بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اليوم نبدأ مع إمام جديد نتعلم منه التعايش، ونضرب به المثل في التعايش، وموضوعه حساس لأنك عندما ترى هذا الإمام لأول ولهة أول ما يخطر بذهنك أن هذا الإمام غير متعايش مع من حوله، بل هو صلب جدًّا وغير مرن، والبعض يروج لهذا المعنى - ليس فقط في طريقة حياته بل في فقهه أيضاً- وهو الإمام العظيم، الإمام الرابع من الأئمة الأربعة، الإمام بن حنبل.
والكلمة الشائعة حينما نقصد التشدد والتصعيب" هل أنت حنبلي؟"، لكنك ستفاجأ ونحن بصدد الحديث عنه الآن أنه غير متشدد وأن فقهه من أيسر الفقه.
معنا عالم متخصص وأستاذ كبير في جامعة "ابن سعود" في السعودية ليعرض علينا التيسير فيفقه الإمام أحمد ابن حنبل، لكن الزاوية التي سآخذها هي حياة ذلك الرجل، وكما ذكرنا أن الإمام الشافعي كان يبحث عن المنطقة المشتركة بينه وبين الآخرين لنتعاون جميعًا ونتفاهم في هذه المنطقة المشتركة. تخيلوا أن الإمام ابن حنبل - بطريقته هو وليس بطريقة الشافعي أو الطريقة التي تتصورها أنت - قام بالعمل ذاته.
حينما نذكر الإمام أحمد بن حنبل يأتي في ذهننا شيئان يمثلان قيمته العظيمة:
1. أول من جمع السنة فهو إمام السنة:
وقد كان دافعه لهذا حرصه – كما كان الشافعي- على تجميع الأمة حيث أدرك أن المشكلة بين العراق والحجاز ليست فقط كما وضع الإمام الشافعي قواعد للأخذ بين المدرستين بل هناك مشكلة أخرى؛ وهي أن الأحاديث النبوية ليست لدى كما هي فيعصرنا الحالي مدققة ومصححة، ومتاحة في الكتب، وعلى اسطوانات الكمبيوتر، وعلى صفحات الإنترنت، بل فيوقتهم– في أوائل القرن الأول والثاني الهجري - لم يكن الأحاديث قد بدأ تجميعها بعد، لذلك فقد كانت المشكلة أن بعض علماء العراق كانوا يفتون لأن هناك بعض الأحاديث لم تكن قد وصلت إليهم بعد، لذا فقد كان أبو حنيفة عندما يتصدى للفتوى في موضوع معين ثم يعلم أن هناك حديثا عن النبي في هذه الموضوع كان يتراجع عن فتواه، فتنبه ابن مالك لهذا الأمر ونذر عمره لحل الخلاف بين المسلمين، وهذا إيمان عظيم. أتدرون ماذا فعل؟ أدرك أن الحل هو أن يجوب أحدهم العالم الإسلامي ويقوم بتجميع الأحاديث كلها - والتي كانت موجودة في ذاك الوقت موجودة في صدور الرجال- كلٌّ يحفظ مجموعة من الأحاديث.
فقد أخذ كثير من العلماء الأحاديث عن الصحابة، فقد كان عمر بن الخطاب حريصًا على انتشار الصحابة في البلاد، فانتشرت معهم أحاديث النبي فيكل البلاد بعدما كانت مقصورة على المدينة فقط في السابق، فأصبحت موجودة فيكل مكان، وبالفعل قام الإمام أحمد بن حنبل - بعد التدقيق- بتجميع الأحاديث كلها في كتاب موجود إلى الآن اسمه "مسند الإمام أحمد ".
وقد سأله ابنه: "يا أبت لِمَ لم تؤلف كتابًا في الفقه؟"، قال:" يا بني، جعلت هذا الكتاب إمامًا، إذا اختلف المسلمون رجعوا إليه فلا يختلفوا".
وبدأ يرد على مدرسة الرأي قائلا:" إن أحاديث النبي فيها كفاية عن أن تأخذ بالرأي وها هي تلك الأحاديث".
وعلى الرغم من ذلك، نجده الإمام الوحيد الذي لم يعب في أي مدرسة أخرى، فلن تجد كلمة واحدة من كلامه يعيب فيه على كلام أبو حنيفة رغم أنه غير موافق على مدرسته. فقد كان عف اللسان جدًّا - على الرغم من أنه كان صلبًا صلابة غير عادية – وهذا هو النموذج الذي يجب أن يتعلمه كل من يعشق الإمام أحمد بن حنبل، فلو اجتمعت الدنيا كلها عليه من أجل مبدأ، تتراجع الدنيا كلها وتتكسر، وهو ثابت ثباتًا عجيبًا يجعلك تظن أنه غير مرن، وفي الوقت نفسه لا يسيء إلى أحد أبدًا، بل يلتمس العذر لأصحاب المدارس الأخرى بأنه لم تصل إليهم كل أحاديث النبي، فلا تجد منه كلمة عن الإمام الشافعي أو أبى حنيفة أو مالك، بل بالعكس يقول إنه تعلم من الثلاثة.
فيقول عن أبى حنيفة: "إنه أول من تعلمت منه هو أبو يوسف تلميذ أبى حنيفة وأخذت منه مسائل كثيرة دقيقة لا يعلمها إلا أبو يوسف". أرأيتم التقدير على الرغم من اختلافه معهم؟ هذا هو فن التعايش الذي نتحدث عنه الذي يوسع من المساحة المشتركة ولا يضيقها.
ويتحدث عن مالك أيضًا يقول: "فقدت مالك، فأخلفني الله بسفيان ابن عيين ينقا إلى فقه مالك" أي يا ليتني عشت أيامه. فقد ولد ابن حنبل بعد وفاة مالك، ويحمد الله أنه تعلم فقه مالك العظيم.
ويتحدث عن الشافعي يقول: "إذا وجدتم مسألةً لا أستطيع أن أجيبَ عليها فارجعوا إلى فقه الشافعي، فما يقوله الشافعي فأنا معه".
فعلاً الإمام أحمد ابن حنبل شخصية نادرة، قماشة ليس لها مثيل، وقد أختلف أنا شخصيًا معه وأؤيد الاجتهاد بالرأي كما الإمام أبى حنيفة، لكن هذا لا يمنع أن الإمام بن حنبل رجل عظيم، فالتعايش إخوتي ليس أن تكون وجهة نظرك هي الصحيحة، بل انظر للموضوع من كل وجهات النظر.
وهو بذلك قد ساعد البخاري الذي نعتبره أدق كتاب في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فأحمد ابن حنبل هو من مهد له الطريق، والإمام مالك – بإعداده "الموطأ" الذي به أحاديث النبي- هو الذي مهد الطريق لأحمد ابن حنبل، فهي سلسلة.
أرأيت كيف تكبر الأمة بتسليم كل واحد للآخر نتيجة جهده ليبنى عليه مع أن الفروق بينهما أجيال؟ بينما الآن، فكل واحد جديد يهد من قبله، ويمحو أسماء من سبقوه ليكون هو الوحيد الذي قام بالبناء، قارن هذا بالأئمة الأربعة سنجد كل منهم يقول: لولا فلان ما تعلمت. فكلهم تلاميذ بعض: أحمد ابن حنبل تلميذ الشافعي، والشافعي تلميذ مالك، ومالك كان يأخذ عن كتب أبى حنيفة، وهذا ليس عيبًا وكلهم اعترفوا به. لا أحد يهد الآخر، إنما كلٌّ يقوى الآخر وهذا ما تحتاجه بلادنا جداً.
2. الثبات عند المحنة حيث حافظ على تبسيط العقيدة:
حيث كان الإمام أحمد بغدادي المولد والمنشأ والحياة والممات على الرغم من سفره الكثير، وبغداد تعنى الترجمة والثقافات الأخرى، والأفكار اليونانية والفارسية، وأفكار كارهة للإسلام تريد أن تدس في الإسلام أفكار جديدة تفسد نسيج الإسلام الجميل السهل، فظهر المعتزلة يريدون أن يروجوا لفكرة أن الإسلام دين معقد على الرغم من أن أجمل شيء في الإسلام أن عقيدته سهلة، يقول الله تبارك وتعالى " وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعبُدُوا اللهَ مُخلِصِينَ لَه ُالدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَلاةَ وَيُؤتُوا الزَكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ " (البينة:5)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما بعثت بالحنفية السمحة" أي دين سهل غير معقد.
بدأ المعتزلة يضيفون أشياء معقدة كما حدث في الأديان الأخرى، وكما حدث في الإمبراطورية الرومانية من تعقيد فيبعض الأشياء في الدين المسيحي، وإدخال أشياء معقدة على العقل البسيط يصعب أن يفهمها بينما العقيدة سهلة، إله واحد نعبده، وهذه حلاوة الإسلام. بدأ المعتزلة يتوددون للحكام، ويصبحون جزءًا من الوزارة، وحاولوا تعميم طريقتهم على الناس فتظهر محنة اسمها خلق القرآن، ويبدأ الإمام أحمد بن حنبل بالتصدي لهم وحده ويقول: لا لتعقيد الإسلام.
هذا هو الإمام أحمد ابن حنبل الذي كنا نعتقد أنه متشدد بينما ينادى بضرورة بقاء الإسلام بسيط، وعفوي سهل العقيدة: إله واحد لا شريك له، أرسل أنبياء كلهم يكملون بعض، ونحن نعبده بالوسيلة التي أمرنا أن نعبده بها ونصلح في الأرض.
كان المعتزلة يدعون أن القرآن مخلوق كمخلوقات الله، وليس كلام الله الأزلي. تصدى لهم الإمام أحمد بن حنبل؛ لأن هذا كان مدخلهم لتعقيد الإسلام، وتكسر الجميع وبقى الإسلام عقيدة جميلة سهلة بفضل ذلك الرجل، فالذي فعله أحمد بن حنبل يحتاج أجيال ورجال:
1. جمع السنة.
2. حافظ على تبسيط العقيدة وتصدى لتعقيدها.
كم هو عظيم هذا الرجل! عندما نتحدث عنه نستشعر العظمة، وعندما نذكر اسمه فنحن نذكر رمز المحافظ على عقيدة المسلمين. أتتخيلون عمّا نتحدث؟ عن السنة، والعقيدة عن جذور هذا الدين. نتحدث عن رجل بمفرده قام بالعملين العظيمين، وأنا اليوم لن أستطيع أن أتناول إلا الأولى: المحافظة على السنة، كيف جمع الحديث وبأي نية؟ نية هدف برنامجنا هذا: التعايش، جمع الفقهاء، جمع العلماء.
اليوم نتناول المحافظة على السنة، قضية تصديه لحل مشكلة الخلاف بين المسلمين وتفرقهم عن طريق تجميع أحاديث النبي مما يوحد الفقهاء على المادة الخام التي يعتمدون عليها فبفتواهم - وهي القرآن وأحاديث النبي فلا يختلفون-.
عاش الإمام أحمد ابن حنبل من عام 164هـ وحتى عام 241 هـ - أي 77 سنة- أي عمر الإمام أبى حنيفة نفسه - تقريبا-، وهو آخر الأئمة الأربعة، وهذا لا يعنى أنه ليس هناك أئمة بعدهم، فهناك أئمة ومجتهدون، لكن هؤلاء هم الأئمة الكبار العظام الذين أثروا الفكر الإسلامي، ووضعوا التجديد والرؤية. كان أصله من قبيلة عراقية عريقة اسمها "بني شيبان" فمن أجداده "المثنى بن حارثة"، وقد قابل النبي صلى الله عليه وسلم هذه القافلة وطلب منها أن تحميه، فهي من أقوى القبائل العربية، وكما يقول ابن الأثير: هم الأعزُّ جارًا والأقوى منعة والأكثر ناسًا فعددهم كبير. عندما طلب منها النبي الحماية ردت بالرفض؛ لأنهم من العراق على حدود الفرس، وأي فعلة منهم تجاه العرب فعذر صاحبه مقبول وذنبه مغفور-أي يفعلون مع العرب ما يشاءون- أما ما كان من ناحية الفرس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، فانصرف النبي عنهم وهو يشكر وضوحهم معه "جزاكم الله خيرًا إذ أفصحتم بالصدق"، ومال على سيدنا أبى بكر مادحًا أخلاقهم على الرغم من كونهم غير مسلمين " أي أخلاق في الجاهلية هذه".
فانظروا إلى سيدنا محمد وقبوله أن قد توجد أشياء محمودة في الآخر، وأنه ليس كله خطأ. لذلك انظر للقرآن وحلاوته تجد القرآن دائمًا يقول: منهم ومنهم، أي منهم أناس سيئون، ومنهم أناس خيرون. "وَمِن أَََهلِ الكِتَابِ مَن إِن تَأمَنهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيكَ وَمِنهُم مَن إِن تَأمَنهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدّهِ إِلَيكَ إِلَّا مَا دُمتَ عَلَيهِ قَائِمَاً" (آل عمران: 75) وأحيانًا يقول القرآن "إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ " ( المائدة: 13) فالإسلام يعلمنا أنه لكي تستطيع أن تتعايش يجب أن تعلم أن الناس جميعًا ليسوا متشابهين، وليس لاختلاف أحدهم معي في الرأي أن نترك التحاور معه، ليس هذا فيديننا، لذلك شكر النبي فيبنى شيبان على الرغم من عدم مساعدتهم له.
وقد خرج منهم بعد ذلك " المثنى بن حارثة" وهو أول من هاجم دولة الفرس في الفتوحات الإسلامية، وهو الجد الأكبر لأحمد بن حنبل، فقبيلته قبيلة عريقة أصلها عربي ،وأصلها صلب ويبدو أن الإمام أحمد أخذ منهم صلابته. كان ابن حنبل فقيرًا جدًّا. لعلكم تذكرون كم كان الإمام الشافعي فقيرًا، فالإمام أحمد كان أفقر منه، فقد اغتنى الإمام الشافعي في آخر عمره وكان فقره شديدًا لكنه فقر مقبول، بينما كان فقر الإمام أحمد ابن حنبل غاية في الشدة مما تتعجب له مع الصلابة الشديدة وهو زاهد زهدا كبيرًا، تأتيه الدنيا ثلاث مرات ويردها، وقد يفضل أحدكم الإمام أحمد على أبى حنيفة الغنى، لكن التعايش أن نقبل كل واحد بطريقته.
ولد الإمام أحمد ابن حنبل في بغداد، وعندما بلغ ثلاث سنوات مات أبوه وجدّه في السنة نفسها، وهو يقول: "ولدت فلم أرَ أبى ولم أرَ جدي، وربتني أمي - وهو في هذا قريب جدًّا من الإمام الشافعي-.
وقد نذرت أمه نفسها - وقد كانت صغيرة السن، فقد توفي أبوه وعمره ثلاثون عامًا ، فكانت أمه غالبا في العشرينيات - لتعليم هذا الفتى العلم والورع والإيمان والدين، وكانت مهتمة جدًّاَ بالجانب العبادى وجانب التقوى، فقد نشأ أحمد هكذا – حيث كان يحمل العديد من صفاتها-.
حفظت القرآن ثم تعلمت القراءة والكتابة، وكانت أم شديدة الذكاء، وعلى الرغم من فقرها إلا أنها اهتمت بمهارات ابنها، وهذه نصيحة للأمهات: من منكم تهتم بمهارات ابنها وتغرسها فيه لعل الله يبارك في هذه المهارة في المستقبل ؟ فاهتمت بتجميل خطِّه حيث أحدثت هذه المهارة فارقًا في مستقبله.
فأصبح يقرأ ويكتب، حفظ القرآن على الرغم من أن عمره ست أو سبع سنوات، وأصبح جميل الخط. كانت أمه شديدة الحنان، أضرب لك مثالاً على حنانها: كان الإمام أحمد في بداية تعلمه نهم جدًّا للعلم؛ فكان يحب الذهاب للمسجد قبل صلاة الفجر ليحجز كرسيًّا في الصف الأول أمام المعلم. كان يخرج في الليل فيقول: كانت أمي تأخذ بثيابي وتقول لي: ابق حتى يؤذن للناس ثم اخرج بعد ذلك يقول: فأقاوم نهمي طاعةً لأمي.
انظروا يا شباب لطاعته لأمه، فهناك شباب الآن ينفر من حنان أمه بحجة أنه رجل كبير!
أتى إلى بغداد فقيه اسمه "جرير بن عبد الرحمن" قادما من بعيد لإعطاء دروس. نزل بالشاطئ الشرقي لدجلة، حيث يذهب الناس كلهم إليه، وكان أحمد بن حنبل بالطبع شديد الحماسة للذهاب للتعلم منه فقد حدث ذات مرة ارتفاع فينهر دجلة لدرجة أن والى بغداد أمر بعدم عبور أحد للفرات، لكن الفقهاء تجاسروا وأصروا على العبور لرغبتهم في ملاقاة الفقيه جرير للتعلم منه، وكان لأحمد بن حنبل صديق قال له: "ألا تأتى معنا؟" فقال: "قالت لي أمي لا تذهب ولا أريد لقلبها أن يتغير". وكان عمره في ذاك الوقت حوالي سبعة عشر عامًا –أي فترة المراهقة- بينما يردد الشباب اليوم أن أهلهم لا يريدونهم أن يتدينوا، فلا يلتفتون لهم ولا لآرائهم.
فكانت الأم شديدة الحنان – وفي الوقت نفسه- كان الإمام أحمد بن حنبل حريصًا على إرضائها، ولا يكبت عاطفتها، فهذا تعايش ذكى من الابن مع الأم. كيف يتعايش معها؟ كيف يشعرها أن حنانها هذا غير مكروه من جانبه؟ لكن – في الوقت نفسه- ممكن أن يضيع حنانها هذا علمه، لذا أصبح الإمام أحمد يذهب لبعض الدروس دون أن يخبرها.
وهو يحكى ذلك فيقول: "رحت مرة إلى الكوفة لأتعلم العلم دون أن أستأذن أمي وكان عمري ستة عشر عاما، فأصابتني في الطريق الحمى، فرجعت إلى أمي معتذرا إلى ربى". لكن الأم ذكية، لم تقل إنها أفنت عمرها لأجله لذا يجب ألا يبرح جوارها طوال عمره بل فهمت ما حدث، وبدأت تعطيه البراح. وهذا تعايش منها هي أيضا.
وفي هذا درسٌ للتعايش بين الآباء والأبناء، الابن يجب أن يأخذ مساحة من الحرية حتى ينتج، والأم خائفة عليه لكن لو استمرت فيخوفها عليه سيضيع منها تماماً.
فبدأت تعطيه البراح وبدأ هو ينطلق. بدأت تهتم بعبادته جيدًا، وما أجمل أن نرى أمهات تتعبد وتقول لابنها: "تعال نصلي معا"!
يقول أحد العلماء الكبار "إبراهيم بن شماس": " كنت أرى بعيني الإمام أحمد بن حنبل وهو غلام يقوم الليل حتى الفجر حيث تدفعه أمه لذلك، فقلت لنفسي: إذا عاش هذا الغلام فسيكون عالمًا". ونحن عندما نرى أحدهم الآن لا يهتم بأمور دنياه اهتمامه بقيام الليل نخاف عليه الفشل بينما كان مفهوما لديهم في الماضي أن من يقوم الليل سينجح.
لكن لِمَ فهموا ذلك؟ لأن الله تبارك وتعالى يقول " إِنَّ لَكَ فِي النَهَارِ سَبحَاً طَوِيلًا " (المزمل: 7 ) أي لديك عمل كثير بالنهار، والحل فيقوله تعالى " يَا أَيُهَا المُزَّمِّل قُم اللَّيلَ" (المزمل: 1) وقوله" إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً" (المزمل: 6)
عندما كان عمره أربعة عشر عاما، كان له عمٌّ يعمل في ديوان الخليفة المنصور،أي في البريد، كان يكتب رسائل الخليفة إلى خارج البلاد، ويتلقى الردود من الخارج، فقال عمه لرئيس البريد أن لديه ولد خطه جميل جدا لكنه صغير عمره أربعة عشر عاما، لكنه ذكى جدا. واقترح عليه أن يشارك في الديوان إذا ما مرض عمه، فاستقدموا الغلام، وبدأ يعمل في الديوان يكتب الرسائل، يقولون: "ما رأينا أعجب منه كان يقرأ فإذا وجد شيئاً حرام يرفض أن يكتبه"، فكانوا يتعجبون من ولد صغير السن بهذا الورع!
وقوله هذا معناه تمييزه الحلال من الحرام، يقول رئيس الديوان: انظروا لهذا الغلام كم هو ورع لله، فكيف أنتم؟ وكان يقول: "كنت آتى بالمؤدبين يؤدبون أولادي فلا يفلحون، ولكن هذا الغلام اليتيم قد بلغ من التقوى والورع ما يجعلني أقول أنه سيكون له شأن".
فالرسائل بها الجيد، وبها القبيح فكما بها الجهاد، والفتوحات، والانتصارات، وعز الأمة بها أيضا المكيدة، والوقيعة، والقتل، والجواري، والأموال التي ذهبت فيخطأ معين.
فقد أعطاه الله فرصة أن يتعايش مع المجتمع - وعمره أربعة عشر عاما-، أصبحت أمور الدنيا كلها أمام عينيه، وفي متناول يده بميزة المهارة وهذا إعداد من الله سبحانه وتعالى له فمن يريد أن يكون ناجحا يجب أن يتعايش، وهذا ما حدث مع الإمام أحمد بالإطلاع على ما يحدث في الدنيا، وبالاحتكاك الذي يولد رجالاً وأناسا ناجحين في الدنيا. فالتعايش للنجاح وليس فقط للتعامل مع المختلفين معك. يقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه".
بدأ الإمام أحمد ينسخ الكتب بالأجرة لشدة فقره - وكان عمره ستة عشر عاما- وكان لجمال خطه يأتي إليه كل من يريد أن يكتب كتابا، أو رسالة يستأجره ليكتبها له. وكانت له طبيعة غريبة جدا؛ أنه يأبى أن يساعده إنسان - مهما كانت درجة احتياجه للمساعدة- حتى لو عرضها عليه أحد من أولياء الله أو من الأقارب، وهذا عكس الإمام مالك والإمام الشافعي، والتعايش أن كلا منا له شكل؛ سأقبلك بشكلك وأنت تقبلني بشكلي، هذه هي طبيعة الإمام أحمد متعففا لأقصى درجة. قد يقول أحدكم إنها مبالغ فيها، لكن هذه طبيعته حتى في أشد لحظات احتياجه كما سنرى بعد قليل.
نبدأ الآن رحلة العلم وعمره ستة عشر عاما حيث يقول: "بدأت تلقي العلم في بداية حياتي على يد أبى يوسف تلميذ أبى حنيفة".
قال له أحدهم: "نرى معك مسائل دقيقة للغاية من أين أتيت بها ؟" قال :"من علم أبى يوسف".
بدأ يسمع لأبى يوسف، ويسمع لمدرسته ومدرسة أبى حنيفة، وهي مدرسة الرأي؛ أن نجتهد لنواكب الأحداث، فلم يعجبه هذا الرأي، فبعدما تعلم علم أبى يوسف، تركه غير مقتنع بصحة هذه المدرسة.
وأنا لست فقيها ولكن رغباتي كإنسان قد تميل لأبى حنيفة لكن – في الوقت نفسه - معجبا بالإمام أحمد بن حنبل؛ لأنه لم يذب فالتعايش ليس معناه أنه يجب علي أن أتقبل أفكار الآخر لكن أن أتقبلك كإنسان، أتعامل معك، وأحترمك، فلم يذب الإمام أحمد بن حنبل - وعمره ستة عشر عاما- قائلا لنفسه إن أبا يوسف قاضى القضاة، وتلميذ أبى حنيفة، فلا يعمل عقله معه.
فبدأت الفكرة فيعقله منذ عمر ستة عشر عاما، وفك: "لو أنني طفت بلاد المسلمين، وجمعت من علماء الأمة الذين لا يتقابلون معًا أحاديث النبي- أجمعها كلها في كتاب - فأجمع الأمة وأجعل هذا الكتاب إماما إذا اختلفوا رجعوا إليه، أكون قد فعلت لسنة النبي فعلاً عظيماً."
وهذا في عمر ستة عشر عاما. فمن منكم لديه هدف في حياته؟ من منكم يا شباب، ويا بنات يحيا لأجل هدف؟ كان لدى الإمام أحمد بن حنبل هدف وهدف سامٍ.
فبدأ بأبي يوسف الذي تعلم منه كيف تسير الدنيا؟ ثم انتقل لعالم كبير من علماء بغداد اسمه هشيم بن هشام، وبدأ يتردد عليه. كان لديه أحاديث كثيرة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: "جمعت منه ثلاثة آلاف حديث، حتى علمت أنني قد استنفذت علم بغداد، فقلت: أين أذهب؟" فبدأت رحلته للانتقال داخل مدن العراق، فذهب لثلاثة بلاد: البصرة، الكوفة، واسط. وقد وافقت الأم؛ لأنها أدركت وجوب تعاملها مع هذا الأمر. فيبدأ بالكوفة، وقد تردد على وكيع صديق الإمام الشافعي، أتذكرون قول الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال لي إن العلم نور ونور الله لا يهداه عاصي
وأذكر لك شيئا تتعجب له، وتعلم كم كان أحمد بن حنبل مكافحاً! فقد حج ثلاث مرات ماشياً ولا أعني داخل المناسك أي من مكة لمنى لعرفة، لا، بل أعني من العراق ماشيا. وأكثر من هذا كان يحج وليس معه إلا خمسون دينارًا ادخرتها له أمه، يأكل ويعيش منهم، لمَ كل هذا؟ ليجمع الأحاديث النبوية. فقد حج خمس مرات، الأولى حجة الفريضة، والباقي لتجميع الحديث.
كان يبيت دومًا في الكعبة، وفي إحدى المرات، استضافه أناس في بيتهم، فجلس يغسل ثيابه فسرقت، فبقى في البيت يومين؛ لأنه ليس لديه ثياب أخرى كما أنه لم يطلب من أحد شيئا.
فجاء أحدهم يسأل عنه فقيل له: "محبوس بالمنزل لا ندرى لِم لا يخرج؟"، فدخل إليه فوجده وقد تلفح بملاءة فقال له: لِم ؟ قال: "سرقت ملابسي"، قال: "أليس عندك غيرها؟ أجئت هكذا من العراق؟"، قال: "نعم"، قال: "فخذ هذا المال"، قال: "أنا لا آخذ من مال أحد"، قال: "فكيف أساعدك؟"، قال: "إن كنت تريد كتابا أنسخه لك، نسخته لك"، فقال: "نعم، اكتب لي هذه الرسالة"، قال أحمد: "فكتب له هذه الرسالة بدينارين، وقلت له: اشترى لي بدينار ثوبا وبدينار خبزا".
فذهب الرجل إلى العراق وهو يقول: "أتدرون خطَّ مَن هذا؟" فيقولون: "لا"، فيقول: "هذا خط أحمد بن حنبل نسخها لي بدينارين كي يأكل ويلبس"، فاتفق مع صديقه "يحيى بن معين" أن يذهبوا بعد الحج من مكة إلى صنعاء قبل العودة للعراق؛ فصنعاء أقرب إلى مكة، وأثناء أدائهم لطواف الوداع، وجدوا "عبد الرازق بن همام" يطوف معهم فقال يحيى بن معين: "الله أكبر، اللهم لك الحمد، جاء الله به إلينا بدلاً من مسيرة شهرين" فذهب يحيى واحتضن عبد الرازق وبكى من شدة فرحته أن الله جمعهم وقال: "نأخذ العلم هاهنا" فقال أحمد ابن حنبل: "لا، نذهب إلى صنعاء"، فقال له يحيى: "لِم؟" فقال: "لا أغير نيتي، وقد نويت السفر له"، فقال له يحيى: "هذا تعنت"، فقال له: "يا رجل، لا يؤخذ العلم هكذا، يؤخذ العلم بالجهد، الرجل جاء ليحج، لن يعطينا كل ما عنده، أما إذا ذهبنا إليه فسيعطينا كل ما عنده"، فيتجه إلى صنعاء ويضل الطريق، ويضطر للدفع من نقوده التي ادخرها للناس لكي يرشدوه إلى طريق صنعاء، فتنفذ أمواله، فيبدأ يعمل لكي يأكل. عرض عليه يحيى من أمواله فرفض، وقال: "لا أقبل من أحد" – هذه هي طبيعته- فاشتغل حمالاً، حيث لم يجد من ينسخ لهم كتب، حتى وصل صنعاء و جالَس "عبد الرازق بن همام" لمدة عام، وأثناء رحيله يسمع عن رجل اسمه "إبراهيم" لديه حديثان للنبي لكنه في مكان عسير بين جبال تعز، فيطلع فوق الجبال، ويظل يومين على باب الرجل يتعلم منه الحديث يقول: "وعدتُ سعيداًً".
عاد من اليمن ثم اتجه إلى الشام لجمع أحاديث الشام فانتهي منها، واتجه لمنطقة تسمى طرطوس قرب تركيا ويأخذ الحديث منها، ثم يعود للعراق، وعمره خمس وثلاثون سنة، وكان قد خرج وعمره سبعة عشر عاما - كان خلالها يذهب للعراق ليزور أمه-.
قال له أحدهم مرة: "إلى متى- من الكوفة إلى البصرة إلى واسط إلى مكة خمس مرات إلى صنعاء في اليمن إلى طرطوس-؟ أما يكفيك ثلاثون ألف حديث؟"، فقال: "لا"، قال: "أما يكفيك ستون ألف حديث؟"، فقال: "لا"، قال: "أما يكفيك مائة ألف حديث؟"، فقال: "عندها نكون قد بدأنا"، فقال :"فإلى متى؟" فقال كلمته المشهورة: "من المحبرة إلى المقبرة". "المحبرة" هي التي يوضع بها الحبر "وإلى المقبرة" حتى أجمع أحاديث النبي لأعين الفقهاء، فكلمته هذه شعار رائع، احفظوه إخوتي.
من عمر سبعة عشر عاما وحتى خمسة وثلاثين عاما: رحلة جمع الحديث. ومن عمر خمسة وثلاثين لعمر أربعين عاماً: يكتب "مُسند الإمام أحمد" الذي جعله مرجعا للأمة في الحديث ويمهد به الطريق للبخاري. وقد قسمه حسب الصحابة، الأحاديث التي رواها أبو بكر، ثم الأحاديث التي رواها عمر، ثم عثمان، ثم على. وكان به ميزة كبرى: أنه به رواة للأحاديث من النساء؛ سبعمائة رجل ومائة امرأة. تزوج في الأربعين، ويتعرض للمحنة التي أخذت سنوات من عمره، وهو ثابت إلى أن يموت، وبعد أن انتهائه من المُسند، بدأ يحضر حلقته خمسة آلاف طالب في بغداد - جالسين إليه بالمحابر- يتعلمون منه، ويكتبون عنه في مسجد الجامع ببغداد.
كانت هذه هي الحلقة الأولى من الإمام "أحمد بن حنبل": سرقة ملابس، وتيه في طريق سفر ومشى على الأقدام. رحلة طويلة ومجهود رجل عظيم من أجل ماذا؟ من أجل أن تتجمع هذه الأمة.
يا مسلمي العراق، عيبُ عليكم أن يتحمل بن حنبل البغدادي العراقي كل هذا من أجل أن يجمعنا ونحن نقتل بعضنا البعض.
يا مسلمي دارفور، عيبُ عليكم، أيها الرجال والسيدات والشباب ألا تستطيعون التفاهم مع بعضكم البعض، عيبُ عليكم .أنا واثق بإذن الله أنه بعد هذه الحلقة سيخرج شباب وبنات يقولون: نحن من سيجمع الناس، ونعمل فقه التآلف هذا، ونقلد أحمد بن حنبل ليس في الفقه لكن في مجالنا، وفي مصانعنا، وفي نوادينا، نجمع الناس ونكون روحا جميلة في مجتمعاتنا وفي بلادنا، وبين ناسنا، وفي مساجدنا. نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا.
المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1100
Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة
يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع
management@daraltarjama.com :للاستعلام