بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أهلاً بكم ونستكمل سويًّا البرنامج، نعيش اليوم مع قصة جديدة تدور مجرياتها حول سؤال: هل أنت إنسان فردي أم تستشعر أنك جزء من وطنك؟ هل تفكر بشكل فردي أم بشكل جماعي؟ لا مانع أبدًا أن يكون لك رغبات وطموحات والمشروع الخاص بك، وهذا حقك، ولكن لا تنسى أيضًا مشروع الوطن وتحديات الوطن واحتياجات الوطن، وكما أنك حريص على نجاح مشروعك الفردي، عليك أيضًا ألا تنسى أنك جزء من المجتمع والوطن. أقول لكل من يعيش لنفسه: انتبه فربما تحدث لك قصة اليوم.
قصة اليوم لها علاقة بالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وتدور حول هذا المعنى. يجب أن نعلم بأن بلادنا تمر بتحديات، فاحذر أن تعيش لمشروعك الخاص وتنسى المشروع العام، أو أن يتعارض مشروعك الشخصي مع مشروع الوطن، وكما أن هناك تحديات فأيضًا هناك قيادة لهذا الوطن، تقوم برسم الخطة وتنظر في هذه التحديات لتواجهها كما سنرى الآن كيف كانت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم؟
يجب على كل قيادة في بلادنا أن تساعد كل من يعيش لنفسه بأن ينخرط في المشروع العام؛ لأنه إن لم يجد مشروعًا عامًّا فسيزداد فردية وانغلاقًا على نفسه، فالقيادة مسئولة عن ذلك بالطبع والأفراد أيضًا. تعالوا لنرى معًا قيادة عظيمة، ألا وهي قيادة النبي صلى الله عليه وسلم.
سؤال مهم:
ماذا يحدث لو عاش كل فرد لمشروعه الشخصي ونسي احتياجات الوطن؟ يحدث أشياء كثيرة وإليكم أمثلة حقيقية على ذلك، ومن الجرائد:
تُفَاجَأ بأن هناك من يبيع لحم الحَمير ويُطعمه الناس.
شخص يستورد أغذية فاسدة، فيتم إيقافها في الجمارك ويُمنع دخولها، وتُرمى في المزابل، فيقوم بإعادة تعبئتها من هذه المزابل ويُطْعِمُها الناسَ.
شخص يشتري صفقة محابس غاز من الصين، وهي غير مطابقة للمواصفات، فبدلاً من أن تُرمى؛ لأنها غير صالحة يقوم هذا الشخص بتجميعها وإرشاء أي أحد من أجل أخذها وبيعها، فتوضع في البيوت ويحدث تسريب للغاز، فيموت الأطفال، لماذا؟ لأنه عاش لنفسه ولمشروعه الشخصي ونسي الناس.
الروماتويد والسرطان وعلاقتهما بواقعنا:
قصة اليوم تشبه مرض الروماتويد؛ هل تعلمون شيئًا عن هذا المرض؟ الروماتويد هو ورم يُصيب العظام، ويساعد على انهياره، فلا يستطيع العظم أن يحمل الجسد فيُقعَد.
هل تعلمون كيف يحدث هذا المرض؟ الأصل في الخلايا أنها متكاملة وتعمل مع بعضها البعض، ويحدث هذا المرض عندما تطمع كل خلية في الآخرى وتنظر إليها نظرة تنافس لا تكامل، فيبدأ مرض انهيار العظام في الحدوث، وأنا أقول أن مجتمعاتنا تعاني من الروماتويد.
السرطان: هل تعلم كيف يحدث مرض السرطان؟ الأصل أن الغذاء والأكسجين يذهبان للخلية ويظلا معها لمدة 3 ثوانٍ، فتقوم الخلية بنقلهما للخلية التي تليها وهكذا، ويأتي هذا المرض إذا طمعت الخلية في الغذاء والأكسجين واحتفظت بهما لأكثر من 3 ثوانٍ دون نقلهما، أو أن تحتفظ بكمية أكبر، فإما مدة أطول أو كمية أكبر، فيحدث السرطان والعياذ بالله.
هل هذا ما حدث لنا؟ هل نحن مرضى بالفعل؟ هل يعلمنا الله من أمراض الجسد كيف نحافظ على مجتمعاتنا من أن تصاب بهذه الأمراض؟
سبب القصة وأحداثها:
حلقة اليوم مرآة جديدة من القصص القرآني، تواجه هذا المرض، وفي الوقت نفسه هي قصة نبوية. قصة اليوم لشخص اسمه "كعب بن مالك" وهو من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، والقصة حدثت في العام التاسع من الهجرة، قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعام. حدثت القصة بسبب غزوة تبوك؛ وغزوة تبوك من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هناك تحدٍّ يواجه المسلمين، وهو أن الروم كانت تُعدُّ الحشود لتواجه المسلمين وتهاجم المدينة، فكان على المسلمين أن يخرجوا لهم على الفور بجيش قبل أن يدخلوا عليهم. كان التوقيت في غاية الصعوبة ودرجة الحرارة كانت مرتفعة جدًّا، والمشكلة الثانية أن الثمار على الشجر قد نضجت وحان قطافها، وكل صحابي له مشروعه الشخصي - حيث إنهم كانوا مزارعين - وكل واحد منهم بدأ يجهز نفسه ليجمع المحصول، فهو مصدر رزق بالنسبة له، ولكنْ هناك تحدّ يواجه الوطن، والمسافة المطلوبة هي 1000 كيلو متر من المدينة إلى تبوك، بالإضافة إلى قلة المال.
وقد سمى الله سبحانه وتعالى هذه الغزوة في القرآن "العُسرة" لما فيها من مشاق وصعوبات شديدة، فكان كل ثلاثة من الصحابة يتناوبون على ركوب بَعير واحد، فلك أن تتخيل كم كيلو سيمشيه كل منهم؟
القصة موجودة في صحيح البخاري، ونزلت في سورة التوبة لتتحدث عن "كعب بن مالك" وسُميت بسورة التوبة، ولكن التوبة هذه المرة لم تكن من الذنوب فقط بل التوبة من الفردية أيضًا. لو كنت ممن يعيشون لأنفسهم فعليك أن تتوب، ولو كنتِ ممن يعشن من أجل أبناءهن فقط ونسيتي أبناء الأسر الفقيرة من الذين يعيشون في بلدك فأنت أيضًا بحاجة إلى توبة. أنت تحتاج إلى التوبة؛ لأنك عشت لنفسك وما يخصك فقط. ألهذه الدرجة الأمر عظيم عند الله؟ نعم هو كذلك وهذا هو الإسلام.
لم يحضر "كعب بن مالك"غزوة تبوك وتخلف عن الغزوة من أجل مشروعه الخاص، فكان بحاجة إلى توبة. هل لك أن تسأل نفسك كم مرة تخلفت عن أهلك أو عن بلدك أو عن قريتك؟ أنت بحاجة إلى توبة.
يقول كعب بن مالك: "لم أتخلف عن رسول الله في غزوةٍ قط إلا هذه الغزوة" وكأنه يقول: أنا لست فرديا. تخلف "كعب بن مالك" مرة واحدة وعوقب عقوبة شديدة، فكم مرة تخلفت أنت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ويقول: "ولقد شهدت بيعة العقبة" - وبيعة العقبة من أهم الأحداث وشهرتها عظيمة، وكأنه يؤكد بذلك مدى إخلاصه وصدقه- ويكمل قائلاً: "فجاءت غزوة تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورّى بغيرها – أي لا يقول صراحة إلى أين هو متوجه ليفاجئ العدو – إلا في غزوة تبوك " لماذا؟ لأنه سيقابل عدوًّا كبيرًا، وهم الرومان، وبما أن المسافة طويلة فيجب أن يكون الصحابة مستعدين لذلك، فالأمر غير بسيط.
يتحدث "كعب بن مالك" عن الصراع الداخلي بين الـ أنا وبين البلد، بين مصلحته الشخصية ومصلحة الوطن واحتياجات الناس والفقراء والأيتام، فيقول: " فكلما أردت الخروج لأتجهز جلست وثبطتني نفسي، فطفقت كلما أردت أن أتجهز للخروج مع رسول الله أقعد".
فعل كعب بن مالك ذلك أكثر من مرة حتى بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يخرج بالجيش، وهو يقول: "أنا جاهز على ذلك إن أردت، وأخرج إلى السوق لأرى ما سآخذه معي" انظروا إلى الصراع.. هل يحدث لك ذلك؟ وكلما بدأت تجهز نفسك لتقوم بعمل مفيد تجلس وتُسوّف الأمر؟ يقول: "ولم أكن أبدًا أقوى مني ولا أيسر، ولم يجتمع لي راحلتين إلا في هذه المرة" وكأنه يواجه نفسه بوضوح ويعترف بخطأه وينفي عن نفسه أي عذر.
يقول: "حتى غادر الجيش، واستحال اللحاق بهم، فخرجت إلى المدينة لا أجد إلا منافقا مغروسا في النفاق، أو صاحب عذر، فطفقت أنظر في المدينة" وكأنه بدأ يتخيل حجم المأساة التي بها بسبب تخلفه عن رسول الله. انقضى 40 يومًا على المعركة، فيقول كعب: "حتى بدأ النبي يعود منتصرًا من غزوة تبوك، فطفقت يحضرني همي - ماذا سأقول له؟ القيادة حازمة – فطفقت أتذكر الكذب - لاحظوا أن كعب بن مالك شاعرًا ولديه لسانًا بليغًا – وأقول لنفسي: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ حتى نودي في المدينة: عاد رسول الله".
انظروا إلى أي درجة من الصدق مع النفس وصل إليها، وأراد بتسجيله لهذا الصراع الداخلي وهذه المشاعر الداخلية أن يعلمنا هذا الدرس حتى لا يكون لأحد منا عذر. ماذا ستقول لرسول الله يوم القيامة عندما تقابله، تخيل؟! تخلف كعب بن مالك عن رسول الله، وأنت أيضًا تخلفت عن أمة النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول كعب بن مالك: "فأول ما نودي: عاد رسول الله، فأجمعت الصدق، وذهبت إلى النبي في المسجد فوجدت المنافقين – حوالي بضع وثمانين – سبقوني إلى رسولِ الله، كل منهم يعتذر ويحلفون له، والنبي يقبل منهم ويستغفر لهم، حتى رآني، فقال: تعال - حاول أن تتخيل نفسك وأنت تقابل النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة – وابتسم إليَّ ابتسامة الغضبان، فجلست بين يديه، فقال: ما الذي خلفك؟ " وأنا أسألك أيضًا: ما الذي خلفك عن أن يكون لك أو لكِ رسالة؟ لماذا تركت المجتمع وعشت لنفسك؟ لماذا فضلت مشروعك الشخصي على مشروع المجتمع؟
قال له النبي: "ما الذي خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ - ألم يكن عندك جمل؟ - فقلت: يا رسول الله، والله لو كنت عند غيرك من ملوك الدنيا لكذبت عليه، ولقد أُعطيت جدلاً، والله يا رسول الله لو قلت لك حديثًا يرضيك عني اليوم، يسخط عليَّ الله فيه، ليوشكن الله أن يُسخطك علي، ولئن قلتُ لك حديثَ ِصدق تجدُ عليَّ فيه – تغضب مني فيه – لكنه الحق أرجو فيه الرحمة من الله. يا رسول الله لم يكن لي عذر، ولم يكن أقوى ولا أيسر مني في هذه الغزوة، وكانت لي راحلتين، فقال النبي: أما هذا فقد صدق – ولكن لا مزاح في الأمر – فقال له النبي: قم حتى يقضي الله فيك".
أريدك الآن أن تتخيل نفسك وأنت تقابل النبي صلى الله عليه وسلم على الحوض وأعمالك تُعرض عليه، فهل أنت من الذين يصنعون الحياة ويعملون بحق؟ أم ممن يتحمسون لأمر ما ثم يتركونه؟ أم من الذين تخلفوا ويبكون ليلاً ونهارًا دون فائدة؟
وقفة مع الصدق:
ألم تلاحظوا أن كعب بن مالك تحرى الصدق ولم يكذب؟ هذه نقطة خطيرة ولها معنى عظيم، فالكذب ليس من الإيمان، والمعنى الآخر، أنه أراد أن يُحترم والكذاب يهين نفسه، فالمنافقون ربما تظهر عليهم العزة ولكنهم مهانون بشدة من داخلهم ويشعرون بذلك، لا تهن نفسك.
لقد خلق الله سبحانه وتعالى في الإنسان غرائز، منها: غريزة الطعام والشراب، وغريزة احترام النفس، فالإنسان بطبيعته يُحب أن يكون محترمًا ويُرى محترمًا، فلا تكذب حتى لا تهين نفسك، وتظل محترمًا.
ليس عيبًا أن نُخطئ فكلنا بشر، وبداخل كل منا صراع بين الحق والباطل، وبين الـ أنا والمصلحة العامة، فلو عشت لنفسك في وقت من الأوقات، فقم وواجه نفسك وأصلحها كما علمنا ذلك "كعب بن مالك".
يقول "كعب بن مالك": "هممت أن أرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم سألت: هل لقي ذلك أحدٌ غيري؟، قالوا: رجلان، قالوا ما قلت، وقيل لهم ما قيل لك، فقلت: من هما؟ فقالوا: "هلال بن أمية" و"مُرارة بن الربيع"، فذكروا لي اثنين من أصحاب بدر، من خيار الصحابة ممن شهدوا بدرًا، فقلت: لا والله سأكمل".
يقول كعب: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة عن كلامنا خمسين ليلة" لا يحدثهم أحد لمدة خمسين يومًا. أريدك أن تتخيل هذا الموقف الصعب، لا يحدثهم أحد سواء من أهلهم أو من أصدقائهم، بل كل المدينة ولا حتى يرد عليهم السلام! عقاب شديد، ولكنهم مرفوعو الرأس بصدقهم بخلاف المنافقين.
تخلف "كعب بن مالك" عن رسول الله مرة واحدة وكان عقابه خمسين يومًا. أريدك الآن أن تسأل نفسك، كم مرة تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل أنت مُتخلف عن المجتمع وعن الوطن؟ هل تعيش لنفسك وللـ أنا؟ اتركوا الأعذار، ودعونا نتعلم من "كعب بن مالك الصدق" مع النفس.
أحلك الأيام:
يقول كعب بعد أن نهى رسول الله أهل المدينة عن كلامهم: "حتى تنكرت لي نفسي" تعبير شديد يصف فيه الحالة السيئة التي وصل إليها، كما أن القرآن الكريم وصف هذه الحالة بقوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ...} (التوبة:118).
ربما يقول قائل: ألم يكن هذا العقاب شديدًا؟ ولماذا لم يسامحه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لتعلموا جميعًا أنه لا تهاون في حق الوطن. الموضوع لا يخص النبي وحده، بل يخص الأمة كلها، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المُربي لهذه الأمة؛ وكأنها رسالة من رسول الله يرسلها إلينا لنتعلم منها أيضًا ولا نتخلف عنه. هل تستطيع أن تتخلف عن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وعن الحوض؟ الأمر يحتاج إلى تفكير وتوبة عن كل لحظة تخلفنا فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يكمل كعب بن مالك قائلاً: "أما صاحبي – "هلال بن أمية" و"مُرارة بن الربيع" – فاستكانا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت شابًّا صغيرًا، فكنت أخرج إلى الناس وأشهد الصلاة في المسجد، وأخرج إلى الأسواق، فوالله لا يكلمني أحد، حتى في السوق أشتري وأبيع ولا يتكلم معي أحد. أدخل إلى المسجد، فأجد النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فأسلم عليه، فأقول: هل حرك شفتيه بالسلام أم لا؟ أدخل في الصلاة لأصلي فألمحه يعايني، ينظر إلي، فإذا التفتُّ إليه التفت عني" أريدك أن تتخيل صعوبة هذا الموقف، الأمر عظيم لأن القيادة حاسمة والمشروع واضح وقوي.
يقول كعب: "فلما زاد همي، تعلقت على صور مزرعة ابن عمي وناديت عليه: يا أبا قتادة، فلم يرد علي وهو يعمل أمامي في مزرعته، فقلت يا أبا قتادة: السلام عليكم، فلم يرد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أناشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يرد علي، فقلت: أقسمت عليك هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يرد علي، فقلت للمرة الثالثة: يا أبا قتادة أقسمت عليك هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيني، ونزلت من الصور أبكي". ويستكمل كعب قائلاً: " فبينما أنا أسير في الأسواق في المدينة، إذا برجل نبطي من أنباط الشام – من فلاحي الشام - معه رسالة وينادي في الأسواق: أين كعب بن مالك؟ فأشار الناس إلي، فجاءني وقال: معي لك رسالة من ملك الغساسنة – وقد علم ما حدث لكعب وهو شاعر عظيم - فأخذت الرسالة لأقرأ ما بها: بلغنا أن صاحبك – أي النبي صلى الله عليه وسلم – قد جفاك، فالحق بنا نواسيك، ويكون لك المنزلة عندنا" معروض عليك أن تلتحق بوطن آخر غير وطنك، فهل تفعل؟ هل ستبيع وطنك إذا حدث لك مثلما حدث لكعب بن مالك؟ إياك أن تنسى وطنك وتستبدله بوطن آخر، وإذا كنت تقيم في بلد وحصلت على جنسية هذا البلد، فهذا أيضًا وطنك وأصبح عليك أن تخدمه، ولكن لا تنسى وطنك الأصلي.
يقول كعب: " فنظرت إلى الخطاب، فقلت: وهذا أيضًا من البلاء، فأخذتها ورميتها في التنور – النار – " كعب بن مالك أصيل ومؤمن على الرغم من الصراع النفسي الذي بداخله، فلم يبع وطنه ولا أهله.
يقول: " فلما اكتملت أربعون ليلة جاءني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لي: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا ولكن لا تقربنّها، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك" زوجتك أيضًا لن تكلمك فهي جزء من المجتمع، وانتماؤها للوطن أكثر من انتمائها لك. هذه المعاني خطيرة جدًّا.
يقول: "أما امرأة :هلال بن أمية" وكان شيخا كبيرا، فذهبت إلى النبي وقالت: يا رسول الله هلال رجل كبير وليس له خادم، فأذن لي أن أبقى معه أنظف له البيت وأعينه، فقال: ولكن لا يقربنك، فقالت: يا رسول الله، والله ما به حركة إلى شيء، ما زال يبكي من يومها إلى اليوم" القصة خطيرة وفي غاية الصعوبة. أرجوكم لا تتهاونوا في التوبة والرجوع بهمة عالية لمساعدة الناس. أفيقوا من الغفلة وأعينوا بلدكم، وقريتكم، وأقاربكم، وأصدقاءكم. ابدأ بمساعدة أسرة وأخرجها من تحت خط الفقر. ساعدهم على التعلّم، أو بإقامة مشروع صغير لهم، ولا تعش لنفسك.
أبشر.. تاب الله عليك:
اكتملت الخمسون ليلة، والعقوبة كانت رادعة، والرسالة وصلت، ووضحت معاني هذه العقوبة، فنزلت الآيات في سورة التوبة، من الآية 117 وإلى الآية 121: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ * مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (التوبة: 117 – 121).
نزلت هذه الآيات في صلاة الفجر، وكان "كعب بن مالك" يصلي الفجر على سطح منزله بسبب شدة همه وحزنه، فلما نزلت الآيات بالتوبة، انطلق رجلان – والكلام هنا لكعب بن مالك – رجل ركب فرسًا، ورجل صعد فوق جبل، انظروا إلى هذا المجتمع المتلاحم، يشعر كل واحد منهم بالآخر، أرأيتم أن الفردية مذمومة؟
يقول كعب: "فقام الذي على الجبل فقال: يا كعب بن مالك أبشر، تاب الله عليك، فكان الصوت أسرع من الفرس". يقول كعب: " فكنت على سطح بيتي، فسجدت شكرًا لله عز وجل" فوصل إليه الرجل الذي ركب الفرس، يقول كعب: "والله ما كان عندي إلا عباءة واحدة، فخلعتها وألبست البشير إياها، واستعرت عباءة من أبو قتادة، ثم انطلقت إلى المسجد، يتلقاني الناس في الطريق أفواجًا، يُسلّمون علي – سبحان الله! الآن يلتفون حوله بعد نزول الآيات وبعدما كان مذمومًا. ألهذه الدرجة القرآن عظيم ويغير الناس بهذه الدرجة؟ - ويقولون لي: لِيهنك – مبروك - توبة الله عليك يا كعب، حتى دخلت المسجد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فابتسم إلي كأن وجهه قطعة من القمر، وكنا نعرف إذا ابتسم النبي وهو فرِح كأن وجهه كالقمر" تخيل الآن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقابلك يوم القيامة، أتحب أن يقابلك وهو يبتسم، أم ينظر إليك كمُتخلف؟ الاختيار لك. يقول كعب: "فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: تعال، فقدمت حتى جلست بين يديه، فنظر إليَّ وقال: أبشر يا كعب بخير يومٍ طلع عليك منذ ولدتك أمك، تاب الله عليك" أتعلم ما هو أجمل يوم في حياتك؟ هل هو يوم زواجك؟ أم يوم إنجابك؟ أم يوم نجاحك؟ أم ماذا؟ دعني أقول لك أن أجمل يوم في حياتك يوم أن يتوب الله عليك ويغفر لك.
فقلت: يا رسول الله – والكلام هنا لكعب – إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي بصدقة إلى الله. انظر إلى كعب وقد فهم أن سبب العقوبة هي التخلف عن المجتمع فأراد أن يصلح خطأه بإخراج صدقة من ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك، فقلت: يا رسول الله، لا بل كل مالي، إن أُمسك فأُمسك سهمي في خيبر، وإن من توبتي ألا أُحدث يا رسول الله بعد اليوم إلا صدقًا فإنما نجاني الصدق" فنزلت الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119).
ماذا عن المنافقين؟ ماذا حدث لهم؟ نزل فيهم قول الله تبارك وتعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ...} (التوبة:95).
من يعاهد نفسه من الآن أنه لن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ من يواجه نفسه الآن وبتوب إلى الله من الفردية؟ اجلس مع نفسك وصارحها كما علمنا "كعب بن مالك"، وابدأ صفحة جديدة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: http://dostor.org/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=3514&Itemid=88