بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قبل البدء باسم اليوم أوصيكم بالاستعداد والعمل والطاعة وبذل المجهود للعشر الأواخر والليالي الجميلة والقرب من الله تبارك وتعالى، أعاننا الله وإياكم وفتح علينا وعليكم وتقبل منا ومنكم وبلغنا ليلة القدر.
حلقة اليوم لها علاقة بليلة القدر، نصفها الأول نعيش فيه مع ليلة القدر، ونصفها الثاني أن هذا الاسم في هذه الليلة له خصوصية وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. اسم الله العفو. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.. دعاء ارتبط بالعشر الأواخر وبليلة القدر، علمه رسول الله للسيدة عائشة حين سألته: يا رسول الله، أرأيتَ إن أدركتُ هذه الليلة، فماذا أقول؟ قال: ( قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).
للحلقة أربعة محاور:
1. معنى اسم الله العفو، ومعنى كلمة العفو.
2. الفرق بين اسم الله العفو، والغفور، وباقي الأسماء المشابهة، وعلاقته بها.
3. علاقة اسم الله العفو بليلة القدر، وسر ارتباطه بها.
4. كيف نحيا ونُعمّر الأرض بهذا الاسم؟
اسم الله العفو في القرآن: اسم الله العفو جاء في القرآن خمس مرات، مرة مقترن باسم الله القادر "...إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً " (النساء:149)، فقد أعفو عنك وأنا غير قادر عليك، لكن الله سبحانه قدير، قادر عليك، ومع قدرته عليك عفا عنك.
و أربع مقترن باسم الله الغفور "...إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً " (النساء:43)، " فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً " (النساء:99) ليريك الكرم، وليقول لك: يمكنك أخذ هذه المغفرة، ويمكنك أخذ الأكبر منها والمنزلة الأعلى وهي العفو.
ما معنى اسم الله العفو؟ كلمة (عفا) لغوياً في المعجم لها معنيين:
1. أعطيتُه من مالي عفواً: أي أعطيته شيئاً طيباً من حلال مالي، عن رضا نفس، دون أن يسأل "...يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ..." (البقرة:219) وهذا أفضل ما تنفقون من مالكم.
2. العفو: الإزالة، يقولون: عَفَت الريح الآثار: أزالتها ومسحتها، ومنها ما ورد في السيرة في رحلة الهجرة، لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور ومعه أبو بكر، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام، فأمر أبو بكر غلامه أن يمر بالغنم على آثار أقدام أسماء حتى لا يعرف الكفار طريق النبي، فتجد الرواية في السيرة: (فأمر غلامه أن يعفو آثار أسماء بنت أبي بكر).
ثلاثة أمور في اسم الله العفو: يزيل ويمحو، ثم يرضى، ثم يعطي، فهو سبحانه أزال وطمس ومحا ذنوب عباده وآثارها، ثم رضي عنهم، ثم أعطاهم بعد الرضا عفواً دون سؤال منهم. لعلك بهذا فهمت المراد باسم الله العفو، والمراد من هذا البرنامج أن تفهم، وتعيش، وتحب.. أن ننتقل من الكلام إلى الوجدان، من منزلة اللسان إلى منزلة الإحسان ( أن تعبد الله كأنك تراه).
الفرق بين العفو والغفار:
لكي تشعر باسم العفو حقاً، اعرف الفرق بينه وبين الغفار، أسماء الله كلها حُسنى، لكن العفو أبلغ من المغفرة.. كيف ؟ هناك من يتعامل معه الله تبارك وتعالى بالمغفرة، وهناك من يتعامل معه الله بمنزلة أعظم.. بالعفو، فأنت ماذا تستحق؟ أما هو فغفور وعفو.. المغفرة أنك إذا فعلت ذنباً فالله يسترك في الدنيا، ويسترك في الآخرة، ولا يعاقبك على هذا الذنب، لكن الذنب موجود! أما العفو فالذنب غير موجود أصلاً، كأنك لم ترتكب الخطأ، لأنه أزيل ولم تعد آثاره موجودة، لذلك فهو أبلغ.. فقد تكون عملت صغائر، ولم تتقرب من ربنا أو لم تدرك ليلة القدر أو... فتأتي يوم القيامة فتجد الغفور، وقد تكون عملت كبيرة، فتبت وعدت وأدركت ليلة القدر وعبدت الله فيها... فتجد يوم القيامة العفو. والعفو لا يذكرك بسيئاتك لأنه محا، أما الغفور فقد يذكرك بسيئاتك ثم لا يعاقبك، والغفور قد يغفر لك ولا يرضى عنك، أما العفو فراضٍ بالتأكيد.
تأملوا هذا المثال: سيدنا يوسف عليه السلام عندما التقى بإخوته وندموا على ما فعلوا في حقه، قال لهم: " قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ – ثم انظر لبقية الآية - يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ...." (يوسف:92) فهل سيدنا يوسف هنا غفر أم عفا ؟ بل غفر، لا تثريب: أي لا عقوبة، ولكن هل عفا ؟ ثم بعد ذلك بعدة آيات قال: "...وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ..." (يوسف:100) فلم يقل: إذ أخرجني من البئر، لأنها مُسِحَت وانتهى الأمر، فهنا قد عفا وزالت الآثار.
مثال للفرق بين العفو والغفور يوم القيامة: حديث: ( يأتي العبد يوم القيامة، فيقول له الله تبارك وتعالى: ادنُ عبدي، فيقترب العبد، فيرخي الله تبارك وتعالى عليه ستره، فيقول له الله: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ - لاحظوا أن الذنوب موجودة في الصحيفة - فيقول: نعم يا رب، فيظن العبد أنه هالك، فيقول له الله: سترتها عليك في الدنيا وها أنا أغفرها لك اليوم) هذه مغفرة، لكن العفُوّ ماذا يقول لك يوم القيامة؟ ( يا فلان، إني راضٍ عنك لما فعلت في الدنيا، قد رضيت عنك وعفوت عنك، اذهب فادخل جنتي) أرأيت الفرق بين هذه وتلك؟ فأي منزلة تريد أنت؟ والعفُوّ تلقاه يوم القيامة فيقول لك: ( تمنَّ يا عبدي واشتهي، فإني قد عفوت عنك، فلن تتمنى اليوم شيئاً إلا أعطيتك إياه).
كيف يمحو ويعفو؟ ينسيك الذنب، وينسيه للملائكة وملَك الشمال، ويُمحَى من صحيفة السيئات، وتأتي يوم القيامة لا يذكّرك به ولا يسألك عنه.. أنت لم تخطئ.. " وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ " (ق:21)، فحتى الملَك لا يذكر هذا الذنب، وإن كان كبيراً وفاضحاً.. مادام الله عفاه عنك بليلة القدر فالكل سينساه " اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً " (الإسراء:14) فتجد ذنوباً موجودة في كتابك وقد غُفرت، لكن هذا الذنب غير موجود لأنه عُفي. أرأيت إن عفا كل ما مضى؟! كانت صفحة بيضاء وكأن صاحبها نقيّ منذ وُلِد إلى أن مات. " الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " (يس:65) يشهدون على ذنب قبله وذنب بعده، ولا ينطقون بهذا الذنب لأنه عُفي عنه، قد تذكره في الدنيا ويؤرقك لسنوات، لكن في رمضان سنة 2006 عُفي عنك! فحين نموت تفنى أجسادنا ورؤوسنا وتفنى معها الذاكرة، ثم نقوم يوم القيامة بذاكرة جديدة نقية محي منها ما قد عفي عنه فلا يذكره أحد (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).
الفُضيل بن عياض أحد التابعين، يوم عرفة وهو يوم عفو مثل ليلة القدر، وقف يدعو: يا رب اعفُ عني اعفُ عني، فلما غربت الشمس بكى، والأصل أن يُحسن الظن بالله ويستبشر، فسألوه: ألست من تُعلمنا حُسن الظن بالله؟ فقال: ( لست أبكي لذلك ولكن وا خجلاه! وا حيائي منه وإن عفا!) وهذه العشر الأواخر وفيها ليلة القدر، لعل أحد الشباب كان قد تناول المخدرات، أو غش أو أخذ مالاً ليس له، أو أغضب أمه وأبكاها، ثم تاب في هذه الليلة وعفا الله عنه، سيمحوها وسينسيه إياها، وحتى أمه التي أبكاها ستنسى ذلك.. هل الإحساس بالعفو بدأ يدخل إلى قلبك ؟
عفت الريح الآثار: تأمل هذا المثال ولكن تذكر صحيفة ذنوبك أثناء ذلك. العرب في الصحراء يحفرون الخنادق حول خيامهم لينزل فيها ماء المطر، فإذا رحلوا أخذوا الخيام وتركوا الحفر فترى الأرض مليئة بالخنادق، لكن انظر إليها بعد عام، تراها عادت صحراء كما كانت، كيف؟ تمر الرياح فتعفو حتى الخنادق العميقة وليس فقط آثار الأقدام.. أريدك أن تذكر ذنوبك الكبيرة مع هذا المثال، وتذكر العفو سبحانه وتعالى، إن الذي ضرب لك مثلاً من الكون كيف أن الرياح تعفو آثار الخنادق العميقة، قادر أن يعفو، فهو سبحانه وتعالى الذي يحرك الرياح فتعفو تلك الآثار، فأنت أعظم عنده من الرياح والخنادق.
بعد المحو.. الرضا: معنى جميل جداً للعفو، فالعفُو يرضى عنك بعد المحو، فليلة القدر العفو يمحو الذنب، ثم إنه لا يؤنبك عليه، وفي الدنيا قد يسامحك أحدهم ويظل يذكرك بخطئك من آن لأخر، لكن العفو لا يذكرك بذنبك لأنه محي أصلاً وأمره انتهى، ثم يرضى عنك، فأي كرم أكثر من هذا وأي رحمة؟! أفلا تذهب بهذا الاسم وتدعو به طوال الليل؟ اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.
تخلية وتحلية : العفو يشمل هذين المعنيين، فالعفو يخليك من الذنوب، ثم يحليك بالرضا والعطاء. تطهير ثم تعطير، تماماً كما لو أنك أخذت كوباً ملوثاً فنظفته جيداً، ثم ملأته عسلاً. لِمَ كل هذا ؟ لأنه يحبك، يتودد إليك، يريد أن يرحمك فأنت أغلى الخلق على الأرض "... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..." (البقرة:30) خلق الجنة من أجلك، يقول لك: ألا تستحي مني؟! أستحي أن أعذبك ولا تستحي أن تعصاني؟ أعفو عنك ولا تأتيني؟
ماذا لو عفا عنك؟ لو عفا عنك فلا بد أن يعطيك هذه الثلاثة: يمحو آثار الذنوب، ثم يرضى عنك، ثم يعطيك عطاء حلالاً يسعدك ويرضيك دون أن تسأل، وبالتالي فالليلة ليلة هذه الثلاثة، فاجتهدوا. يقول سفيان الثوري: أحب في ليلة القدر الدعاء بما أمر به النبي أكثر من أي شيء آخر، أكثِر فيه من: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني. سليمان الدارني أحد التابعين يقول: لئن سألني يوم القيامة عن ذنوبي لأسألنه عن عفوه، لأني لا أجد لي مخرَجاً إلا أن أسأله عن عفوه.
العلاقة بين العفو وليلة القدر: ولكي نعلم هذا، لابد أولاً أن نفهم العلاقة بين العفو والتواب.
العلاقة بين العفو والتواب: أنت قد تذنب، ثم تتوب وتقول: يا رب، لن أعيدها ثانية، ثم تعود فتذنب نفس الذنب، فتتوب وتقول: يا رب لن أعيدها، ثم تذنب وتتوب الثالثة والرابعة..... وبعدها تصعب عليك التوبة، لماذا؟ فقدت الثقة بنفسك، وتخجل أن تقولها مجدداً فلا تلتزم بها، فتصبح هناك فجوة بينك وبين الله، وتصعب عليك العودة، يصبح هناك حاجزاً ولا تعود تفكر في التوبة، لكن الله يحبك ويريدك أن ترجع، فكيف يزول هذا الحاجز لتتوب من جديد؟ يزول بأمر غير عادي، غير تقليدي، شيء ضخم، هدية كبيرة يتودد بها الله إليك ليكسر هذا الحاجز، هذه الهدية اسمها ليلة القدر، فهي ليلة عفو تمحو كل ما سبقها، فما عليك إلا أن تُقدِم وتُقبِل عليه في هذه الليلة لتبدأ من جديد، حتى وإن لم تكن قد تبت، تدخل عليه بعبادتك، فيقودك العفوّ للتواب، ثم في منتصف الليلة ستخجل وأنت في عبادتك وتقرر التوبة، لأن الجدار بينك وبين التوبة قد زال، فتكون هذه الليلة بداية جديدة لك مع التوبة.
لاحظوا أن اسم الله العفو لا يأتي في القرآن إلا مع الذنوب الكبيرة الرهيبة، كـ بنو إسرائيل لما عبدوا العجل، " وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ " (البقرة:51) هذه لا تكفيها توبة عادية، ولذلك قال بعدها: " ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " (البقرة:52)، وكذلك الذين تولوا عن رسول الله في معركة أحد " إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ..." (آل عمران:155)، فلو صار الحاجز كبيراً فأنت بحاجة لاسم الله العفو.. انظروا لهذه الآية ما أجملها! " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ " (الشورى:30) انظروا لقوله: يعفو عن كثير! فلو حاسب الله الناس بما كسبت أيديهم لما بقوا في الدنيا يوماً واحداً، ولكنه سبحانه يعفو عن كثير، لأن الكثير بحاجة إلى عفو، فيقود إلى توبة.
وهناك علاقة أخرى بين العفو وليلة القدر، فقد سميت ليلة القدر لأن بها تقدّر أرزاق العباد للعام القادم، فما أجمل أن تكون ليلة تقدير وضعك للعام التالي هي ليلة عفو لتبدأ العام الجديد وأنت نقي.
إصلاح الأرض بحاجة إلى إنسان متجدد: فالأمر ليس فقط حب الله لنا ، فالغاية من وجودنا تعمير الأرض وإصلاحها. الإنسان الذي يعيش داخل ذنبه إنسان متعب ضعيف كئيب غير قادر على تجديد نشاطه، ولا على الإنتاج والنجاح والعمل، فتأتي ليلة القدر كل سنة لتجدد الأمة كلها نشاطها وهمتها وطاقتها، لتبدأ من جديد أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع اسم الله العفو لتكون سنة خير على الأمة، فنقول: فاعف عنا جميعاً، ليعم الخير العام القادم على الأمة كلها.
نصوص.. في اسم الله العفو:
تأمل الآيات والأحاديث التي تتحدث عن اسم الله العفو، وتأمل حركة الكون: ( ما من يوم إلا ويستأذن البحر ربه، يقول: يا رب ائذن لي أن أهلك ابن آدم فإنه أكل رزقك وعبد غيرك، وتقول الأرض: يا رب ائذن لي أن أبتلع ابن آدم فإنه أكل رزقك وعبد غيرك، وتقول السماوات: يا رب ائذن لي أن أطبق على ابن آدم فإنه أكل رزقك وعبد غيرك، فيقول لهم الله: دعوهم، لو خلقتموهم لرحمتموهم).
يقولون في الأثر أن العبد العاصي إذا جاء إلى الله تبارك وتعالى في ليلة القدر، وهو شديد العصيان، يناديه: يا رب اعف عني، يا رب اعف عني، يا رب اعف عني، ( فيقول الله تبارك وتعالى للملائكة: لا تحجبوا صوت عبدي عني، فيقولون: يا رب إنه لا يستحق عفوك لقد فعل وفعل وفعل، فيقول الله: ولكني أهل التقوى وأهل المغفرة، أشهدكم أني قد عفوت عن عبدي).
وفي الحديث القدسي: ( ابن آدم، خلقتك بيديّ وربيتك برحمتي وأنت تخالفني وتعصاني، فإن عدتَ إليّ قبِلتك، فمن أين تجد لك رباً مثلي وأنا الغفور الرحيم؟! ابن آدم خلقتك من العدم إلى الوجود وأوجدت لك السمع والبصر والقلب والفؤاد، أذكرك وأنت تنساني، أستحي منك ولا تستحي مني، من ذا الذي يقرع بابي فلا أفتح له؟ ومن ذا الذي يسألني فلا أعطيه؟ أبخيل أنا فيبخل عليّ عبدي؟).
(جاء رجل إلى النبي، فقال: يا رسول الله، إني شديد الذنوب، أرأيتَ إن تبتُ إلى الله الليلة يعفو عني؟ فقال له النبي: نعم، فقال: يا رسول الله، وغدراتي وفجراتي؟ قال: يعفو عنك، وغدراتك وفجراتك، فقال: يا رسول الله، وغدراتي وفجراتي؟ قال: يعفو عنك، وغدراتك وفجراتك، فمضى الرجل وهو يقول: الله أكبر! الذي يعفو عن الغدرات والفجرات). يا إخوتي يجب أن نتوب، فهو قد جعل لنا هذه الليلة لنتوب، " نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ " (الحجر:49،50)
جاء أعرابي إلى النبي فقال: (يا رسول الله، من سيحاسب الناس يوم القيامة؟ فقال النبي: الله، فقال: بنفسه؟ فقال النبي: بنفسه، فقال الأعرابي: الله أكبر! وابتسم، فقال النبي: لِمَ يبتسم الأعرابي؟ قال: يا رسول الله، إن الكريم إذا قدر عفا، وإذا حاسب سامح، فابتسم النبي وقال: فَقِهَ الأعرابي – أي فهم - ألا لا كريم أكرم من الله عز وجل).
ومن عجيب عفوه يوم القيامة، أطفال المسلمين الذين ماتوا، ( فيأتون يوم القيامة فيقول لهم الله: اذهبوا فادخلوا الجنة، فيقولون: لا يا رب لا ندخل حتى يدخل معنا آباؤنا وأمهاتنا، فيقول الله للأطفال: قد عفوت عن آبائكم وأمهاتكم، خذوا بيدي آبائكم وأمهاتكم فادخلوا الجنة).
وعفو خاص لأمة مُحمّد. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( عرضت عليّ الأمم يوم القيامة، فرأيت النبي يأتي وليس معه أحد، ورأيت النبي يأتي ومعه الرجلين، ورأيت النبي يأتي ومعه الرهط، ثم رفع لي فرأيت سواداً عظيماً، فقلت: أمتي أمتي، فقيل لي: لا، هؤلاء موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سواد يسد الأفق، فقيل لي: هؤلاء أمتك، ومعهم سبعون ألفاً عفا الله عنهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا سؤال، فاستزدتُ ربي، فزادني مع كل ألف سبعين ألف).
ثم عفو عجيب لأُناس بعدما استحقوا النار، ترى هل يكون بيننا أحد هؤلاء؟ ليتهم أدركوا ليلة القدر! رغم كل هذه المبشرات إلا أن هناك من سيدخل النار، فهل أولئك ليس لهم عفو؟ بلى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ينادي الله تبارك وتعالى يوم القيامة بعد أن دخل أهل الجنة الجنة، لكن بقي من أمتي أناس في جهنم، فينادي الله تبارك وتعالى: يا محمد، اذهب فأخرج من النار من كان في قلبه من أمتك ذرة من إيمان، فأخرج أناس، لكن يبقى أناس في النار، فأسجد تحت العرش، وأناجي الله في أمتي الذين مازالوا في جهنم، أقول: يا رب، أمتي أمتي.. فيقول الله تبارك وتعالى: اذهب يا محمد فأخرج من النار، ويحدّ لي حداً، فأخرجهم من النار فأدخلهم الجنة، ثم أعود فأسجد تحت العرش، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيحد لي حداً، فأذهب فأخرجهم من النار فأدخلهم الجنة، ثم أعود فأسجد تحت العرش، فيحد لي حداً، فأذهب فأخرجهم من النار فأدخلهم الجنة، ثم أعود الرابعة، فيحد لي حداً، فأخرجهم من النار فأدخلهم الجنة، لكن يبقى من أمتي ما زال في النار، فأستحي من ربي، فينادي الله تبارك وتعالى: شفع الأنبياء، شفع المرسلون، شفعت الملائكة، شفع المؤمنون، شفع حبيبي مُحمّد، أفلا أعفو أنا ؟! فيخرج الله تبارك وتعالى من بقي من أهل لا إله إلا الله، فيخرجهم من النار وقد تفحموا من النار، فيضعهم في نهر يسمى نهر الحياة، فكأنما ينبتون نباتاً، مكتوب على جبائنهم: هؤلاء عتقاء الله من النار، فيقول لهم: اذهبوا فادخلوا الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء الجهنميون - الخارجون من جهنم - فيقول لهم الله: لا، هؤلاء عتقاء الجبار من النار هؤلاء عتقاء الرحمن من النار).
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.. هل أنت مستعد لليلة القدر؟ هل ستذهب بكل كيانك؟ هل عرفت قيمة هذا الدعاء البسيط؟ هذا الاسم العظيم الجليل من أسماء الله الحسنى، الاسم الذي يجعلك تتساقط خجلاً. عيشوا مع هذا الاسم هذه الليالي وأبلغوه للناس.
كيف نحيا بهذا الاسم:
كلمة واحدة.. اعف عن الناس كي يعفو الله عنك. اجعلوها ليلة عفو، لأن هذه الليلة أغلى من الدنيا بما فيها، وقل له: يا رب اشهد، فأنت الكريم العظيم العفو، أنا المخلوق الضعيف عفوت عن الناس يا رب، فاعف عن هذا المسكين الذي عفا.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( رجلان من أمتي جثيا تحت العرش يوم القيامة، فقال المظلوم: يا رب، خذ لي مظلمتي من أخي، فيقول الله لمن ظلم: أعطِ أخاك مظلمته، فيقول: كيف يا رب؟ فيقول: أعطه من حسناتك، فيقول: يا رب فنيَت حسناتي! فيقول الله للمظلوم: فنيت حسناته، فيقول: يا رب فخُذ من سيئاتي فاطرحها عليه، فيقول الله للمظلوم: هل لك في خير من ذلك؟ فيقول: وما خير من ذلك يا رب؟ فيقول له الله: انظر إلى ذلك القصر، فينظر فإذا قصر في الجنة لم ير مثله، فيقول يا رب لمن هذا القصر؟! لأي نبي هذا؟ لأي شهيد هذا؟ فيقول له الله: لمن يملك الثمن! فيقول: يا رب ومن يملك هذا الثمن؟ فيقول له الله: أنت تملكه، فيقول: كيف يا رب؟ فيقول: بعفوك عن أخيك، فيقول: عفوت يا رب عفوت يا رب، فيقول العفو: خذ بيد أخيك فادخلا الجنة سوياً).. أهذا هو إلهنا؟! خالقنا؟ أيحب العفو بين العباد هكذا؟ أهذا ما يأمرنا به؟ هل عندك استعداد للعفو؟ هل يمكنك أن تعفو لو تكلم أحدهم في عرض ابنتك؟
أبو بكر الصديق يوم حادثة الإفك، بعدما برّأ الله السيدة عائشة، أقسم أن يقطع نفقة كان يجريها على مُسطح بن أثاثة، فأنزل الله تبارك وتعالى: " وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ..." (النور:22)، فقال أبو بكر: بلى، أحب أن يغفر الله لي، والله لا أقطع عنه المال ما حييت، وأعاد له النفقة.
يا إخواني، لو تقطعت العائلة واختلف الإخوة، فهذه ليلة عفو، لو ظلمكَ شريكك، لو ظلمكِ زوجك، فهذه ليلة عفو، بالله عليكم لا تبيتوا الليلة إلا وقد عفوتم عن الناس. سيدنا عمر بن الخطاب وقف بين الناس في ليلة القدر، فقال: أيها الناس، كل الناس الليلة مني في حِلّ، ثم التفت وقال: قد عفوت يا رب، فاعف عني.
نخرج من هذه الحلقة بثلاثة أمور: العفو يمحو آثار الذنوب كأن لم تكن وينسيك إياها والملائكة يوم القيامة، ثم يرضى عنك، ثم يعطيك عطاءً حلالاً طيباً يوم عفا عنك.
دعاء ليلة القدر: ولنحرص أن لا تفتر عنه ألسنتنا.. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.. اعف عن الناس بالنهار، يعفُ العفو عنك بالليل.
المصدر: http://www.amrkhaled.net/articles/articles1687.html