بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. نعلم أن رمضان أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار. هذه الحلقة هى في أواخر أيام الرحمة، ويشعر الفرد منا أن في هذه الأيام تتنزل رحمات خاصة من الله سبحانه فهي عن الأم، ليست عن واجبات الأم بل حلقة اليوم توضح كيف أن الأم غالية. أنا شخصيا ستكون ذاكرتى مع أمي طوال مدة هذه الحلقة وأطلب من كل مستمع أن يعيش بذاكرته مع أمه. هذه الحلقة ليست حلقة طلبات وليست على نهج: "لو سمحتم يا جماعة نريد أن نفعل النقاط التالية: واحد، اثنان، ثلاثة، وأربعة" أو أن نقول: "يا أمهات يجب أن نفعل كذا وكذا"، لابد وأننا سنتطرق لمثل هذه الأمور في حلقة اليوم ولكن أصل حلقة اليوم هو: "أنتِ غالية، أنتِ عظيمة، أنتِ أصبحت حبيبة إلى الله وأصبحتِ تتمتعين بمقام عالٍ عند الله منذ اكتسبت لقب: "أم". من الممكن تسمية هذه الحلقة: "شهادة تقدير" ولكنها كلمة قليلة لا تفي بالغرض فممكن تسميتها: "اعتراف بالحق" أو "أحبك يا أمي". ذكرت في أوائل الحلقات أن هناك مشاكل شديدة مستعصية في حياتنا فكل منا لديه مشكلة أسرية، وكنا نظن أن هذا البرنامج جاء ليحل هذه المشاكل ولكن هذا ليس دور البرنامج لأن الغرض منه هو أن نتفق على المبادىء السهلة والبسيطة، ولكن أيضا المهمة والأساسية والعميقة التى نتحرك بها كي نحل مشاكلنا؛ فهذا البرنامج يدعونا إلى أن نتفق على هذه المبادئ، ومبدأ اليوم هو: "أمك غالية". إذا استوعبت هذا المبدأ ستكون كلمة "أمي" السبب في حل مشكلة بين أخوين وتصبح كلمة أمي أيضا السبب في حل مشكلة بين زوجين وهذه هو هدف حلقة اليوم.
أغلى وأعظم لقب في الدنيا:
هيا بنا نصف ونتخيل حنان أمي وأمك، لو سألتك ما هو أعظم وأقوى لقب أُعطى لأحد في التاريخ بعد الأنبياء: هل هو لقب جنرال مثلاً؟ أم لقب قائد أو زعيم؟ أم لقب جد أو أب أو طبيب أو حمى أو ابن أم لقب أم؟ ضع كل هذه الألقاب بل وكل ألقاب الدنيا ولقب أم وفكر ما هو أغلى لقب في حياة البشر، وفكر ما هو أغلى لقب من بين هذه الألقاب عند الله سبحانه وتعالى بعد الأنبياء؟ انظر ما هو اللقب الذي تواجد عبر التاريخ، هل هو لقب دكتور مثلا أو مهندس؟ هناك اسم من أسماء الله الحسنى والذي بدونه نهلك ونضيع وتنتهى حياتنا نهاية سيئة في الدنيا وفي الآخرة ولا توجد سورة من سور القرآن إلا وبُدأت به وهو اسم "الرحمن الرحيم"، ولكي يُشعرك الله سبحانه وتعالى بمعنى هذا الاسم جسَّده لك في الدنيا بالأم. عندما خلق الله سبحانه وتعالى الرحمة خلقها كمائة جزء، وأنزل منها جزءا واحدا فقط وادخر عنده إلى يوم القيامة تسعة وتسعين جزءا، فإذا ضم الله يوم القيامة هذه الرحمة الواحدة إلى التسع والتسعين جزءا ثم بسطها على خلقه، هل تخيلت من قبل ما هى هذه التسعة والتسعين رحمة؟ أو ما هى هذه الرحمة الواحدة في الدنيا؟ إذا أردت تخيل هذه الرحمات؛ فانظر إلى نموذج الرحمة الذي جسَّده الله لك في الدنيا حتى تتعرف على رحمته عز وجل. يقول لك النبي صلى الله عليه وسلم هذا عندما رأى أمًّا تسير تحت الشمس الحارقة وهى تحمل رضيعها وتحميه من الشمس، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أترون بهذه الأم تلقي بولدها إلى النار؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: الله أرحم بكم من هذه الأم بولدها" وكأن النبى صلى الله عليه وسلم يقول لك إن نموذج تجسيد الرحمة في الدنيا هو أمك. إذا أردت أن تتعلم الرحمة انظر إلى أمك، إذا أردت أن تتخيل التسع وتسعين رحمة انظر إلى أفعال أمك منذ أن وُلدتَ فهذا قد يُقرب إلى ذهنك شيئا فشيئا كيف هى رحمة الله بعباده واسعة. وهنا أريد أن أشير إلى نقطة مهمة جدًّا ألا وهى أنكِ منذ أن أصبحتِ أمًّا أصبحت دالة على رحمة الله سبحانه وتعالى وهذا هو سبب استجابة دعائك، فليس هناك من يستطيع أن يدعوا الله لابنك، وتُفتح أبواب السماء للدعاء مثلك أنتِ بلسانك ويديك أنتِ لأنك تجسيدٌ لرحمة الله سبحانه وتعالى في الأرض، ونموذج من المائة جزء الذي أنزله الله سبحانه وتعالى إلى الأرض. منذ اليوم الذي حملت فيه وأنجبت واكتسبت كلمة "أم" أصبحت غالية على الله سبحانه وتعالى وأصبحت نموذجا يعرض رحمة الله سبحانه وتعالى في الأرض. هل تريد أن تتخيل كم هى واسعة رحمة الله سبحانه وتعالى؟ اذهب وامسك يد أمك لأنك وأنت تمسك بيدها ستتنزل رحمة على قلبك، وهناك شيء ما سيحدث وستسرى كهرباء في عقلك، ووجدانك، وقلبك، وعاطفتك تشير إلى أن هناك رحمات من الله عز وجل تتنزل عليك. خلق الله سبحانه وتعالى الكثير من المخلوقات التى بها يمكنك التعرف على رحمته مثل الشمس، والهواء، والماء فكل هذه الأشياء من رحمات ربنا ولكنها رحمات صامتة على الرغم من ظهورها، ولكنه خلق لك رحمة تسير معك ليلاً ونهارا وبها تتعرف على رحمته بشكل متكلم لا صامت هذه هي: أمُك.
إعداد الله سبحانه للبنت أن تكون أمًّا:
يجهز الله سبحانه وتعالى الأم كى تكون أما ولكي تقوم بمهام يستعجب الرجال من قدرة الأمهات على القيام بها؛ فهذا الحنان الذي وضعه الله سبحانه وتعالى في الأم يتجسد في أعمال لا يُتصور أن يستطيع أحد القيام بها. من يتصور أن يتواجد شيء في بطني يأخذ من لحمي ودمي وأملاحي ويتغذى على جسدي وأقبل بهذا؟ من أين جاءت هذه الرحمة التى جعلتنى أوافق أن يُؤخذ كل هذا من جسدي وأنا راضية وفرحة؟ ألم أقل لكِ أنكِ نموذج الرحمة؟ ولذلك يقول النبى صلى الله عليه وسلم: "عند أول طلقة يغفر لها"، هل تتخيل امرأة جاءت بذنوب كثيرة ولكنها الآن تلد ففي اللحظات الأولى من الولادة تُغفر لها ذنوبها؟ وانظر إلى تقدير الرسول صلى الله عليه وسلم للأم فهو يحكى أنه يدخل إلى الصلاة في المسجد وينوى أن يطيل فيها فيسمع بكاء الصبي فيُسرع في صلاته رحمة بها مِن وَجدْ قلبها عليه. يشعرك هذا بأن في ديننا تقدير عظيم لمشاعر الأم وكيف هي غالية وكيف أن إحساس الأم غال. هل تعرفون قصة سيدنا سليمان عندما وجد امرأتين تتشاجران على طفل رضيع وتتدعى كل منهما أنها أم الطفل؟ ذلك بعد أن أكل الذئب طفل إحداهما فذهبتا إلى سيدنا داود عليه السلام تتحاكمان له، فحكم للكبيرة بالطفل وبينما هما هكذا مر بهما سيدنا سليمان فسألهما عن أمرهما، فحكيتا له ما حدث، فقال لهما إنه ليست ثمة مشكلة، وأن الأمر بسيط وأن عليهما أن يقطعا الطفل بالسكين إلى نصفين وتأخذ كلتاهما نصف الطفل، وأمر بإحضار السكين بسرعة فقالت إحداهما بسرعة: "يرحمك الله ارحمنى هو ابنها"، فقال لها: "يرحمك الله هو ابنك"، لقد علم سيدنا سليمان أن من تملك هذه العاطفة هى الأم، أى أنه عرف الحقيقة بالكشف عن عاطفة الأمومة وحكم بالطفل للصغرى وليس للكبرى وقد نزل هذا في القرآن حيث يقول تعالى: "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ..." (الأنبياء: 79).
أجر الأم عند الله سبحانه:
الأم غاليةٌ عند الله، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أجرها لتربيتها أولادها أن لها أجر الصائم القائم، أي أن حمل الطفل وتغيير ملابسه والبكاء والرضاعة ليلاً ونهارا ووصل الليل بالنهار استيقاظا مع الطفل، ففي كل لقطةٍ من هذه اللقطات يكون للأم أجر الصائم القائم، أي أنك صائمة طوال النهار، وقائمة طوال الليل، ولنا أن نتخيل هذا الحال في عدد السنين، وعدد الأطفال، هل هم اثنان أم ثلاثة أم أكثر؟ ثم نوجد حاصل ضرب عدد الأطفال في عدد سنوات التربية لنعلم كم من الأيام قد صامت هذه الأم ولم تفطر؟ وكم من الليالي قامت هذه الأم ولم تنم؟ إذا كانت الأم بتربيتها ورعايتها لطفلها تسبق أجر الصائم القائم فليجتهد العباد ما شاءوا وما استطاعوا، فمن ذا الذي يستطيع أن يصوم ولا يفطر، ويقوم ولا ينام لاثنين أو ثلاث من الأعوام المتصلة.
تُسجل الكتب السماوية قيمة الأمومة، حيث يقول القرآن: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ ..." (القصص: 7) انظر إلى مشهد الرضاعة، بل لماذا ذكر هذا المشهد من الأصل؟ أليس الهدف من الآية أن تأمر أم موسى بإلقاء ابنها إلى اليم إن هى خافت عليه؟ هل أمر الرضاعة زيادة؟ لا بل إن لقطة الرضاعة ومشهد الأم وهى تُرضع طفلها يجب أن يُكتب في الكتب السماوية وأن يذكره القرآن. هل ترين مدى عظم قيمة الأم عند الله؟ ولماذا كل هذا؟ لأنكِ تجسدين رحمة الله سبحانه وتعالى، أي أن البشر يتعرفون على جزء الرحمة المنزل من الله عز وجل إلى الأرض بكِ، ويُتخيل بكِ التسعة وتسعين جزءا من رحمة الله عز وجل التى لم نرها بعد.
الأم معمل الحياة:
أريد أن أقول فكرة جديدة وهى في الأصل ليست فكرتي ولكنها فكرة أحد الأشخاص قالها لى وأنا أقولها لكم وبينما نحن في هذه الحلقة: حلقة تكريم الأم ومعنا قاعدة اليوم وهى "أنت غالية يا أمي" فأنا أهدي إلى كل أم هذه الفكرة الجديدة وهى تقول: "يا أم أنتِ معمل الحياة". ما معنى هذا الكلام؟ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وحواء بيديه عز وجل كما تدل الآية على ذلك: "قَالَ يَا إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ..." (ص:75)، ثم أوكل الله سبحانه وتعالى إلى الأسرة استمرار تناسل الخلق، وأوكل الجانب الأكبر من هذه العملية إلى الأم بالتحديد في الأسرة لأن دور الأب يقتصر على وضع الحيوانات المنوية في رحم الأم فقط، وتكتمل بقية العملية عند الأم ولذلك فأنتِ معمل الحياة، وأنتِ من تتحمل مهمة استمرار الخلق، هل تتخيلين ما هو عظم المهمة التى حَملَها الله لك؟ هل تتخيلين ما هى قيمتك؟ استمرار الأرض مرتبط بكِ يا أمي. نكرر أن قاعدة اليوم هى: "أنتِ غالية يا أمي" فيا شباب قولوها لأمكم، وأنا أقولها لأمي، ويا أمهات قلنها لبعضكن. هل علمتِ الآن لماذا تتجدد دماؤك كل شهر؟ ولماذا هناك بويضة جديدة وهرمونات وآلام؟ لأنك أنتِ معمل الحياة وبهذا المعنى تصبح فكرة الحيض فكرة لا خجل فيها؛ لأنها جزء من معمل الحياة، وبالتالي فإن الحيض ليس بنجاسة، وبالتالي لا ينظر إلى حيض المرأة كسيئة فيهاـ، فعندما ذهب الرسول صلى الله عايه وسلم إلى المدينة وجد اليهود يقولون إنه إذا لمست المرأة الحائض شيئا يُنجَّس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في حجر السيدة عائشة وهى حائض حتى يرسل معنى، وإذا رأها تشرب من إناء وهى حائض يرى أين موضع شفتاها ويشرب منه ليغير مفهوما، وفي مرة أخرى طلب من السيدة أم سلمة أن تحضر له شيئا فقالت له: "إنى حائض" فقال لها: "وهل الحيض في يديك؟" فمن يقول بعد ذلك أن الإسلام اضطهد المرأة؟ والمعنى الآن أنكِ أنتِ معمل الحياة، وتحملين مهمة الحياة، والحيض جزء من هذا وبالتالى "ناقصات دين" لا يمكن أن يكون المقصود منها هذا بل المقصود منها هو نقص في العدد لأنك لا تصلين ولا تصومين لعدد من الأيام فهذا النقص ليس نقصا سلبيا أو معيبا.
ولماذا إذن لا تصلين؟ لأن الله سبحانه وتعالى كلفك بمهمة كونية وهى استمرار الحياة فحمل عنك مهمة شرعية عبادية بقدرها وهى الصوم والصلاة ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى عادل فلو أنه سبحانه كلفك بشيء ثقيل يجب أن يحمل عنك شيئا آخر حتى تتساوين مع الرجل في الأعباء ولا تتحملين أكثر منه، وبالتالي لا تقولي لماذا أعطى الله للرجال أكثر منا،؟ لأنه في حقيقة الأمر، قد أعطاك أكثر من الرجل. هذه الفكرة فكرة جديدة ولكنها تُحدث انقلابا وثورة في المفهوم الذي يقول إن الرجال فضلوا على النساء، فأنتِ معمل الحياة والنقص في الصلاة سببه أن هناك ما هو أكبر حَمَلَهُ الله لك، وأصبح الحيض جزءا من المهمة الكبيرة. الله، الله على هذا المعنى وياليته ينتشر بيننا حتى لا يتجرأ أحد ويقول إن الإسلام اضطهد المرأة. لذلك يا بنات، أنتِ ولدت أمًّا فلا تخجلي أبدا من هذا. لعب الغرب بعقولنا عندما روج لنا الحرية والانطلاق وأن الأمومة موضة قديمة، وأن الأم تصبح كقطعة الأثاث البالية في البيت وللأسف صدقت الفتيات الدعاية فكان أن عانى الغرب الآن من جرم دعايتهم؛ لأن النساء في الغرب لا يردن أن ينجبن الآن، ولا يردن أن يصبحن أمهات فبدأ الغرب ينقرض، وصدر كتاب اسمه "موت الغرب" والفكرة التى يروجونها لنا هى نفسها التي يعاني الغرب منها، وأصبح الآن يتسارع في نشر صور الممثلات والمشاهير من النساء وهن حوامل ليقولوا لهن أنهن قد أخطأن في الماضي وعليهن العودة مرة أخرى أمهات.
يا بناتنا، قد ولدتكن أمهات وهذا يجب أن يكون مدعاة فخر لكن، إياكن أن تفسدن هذه النعمة والجوهرة التى أعطاكن الله إياها. كيف يمكن أن تفسدنها؟ يكون هذا بمصادقة الأولاد في الحرام، والزواج العرفي، وبالعلاقات الحرام وبهذا تفسدين ما يجعلك أما. يا أمهات علمن بناتكن حقيقة الأمومة، قولي لابنتك: "أنت غالية جدا، أنتِ تقومين بأعظم مهمة في الدنيا، الغرب الذي ضحك عليك يغير كلامه الآن". يا بنات هل تفهمن هذا المعنى؟ هذا المعنى غال جدا في هذه الحلقة وأرجوكم لا تتجاهلنه وأرجوكن نفذنه. وأنتن يا بنات يا مخطوبات أو يا من يتهيأن للزواج، أو يا من كتب كتابهن إياكن أن تتنازلن عن فرحتكن بالأم أو أن تقولن: لا أريد أن أنجب أو لا أريد أن أرضع لأن الرضاعة موضة قديمة، واعلمن أن مشهد الرضاعة ذُكر في الكتب السماوية والقرآن يقول: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ..." (القصص: 7).
فاعلمي أنكِ أم وأن هذا أحلى ما فيكِ وأن هذا تكريمك وإذا كان قد رُفع عنكِ الصوم والصلاة فهذا ليس لأنك قليلة بل؛ لأنك تحملين مهمة أخرى عظيمة وهى مهمة كونية فأنت معمل الحياة. من العجيب أن المرأة ولدت بعاطفة الأم أى أن البنت تولد أما، وكأن مهمة الأمومة تحتاج إلى تعبئة تبدأ من سن مبكرة منذ أن كانت في العامين الأولين أو الثلاثة أعوام الأولى من عمرها حتى تصل هذه التعبئة إلى ذروتها في أثناء فترة الحمل، ويفسر أطباء النفس اهتمام الفتيات الصغيرات بالعروسة اللعبة وباللعب معها وتغيير ملابسها، وتعليمها أن تقول: بابا وماما: بأن هذا احتياج فطري عند البنت فهذه هى الرحمة في الأم تُعبأ وتُجهز منذ أن كان عمرها عامين حتى تستخدمها بعد عشرة أو عشرين أو ثلاثين عاما. ظهرت تقليعة في الستينيات من القرن الماضى وهى أنه ليس هناك فرق بين النساء والرجال، وأن التفرقة بين الرجال والنساء يمكن أن تتغير وتساءلوا لماذا يقع عبأ التربية في البيوت على النساء بينما يعمل الرجال في الخارج؟ ولماذا لا يحدث العكس؟ ونشطت جمعيات حقوق النساء في المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة حتى إنهم ضغطوا على صناع لعب الأطفال وطلبوا منهم عدم تصنيع لعب أولاد ولعب بنات، والتفرقة في اللعب بينهم، لأنها السبب في التفرقة بينهم فيما بعد ولكن كانت النتيجة أن خسرت الشركات أموال طائلة؛ لأن الأطفال الصغار مازالوا يريدون لعبا للأولاد ولعبا للبنات حتى اكتشف الطب الحديث أن تصرفات الجنين الأنثى في بطن الأم مختلفة عن تصرفات الجنين الذكر وهو في بطن أمه فلا يقتصر الفرق بين الجنسين في الأعضاء التناسلية بل يمتد إلى السلوك والاحتياجات أيضا. وكانت نتيجة هذا الاكتشاف أن اعتذر الغرب لشعوبهم على ما كانوا يروجون له في الثلاثين عاما الماضية، وذلك لأن الطب الحديث وجد اختلافا بين الذكر والأنثى وأن احتياجات الجنين الأنثى للأمومة مختلف عن احتياجات الجنين الذكر، فأنتِ أم منذ ولادتك وهذا هو شعور فطرى في البنت.
لماذا أودع الله كل هذا الحنان في الأم؟
وقد يسأل بعض الناس الآن: لماذا أودع الله سبحانه وتعالى كل هذا الحنان في الأم؟ أودع الله سبحانه وتعالى كل هذا الحنان في الأم لأن بدون ذلك الحنان سنضيع، ولتفهم هذا تخيل أن هناك مولودا وُلِد ولا توجد أم لترعاه، ماذا يحدث له؟ وماذا يحدث للبشرية لو أن الله سبحانه لم يودع في قلوبهن هذا الحنان؟ تخيلي حضرتِك أنكِ الآن ولدت، وأن بين يديك طفل رضيع، وأن كل حياة هذا الرضيع مرتبطة بك أنتِ، وأنتِ ترين أن عظامه لينة، وجلده رقيق، ووزنه خفيف، ولا يعرف في الدنيا إلا أنتِ، وتخيلي الآن أن هذا المخلوق ليس هناك في قلبك حنان وعطف له، ماذا يمكن أن يحدث للبشرية؟ وبالتالى أصبحتِ أنتِ أهم جزء في البشرية وبالتالي أصبح بقاء الجنس البشرى مرتبط بكلمة أم حنون. تخيلوا لو أن هذا الحنان لم يكن موجودا في قلب الأم لما كان هذا الرضيع ليخرج من بطن أمه من الأصل، وذلك لأنها كانت ستجهضه وبالتالي يُنفَى الجنس البشرى، ولكن بالحنان الذي في قلب الأم تحملت الأم الآلام لتسعة أشهر ثم تحملت ألم الولادة، ثم بدأت في فك شفرة بكاء الطفل، فهي تعلم متى يعني البكاء أنه يريد أن يأكل؟ أو أن يغير ملابسه؟ أو أن هناك ما يؤلمه، بل هي أذناه التي تؤلمه، لا بل إنه يريد حضنا بينما الرجل لا يفهم هذه المعاني، بل إنه ليس لديه الاستعداد للتعامل مع مثل هذه الأمور حتى ولو كان أكثر الرجال صبرا في العالم؛ فلن يستطيع أن يستيقظ ثلاث مرات ليلا في الواحدة والثالثة والخامسة فجرا؛ لأن ابنه يبكي، بل سيقول إن هذا الولد غير مُربى ويتركه مع أمه، بل ويترك الغرفة كلها ويخرج لينام في الخارج، وإذا قال لزوجته أنه سيساعدها في رعاية الطفل وتحمل أن يرعاه لنصف ساعة من الوقت فلن يتحمل أن يبول الطفل عليه.
ففيك أنت سر من ربنا سبحانه وتعالى، وقد يكون هذا السر الإلهي تَكَوّنَ فيكِ وأنت في بطن أمك، وقد يكون كَوّنَ عند اختلاط دمك بدم أمك وهرموناتك بهرمونات أمك، فهذا سر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. يستطيع الرجل أن ينجز مهمة فتجد أن هناك من الرجال من يعمل كطباخ أو كطبيب أو كـ ترزي أو كسائق أو كمدرس، ولكن ليس هناك رجل يعمل كل هذه الأعمال ولكن بما أودعه الله فيكِ من سر وحنان ورحمة وعاطفة تعملين كل هذه الأعمال فأنت مدرسة لغة عربية وإنجليزية وحساب و...إلخ، وأنت مساعدة دكتورة عظيمة تنفذين تعليمات الطبيبة بدقة، و ممرضة ماهرة، وطباخة، و(مكوجية)، و(ترزي)، وأنتِ أستاذة تربية، وفي بعض الأحيان سائقة تعملين على توصيل الأولاد إلى المدرسة وإلى النادي، بل وأنت أيضا بطلة مصارعة، ومن الممكن أن تنقلبي في لحظة إلى وحش كاسر إذا مسه أحد بسوء، وأنتِ بعد كل هذا مدبرة المنزل. بعضنا يعلم القصة الشهيرة لبنك الفقراء وصاحبها محمد يونس والذي أخذ مؤخرا جائزة نوبل فهو الذي أن قال: بنك الفقراء لا يعطى أمواله للرجال بل يعطيها للنساء؛ لأن الرجل يأخذ الأموال ويجلس على القهوة ويصرف نصفها على نفسه والنصف الآخر يعمل به -وأرجوا ألا يتضايق الرجال من هذا الكلام فهو كلام محمد يونس وليس - كلامي - أما النساء فتقول: هذا رزق أولادي، وتحافظ على الأموال ومن ثم أصبح يعطى النساء ولا يعطى الرجال وهذا هو سر نجاح مشروعه بنك الفقراء.
التواصل بين الأم وابنها بالملامسة:
من أنتِ؟ هل أنتِ تجسيد الرحمة؟ هل أنتِ بكل هذه القيمة الغالية عند الله سبحانه وتعالى؟ هل عرفتِ لماذا لكِ أجر الصائم القائم؟ والآن هل عرفت أنك تستطيع أن تتخيل أمك منذ أن كنت جنينا في بطنها، وتقول إن رحمة الله مجسدة في الأرض في أمي أقرب الناس إلىّ التى أمسك بيديها الآن وأطبطب عليها وأقبلها؟ هذه هي نموذج الرحمة في الكون. أعرف أمّا مرض ابنها مرضا شديدا لدرجة أنهم وضعوه في غرفة العناية المركزة ومنعوا أحدا من أن يلمسه، وقد يمر هذا الطلب بعدم اللمس على الرجل بسهولة ولكن صعب جدا أن تطلب من أم ألا تلمس ابنها وألا (تطبطب) عليه، وكادت الأم أن تجن من هذا الطلب وتقول لهم إنها لابد أن تحضنه، وهم يقولون لها: ممنوع، وممنوع دخول الغرفة دون ملابس معقمة فما كان إلا أن جاءت ببطارية وكتبت عليها "أحبك" وعقمتها وأعطتها لابنها الراقد في الغرفة، وصنعت واحدة مثلها لنفسها وكانت تقف خلف زجاج الغرفة وتشاور له بالبطارية وهو يشاور لها ببطاريته ويستمران هكذا لساعتين أو ثلاث ساعات لشهرين كوسيلة لتشعر بالقرب منه، وذلك لأن لديها كمًّا مخزونا من رحمة الله عز وجل لا تستطيع أن تخرجه. هل تستطيع أن تستوعب كم هى حاجة الأم والابن للتلامس؟ ولذلك فقد أثبتت الدراسات الطبية أن الأطفال الذين لا يتم التلامس معهم أو لم يتم حضنهم في السنوات الأولى من أعمارهم يصابون بحالات الاكتئاب بشكل أسرع من ذويهم الذين يتم التلامس معهم.
هذه هي الرحمة التي نبحث عنها في العشر الأوائل من رمضان، امسك يد أمك والمسها وقَّبل يد أمك، واستشعر الرحمة التى أودعها الله سبحانه فيها. أنتِ رمز الرحمة، وأنتِ عنوان الرحمة، وأنتِ من أودع الله فيكِ سرًّا تستطيعين به أن تقومي بمهام لا يستطيع أن يقوم بها الرجال، بل وأن تقومى بعشر مهام في الوقت نفسه، ولا تسأل كيف يمكن ذلك؟ ولا تسأل كيف لها أن تتجاوب مع شفرة بكاء ابنها أو ابنتها؟ فهذا سر إلهىٌ.
يا جماعة هذه هى حلقة اليوم وهى تقول أن قاعدة اليوم لي وللشباب وللبنات وللأمهات وللرجال وللآباء هى: "أنتِ غالية يا أمي". إياك أن تعذب أماً، إياك أن تحرق قلب أم، إياك أن تغضب أماً فتغضب الله سبحانه وتعالى. حلقة اليوم تقول: "أنتِ غالية يا أمي".
المصدر: http://www.amrkhaled.net/articles/articles2711.html