بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حلقة اليوم من قصص القرآن تتمحور حول أسرةٍ ذات هدف، تُرى هل أسرتكم كذلك؟ عذرًا، إن كانت البداية قويةً هكذا، وعلى الرغم من أنني سأطلب من كل أسرة وضع هدفٍ لها، ومحاولة تحقيقه، إلا أنني أجزم أنه إذا قام 10٪ أي ما يعادل 5000 أسرة من أسر العالم العربي بوضع هدفٍ لها، فإن هذا يعد إنجازًا رائعًا وعظيمًا. أعلم أن ما أتحدث عنه أمرٌ صعب، ولكن إذا اتفق زوجٌ وزوجته، أو أبٌ وأم على هدفٍ ما وكان هذا الهدف لإرضاء الله، والنية قوية في ذلك واتفق عليه الأولاد معهما، فسيبارك الله ويفتح عليهم ويسعدهم، ويمتد الهدف ويتحقق، وترى آفاقًا لا نهاية لها. هذا هو محور قصة اليوم.
إنما الأعمال بالنيات:
قبل أن نبدأ في سرد أحداث القصة، أريد أن أسأل كل من يسمعنا سواء كان زوجًا وزوجة، خاطبا وخطيبته، شابا أو فتاة كل منهما مقبل على الزواج، كذلك الفتيات والشباب، هل ستكونون أسرًا لها هدف؟ قد يستهجن البعض حديث الليلة؛ لأنه يندرج تحت فنون الإدارة أكثر من كونه ملائمًا لشهر رمضان والعشر الأواخر، وأرد عليهم قائلاً: إن في ديننا الإسلامي ما يعرف بالنية والتي تعني: الهدف، وبالتالي فإن ما أتحدث معك عنه ينصب في صميم الإسلام؛ حيث يجب أن يسبق كل عملٍ نية، فيا ترى ماذا كانت نية من فتحوا بيوتًا منذ عشرات السنين ؟ فكما جاء في الحديث الشريف: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). فالزواج أمرٌ عظيم من أمور ديننا، ولكن شتان بين اثنين يتزوجان بلا هدف، واثنان يتفقان على هدفٍ في إقامة بيت الزوجية.
ولأنني واقعي، لا أطلب أعدادًا كبيرة هذه الليلة لتحقيق هذا الأمر، ولا أقول - كما أفعل في أيامٍ أخرى- سنفعل جميعًا ذلك، بل أريد10٪ أو خمسة آلاف أسرة أن يكونوا ذوي أهدافٍ، ويعرفوا ما يريدون تحقيقه، لأوضح لك الصورة دعني أسوق إليك أمثلةً:
تخيل معي إذا ذهب أحدنا إلى مجموعة من العمال والمهندسين ووجدهم يشيدون بناءً، فسألهم: ما نتيجة بناء ما تفعلون؟ فأجابوا: لا ندري بالضبط، فنحن سنعمل وبالتأكد سينتج شيئا رائعا. على ماذا تضحك؟ إن هذا بالضبط ما أنت فاعله في أسرتك.
دعني أسوق إليك مثالاً آخر، إذا ركبت جماعةٌ طائرة، وذهب أحدهم إلى قائد الطائرة فسأله: إلى أين سنتوجه؟ فأجابه: نحن متوكلون على الله وبإذن الله سيكرمنا، وسنرى إلى أين ستأخذنا الريح إلى أفضل مكانٍ في أسرع وقت، تخيل هذا السؤال إذا سأله ولدٌ لوالده: إلى أين نحن ذاهبون؟
إن الأمر ليس بالغ الصعوبة كما تتخيل، بل يحتاج لجلسةٍ بينك أنت وزوجتك، فتسألها عما تريدان تحقيقه من أهداف على المدى القصير خلال خمس سنوات مثلاً، ثم يكبر الهدف وينمو ويعدّل، وأنتما الرابح الأكبر من هذا الأمر؛ حيث إن البيوت تفتر، وما فيها من حرارة العلاقات التي كانت منذ أيام الخطبة وعقد القران تبرد، فسيعمل ذلك الهدف كالمغناطيس الذي يجذب الأسرة فتلتف حوله، وهذا ما نسوقه عبر قصة اليوم من نموذج أسرة ذات هدف.
أسرة آل عمران وهدف بيت المقدس:
إنها أسرةٌ لها هدف ألا وهو بيت المقدس، وبالتالي لن تضيع عائلةٌ كهذه، وكانت الجدة جدة عيسى وزوجة عمران هي أكثر من تتحرك لتحقيق هذا الهدف، وكانت تسمى حَنّة، لم يركز القرآن على اسمها؛ فالمهم ما قامت به، وحتى لا تلتفت إليه وتعش معه، ركز على صفاتها، فوصفها القرآن بأنها (امرأة عمران)؛ وكأنها بشرى لكل زوجة تشارك في وضع وتحقيق هدف لأسرتها، وإن افترضنا أن أحدَ أفراد الأسرة لم يرضَ عن هذا الهدف فعلى البقية أن يكملوه، فإن رفض الأب والأم، فبإمكان الأخوة والأخوات أن يسيروا على النهج نفسه لوضع وتحقيق هدف ما، وكذلك إذا لم يرض الزوج، فالزوجة يمكن أن تلتف مع الأبناء حول هذا الهدف، وإن رفضت الزوجة والأولاد إلا واحدًا فبإمكان الأب أن يتعاون مع هذا الابن؛ لتحقيق ذلك الهدف، ومع الوقت سيجذب هذا المغناطيس البقية نحوه، فقط عليك بالتفكير في هدف، وأن يكون بنية إرضاء الله؛ وستلاحظ ما سيعم من بركة.
شجرة عائلة آل عمران:
هي أسرةٌ عريقة ذات جذور عميقةٍ في التاريخ؛ حيث إن الأبوين من ذرية داود وسليمان عليهما السلام. يسمى الأب عمران، والأم حَنّة، وقد أنجبا فتاة تزوجت من رجلٍ هو سيدنا زكريا، الذي سيصبح فيما بعد نبيًّا، ومرت سنواتٌ طوال دون أن يرزقا الذرية، أما زوجة عمران فكانت قد تمنت أمنيةً مرتبطةً بهدف العائلة وهو بيت المقدس، وكانت أمنيتها أن تنجب ذكرًا، لكن عندما وضعت حملها لم ترزق ذكرًا فكانت أنثى أخرى وهي السيدة مريم. وبعد ذلك، رزق الله السيدة مريم عيسى عليه السلام، وكما نلاحظ أنها عائلة عريقة بدأت من داود لسليمان، لعمران حتى وصلت إلى عيسى عليه السلام ولذلك تقول الآية (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بَعْضٍ...) (آل عمران:34) فقد شبَّ الأحفاد على نهج الأجداد، مفعمين بالخير والصلاح، وهنا أريد أن أوجه رسالةً للعائلات الأصيلة، خاصةً الشباب والفتيات:
إن كانت عائلاتكم عائلة أصيلة تفخر بأخلاقها، إياكم أن تنهوا هذا الشرف وتسيئوا إليه، وتشوهوا جماله بفسادٍ، أو عقوق، أو بالانصراف عن طريق العبادة، أو بعلاقةٍ محرمة؛ ليمتد الخير لأحفادكم من بعدكم.
عندما تقبلوا أيها الشباب والفتيات على الزواج، على كل منكم أن يتخير عائلة من سيتزوج؛ فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تخيروا لنطفكم؛ فإن العرق دساس)، وهنا تتجلى خطورة "الصحوبية"؛ حيث إنهما لو فكرا في الزواج- مع صعوبة ذلك- فإن كلا منهما لن يفكر في عائلة الآخر، متناسين أن الزواج ليس ارتباطًا بين شابٍ وفتاة، وإنما هو انصهارٌ بين عائلةٍ وأخرى، كما يظهر في عائلة عمران وزوجته، حتى إنهما ذُكرا في القرآن، وأطلق على السورة اسم عائلتهما؛ لما كان لهما من هدفٍ في الأسرة، فهي أمٌّ لها نية انبثقت منها أشياءٌ غير عادية، وعلى الرغم من هذا الشرف فإنه جديرٌ بالذكر القول بأن هذه العائلة لم تكن ثريةً بل أسرة بسيطة. فالقيم لا تحدد بما تملكه الأسر من أموال، وكم من أسرٍ ثرية ليس لها في التاريخ قيمة! وكم من أسرٍ بسيطة ذات قدرٍ عالٍ عند الله تعالى! وثبت ذلك في التاريخ، كآل ياسر؛ ياسر، وسمية، وعمار، فقد عاشوا وماتوا وهم فقراء. لكن ماذا كان قدرهم عند الله؟ (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)؛ فقيمة العائلة ليست بأموالها، وإنما بأصلها، وأخلاقها، وقيمها، فلا يهم الرصيد البنكي، المهم الرصيد عند الله، كآل عمران التي برصيدها عند الله سميت ثاني سور القرآن باسم عائلتهم.
رصيد آل عمران عند الله:
بالنظر لبداية سورة آل عمران، نجدها تقول: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران:33)، فالآية حددت فردين وعائلتين وقد يتبادر للذهن سؤالاً: لِمَ لم تقل الآية آل آدم وآل نوح كما قالت آل عمران وآل إبراهيم؟ لأن آل عمران وآل إبراهيم ظلوا على التزامهم وتدينهم كما كان طريق آبائهم؛ فآل إبراهيم هم: إسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، أما آل عمران فهم: مريم، وزكريا، ويحيى، وعيسى، أما سيدنا نوح فقد ذكر فردًا لمعصية ولده له، وكذلك سيدنا آدم، ولم يُذكرا بعائلاتهم. أأدركتم لِمَ نصحت الشباب بألا يسيئوا لأخلاق وقيم عائلاتهم؟ حتى تظل العائلة كلها غاليةً عند ربها كما هو الحال في أسرة آل عمران التي اصطفاها الله على العالمين، فقد تكون نية أمٍّ قادرةً على تغيير وجه العالم، وأكملت ببركة نية الأم هذه العائلة كلها لتحقق الهدف.
أسباب نزول السورة وسبب تسميتها:
على الرغم من أن السورة أنزلت أثناء غزوة بدر، وقبل وبعد غزوة أحد فقد سميت "آل عمران" وجاءت في وسطها آية (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا...) فتُرى ما هي العلاقة بين موضع الآية ووقت النزول؟ إن العلاقة تعود إلى تغيير عدد من صحابة أُحُد هدفهم بعد أن كان لله؛ وذلك عندما رأوا الغنائم، فجاءت السورة التي توالت في نزولها أثناء وبعد الغزوة باسم عائلة لم تغير هدفها، وإنما ثبتت عليه فقد كان هدفًا لإرضاء الله، وكأن السورة جاءت دعوة للناس بأن يثبتوا على أهدافهم.
ونزول أجزاء من السورة في وقت آخر يبرز قيمة هذه العائلة، ويبرز حلاوة القرآن، حيث بدأت وفود النصارى تتوافد على النبي (صلى الله عليه وسلم) ليتناقشوا حول قصة عيسى بن مريم، وكان أولهم وفد نصارى نجران، وقد أسكنهم النبي (صلى الله عليه وسلم) المسجد، وأَلَّفَ قلوبهم، ولم يبن لهم خيامًا في الخارج، -وهذا يوضح عظمته (صلى الله عليه وسلم)-، فنزلت السورة في هذه الأثناء باسم عائلة من العائلات الصالحة، التي يحبونها، ويفتخرون بها تأليفًا لقلوبهم؛ ولفتح منطقة حوار مشتركة؛ لإرساء التعايش بينه (صلى الله عليه وسلم) وبينهم. فانظر لترتيب القرآن العجيب الذي تأتي فيه السورة في وقت نقاشهم، فتوجد مساحة مشتركة بين الطرفين، فهم مسيحيون، والشيء المشترك بينه (صلى الله عليه وسلم) وبينهم هو هذه العائلة، ولك أن تتخيل وقع هذا الأمر على الوفد عندما يجدوا سورة باسم تلك العائلة، وأن تقول الآية إن الله اصطفى آل عمران على العالمين. هذه إحدى طرق التفكير التي نادينا بها خلال برنامج "دعوة للتعايش"، وتطبق هذه الطريقة على كل البشر عندما يجلس طرفان للنقاش، لذا نزلت في السورة ذاتها الآية التي فيها (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّه...) (آل عمران:64) فإلهنا في النهاية واحدٌ وإن كانوا مسيحيين.
ثبت كل أفراد العائلة على الهدف، حتى الأحفاد، فكانوا نموذجًا يحتذى به. فهل عائلتك نموذجًا للمسلمين في أوروبا، أو في الحي الذي تقطنه، أو في البناية التي تسكنها؟ هل يمكن أن يضرب بنا المثل، كم ضرب الله لنا مثلاً بتلك العائلة! الأمر ليس بالمستحيل بل يحتاج إلى أهدافٍ وإن كانت بسيطة؛ كتنمية الحي الذي تعيش فيه مثلاً، أو بإقامة مشروعات صغيرة للأسر الفقيرة، ومساعدة من انقطع من أبنائها عن التعليم أن يواصل تعليمه، أو تعليم سكان المنطقة القرآن الكريم. تعاهد على هذه الأهداف أنت وزوجتك، وستلاحظان كيف سيبارك الله لكما بقدر إخلاصكما النية!
تقول الآية (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى...) (آل عمران: من الآية33) وكلما سمعت كلمة (اصطفى) أشعر بشيء ما بداخلي، استشعر ما فيها من عزة، وأتساءل هل يمكن أن نصطفى نحن أيضًا؟ بالطبع ليس كاصطفائهم لكن على قدر زماننا، فالكلمة تعني: (انتقى) أي أنت بعينك دون غيرك كما قال الله لموسى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ...) (طـه:13)، وكما قال الله تعالى لمريم (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ...) (آل عمران:42) فقد اصطفاها الله اصطفائين، وبين كل اصطفاءٍ وآخر منازل ودرجات، ترى هل اشتقت لكلمة الاصطفاء تلك؟ إن كنت كذلك فإنك قد تحصل عليه في مثل هذه الأيام المباركة، لكن اعرض نفسك له، وقل: يا رب اعتقني! قل: يا رب اخترني واجعلني اعمل لديك؛ فأصلح في أرضك!
بقي أن نذكر أن آل عمران ذكروا في موضعين من القرآن الكريم: في سورتي آل عمران، ومريم، لكن في الأولى ذكر أول العائلة، فركزت على الجد والجدة، وفي الثانية ذكر آخر العائلة ألا وهو عيسى بن مريم، وركز على الابنة والحفيد، فبنيّة الجدة (زوجة عمران) وبركة هدفها امتد ذكر الأسرة كلها وسيبقى ذكرها إلى يوم القيامة؛ ألن ينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان؟ فما كان ذاك الهدف؟ وما هي تلك القصة؟
قصة هدف زوجة عمران:
عاشت زوجة عمران في فلسطين التي دخلها الرومان - بعد داود وسليمان وأحفادهم- بعقيدتهم الوثنية، فتعددت الآلهة: كإله الجمال، وإله الحب، والإمبراطور الإله..إلخ، كما اضطهدوا كل من يرفض تلك العقيدة، بما فيها من تعددٍ للآلهة، ففُتِنَ الناس وفسدوا ليس هذا فحسب فقد أكرهوا الناس على دينهم لدرجة أنهم أقاموا ساحةً كبيرةً يلقى فيها كل من يرفض ذلك، وتترك عليه الأسود والنمور فتأكله حيًّا، وحتى يومنا هذا لاتزال تلك الساحة كما هي في روما، وبعد هذا نُتّهَم نحن المسلمين اليوم بإكراه الناس على الإسلام، على الرغم من أننا لسنا من فعلنا أو بدأنا هذا بل هو أمرٌ جاء به الرومان، وديننا هو الدين الوحيد الذي قال:(...لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...) (البقرة:256) فكان هو من سطر هذه العبارة، وأستشهد بقول أحد المستشرقين الذي قال: ليت أوروبا عرفت هذه العبارة، بدلاً من الحروب التي قامت بداخلها بسبب الدين، واليوم ندافع نحن عن ديننا على الرغم من أنه لم يكره أحدا على اعتناقه، بل كانت فعلة رومانية قاموا بها قبل وبعد المسيحية.
رأت زوجة عمران هذا الوضع، بما فيه من إكراه في الدين وتغيير لعقيدة الناس إلى جانب الظلم الشديد الذي يرزح تحت نيرانه أهل فلسطين، والضرائب الكثيرة، والعنصرية التي جعلت معيشتهم صعبة، أما عامة المؤمنين فقد انتابهم الصمت، فماذا فعلت امرأة عمران؟
لم تكن زوجة عمران قد أنجبت سوى فتاةٍ واحدة، تزوجت هذه الفتاة من زكريا، الكبير في السن، حيث الآية (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا...) (مريم:4)، فما بالنا بها؟ فقد تقدمت في العمر هي الأخرى، وعلى الرغم من هذا دبت نيةٌ في قلبها أنها تريد الإنجاب، وهي لم تحرم من الذرية؛ فلديها ابنة، لكنها رفضت أن تستسلم لهذا الوضع، بل أرادت جيلاً جديدًا يصنع شيئًا لفلسطين، وكأنها تقول لابد أن يخرج من بطني من يصلح هذا الوضع، ويقدم شيئًا لهذه الأمة، وكبرت تلك النية بداخلها، وبدأت تتحدث مع زوجها عمران- وهو أحد كبار علماء بيت المقدس المتميزين- ، وكان كبيرًا في السن، وبالطبع يصعب الإنجاب في هذه السن المتقدمة، وأخذ يذكرها بابنتها وزوجها اللذين تقدم بهما العمر ولا يستطيعان الإنجاب فكيف بهما؟ فبدأت تقنعه بالفكرة فهما يريدان خيرًا للمجتمع، ولابد أن تمتد أسرتهما لتبقى الرسالة في الدنيا، والدليل على أن هذا كان محور تفكيرها هو أن سيدنا زكريا كان يقول الشيء ذاته حيث تقول الآية: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم:6،5) فإنه يفكر في القضية نفسها من فساد المجتمع، والميراث هنا - بالرجوع إلى كتب التفاسير- هو ميراث النبوة والرسالة وليس المال، فالقضية واحدة لكن امرأة عمران هي أول من حركت هذا الموضوع بنيتها، فأين أنت من زوجة عمران؟ هل اقتصر دورك على الأكل والشرب والإنجاب فحسب؟ أين من تريد أن يكون ابنها صلاح الدين؟ أين من تتمنى أن تجعل ابنتها كالسيدة مريم؟
تأثير دور المرأة على الأسرة والمجتمع:
سميت سورة آل عمران باسم العائلة كلها لكن عندما تقرأها تجد دور المرأة واضحًا كما في الآية (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي...) (آل عمران:35) ولم يأتِ ذكر عمران في السورة، بل كان التركيز على المرأة، وكأنها رسالة أنها من بيدها إشارة البدء والتغيير، وهنا أخص النساء بكلمة وأقسم عليهن: إن كنتِ تحبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فعليكِ أن تنشئي أولادك وبناتك ليعزّوا الإسلام والمسلمين، وعليكِ دائمًا أن تتذكري أن السورة سميت باسم العائلة؛ لأنهم جميعًا ثبتوا على الهدف والتفوا حوله؛ لتحقيقه، وفيها رسائل لكل أفراد الأسرة؛ ليعيشوا من أجل أهدافهم، فإياكِ أن تثبطي في الطريق، وتنسي الهدف وتتراجعي.
بدأت امرأة عمران تدعو ربها أن تنجب، وإذا بمفاجأةٍ عجيبةٍ، أن يستجاب الدعاء، وإذا بالجنين في أحشائها يتحرك، وكنا قد ذكرنا في حلقات سابقة أن الله يستجيب الدعاء، على الرغم من أنها طعنت في السن لكن من بيده الأمر؟ ومن بيده ملكوت السماوات والأرض؟ إنه الله سبحانه وتعالى لذا اذهب إليه، ولاحظ أن كل هذا بدأ بنيتها، وعندما استجاب الله لها وهبت ما في بطنها لله حيث تقول الآية: (...رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي...)، عادةً ما ينذر الناس من أجل أمورٍ دنيوية، كأن ينذر أحدٌ بشيء ما إذا وفق في العمل الفلاني مثلاً، لكن لم نر قط نذرًا من أجل الدين كما فعلت امرأة عمران التي نذرت إن كان ذكرًا ستكون حياته كلها من أجل الله، وهي من الأصل لم تطلب الإنجاب لحاجةٍ في نفسها؛ وإنما دعت الله لترزق بولدٍ تكون حياته في سبيل الله.
رُبَّ عملٍ صغير تكبره النية:
لامرأة عمران قضيةٌ أخرى تشغلها ألا وهي القبول؛ فهي تخشى ألا يتقبل الله منها ما نذرته، فهي امرأةٌ صاحبة رسالة، تمكنت منها وسيطرت على كيانها والله تعالى يعلم صدق النوايا، فإن كانت النية خالصة، سيبارك الله ويتقبل،كما سنرى في نية ونذر امرأة عمران، حيث امتدت العائلة وستبقى ليوم القيامة. فحقًّا: رُبَّ عملٍ صغيرٍ تكبره النية، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تصغره النية، فكم من أعمالٍ عظيمة لله تصغر لأنها لم تصاحب بنية! وكم من أعمالٍ صغيرة صدقت النية فيها لله واستعان القائم عليها بالله، فبارك له فيها وكبرها له! كأن يبدأ شخص بدعوة اثنين أو ثلاثة لطريق الله لكن بنية خالصة صادقة، فيفتح الله عليه، وبعد عشر سنوات يتحول عدد من يدعوهم إلى ملايين، كما حدث معي ومع آخرين، ولك أن تجرب بنفسك، بأن تجعل في قلبك غيرةً نحو وطنك، وأمتك، ودينك وادع الناس للهداية، وسترى كيف سيوفقك الله مثل سيدنا إبراهيم الذي أمره الله في القرآن قائلاً (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً...) (الحج:27)؟ فاندهش سيدنا إبراهيم كيف يصل صوته للناس وهو في الصحراء؟ فعلمه الله أن عليه الآذان، وعلى الله البلاغ، فاستجمع نيته، وبدأ بدعوة الناس إلى أمر الله بالحج، فيوفقه الله بصدق نيته، ونظل نحن إلى اليوم نقول: (لبيك اللهم لبيك)، وكما حدث بصدق نية امرأة عمران؛ حيث نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان ليقيم الحق.
قمة الحرية تكمن في الإخلاص لله:
تخلصت امرأة عمران من كل شريك في نيتها، وأخلصت أن يكون ما في بطنها لله وحده، لا لعزوةٍ تستشعرها بولد، ولا لمتاعٍ في الدنيا فقالت: (...رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران: 35) وتأتي دقة استخدام كلمة(مُحَرَّرًا) كلمة (مُحَرَّرًا) لأن كمال الحرية يكمن في أن يكون الشيء لله وحده خالصًا لله وحده، فكلما كان المرء أسيرًا لشيءٍ ما، كأن تكون أسيرًا لشهرةٍ، أو أسيرًا لمنصبٍ، أو معصية، أو أسيرًا لكرسي فقد فقدت حريتك. أما قمة حريتك فتشعرها عندما تكون عبدًا خالصًا لله. فالحرية هي ألا تسيطر عليك الأرض بما فيها، وألا يسيطر عليك إلا الله، هذا ما فعلته زوجة عمران أن نوت أن تربي ابنها على ألا يكون أسيرًا لأي شيء وإنما يكون خالصًا لله، فيالك من فائزةٍ أيتها الزوجة إذا نويت أنت ذلك، فيتحول كل ما تفعلينه من أمور التربية، والتعليم، والإنفاق مع أبنائك وصبرك عليهم إلى كنوز حسناتٍ في ميزانك.
بعدما نذرت زوجة عمران ما في بطنها لله وسألته تعالى القبول جاء الرد مباشرةً (...فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ...) (آل عمران:37) فهي استجابة من السميع العليم. مرت أشهر حمل امرأة عمران، وهي تدعو الله بالقبول، منتظرةً أن تضع ذكرًا؛ لينصر الحق، حتى اكتشفت أن ما حملته أحشاؤها كان أنثى ولم يكن ذكرًا، تقول الآية (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى...) (آل عمران:36) وما أرادته امرأة عمران لا تستطيع الأنثى أن تفعله، لكن كأنها رسالةٌ من الله لنا، يريد فيها أن يعلمنا أن ليس الذكور فقط هم من باستطاعتهم النصر والعزة، فها هي مريم التي ستصبح سيدة نساء العالمين، وستدل على صفة الله الخالق بما سيحدث لها من معجزة ولادتها لسيدنا عيسى، الذي سيكون لها أثرٌ بالغٌ في الأرض؛ وسيكون سببًا في إيمان روما بعد 3000 عام من وفاته؛ وذلك لما لله من سنن في كونه، وكل هذا الامتداد وتلك البركات بسبب نية الجدة المخلصة لله، وباكتشافها أن ما حملته أنثى، خشيت ألا يكون الله تقبل منها ما نذرت، لكن لأنها ثابتة على ما نوت استطردت قائلة: (...وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ...) (آل عمران: من الآية36) ومريم تعني: (العابدة أو خادمة العباد) أي رغم أنها وضعت أنثى فهي مصرةٌ على هدفها، فإن لم تستطع هي تحقيق الهدف، فلعل يخرج من ذريتها من يحقق ذلك، وأول ما دعت به للمولودة أن يصرف الله عنها وذريتها الشيطان، وللنبي (صلى الله عليه وسلم) حديثٌ جميلٌ يقول فيه: (ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها) وذلك لما استجيب من دعوة امرأة عمران.
الإخلاص في الدعاء سببٌ في الإجابة:
رغم استحالة الإنجاب في عمرٍ متقدمٍ كعمر زوجة عمران إلا أنها أنجبت! وتمنت ألا يمس الشيطان مولودتها وذريتها، فاستجاب الله لها! كما تمنت أن يصلح ابنها وضع الإيمان في الأرض، فخرج عيسى وحقق ذلك، وسيظل له أثرٌ حتى يوم القيامة. فهل يوجد في نسائنا من لديها هذا الإحساس وتلك القوة والثبات لتنوي وتربي لتحقق هدفها؟
التواصل الدائم مع الله والقرب منه:
من خلال قصة آل عمران، يظهر صلة الزوجة بالله تعالى؛ فهي على تواصلٍ دائمٍ مع الله تحدثه دائمًا، والتواصل مع الله نوعان:
الدعاء.
المناجاة.
والمناجاة: حديثٌ مع الله، فيمكنك وأنت تقود سيارتك أن تناجيه- تعالى- أن تسأله أراضٍ عني يا رب؟ أن تقول له تعالى: لو غضبت الدنيا كلها مني فيكفي رضاك عني. أن تطلب منه ألا يَكِلُكَ إلى نفسك، أن تبثه همومك، فهذا ما فعلته زوجة عمران. ألاحظتم كيف تتحدث إلى الله؟ وكأنها اعتادت على ذلك فالمناجاة مستمرة، وفي أوقات مختلفة: (...رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، (آل عمران:36،35) ثم يأتي الرد: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا...) (آل عمران: من الآية37) فهل تستطيع أن تكون علاقتك مع ربك كهذه؟ إذا فعلت فستشعر في قلبك بحلاوة لم تتذوقها من قبل، ستستشعر اسم الله الحكيم، والودود، فعيسى ومريم نتاجٌ من نية أم ونذر أم، ودعاء أم، وهدف أسرة. إلى هنا انتهت قصة امرأة عمران؛ لتبدأ قصة مريم التي تناولناها سابقًا، فلن نستطرد في الحديث فيها.
الدعاء مجابٌ لامحالة:
بقي أن نلمح أن زوجة عمران حزنت ظنًّا أن دعوتها لم تستجب حين رزقت بأنثى، على الرغم من أن الحقيقة أنه قد استجيبت؛ وولد عيسى من ذريتها، لكن لا يجب أن تكون الاستجابة في الحال، وهذا درسٌ آخر يُساق إلينا؛ فالدعاء بلا شك مستجاب، وإن تأخرت الإجابة، فلله قوانينٌ في أرضه، ولكل شيء وقت وموعد، فزمن عيسى لم يكن وقتها، والتغيير لم يحن آنذاك، ولكنّ التجديد موجودًأ ودعوتها لم تذهب سدىً، وستجاب بعد حين، وستصبح ابنتها هي أم عيسى؛ فالتغيير في الأرض والإصلاح، وإحياء الأمم يحتاج إلى وقت، وربما الجيل الموجود في ذاك الوقت ليس هو من استحق النصر، وقد يكون هو المسئول عما يحدث، قد يكون جيلاً متخاذلاً لم يعمل، وقد يكون جيلاً عاملاً، لكن الأمر احتاج إلى وقتٍ لجني ثمار ما زرع. ترى ما بال جيلنا الآن؟ أهو جيل نهضة؟ هل نحن نعمل ونصلح في الأرض؟ وهل منا صاحب نيةٍ كزوجة عمران؟ هل منا أبٌ وأم لهما هدفٌ كهذا؟ فقد قال الله لموسى(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً...)(يونس: من الآية87) ليكن هذا هو هدف الأسر؛ لتجتمع على طاعة الله والإنتاج والتنمية..إلخ، فكيف هو حال بيتك؟
نية أم تعز أمة:
أتمنى أن نجد بعد هذه الحلقة من النساء، من تأخذ نيةً، وتستعين بالله وتدعو أن تملك هذه النية وما ستأخذه من هدف في كيانها وتثبت عليه، كحال امرأة عمران، فلعل ما نويت يصبح مشروع النهضة الذي يعز به الله الإسلام والمسلمين، فالقصة كلها تتلخص في أن نية أم قد تعز أمة. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: http://dostor.org/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=4131&Itemid=88