بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أهلا بكم وآخر حلقة من برنامجنا دعوة للتعايش، عرضنا فكرتنا ونيتنا وذكرنا الأئمة الأربعة في أربع حلقات للإمام أبو حنيفة، وخمسة حلقات للإمام مالك، وستة حلقات للإمام الشافعي، وكذلك الإمام أحمد ابن حنبل، وكلما مررنا على أحدهم يتعلق القلب به جدًّا، ويصبح فخورًا بوجود مثل هذا الإمام العظيم في تاريخنا.
سنقوم اليوم بتلخيص للحلقات جميعها، ليصبح مثل الكتاب ونضع في آخر صفحة منه الملخص لنقول فيه ما تعلمناه في جميع الحلقات، ولا أخفي عليكم أني تعلمت معكم؛ فقبل هذا البرنامج، كان ينقصني الكثير في علم التعايش والأئمة الأربعة، وكذلك فمن باب التعايش أن أخبركم إننا تعلمنا سويًا، وفي الوقت نفسه، سيستطيع من لم يرَ البرنامج نهائيًا أو من فاته بعض حلقاته فهْم الموضوع بالكامل من خلال هذه الحلقة.
سأكون حريصًا اليوم على عرض 10 نقاط تعلمناها، ثم أُذَكِّر بكل نقطة وأين تعلمناها؟ ومع أي الأئمة؟ وقبل كل هذا أننا تعلمنا أنه لن تحدث نهضة لهذه الأُمة دون معرفة كيفية التعايش سويا، وأن التعايش فريضة وليس ترفا. هذه كلمة للغرب أيضًا الذي أعلم أنه يسمعني الآن، فلم نُقدم دعوة للتعايش كمخطط لأننا ضعفاء الآن – كمسلمين- حتى نصبح أقوياء ثم نُلغيه، بل التعايش ونحن ضُعفاء، وكذلك ونحن أقوياء، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما كان ضعيفا في مكة تعايش مع قريش، وعندما أصبح قويا في المدينة تعايش وقام بعمل الصحيفة بين كل القبائل واليهود الموجودين بالمدينة ليتعايش معهم، ثم مات ودرعه مرهونا عند يهودي.
إذن فهو إيمان وفكرة نحيا بها، وكلٌّ منا يتمنى التعايش مع مجتمعه سواء لأخذ الثواب من الله عز وجل، أو لكي ينجح في الحياة، أو لتقليل الخلاف في بلادنا؛ فعليه بالعشر نقاط التي سأسردها الآن:
النقطة الأولى: تدرب على العمل في فريق:
التعايش يحتاج أن تُجيد العمل ضمن فريق، فنحن لدينا مشكلة، وهي إننا فرديون ولا نجيد العمل سويا، وربما تنجح إذا احتاج العمل لفرد وإذا احتاج لمجموعة تفشل فيه! ولكن إذا وجدت نفسك تنجح وأنت وسط مجموعة؛ فأنت قادر على التعايش وستنجح، سواء في اتحاد مُلاك في عمارة، أو في بحث علمي مشترك في الكلية، أو في عصف ذهني في الشركة، في جمعيات خيرية وجمعيات صناع حياة، في أي مكان فيه أناس يستمعون لبعضهم البعض. من الآن ابدأ في تدريب نفسك على ذلك، ومِن مَن ستتعلم ؟ بالطبع من أبو حنيفة، فهو لديه فكرة كبيرة يريد تنفيذها، وهو أول من سيشكل الفقه لكل الأُمة، وأول من سيرى احتياجاتها لمائة سنة قادمة، فقد كان عبقري يسبق عصره؛ لأنه رأى كيف تطورت الأُمة تطورا مذهلا في عصره؛ فأراد تجهيز فقه يتعامل مع كل المشاكل المتجددة في العصر، فبدأ يُنشئ الفقه التقديري؛ وهو تخيُّل إلى أين ستذهب الأُمة ؟ وما الذي ستحتاجه ؟التطور الاقتصادي- دجلة والفرات- المسلمون الجُدد الذين لا يعرفون العربية- ترجمة القرآن، فهو أول من تكلم فيها سنة 80 هـ.
فقد أراد أن يسبق كل هذه العلوم فكلما تقدم العلم يجد الإسلام مواكبا له، فلا تحدث فجوة بين الإسلام وبين احتياجات العصر فيقول الناس لا نريد الإسلام؛ لأنه بعيد عن احتياجات عصرنا، فعمل على تقديم فقه متقدم يكون له علاقة باحتياجات العصر، ويكون السابق ثم تلحق به العلوم. ولأنه رجل منطقي رأى أنه لن يقدر على هذا وحده؛ فلا يصلح عقل واحد بل لابد من فريق عمل. العقل الجماعي، مثل الأكاديمية وهو أول مجمع فقهي وأول اجتهاد جماعي، فقد اتفق مع ثلاثين عالما ومتخصصا في فروع مختلفة من لغة، وتفسير، وشعر، وحديث وعلم اجتماع، ويتفق معهم على مؤتمر دائم يستمر لمدة ثلاثين عاما! يُخرجون من خلاله فقها للأمة.
فكانت نتائج فريق العمل أكثر ثراءً بكثير من العمل الفردي، وتكون النتيجة أن مذهب أبو حنيفة هو الأشهر انتشارًا في العالم إلى اليوم! وهذا نتيجة التعايش، ووضع القواعد؛ وهو أن رأيه لا يوضع إلا بعد أخذ جميع الآراء، فيقول لتلميذه أبو يوسف : لا تكتب من كلامي شيئا حتى نتفق، ولهذا استمر معه الثلاثون عالما لمدة ثلاثين عاما. ذات مرة اتفقوا على أمر لكن في غياب أحد العلماء، فقال للكاتب : لا تكتب حتى نسأل فلان لعل له رأي، وبهذا هو يحترم من يعملون معه فيشعر الفريق بأن رأيه مُقدَّرٌ، ولذلك فالفقه الحنفي به أجزاء كثيرة عكس رأي أبو حنيفة لكن مطابقة لاتفاق أكاديميته، معنى جميل جدا.
فمن أسباب عدم قدرتنا على العمل داخل فريق عمل أنه بعد العمل بعض الوقت تجد نفسك تريد وضع رأيك أنت، فياليت الآباء والأمهات يدربون أبناءهم على فرق العمل، وعلى ألعاب جماعية، ويدرب أساتذة الجامعة الطلبة على العمل سويا في ورش عمل، فلا يوجد من يخترع اختراع بمفرده، أو بحث علمي بمفرده. نريد إصلاح هذه الجزئية في الواقع، وتقليد أبو حنيفة سنة 80 هـ.
النقطة الثانية: الإقناع بالفكرة:
يحتاج التعايش لاقتناع بالفكرة وتُقنع بها الناس، وليس فرض الرأي بالقوة الذي يؤدي لفقد الأُلفة والاحترام، ويجعل الشحناء هي الغالبة، فأرجو منّا جميعا أن إذا كانت لدينا حُجة، فلا نفرضها ولكن أُقنِع بها، وهذا ابتداءً من الآباء والأبناء حتى الحُكام. أتذكرون أم الإمام مالك ؟ وكيف أن والديه وجداه ليس له في العلم ينما هو صغير وكان يلهو بالحَمام والغِناء؟ قام الأب والأم بحيلة جميلة وطريقة إقناع بالعقل والفكرة، فقام الأب بعمل مسابقة أسبوعية ثقافية بين الأبناء على الرغم من كونهم أطفال - ومالك الابن الأكبر- لكنه أراد إثارة حماسته برؤية أخوته الأصغر أعلم منه، شعر مالك بأنه لا يعرف الإجابة لأنه بعيد عن العلم، وانتهت المسابقة بتفوق الأخ الأصغر، فيضحك الأب ويقول لمالك :ألهتك الحمائم، فيغضب مالك ويُستفز ويقرر أن ينجح في شيء، فيفكر في التوجه للغِناء، فتقول له أمه : إن المُغني إذا لم يكن حسن الصوت، وإن كان جميل الوجه، لا يُلتفت إليه، قال : فماذا أفعل ؟ قالت: أُوصيك بالعلم، ولم تأمره! وأحضرت له ملابس العلماء لتحببه في ذلك، وهولا يزال طفلا، والتي كانت مثل زِيِّ الضابط الآن، فحينما يسير في الطريق يُعجب الناس بزيّه، فذهب لأمه وقال لها: أُريد العلم، قالت له: اذهب إلى فلان فتعلم أدبه قبل علمه. يا آباء، ويا أمهات: لماذا لا نلجأ لطريقة لإقناع أبنائنا بدلاً من طريقة العنف، أو فرض الرأي بالقوة ؟ فهذا هو الذي يُحقق التعايش.
فسيسمع ابنك كلامك، وسيدخل الكلية التي أمرته بها ولكنه سيفشل، وربما يترك أمامك ما أمرته بعدم فعله، ثم يعود للفعل نفسه، فيما بعد. لماذا لا نبحث عن حيل ذكية للإقناع بالرأي؟ لماذا لا نجعل هذه طريقتنا في التفكير؟ فبرنامجنا هذا في النهاية، يُدرب على طريقة تفكير، أتذكرون المنصور - خليفة المسلمين أمير المؤمنين- عندما ذهب للإمام مالك وأخبره بأن فكره في كتاب "الموطأ" رائع وأنه ينوي تعميمه على كل الأمصار وإلغاء أي فقه آخر، بالإضافة لتعليقه في الكعبة وكتابته بماء الذهب والأمر لكل البلاد بالسير على نهجه؟ فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله تفرقوا في البلاد، وعند كل قوم علم وفهم، فإنك إن أجمعتهم على شيء واحد تكن فتنة، مع إنها فرصة العمر لأي إنسان إذا كان يريد الحياة الدنيا، فهو مقتنع بأنه فقهه هو الصحيح ومقتنع أن يُعمم هذا الفقه، ولكن له نية- فإذا كانت نيته سليمة، فلا مانع لأنه يؤمن بأن فقهه هو الصحيح، وإذا كان يريد الحياة الدنيا فهذه أكبر فرصة قد يحصل عليها، إلا أنه رفض لأنه مؤمن بالاختلاف والتعايش.
النقطة الثالثة: البحث عن المساحة المشتركة مع الآخر:
معظم الناجحين في الدنيا يجيدون هذا الفن؛ وهو أن تبحث عن المساحة المشتركة مع الآخر، أتذكرون الدائرتين؟ هذا فكرك وهذه دائرتك، وهذه طريقة تفكير الآخر وآرائه، كلٌّ في جانب.
يبحث الناجحون عن المشترك - حتى إذا رفضوا بقية الفكر- يعملون على نقاط الاتفاق ويقومون بتوسعتها، وتبقى نقاط الاختلاف كما هي. أعظم من أجاد ذلك في الأئمة الأربعة هو الإمام الشافعي، حيث وجد شعراء العصر العباسي يكتبون شعرا ماجنا مليئا بالمعاصي بينما أخذ علماء الدين الموقف العكسي وحرموا شعرهم وكفروا بعض الشعراء، وأمروهم بالشعر الديني فقط، ورد الشعراء بأنهم لا يعرفون الشعر الديني، ففكر الشافعي في تعديل بسيط لتحويل الحرام إلى حلال، وخلق مساحة مشتركة بديلة للخلاف، وأولها أنه هو نفسه يكتب الشعر لكن لونا جديدا غير موجود على الساحة، وهو الشعر الاجتماعي يتحدث فيه عن الصديق، والأقارب، والدنيا، والعلاقات، والتعامل؛ فيبدأ علماء الدين في تصنيفه كشعر حلال، ثم ينتهج الشعراء هذا الطريق في كتابة الشعر، ويقول لهم : إنه الوحيد الحافظ لعشرة آلاف بيت من الشعر، فيذهب الشعراء لتعلم الشعر على يديه، ومنهم الأصمعي الذي كان من كبار الأدباء في عصره، يقول الأصمعي: كان يعطيني الشعر ومعه الدين، ولو كان الحل تكرار كلمة حرام لكل شئ يفعلونه فلن يسمعوها.
النقطة الرابعة: البحث عن المساحة المشتركة مع الآخر:
كثيرون لا يتعايشون بسبب أُحاديتهم؛ بمعنى أنهم يحبون شخصا معينا وبشدة، فيخطأ في حقهم فيكرهونه بشدة، والدنيا ليست هكذا بل علينا أن نزن الناس بحسناتها وسيئاتها، وهذا هو المتعايش الذي سيعيش وسط الناس وسيقبلونه. كان سيدنا حسان بن ثابت شاعر النبي من الذين تكلموا في السيدة عائشة بسوء حينما اتُهمت في شرفها، بعدها بسنوات رأى عروة بن الزبير ابن أختها حسان بن ثابت في الطريق وهَمَّ بأن يتعارك معه ويفتك به، فتقول له السيدة عائشة: لا يا بني دعه، هذا الرجل كان يدافع عن رسول الله، فإن كان أخطأ في حقي فله عند رسول الله منزلة عظيمة.
أتذكرون المعتصم الخليفة وما فعله بالإمام أحمد ابن حنبل من ضرب بالسياط وإيذاء؟ فقال أحمد بن حنبل: عفوت عنه، هو مني في حِل، قالوا: لما؟ قال: لما فعله مع المرأة التي استغاثت به فأخرج من أجلها الجيوش، ونحن للأسف نكون عاطفيين بمعنى أن يخطئ أحدهم خطأ فننسى له كل الخير ونَسُّبه، وهذا ليس تعايش أبداً، ويا ليتنا نتعامل بميزان الإسلام وأن نزن الناس بحسناتهم وسيئاتهم.
النقطة الخامسة: إجادة أدب الحوار وأدب الاختلاف:
فإذا كنت تريد التعايش أرني كيف أدب الحوار والاختلاف عندك؟ أتذكرون أدب الحوار عند الإمام الشافعي؟ هل يعلو صوتك أو تتعصب أثناء الحوار؟ هل تسب أو تشهِّر بمن أمامك في حالة الاختلاف؟ هل ينطبق عليك حديث النبي: (( آيات المنافق أربع ...إذا خاصم فَجَر ))؟ أم أنت راقٍ ولديك أدب حوار عالٍ؟ فتعلم أدب الحوار والاختلاف شيء جميل جدا، أتذكرون قول ابن الإمام الشافعي: ما ناظر أبي أحدا ورفع صوته؟ على الرغم من أنه قام بعمل آلاف المناظرات، أتستطيع أن تكون مثله في أدب الحوار حين يقول: ما ناظرت أحدا وأُريد أن أهزمه؟ ما ناظرت أحدا إلا بنية النصيحة؟ ما ناظرت أحدا ولم أبالِ سيظهر الحق على لساني أم على لسانه؟ أترون الفرق بين هذا وما يحدث في الفضائيات اليوم؟ هناك وصفة تجعل من أمامك يكرهك وهي ألا تُعطي أحدا الفرصة للكلام، قاطعه واجعله يسكت، ولا تعطه فرصة للحديث.
أرأيت قول أبو حنيفة: علمنا هذا هو أحسن ما وصلنا إليه، فمن دلنا على ما هو خير منه تركناه إلى ما قال؟ أتعرف أن تختلف وتكون بهذه الصورة؟ أتكون مثل الإمام أحمد بن حنبل حينما جاء له أحدهم يخبره بتأليفه كتاب أسماه: كتاب "الاختلاف بين الأئمة الأربعة" فقال الإمام أحمد: هلا سميته كتاب "السِّعة"؟ على الرغم من أن رأيه من ضمن بقية الآراء.
يقول عمر بن عبد العزيز: ما فرحت بشيء كفرحي لاختلاف أصحاب رسول الله، لأن ذلك سِعة لنا. أتجيد النظر بأدب الاختلاف بهذه الطريقة؟ وأن تكون مثل الإمام الشافعي حين اختلف مع أبو حنيفة في نقاط عن رفع اليدين في الصلاة، ولكنه حين يذهب لمسجد أبو حنيفة فإنه يُقلده ولا يرفع يده، فيسألوه هل خالفت مذهبك؟ فيقول: لا، لكن احتراما لصاحب هذا القبر.
أتجيد التصرف مثل الإمام أحمد بن حنبل - وهو من سنته الإسرار بالبسملة في الصلاة- الذي قال: إلا في المدينة فإن أهل المدينة يقرأون البسملة بصوت عالٍ، فتقلدهم لتأتلف معهم في قلوبهم؟ أتجيد أن تتنازل عن رأيك في المسائل الفرعية وتُقلد المخالف لك تأليفا لقلبه؛ لأن الألفة أهم من الأمور الفرعية؟ دربوا أنفسكم. هناك كتاب جميل يسمى "أدب الحوار في الإسلام" أصدرته الندوة العالمية للشباب الإسلامي في السعودية، وهناك كتاب جميل للدكتور يوسف القرضاوي عن أدب الاختلاف والحوار، إذا كنت تريد التعايش وأن تجمع سكان عمارتكم، أو أصحابك، أو العمال في المصنع، أو تقوي علاقتك بزوجتك فعليك بأدب الحوار، يقول أحمد بن حنبل: عشت مع زوجتي ثلاثين سنة فما اختلفت أنا وهي في كلمة.
أدب الحوار يعني أن تسمع محدثك، وليس أن تلقي بما قيل بعيدًا لتقول ما عندك، بل تسمع وتتخيل ما يقول وما وجهة نظره، مثل النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأحد الكفار الذين أسمعوه ما لا يليق: (( قُل يا أبا الوليد))، وعندما ينتهي يقول له: ((أفرغت يا أبا الوليد))؟
أدب الحوار هو: كيف يتكلم الأئمة - أبو حنيفة ومالك- عن بعضهم البعض؟ أدب الحوار في الصحف، وفي المساجد، وفي الطرقات لنتعلمه من الأئمة الأربعة. يقول الشافعي: ما رأيت أفقه من أبو حنيفة، ويقول: الناس في الفقه عيال على أبو حنيفة، ويقول مالك على أبو حنيفة: لقد مُلئ علما، ويقول أبو حنيفة على مالك: ما رأيت أفقه منه! ويقول أحمد بن حنبل على الإمام الشافعي: أعظم منةً مَنَّ الله بها على هؤلاء الناس أن رزقهم الشافعي، هذا كله أثناء اختلافهم!
النقطة السادسة: أن يكون لديك ما تُقدمه للآخر:
إذا أردت النجاح في التعايش فيجب أن يكون لديك ما تُقدمه للآخر، فهي حقيقة أن الناس لا تتعايش فقط لأنك تتعامل معهم جيدا فالنوايا الحسنة غير كافية لدى الكثير، بل المصلحة أهم في نظر البعض. ما الجديد الذي لديك لتقدمه ؟ فإذا كان لديك الجديد هو الذي سيبحث عن مساحة تعايش معك، حتى النظرة للمسلمين في العالم، الكثيرون يستنكرون التعايش معهم ويقولون هم عالة على العالم وليس لديهم ما يقدمونه، فالتعايش أحيانا لا يأتي فقط بالأُلفة والحُب، بل يأتي أحيانًا بالمصلحة - وبالطبع ليس مع كل الناس- وأي علاقة تُبنى بين اثنين يكون هناك تفكير عن ماذا سآخذ من خلالها - حتى بين الزوجين-؟ وليس المقصود الماديات فقط بل حتى المشاعر والحب والابتسامة والروحانيات، وربما تجد من لا يأخذ مالا كثيرا في شركته لكنه يتعلم أو يأخذ قيمة وتقديرا أو في شركة ذات مركز كبير، المهم أنه لا توجد علاقة بين طرفين قائمة على أن أحدهم يأخذ ولا يعطي، ولن يكون فيها تعايش.
كان لدى الأئمة الأربعة ما يعطونه، لهذا تجمع حولهم الناس بالآلاف، وتعلم الغرب أيضا منهم؛ فالشافعي قد وضع قواعد في الفقه لكنها طُبقَت على بقية العلوم وهي قواعد للتفكير، فقد اخترع علما جديدا يُسمى علم "أصول الفقه"، وهو كيفية وضع قواعد لأي علم وتستنبط منها مثال على ذلك: القرآن والسُنة وكيفية وضع قواعد لتستنبط منها وتحل مشاكل الناس، وليس مجرد إصدار فتوى كما كان مُعتادًا من قبل، فهو قد وضع قواعد الاستنباط، فأخذها منه ابن رُشد وطبقها في الأندلس، فأخذتها منه أوروبا، فالشافعي صاحب فضل عليها، فهو الذي وضع أساسيات كيفية وضع قواعد للعلوم.
فألف باء الشريعة أن نبحث عن مصلحة الناس؛ فقد بنى الإمام مالك فقهه كله على هذه النقطة بمعنى أن تبحث عن مصلحة الناس فتجد الشريعة، فبدأ التفكير على الدوام في مصلحة الناس وكان هذا تجديدا، فبدأ الناس يجيئون إليه من الأندلس حتى المدينة ليستفتونه - ولو في سؤال واحد-؛ لأنهم يثقون في حرصه على مصلحتهم، فتعايشوا معه حتى إذا لم يأتِ هو لهم وكان في المدينة.
كان لدى الإمام أبو حنيفة جديدا ليقدمه لأنه سبق العالم كله في أنه فكر في الفقه التقديري -وهو ماذا سيحدث قبل أن تحدث المشاكل؟- وأنشأ مدرسة في ذلك عبر مجموعة تفكر في البحث العلمي، فأخذت منه باقي العلوم. أرأيتم كيف كان لدينا ما نقدمه للعالم وللغرب؟ أما الآن فليس لدينا ما نقدمه ولهذا قلقين، وأقولها لكم إن الذي لديه ما يُقدمه سيُتعايش معه حتى ولو على غير رغبة الآخر سيتعايش معه لأنه في حاجة إليه.
النقطة السابعة: التعايش يحتاج حكمة وصبرا:
التعايش لا يريد إنسانا غضوبا؛ فالغضوب لا يعرف التعايش؛ لأنه يظل يبني ويبني ثم يهدّ في خصام. التعايش يريد الصبور، إنسان مثل الإمام أبو حنيفة والإمام مالك، فأبو يوسف يعدُّ أفضل تلميذ لدى أبو حنيفة، وكانت وظيفته أن يكتب ما اتفقوا عليه، فكر في يوم أن يجعل لنفسه حلقة، وهو بهذا سيهدم فريق العمل، وكذلك أبو حنيفة علمه وصرف عليه ويحتاج إليه معه، كان أبو حنيفة صاحب أول منحة دراسية في تاريخ الجامعات، فكان يعطي منحة دراسية ليتفرغ أبو يوسف للعلم لأنه كان فقيرا، وبالتالي فأين الوفاء مما يُريد أبو يوسف فعله؟
لم يتعارك أبو حنيفة معه ولم يبخسه، بل تصرف بحكمة وأرسل له من يسأله سؤالا يعلم جيدا أنه لا يعرف إجابته، فاضطر أبو يوسف أن يجري على أستاذه ليسأله السؤال، فقال له أبو حنيفة إنه كان من الأولى أن يستمروا كفريق عمل سويا طالما أنه غير جاهز للإجابة عن أي سؤال، ثم يقول له : إني قد ادخرتك للمسلمين، يقصد أن الفرصة ستأتيه وسيكبر، فاقتنع أبو يوسف واستمر معه. أحيانا، التفكير في إقناع الآخر بحكمة أفضل من الصدام، ومن أن تفقد أعصابك بشكل يجعل الآخر لا يريد أن يستمر معك.
ثمة حمقى كثيرين في العالم، فإذا تعاركت معهم ومع كل من يسُبَّك، ستترك طريقك الأصلي، كما لو كنت تجري في سباق للخيل، وألقى أحدهم بطوبة عليك فتترك السباق وتلقي عليه بطوبة مثلما فعل، لكنك ستخسر سباق الخيل. إذن، فالحلم والصبر نقطتان غاية في الأهمية للتعايش، قالوا لأبو حنيفة : إنهم يشتمونك ويتكلمون فيك، فلماذا لا ترد عليهم؟ يقول: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ذلك لأنه رجل مُجدد. اعلموا أن أيًّا من يجئ بفكرة جديدة فإنه يُسَبّ، وهذا قدَر أصحاب الأفكار الجديدة.
يأتيه رجل يقول له: يا زنديق، يا فاسق، فقال له أبو حنيفة: الله يعلم أني لست كما تقول، فإن كنت أنت صادقا فاللهم اغفر لي، وإن كنت أنت كاذبا فاللهم اغفر له، ويقول كلمته الشهيرة: اللهم من ضاقت صدوره بنا فاجعل قلوبنا تتسع له، أتستطيع أن تكون هكذا؟ ستكسب الناس بشدة، "...ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"(فصلت:34)، والآية: "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ"(فصلت:35)، والحظ العظيم هو أن من ستصبر عليه ستكسب قلبه وسيذكرها، فالناس يفهمون، والرجل الذي سب أبو حنيفة فور أن سمع رده، قال : تُبتُ فاستغفر لي.
يسأل الإمام مالك رجلا: ماذا يقول الناس عني؟ فقال: بين مُحبٍّ يمدح وبين كاره يقع فيك، فقال: الحمد لله وهكذا الدنيا، فقال الرجل: كيف الحمد لله؟ أرأيت لو أحبوك كلهم أليس أفضل؟ قال: لا، لو أحبوني كلهم إذن يقتلني العُجب، قال: أرأيت إذا كرهوك كلهم؟ قال: إن شتموني كلهم إذن، يصْدُقُ فيَّ ما يقولون عند الله، وهذا دليل النجاح طالما هناك الاثنان؛ لأنك صاحب مبدأ، إذا كان هذا نصيب الأنبياء أنفسهم، وهذه طبيعة أصحاب الرسالات فلا تحزن.
النقطة الثامنة: التعايش يحتاج علماً:
لم يستطيع الإمام الشافعي التصرف مع الشعراء كما تصرف إلا بعد تعلمه الشعر، الإمام أبو حنيفة والإمام مالك أصحاب علم. أتذكرون كلمة أحمد بن حنبل الجميلة، حينما قال له أحدهم : إلى متى تتعلم؟ قال: من المحبرة إلى المقبرة؟ كان أحمد بن حنبل يجمع الأحاديث حتى لا يختلف الفقهاء في الفتوى؛ لكون جميع الأحاديث معهم فلا يخطئون في الفتوى، ويقولوا له: إلى متى العلم؟ قال: حتى الموت، قالوا: هناك من لا يتعلمون ويسبونك أيضا، وناجحون أكثر منك، قال: بيننا وبينهم الجنائز، فسيظهر من صاحب العلم والصبر؛ لأن الناس تفهم. لذلك فالآلاف كانوا في جنازة أحمد بن حنبل، أما من سبوه فلم يسِر في جنازتهم إلا اثنان أو ثلاثة، ومن ساروا في جنازة أحمد بن حنبل كانوا يهتفون بلعن من سبوه. ادرس الموضوع الذي تريد التعايش فيه، واقرأ فيه جيدًا، فقد أنكر القرآن كثيرا على من يتحدث دون علم وقال: "مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ..."(الكهف:5).
النقطة التاسعة: الاختلاف تكامل مفيد:
لتتعايش لابد أن تفهم أن الاختلاف تكامل مفيد، وهي نقطة في العقل وليست عملية. حافظ مالك وأحمد بن حنبل على ثوابت الإسلام والحديث، واستمر أبو حنيفة في التفكير لقضايا المستقبل؛ لأن الإسلام يحتاج للاثنين: يحتاج لمن يحافظ على الثوابت، وأيضا لمن ينطلق بالرأي والقياس إلى الأُفق، فأصبح الاثنان متكاملين، وأصبح الشافعي تكاملا ثالثا بأن وضع لهما القواعد، أيمكنك أن تنظر لكل المختلفين عنك - بداية من زوجتك انتهاءً بجيل الأبناء أن هذا تكامل؟ ولمن يفكرون بطريقة مختلفة داخل الشركة، هذا تكامل؟ لكن إذا نظرت لها على أنها اختلاف مقيت وتريد من الكل أن يفكر مثلك، ستتحول لصدام ولن تستفيد. لكن إذا فكرت كيف تستفيد من الاختلاف؟ ساعتها ستتحول إلى التكامل؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين لحكمة، وبعدها جعل بين كل اثنين في الدنيا أيًّا كانا، ومن أي بلد مناطق مشتركة بحيث "...وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... " (الحجرات:13) طالما (لتعارفوا) فبالتأكيد هناك مساحة مشتركة، لكن الأمر يحتاج لفهم الاختلاف على أنه تكامل مفيد سواء كان في المذاهب أو الرؤية أو السياسة.
النقطة العاشرة: التعايش ليس معناه الذوبان:
التعايش ليس معناه أن أفقد هُوِيَّتِي، أو أن يقول لي الغرب الغِ ثقافتك، وقلد ثقافتي. وليمسخ شباب الأُمة، وهو يُقلد الثقافة الغربية، ثم يقول إنه التعايش! بل لماذا لا تقبل أنت يا غرب أن تتعايش معي وتقبل أن هناك الحجاب، وتقبل أن لدي ثوابت لا يمكنني التنازل عنها؟ فمعنى تعايش أنه هناك طرفين، وإذا ذابوا فلن يصبح اسمه تعايش فسيكونوا شيء واحد، فكيف تحدثني عن التعايش وأن تفرض ثقافتك علي، التعايش ليس معناه أن أترك لك أرضي، التعايش مثل الإمام أحمد بن حنبل المنفتح على كل الدنيا لكن حين تُمس ثوابت الدين والأُمة يقف، ويكون في منتهى الصلابة، هذا هو المتعايش الذي لا يذوب أو يفقد هويته. وليحذر أحدكم أن يفهم من برنامجنا أننا نقصد ذلك، بل نحن نقول نتعايش لكي ننجح ونضمد الجراح وكفانا آلام.
سنقلد الشافعي – ونحن نتعايش- والذي مرّ على كل المدارس بينما احتفظ بشخصيته. سنقلد أحمد بن حنبل الذي وقفت ضده الدنيا وهو مُصرّ على مبدأه. كانت هذه القواعد العشرة للتعايش، يا رب أن تكون وصلت لكم، فنيتنا أيضا أن تكون وصلت. يشهد الله أنه كانت بداخلنا نوايا كبيرة حبًّا لأمتنا وإسلامنا، ولبلادنا وللعالم كله؛ لأنه سيربح بذلك. فمن ضمن نوايانا في البرنامج كلمة للغرب: أن يا غرب نحن أُمة لديها تعايش، وهو الذي يقول إن الفقه سبب قوتنا كأُمة، والذي جاء من أئمتنا من قديم الزمان، أئمتنا الذين هم قمة التعايش.
أريد قول كلمة أخيرة لكل الناس الرافضة للتدين في بلادنا، والخائفة من الإقبال على الإسلام للشباب، ويرون أنه سيؤدي بهم للتطرف والجمود والإرهاب أقول لهم: ها هو إسلامنا، مليء بالتعايش بهذه الصورة فلما تخافون منه؟ لماذا تخافون من المؤمنين؟ لماذا تخافون من الإيمان؟ إذا خفنا على أبنائنا بحق من الذوبان، فلنحصنهم بالإيمان الحقيقي الذي يعلمهم أن جزءًا من إيمانهم تعايش دون ذوبان.
والكلمة الأخيرة التي أقولها لكم، مازال لدينا آمال كبيرة لنهضة أمتنا بأجيال الشباب القادمة، ولا نهضة يمكن أن تحدث إلا إذا تعلمنا كيف نحيا سويا؟ ولابد من وجود تصور لدينا للعلاقات في بلادنا والعالم كله، تصورا قائما على تعايش دون ذوبان ولا فقد للهوية.
أتمنى أن أكون قد ألَّفْتُ بيتا واحدا، أو حقنت دماء أحد، أو احترم أحدٌ في الغرب الإسلام من خلال هذا البرنامج.
المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1118
Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة
يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع
management@daraltarjama.com :للاستعلام