بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
قانون العداوة والبغضاء :
أعزائي المشاهدين ... أخوتي المؤمنين ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لازلنا في قوانين القرآن الكريم ، والقانون اليوم : ( قانون العداوة والبغضاء )، وما أكثر العداوة والبغضاء بين بني البشر .
البشر عند الله وفي ضوء القرآن الكريم لا يزيدون عن نموذجين لا ثالث لهما :
أيها الأخوة الكرام ، حينما قال الله عز وجل :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
( سورة الأحزاب الآية : 72 )
فالبشر بعضهم حمل الأمانة وأداها كما أرادها الله عز وجل ، هؤلاء لهم صفات ، والذين خانوا الأمانة لهم صفات ، تنطلق العداوة والبغضاء من تباين بين نموذجين من بني البشر ، نموذج حمل الأمانة ، وأداها كما ينبغي ، ونموذج لم يحملها فوقع في شرّ عمله .
أيها الأخوة الكرام ، لابدّ من أن نبين أن البشر على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم ، وأنسابهم ، وطوائفهم ، ومذاهبهم ، وتياراتهم ، كل هذه التقسيمات وتلك المصطلحات من وضع البشر ، ولكن البشر عند الله ، وفي ضوء القرآن الكريم لا يزيدون عن نموذجين لا ثالث لهما ، نموذج عرف الله ، فانضبط بمنهجه ، وأحسن إلى خلقه فسلم وسعد في الدنيا والآخرة ، ونموذج غفل عن الله ، وتفلت من منهجه ، فشقي وهلك في الدنيا والآخرة ، بل هو نموذج غفل عن الله ، وتفلت من منهجه ، وأساء إلى خلقه ، فشقي وهلك في الدنيا والآخرة ، ولم تجد نموذجاً ثالثاً .
التناقض بين صفات المؤمنين و غير المؤمنين أحد أسباب العداوة والبغضاء :
من أين تأتي العداوة والبغضاء ؟ أن الذي عرف الله ، واتصل به اشتق منه الكمال ، فهو رحيم ، هو عدل ، هو منصف ، هو لطيف ، هو حكيم ، هو عفو ، مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، فهذا الذي عرف الله ، وأدى الأمانة ، واتصل به ، وأقبل عليه ، اشتق منه الكمال ، فله صفات يتميز بها ، بل يتفوق بها ، أما الذي غفل عن الله ، وتفلت من منهجه ، وأساء إلى خلقه ، خسر هذه الكمالات فصار لئيماً ، حقوداً ، كذوباً ، ظالماً ، متجنياً ، متعجرفاً ، متغطرساً .
فالتناقض بين صفات هؤلاء ، وصفات هؤلاء هو أحد أسباب العداوة والبغضاء وقانون العداوة والبغضاء في هذه الآية الرائعة :
﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾
( سورة المائدة الآية : 13 )
الحكمة من بيان التباين الصارخ بين المؤمنين و غير المؤمنين :
ما دام الإنسان بعيداً عن الله فصفاته تتناقض مع صفات الذي آمن بالله تناقضاً مريعاً ، وقد يسأل سائل : لِمَ لم يجعل الله هؤلاء الذين لم يؤدوا الأمانة في كوكب آخر ؟ لأراحوا واستراحوا ، بل لِمَ لم يجعلهم في قارة أخرى ؟ بل لِمَ لم يجعلهم في حقبة بعيدة عنا ؟ لكن قرار الله أن نعيش معاً ، وأن نلتقي مع بعضنا بعضاً ، وأن يظهر التباين الصارخ بين المؤمنين ، وبين غير المؤمنين .
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
( سورة السجدة )
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴾
( سورة القلم )
أيها الأخوة الكرام :
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
( سورة القصص الآية : 61 )
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
( سورة الجاثية )
رأس الهرم البشري زمرتان هم الأقوياء والأنبياء والبشر تَبَع لقوي أو نبي :
إذاً هناك صنف من بني البشر أدى الأمانة ، فاتصل بالله ، واشتق منه الكمال ، وهناك صنف آخر لم يؤدِ الأمانة ، وانقطع عن الله ، وأصبح يعاني ما يعاني من أمراض البعد عن الله ، أو من أعراض الإعراض عن الله ، لؤم ، كبر ، غطرسة ، أنانية ، ظلم ، عدوان ، هذا التناقض بين صفات المؤمنين ، وصفات غير المؤمنين هو سبب العداوة والبغضاء .
لذلك كما يقال على رأس الهرم البشري زمرتان هم الأقوياء والأنبياء ، الأقوياء ملكوا الرقاب ، والأنبياء ملكوا القلوب ، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا ، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا ، الأقوياء عاش الناس لهم ، الأنبياء عاشوا للناس ، الأقوياء يمدحون في حضرتهم ، والأنبياء يمدحون في غيبتهم ، لذلك أحبّ الناس الأنبياء ، وخافوا من الأقوياء ، بل إن كل البشر تبع لقوي أو نبي .
فهذا الموظف الذي يستخدم ما أوتي من سلطة ، ليستعلي بها على الآخرين هو من أتباع الأقوياء ، وهذا المؤمن يستخدم كماله ، ليؤثر بالآخرين هو من أتباع الأنبياء .
قضية العداوة والبغضاء قضية أزلية أبدية :
لذلك أيها الأخوة ، قضية العداوة والبغضاء قضية أزلية أبدية ، بل إن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية ، فهذا قدر المؤمنين ، وهذا أحد أسباب تفوقهم لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي ، وإن أهل الحق لا يستحقون عطاء الله يوم القيامة إلا ببذلهم ، وعطائهم ، وجهدهم الكبير ، الذي بذلوه من أجل سعادة البشرية .
لذلك ليس من حديث يصلح على هذا الموضوع على قانون العداوة والبغضاء كقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(( والذي نفس محمد بيده : ما تواد اثنان ، ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ))
[ أخرجه أحمد عن ابن عمر]
وقد نفسر هذه المودة ، والمحبة بين المؤمنين بهذا البحث العلمي :
في كل إنسان مجموعة من الصفات ، وفي إنسان آخر مجموعة أخرى ، فكلما كان التقاطع كثيراً بين صفات هؤلاء وهؤلاء ، كان الحبّ والود ، وكلما كان التقاطع قليلاً بين هؤلاء وهؤلاء كانت العداوة والبغضاء ، كلما ازدادت القواسم المشتركة بين إنسانين ، كان بينهما الحب والمودة ، فإذا ابتعدت هذه القواسم المشتركة كانت العداوة والبغضاء .
فلذلك ورد في بعض توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام :
(( لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنا ، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيّ ))
[أخرجه أبو داود والترمذي عن أبو سعيد الخدري ]
أصل النجاح عند كل إنسان :
1 ـ إصلاح العلاقة بينك وبين الله بالإيمان به والتقرب إليه والإقبال عليه :
أيها الأخوة الأحباب ، الله عز وجل يقول في كتابه الكريم :
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
( سورة الأنفال الآية : 1 )
وكل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ،
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
وقد فهم الإمام الغزالي رحمه الله تعالى هذا التوجيه القرآني على ثلاثة مستويات أولاً : أصلح العلاقة بينك وبين الله ، هي في الدرجة الأولى أساس كل نجاح ، ولا ننسى أيها الأخوة ، أنه ليس هناك نجاح جزئي ، النجاح شمولي ، فلابد من أن تنجح في علاقتك مع الله ، وفي علاقتك مع أهلك وأولادك ، وفي علاقتك في عملك ، وفي علاقتك مع صحتك .
فلذلك أصل النجاح أن تصلح علاقتك بينك وبين الله بالإيمان به ، وطاعته والتقرب إليه ، والإقبال عليه ، ومحبته .
2 ـ إصلاح كل علاقة بينك و بين الآخر :
المستوى الآخر :
﴿ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
أصلح كل علاقة بينك وبين الآخر ، أصلح علاقتك مع أهلك ، مع جيرانك ، مع أصدقائك ، مع زملائك ، مع أهل بلدتك ، مع مواطني أمتك ، أصلح هذه العلاقة ، ويصلحها العدل والإحسان .
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾
( سورة النحل الآية : 90 )
3 ـ إصلاح كل علاقة بين كل إنسانين :
ثم ينبغي أن تصلح هذه العلاقة بين كل إنسانين ، كن وسيط خير ، تدخل لرأب الصدع ، ولمّ الشمل ، والإصلاح بين الزوجين ، أو بين أخوين ، أو بين شريكين ، فقانون العداوة والبغضاء ينطلق من قوله تعالى :
﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾
وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
والحمد لله رب العالمين