بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
قانون التوبة :
أعزائي المشاهدين ... أخوتي المؤمنين ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ولا زلنا في قوانين القرآن الكريم ، والقانون اليوم ( قانون التوبة )بل قوانين التوبة .
الله سبحانه وتعالى ما أمرنا أن نتوب إليه إلا ليتوب علينا :
أيها الأخوة الكرام ، العظام التي يتركب منها الهيكل العظمي قابلة للكسر ، لذلك هيأ الله لهذه العظام خصائص ، وهي النمو الذاتي ، وما على طبيب العظمية إلا أن يضع العظمة المكسورة في مكانها الصحيح ، ثم ينتظر أن يلتئم هذا العظم التأماً ذاتياً ، هذا من فضل الله علينا ، وهذا من النواحي المادية في خلق الإنسان .
ولكن الله سبحانه وتعالى علم أيضاً أن هذا الإنسان المخلوق الأول الذي كرمه الله ، وسخر له ما في السماوات والأرض ، منحه الكون كمظهر لأسماء الله الحسنى ، منحه العقل ، منحه الفطرة ، منحه المنهج ، منحه الشهوة ، منحه حرية الاختيار ، أعطاه كل مقومات التكليف ، الله عز وجل يعلم أن هذا الإنسان قد تضعف نفسه أحياناً ، وقد يستجيب لنداء غريزته أحياناً ، وقد تزل قدمه أحياناً .
لذلك كما أن الله سبحانه وتعالى صمم العظام التي إذا كُسرت تلتئم ذاتياً كذلك شرع لهذا الإنسان التوبة ، فما أمرنا الله أن نتوب إليه إلا ليتوب علينا ، وما أمرنا أن تستغفره إلا ليغفر لنا ، وما أمرنا أن ندعوه إلا ليستجيب لنا ، من هنا شُرع باب التوبة .
التوبة مقوم من مقومات خلاص الإنسان من ذنوبه التي وقع فيها :
أيها الأخوة الكرام ، الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾
( سورة النساء )
إذاً إرادة الله أن نتوب إليه ، والله سبحانه وتعالى ما أمرنا أن نتوب إليه إلا ليتوب علينا ، لذلك يمكن أن ننطلق في قوانين التوبة ، من أن الله يحب التوابين ، من أن الله يحب العبد التائب ، بل إن الذي يتوب إلى الله عز وجل كما ورد في بعض الأحاديث الله يفرح بتوبته .
(( لله أفرح بعبده المؤمن من الضال الواجد ، والعقيم الوالد ، والظمآن الوارد ))
[ أخرجه ابن عساكر في أماليه عن أبي هريرة ]
أيها الأخوة الأحباب ، لو تصورنا أنه ليس هناك توبة على الإطلاق ، فالإنسان إذا زلت قدمه ، وقع في خطأ ، وقع في معصية ، ولا توبة يستمرئ الخطأ ، ويتابع الخطأ بخطأ ، ويزيد مستوى الخطأ إلى أن يستحق هلاك الدنيا ، وعذاب الآخرة .
لذلك تقتضي رحمة الله عز وجل أن الله يعلم ضعف الإنسان أحياناً ، فشرع له باب التوبة ، لتكون التوبة حبل نجاة ، وشاطئ أمان ، ومقوم من مقومات خلاصه من ذنوبه التي وقع فيها .
فرحة الإله العظيم بتوبة عبده المؤمن :
أيها الأخوة ، شيء آخر : أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصف لنا موقف الإله العظيم حينما يتوب عبده إليه ، ذكر قصة لطيفة أن أعرابياً ركب ناقته ، وعليها طعامه وشرابه ، بعد حقبة من السير شعر بالتعب ، فجلس ليستريح في ظل نخلة ، وأخذته سِنة من النوم ، فلما استيقظ لم يجد الناقة ، عندئذٍ أيقن بالهلاك ، أيقن بالموت المحقق ، فجلس يبكي ثم يبكي ، حتى أخذته سِنة من النوم ثانية ، فلما استيقظ رأى النافقة أمامه ، فاختل توازنه من شدة الفرح ، فقال : يا رب أنا ربك وأنت عبدي ، وقد نطق بكلمة الكفر ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعلق على كلماته تلك ، بل قال : لله أشد فرحاً بتوبة المؤمن من ذاك البدوي بناقته .
لذلك الإنسان حينما يتوب إلى الله ، هو بالحقيقة يفعل عملاً يفرح الله به ، لأنه إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنؤوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ، من هنا قال الله عز وجل :
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾
( سورة الزمر الآية : 53 )
عدم وجود أي وسيط بين العبد و ربه أثناء الدعاء :
أيها الأخوة الأحباب ، ملمح آخر من ملامح التوبة ، الله عز وجل يقول :
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾
( سورة النساء الآية : 220 )
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾
( سورة البقرة الآية : 212 )
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ﴾
( سورة البقرة الآية : 222 )
هناك أكثر من اثنتي عشرة آية في كتاب الله تبدأ بقول الله تعالى
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ ﴾
وتأتي كلمة
﴿ قُلِ ﴾
وسيطاً بين السؤال والجواب ، لكن الذي يلفت النظر أن آية واحدة من سلسلة هذه الآيات ليست فيها كلمة قل ، فالله عز وجل يقول :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾
( سورة البقرة الآية : 186 )
لم يقل قل ، استنبط العلماء من هذه الظاهرة أنه في آية واحدة لم نجد كلمة قل ، يدل ذلك على أنه ليس هناك حجاب بين العبد وربه ، بل ليس هناك وسيط بين العبد وربه .
من شروط التوبة الإيمان بالله و الاستجابة له :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
( سورة البقرة )
وكأن قانون التوبة أن تؤمن بالله أولاً ، وأن تستجيب له ثانياً ، عندئذٍ يتوب عليك من هنا قد يفهم بعضهم قوله تعالى :
﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
( سورة الحجر )
غفور رحيم إذا عدتم إلى الله ، واصطلحتم معه .
ما من ذنب إلا وهو قابل لمغفرة الله عز وجل بشرط التوبة النصوح :
أيها الأخوة الأحباب ، الله عز وجل يقول :
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾
أي ما من ذنب مهما توهمته كبيراً إلا وهو قابل لمغفرة الله عز وجل ، ولكن بشرط أن تعود إليه تائباً ،
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾
ولكن بشرط :
﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾
( سورة الزمر الآية : 54 )
لابدّ من العودة ، لابدّ من الإقلاع عن الذنب ، لابدّ من الندم ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :
(( الندم توبة ))
[أخرجه البزار والحاكم عن أنس بن مالك ]
بل هناك من فصّل في هذا ، قال التوبة تحتاج إلى علم ، وإلى حال ، وإلى عمل ، بل إن هذا القانون ينطبق على علاقة الإنسان بما حوله ، لأوضح :
لو إنسان رأى أفعى ، إذا أدرك أنها أفعى ، وأن لدغتها قاتلة ، لابدّ من أن يضطرب ، فإذا اضطرب تحرك ، إما إلى قتلها أو من الهرب منها .
إذاً : هذا القانون يحكم العلاقة بين الإنسان وبين المحيط ، إدراك ، فحال ، فسلوك .
معرفة منهج الله عز وجل ضروري لتقييم العمل :
الإنسان حينما يطلب العلم ، ويعرف منهج الله ، يعرف في أي مكان هو من طاعة الله ، أي هل يمكن أن يعالج الإنسان ضغطه المرتفع إن لم يعلم أن معه ضغط مرتفع ؟ فمتى يتوب الإنسان من ذنبه ؟ إذا طلب العلم ، وعرف الحلال والحرام ، عندئذٍ أدرك أين هو من منهج الله عز وجل .
إذاً لابدّ من أن تعرف منهج الله حتى تقيّم عملك ، إذا قيّمته رأيت فيه أخطاءً كثيرة ، وتقصيرات كبيرة ، عندئذٍ تفكر أن تتوب إلى الله عز وجل ، وعندئذٍ تتألم ، كنت في الإدراك ، فأصبحت في الانفعال ، والانفعال الصادق لابدّ من أن يقودك إلى سلوك .
لو أن إنساناً قال لإنسان : على كتفك عقرب شائلة ، بقي الإنسان هادئاً ، مرتاحاً ثم توجه إلى من قال له هذه الكلمة بالشكر والامتنان ، وقال : أرجو الله سبحانه وتعالى أن يعينني على مكافأتك على هذه الملاحظة .
أخوتي الكرام ، هل تصدقون بأن هذا الإنسان الذي بقي هادئاً مع هذه الكلمة سمع ماذا قال له هذا الأخ الكريم ؟ أبداً .
إذاً ما لم تدرك الحقيقة ، وتتعظ عند إدراكها ، وما لم تتحرك إلى الحل الأمثل بناءً على هذا الإدراك فلا تعد هذه توبة ، ولا يعد هذا سلوكاً مقبولاً عند الله .
باب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة ما لم يغرغر الإنسان :
أيها الأخوة الكرام ، أبواب التوبة مفتحة إلى يوم القيامة ، ما لم يغرغر الإنسان .
﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ ﴾
( سورة النساء الآية : 18 )
فرعون الذي قال :
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾
( سورة النازعات )
فرعون الذي قال :
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
( سورة القصص الآية : 38 )
حينما أدركه الغرق قال :
﴿ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾
( سورة يونس الآية : 90 )
فأجابه الله عز وجل :
﴿ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾
( سورة يونس الآية : 91 )
باب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة ، بشرط أن تصحو من غفلتك قبل فوات الأوان ، أما عند الموت ، أو عندما يحضر الموت عندئذٍ يغلق باب التوبة .
أيها الأخوة الأحباب ، إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
والحمد لله رب العالمين