنريد من الأم أن تدفعه: لاتخف أنا معك، والله معك، وسأدعو لك، وسأقف إلى جانبك.
نموذج آخر للأم التي تدفع ابنها للأمام: يوم معركة القادسية حين خرج سيدنا سعد ليحث المسلمين على الإنفاق حيث لا يوجد مال وفير للجهاد فقال: أيها المسلمون، أنفقوا، وإذ خرجت امرأة فقالت له: يا سعد والله ليس عندي ما أعطيه وما أنفقه فما وجدت إلا ضفيرتي – قصت ضفيرتها- اجعلها لجاما لفرسك يا سعد، فتأثر سيدنا سعد بموقف هذه المرأة. فلما كانت ليلة المعركة أقبل إليه صبي في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره تقريبا، فقال له: يا سعد، أريد أن أخرج معك، قال سعد: لا نأخذ الأطفال، قال: يا سعد، الأمر ليس بينك وبيني الأمر بيني وبين الله، إن الله اشترى وأنا بعت فما دخلك أنت؟ قال سعد: إذًا، كن معنا. وفي صبيحة يوم المعركة أتاه الغلام فقال: يا سعد، والله لقد رأيت رؤيا عجيبة. قال: ما رأيت؟ قال: رأيت نفسي أمشي في حديقة ليست من حدائق الدنيا، وعن يميني وعن شمالي قصور ليست من قصور الدنيا، وأنهار ليست كأنهار الدنيا، فقال سيدنا سعد: أبشر يا غلام إنها الشهادة، فإذا لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبلغه مني السلام، قال الغلام: يا سعد، وأنت أيضا أبلغ أمي مني السلام، قل لها: جزاكِ الله عني خيرا، قال سعد: ومن أمك؟ قال: ذات الضفيرة. هذه الأم تخرج هذا الابن. يا أمهات نهضة هذه الأمة بين أيديكن، في أيديكن أن ترجعن النهضة وفي أيديكن استمرار الانهيار. أرجوكن يا أمهات، عندما يتجاوز ابنك التاسعة والعاشرة من عمره وقد منحته الحب والحنان وربطته بأبيه وغرست فيه القيم؛ حفزيه وشجعيه، وابني في نفسه آمالاً يرى نفسه صغيرا أمامها وقد يكون كذلك فعلاً ولكن بالعاطفة والحنان اللذين يشعان قوة من عينيكِ، ونظرة عينيكِ التي تقول له: ستنجح يا بني. سيكون.
حقيقة، أود أن نعرض نموذجا لشخص، وكيف أنه مازال يتخذ قرارته بناءً على رضا أمه حتى بعد وفاتها، فيسأل نفسه: ما الذي يرضي أمي؟ وما الذي تتمناه أمي؟ ألهذه الدرجة من الممكن أن يكون تأثير الأم في حياة الشخص حتى بعد وفاتها؟ تعالوا بنا نعرض شخصية عامة مشهورة، وهيا بنا نسمعه كيف يحكي عن أمه؟ ونرى كيف للأم أن تحفز حتى بعد وفاتها؟
محمود سعد – إعلامي: بكل اعتزاز وبكل فخر أقول دوما أن قدوتي في الحياة هي أمي – رحمها الله- فقد تركها والدي منذ زمن طويل فعكفت على أربعة من الأولاد لتربيهم، وعملت صباح مساء فكانت تخرج من الساعة الثامنة صباحا وحتى الثانية والنصف ظهرا – حسب مواعيد العمل آنذاك – ثم تعود لتخرج مرة أخرى من الخامسة والنصف مساءً وحتى التاسعة ليلاً، كل ذلك من أجل تربية أبنائها.
أنا معجب بها لدرجة أنه قد حدث لي معها شيء عجيب جدا، فبالرغم من أنها توفيت في يونيو من عام 1999 ونحن الآن نتكلم في عام 2007 أي أنه قد مر على وفاتها ما يقارب سبع أو ثمانِ سنوات إلا أنها تشاركني اتخاذ أي قرار في حياتي، فكلما أردت اتخاذ قرار أسأل نفسي: يا ترى إذا كانت أمي موجودة هل كانت ستقول لي افعل أم لا تفعل؟ فإذا أحسست أنها كانت ستقول: لا تفعل، لا أفعل، أما إذا أحسست أنها كانت ستقول: افعل، أفعل على الفور، وإن كان هذا القرار غير موافق لهواي تمامًا؛ لأنها هي من علمني ذلك حقيقة. علمتني أنه "لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ..... " (آل عمران:92 ).
تروقني كثيرا فكرة استمرار القدوة فقد كان مفهومي طوال عمري للقدوة أنها عبارة عن شخص أمامي أتوسم فيه خيرا، وأتعلم منه أشياء، وأمضي على دربه فحسب، ومتى اختفى هذا الشخص فإنني أسير في الحياة وفق رغبتي أو إرادتي أو بطريقة تفكيري. لكن الحقيقة في قدوة أمي اكتشفت شيئا غريبا جدا بعد مرور سبع أو ثمانِ سنوات على وفاتها؛ وهي أنها قدوة مستمرة حتى وهي غير موجودة، فقد نقشت في صدري وفي عقلي وفي كياني أفكارا وقيما من المستحيل أن تزول بدليل أنها ما زالت هي القدوة حتى الآن.
· المرحلة الأخيرة: الأم الصديقة: كَبُرَ ابنك وتَخَرَّج وزاول مهنته: مبارك عليكِ ذلك إذًا كوني أمًّا صديقة، صاحبي ابنك، كوني صديقة له بينك وبينه أسرار وأحاديث خاصة وافتحا قلبيكما لبعض، أنا أفضفض لابنتي فنحن أصدقاء. هذه هي الأم الصديقة التي تحدثنا عنها.
تبقى آخر جزء وهو شيء تقومين به في جميع تلك المراحل، وحذارِ أن تنسيه، فهو سلاح غير عادي، أرجوكِ لا تنسِ سلاح الدعاء الذي وعدكِ به الله، فكما أعطاكِ سرا إلهيا - استطعتِ من خلاله أن تتعاملي مع ابنكِ يوم أن كان في بطنكِ- فقد أعطاكِ سراً آخر بل سلاح: سلاح لكِ وحدكِ وهو أن دعوتكِ لابنكِ مستجابة، ليقول لكِ: سيواجه ابنكِ أشياء كثيرة فالحياة صعبة، وليقول لابنكِ: أنت محتاج إليها جدا فبحوزتها السلاح الذي فيه نجاتك. أطلب من أمك أن تدعو لك، ارضِها واطلب منها أن تدعو لك، وعلمي ابنكِ منذ صغره أنكِ تدعين له؛ لأن هذه رابطة قوية، وكأن الله قد جعلكِ مستجابة الدعاء لابنكِ حتى تظل رابطتكِ بابنكِ وابنتكِ رابطة متينة، فكما كان هناك سرا إلهيا وهو في بطنكِ فقد أصبح هناك سرا إلهيا عندما كَبُرَ اسمه: دعاؤكِ له مستجاب، وكأن علاقتكِ بابنكِ والسر الإلهي - سر الرحمة- مستمر منذ كان في بطنكِ إلى أن يمد الله في عمركِ وعمره ويلقى أحدكما الله سبحانه وتعالى. ستبقى كلمة السر هي الدعاء.
انتبهوا يا جماعة إلى القرآن عندما يتكلم عن مستقبل أمة من الأمم فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ....." (آل عمران:128) أو عندما يقول: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ...." (يوسف:110) هذا على مستوى الدعوة، على مستوى الأمم. لكن على مستوى أم وابنها يجب أن يطمئنها "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي....." لم يفعل هذا مع الأنبياء بل في جميع قصص الأنبياء كان لابد من أن يمضوا ويكملوا المسير، لكن مع الأم لابد أن تُطَمئَن فهي الرحمة كلها "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ". ثم ينتقل السياق للحديث عن صراع فرعون وموسى – هذا القرآن الذي يتكلم عن إصلاح الأمم ليوم القيامة- وفي خضم هذه الأحداث "فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ....." ( القصص:13) نحن نتحدث عن موضوع كبير، ما مناسبة أن نعلم إن كان قد رجع أم لا؟ لا، لأن هذه أم غالية على الله وعاطفة الأم غالية أيضا على الله "فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ......" لو وعدكِ الله فلابد وأن يوفي بوعده. أتتخيلون هذا المشهد في وسط الحديث عن مواجهة موسى بفرعون في وسط سورة القصص؛ ذلك بأن مشهد الأمومة غالٍ ويجب أن تَطْمئِن الأم.
أنتِ سرٌ إلهي لله سبحانه وتعالى أودعه فيكِ فأنتِ نموذج الرحمة. ارفعي يديكِ وادعِ لابنكِ. إذًا، لتدمع عيناكِ من أجل ابنكِ ولتدعِ له وسترين ماذا سنفعل له؟ لا تقولي: أنا متدينة لست متدينة، أو لست متدينة، فأنتِ في النهاية أمٌّ بصرف النظر عمن تكونين فأنتِ أمّ. وما دمتِ أمّاً فأنتِ غالية لأنك تجسدين الرحمة ودعوتكِ ترفع إلى السماء بدون حجاب.
لكن في الوقت ذاته أقول للشباب: لو أن أمّك لم تفعل ذلك فلا تترك أمّك. واسمع مني ولا تغضب: أمّك بأخطائها وبعيوبها ومشاكلها أين ستذهب؟ فالله هو من جعلها أمك، واختار فلانة الفلانية لتكون أمك، ألم تعجبك؟ ماذا ستفعل؟ هل ستغير أمك؟ أنا أريدك أن تتخيل معي وتتذكر كم تعبت هي من أجلك، كم ليلة لم تنم فيها بسبب بكائك؟ وإذا تنفس الصبح تطعمك وتغير لك ثيابك، وإذا بك تتقيأ وتفعل، وتفعل، وتفعل، وهي معك تفعل لك كل شيء حتى إذا جن الليل وإذا بالإرهاق بادٍ على تقاسيم وجهها، وحالتها النفسية صعبة جدا وهي في منتهى التعب - لأنها إنسان أيضا- وتحتاج للنوم إذا بك تبكي من جديد فتقوم لتهتم بك، وفي وسط هذا التعب تأتي أنت وقد تركت فراشك وأتيت لتفترش حضنها وتنام على حجرها فتنسى التعب لمجرد أنك في حضنها، ثم في اليوم التالي تعود لتكمل على النهج نفسه! أهي أقوى من الرجل؟ لا، ولكن الله سبحانه وتعالى وهبها سرا اسمه رحمة وحنان وعطف منه. فارعَ أمك وارعَ الرحمة التي وهبها الله إياها.
انتبهوا يا شباب، فهذه النقطة مهمة جدا لو لم تستشعر رحمة الله التي وهبها إياها وأودعها في أمك فكأنك تقول: إنك غير مقتنع بالجزء الذي وضعه الله في الأرض من رحمته، وبالتالي - وأنت في العشر الأوائل من شهر رمضان- كيف تريد أن تتنزل عليك رحمة الله وأنت تصد أمك دائما؟ فلن تشعر برحمة الله، فانتبه فهذا المعنى خطير جدا. وفي المقابل، طالما أنت تشكر الله على الرحمة التي وضعها في الأرض وحافظت عليها وساعدت أمك على إبداء عاطفتها وتمسكت بها لتضفي عليك من عطفها وحنانها فلعل رحمة الله تتنزل عليك وعليها.
حكت لي إحدى الأمهات بالأمس - وهي أم لأربعة من الأولاد وقد بلغوا أشدهم؛ فمنهم من يدرس في الجامعة ومنهم من تخرج بحمد الله، فقال لها أحد أبناؤها: ألستِ قد تخرجتِ في كلية الطب يا أمي؟ قالت: بلى، فقال: لماذا إذًا لم تعملي وتجلسين هكذا في المنزل؟ تقول: أوجعتني هذه الكلمة وأحسست بأنني عاطلة ولا قيمة لي، فرددت عليه: يا بني قد كان لي أحلام كثيرة وطموحات لا حصر لها، ولما تخرجت في كلية الطب بدأت أرسم تلك الأحلام، ولكن عندما أتيتم إلى الدنيا قررت أن أتنازل عن أحلامي من أجلكم وأستبدلها جميعا بحلم واحد وهو أنتم، فأنا قد عشت من أجلكم.
من هنا أقول لهذه الأم ولمثيلاتها إياكِ أن تشعري بأنكِ بلا قيمة، أو أنكِ قد أضعت حياتكِ أبدا؛ لأنكِ قد أنجزتِ أعظم مهمة خلقها الله في البشرية، فالأم مدرسة. نعم أنتِ مدرسة - كما قال أحمد شوقي- ولا توجد مدرسة أعظم منكِ. فإذا كنتِ أما عاملة أو ربة منزل فلتفخري بالدرجة الأولى بأنكِ أمّ، وإذا كنتِ ربة منزل، وقد أديتِ رسالة عظيمة وكبر أبناؤك فلا مانع من أن تعملي وتصنعي حياة وتتطوعي في عمل خيري، أو أي مجال آخر تريدينه لكن لا تنسِ في المرتبة الأولى أن تفخري بأنكِ أمّ شرفكِ الله وأعز قدركِ وذكركِ في كتبه السماوية بمشاهد يطمئنكِ فيها، واستجاب دعاءكِ وغفر ذنوبكِ عند أول طلقة من طلقات المخاض، وكتب لكِ في كل تربية لابنكِ أجر الصائم القائم. أنتِ غالية جدا، أنتِ معززة جدا.
المصدر: http://www.amrkhaled.net/articles/articles2712.html