بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، سنتحدث اليوم عن قاعدة جديدة من قواعد الترابط الأسري، وهي أصل العلاقات العائلية كما يحب الله سبحانه وتعالى ويرضى، يجب أن تكون قائمة على مبدأ يسمى الرحمة؛ أنا وزوجتي، أنا وابني، أنا ووالدي، أنا وأمي، أنا وعمي، أنا وخالتي، الرحمة بيننا. بيني وبين أختي الرحمة، يمكن أن تكون أنت الأخ الذي يراقب جميع تصرفاتها والذي تخاف منه ومن الممكن أيضا أن تكون الأخ الرحيم والصديق.
اليوم أتحدث إلى الأب القاسي على أولاده، المنتقد لكل تصرفات أولاده والذي لا يعجبه شيء وكل شيء يراه خطأ. أتحدث إلى الأب الغائب، أقول له أولادك في حاجة إلى حضنك - ليس فقط حضن أمهم- بل في حاجة إلى وجودك. أتحدث إلى الفتاة التي انعزلت عن أهلها ودائما جالسة في غرفتها وحدها، وأتحدث إلى الفتاة التي تعرفت على شاب دون علم أهلها وأقول لها حرام عليكِ، أتخدعينهم؟!
أتحدث إلى الزوج القاسي الذي أهان زوجته، أذكره بالرحمة. أتحدث إلى رجل وزوجته يختلفان دائما أمام أولادهم بصوت عالٍ. أتحدث إلى زوجة طُلقت من زوجها ومن غضبها قالت: والله لأحرقن قلبه على أولاده ومنعته من أن يراهم. أين الرحمة؟ أتحدث إلى الفتى الذي ظلت أمه تتصل به وتريد أن تطمئن عليه وهو لا يرد عليها! أتحدث إلى الناس التي تركت بلادها ولا يسألون عن أسرتهم إلا كل شهر أو أكثر! أتحدث إلى الأم التي وكلت المربية لتربي أولادها نيابة عنها! أتحدث إلى الأخوة الذين كبروا ومنعوا أولادهم أن يتصلوا بهم عندما اختلفوا! أين الرحمة؟!
والغريب أن كلما جاءت العلاقات العائلية في القرآن دائما ما تذكر معها كلمة "الرحمة" كمثل الزوج وزوجته "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً..." (الروم:21)، والأبناء والآباء والأمهات "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً" (الإسراء:24)، والعائلة الكبيرة مع بعضها أصلاً تسمى صلة الرحم،. يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي "أنا الرحمن وهي الرحم، اشتققت لها اسمًا من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته".
نحن في أيام الرحمة، انظر إلى هذا الحديث "رمضان أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار" نتحدث في أكثر أيام تتنزل فيها رحمة من الله تبارك وتعالى، أيام العطف والود واللطف والسماحة من الله، فأملنا طوال العام هو الرحمة، ندعو بالرحمة. انظر إلى ختام سورة البقرة وبعد كل الأوامر "...وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ..." (البقرة:286)، هذا هو الختام، ودعاء الصالحين "...وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" (آل عمران:8).
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "أسألك رحمة تجمع بها شملنا وتهدي بها قلوبنا وتلم بها شعثنا وترد بها غائبنا". انظر ماذا تفعل الرحمة؟ عرّضوا أنفسكم لرحمة الله، "الشقي من حُرم رحمة الله في رمضان"، حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس أظلكم شهر رمضان شهر الرحمة...". إذا أردت أن تشملك وتغمرك رحمة الله فتملأك؛ ارحم الناس، ارحم، يرحمك الله، يقول النبي "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، ارحم عائلتك وأسرتك فالأصل في العلاقات الرحمة بغض النظر عن الطرف الآخر، لن تتمكن من تغيير والدك مهما كان فالجأ إلى الرحمة.
للإمام الغزالي في إحياء علوم الدين كلمة جميلة جدا، يقول: هناك شيء يسمى المشارطة؛ تشترط على نفسك أن تفعل شيئا، هذا الشهر؛ سأرحم عائلتي، ثم تأتي المتابعة، ثم يأتي التقييم أخيرا، مثل نظم الإدارة. ما رأيكم أن نفعل هذا في رمضان؟ 30 يوماً من الرحمة حتى يغمرني الله برحمته ويهدي بها قلبي ويجمع بها شملي أنا وعائلتي، ويلم بها شعثي، ويرد بها غائبي.
أريد أن أذكر أمثلة للرحمة في بيوتنا، أولاً: عدم الاستبداد في الرأي خاصة من الأب أو الزوج لأنه الأقوى؛ هناك آباء يصل بهم الإصرار على رأيهم لدرجة أنهم لا يمنحون فرصة لأي شخص أن يبدي رأيه أو يقترح، حتى في أدق الأشياء. هناك من يمل في بداية المناقشة فيرفع صوته وينهي المناقشة مصرًّا على رأيه! من المؤكد أن هناك قائدا واحدا للأسرة ولكن يجب أن يكون هناك مشاورة بينك وبين زوجتك وأولادك حتى، وإن كانوا صغار السن، لأنه عندما يحدث استبداد في الرأي تذهب الرحمة، لأنه سيكون هناك ضيق بالداخل ومن ثم يتوقف التعامل.
انظر إلى القرآن وهو يعطيك مثلاً للمشاورة في شيء لا تتوقعه، المشاورة في الرضاعة! تقول الآية " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ... فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ..." (البقرة:233)إذا كانت هناك مشاورة واتفاق عن تراضٍ في تقليل الرضاعة فيرضى الله، لماذا تحدث القرآن عن موضوع الرضاعة؟ لأن إذا كان هناك تشاور في الرضاعة فستستمر المشاورة في باقي الأمور مثل المدرسة والجامعة والزواج...الخ، وأيضا حتى يكون الطفل من نعومة أظفاره يجد والديه يتشاوران في أدق المسائل، فيكون بيتا قائما على التشاور.
يؤدي عدم الاستبداد إلى الرحمة، والرحمة تؤدي إلى الترابط الأسري، لم لا تحاول أن تفعل ذلك؟ هناك أيضا نساء عنيدة لدرجة كبيرة، ولكن بطرق مختلفة، بشكل يفرض الرجل أن يقول لها: افعلي ما شئتِ؛ لأنه لا يريد أن يتحدث معها أكثر من ذلك من كثرة شدة عنادها. هذا شيء آخر يضيع الرحمة.
كانت هذه القاعدة غريبة على الصحابة وكان مفهوما غريبا على البيئة العربية. كان سيدنا عمر بن الخطاب جالسا يوما مع زوجته، فقال لها: نريد أن نفعل كذا. فقالت له: لا، من الخطأ أن نفعل كذا، فقال لها: أتراجعينني؟ فقالت: ولم لا أفعل وابنتك تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أوتفعل حفصة؟ فذهب إلى ابنته وسألها: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ولم لا أفعل وكل زوجات النبي يفعلن كذلك، فذهب للنبي صلى الله عليه وسلم فوجد زوجات النبي يراجعنه في مسألة النفقة، فوجد النبي يبتسم ويقول: إن هؤلاء يراجعنني في النفقة، فقال سيدنا عمر بن الخطاب: فوجدت أن الأمر غير. صحيح أن الرجل له القوامة، وهناك شخص واحد يتخذ القرارات، ولكن أين الخطوات حتى اتخاذ القرار؟ لم لا نتشاور؟ لم لا نفكر سويا؟ لم لا نتنازل بعض الشيء؟
تغير عمر بن الخطاب بعد هذه الواقعة، وفي يوم من الأيام عندما كان عمر أميراً للمؤمنين كان هناك رجلاً تراجعه زوجته فترك لها البيت وذهب يشتكي لعمر، فذهب إلى بيت عمر، فقبل أن يطرق الباب سمع صوت زوجة عمر وهي تراجعه، فلم يطرق الباب وقرر أن يمشي، وبينما هو ذاهبٌ فتح سيدنا عمر الباب فقال: أجئتني؟
قال الرجل: نعم.
قال: أطرقت الباب؟
قال: لا.
قال: فلم؟
قال: والله جئتك أشتكي من زوجتي فوجدت أن زوجتك تفعل معك ما تفعله زوجتي فتركتك وعدت.
انظر ماذا قال عمر: تحملتني، غسلت ثيابي، بسطت منامي، ربت أولادي، تفعل كل ذلك وتتحملني أفلا أتحملها إذا رفعت صوتها؟
تأتي امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقول له: إني سفيرة النساء إليك. وتشتكي له لأن الرجال يأخذون ثوابا كثيرا؛ ثواب الجهاد وصلاة الجمعة والصلاة في المسجد، ولكن ما>ا أخذت السيدات؟ فقال: أخبري من ورائك من النساء أن حسن تَبَعُّل المرأة لزوجها يعدل كل ذلك.
هناك شخص يسمى "جُرَيّج العابد" كان شديد العبودية لله وكلما دخل ليصلي نافلة تنادي أمه عليه فيقول: يا رب، أمي وصلاتي. فيختار الصلاة ولا يرد، تكرر هذا الموقف، فدعت عليه، فاستجاب الله دعوتها، فقال النبي: رحم الله أخي جريجًا لو كان عالما لعلم أن إجابة أمه خيرا من صلاته. حديث صحيح،. يقول النبي إن إرضاء أمك وإجابة أمك أرضى عند الله من صلاة النافلة،ارحموا أمهاتكم، فهو لم يجب النداء لأنه كان يصلي فما بال من لا يجيبون لأسباب أخرى؟! النداء! أجيبوا النداء!
جعل الله مظاهر للرحمة في الكون؛ مثل شمس وقمر ونجوم وماء وهواء، ولكنها مظاهر صامتة، ولكن جعل رحمة متحركة، تسمى قلب الأم، ارحم أمك.
النقطة الأخيرة، هي العفو والتسامح مع العائلة. كم منا على خلاف مع أحد أقاربه؟ اعفو وارحم ليرحمك الله. تحدث إليهم واسترضهم، فقد قال القرآن هذا. ألم يتحدث "مُصْطَح" بن خالة السيدة عائشة عنها في عرضها؟ على الرغم من أن أبو بكر كان ينفق عليه، فقرر أبو بكر ألا ينفق عليه بعد ذلك، فنزل القرآن "وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌرَحِيمٌ" (النور:22)، فقال سيدنا أبو بكر: والله لأنفق على مُصْطَح، إذا أردت أن تنزل الرحمة اعفو عنهم وسامحهم.
فقد ترك سيدنا يوسف بيته ووالده 20 سنة بسبب إخوته الذين قذفوه في البئر ودخل السجن..الخ، وفي نهاية الأمر قال: "... وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ" (يوسف:99)، "...لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (يوسف:92) كل هذا من أجل أن يلم شمل العائلة، يقول لأبيه: "...مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ..." (يوسف:100) أين يوسفُ هذا الزمان؟ كل عائلة بها شيطان ينزغ وكل بيت به شيطان ينزغ، من يتغلب على نزغ الشيطان؟ أتريد أن يرحمك الله؟ ارحم عائلتك، واعف عنهم لوجه الله، حتى لو عاملوك معاملة سيئة فأنت تعامل الله وفعلت ما بوسعك، ولكن سوف تحاول مرة أخرى.
حاول أن تفعل هذا حتى تقول لك الملائكة كما قالوا لسيدنا إبراهيم: "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت" ارحموا بعض كي تقال لكم هذه الكلمة.
المصدر: http://www.amrkhaled.net/articles/articles2674.html