|
|
|
| عمرو خالدزكريا صديقي |
ولقد اتفقنا في نهاية حلقات كل إمام من الأئمة الأربعة على استضافة عالم وأستاذ في فقه هذا الإمام، نتحدث معه ونفهم منه فقه هذا الإمام وآرائه ومدرسته، لأنني في النهاية غير متخصص في هذا الفقه. معنا اليوم، أستاذ في هذا العلم: الدكتور "زكريا صدّيقي" ويشرفنا وجوده معنا.
تعريف بالدكتور زكريا صدّيقي:
أود في البداية أن أعرف الدكتور "زكريا صديقي": فهو من مواليد الجزائر، والجزائر كما هو معروف مالكيّة، كما هو حال بلاد المغرب العربي، ووالده أستاذ في الفقه المالكي، عاش الدكتور "زكريا" في الجزائر، ثم التحق بالأزهر الشريف وعاش بمصر عشر سنوات، وتخرج في كلية الشريعة، وكما أن "مالك" مثلما ذكرنا جمع ثلاث قارات، كذلك الدكتور زكريا يجمع قارتين: فالدكتور درَس بالأزهر ثم أخذ الدكتوراه من جامعة السربون بفرنسا، وكان موضوع الرسالة: "فلسفة ونظرية الاستشهاد في الإسلام"، وتناولت الرسالة موضوع الشهادة بمفهومها الواسع الشامل، مثل الذي يموت مطعونا أو المرأة التي تموت وهي نافس فكل هؤلاء شهداء كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما المجاهد الذي يموت في سبيل الله فهو أحد أمثلة الشهداء. ولقد واجه هذا الموضوع في البداية صعوبة في تقبله، و لهذا تعتبر أول رسالة دكتوراه علمية تحمل هذا المضمون يتم مناقشتها، رغبة منهم في أن يفهموا عن قرب هذه القضية التي كثرت في أيامنا الأخيرة. وكانت النية هي التعريف بقضية الشهيد، حتى لا نعطي الفرصة لغير المسلمين أن يتحدثوا في قضايانا بما يشاءون، وكيف يشاءون. وهكذا يطبق الدكتور زكريا مفهوم التعايش الذي نتحدث عنه منذ بداية الحلقات.
أنا سعيد باستضافة شخصية من المغرب العربي، وخاصة من الجزائر، لأن للأسف أهل المغرب العربي بعيدون عن نطاق الفضائيات، فوجوده معنا شرف لي.
يعيش الدكتور الآن في فرنسا، وأسس هناك معهدين يعكسان معنى التعايش أيضًا: معهد تعليم الإسلام باللغات الأوروبية عن طريق الإنترنت: عن طريق نظام التعليم عن بعد، فيستطيع الطالب، والأستاذ من بيتهما أن يتواصلا عن طريق شاشة وكاميرا الإنترنت، ويتفاعلا سويًّا عن طريق الأسئلة والأجوبة، كأنهما في فصل حقيقي. ويتمثل هدف هذا المعهد في تسهيل نقل الإسلام، حتى لغير المسلمين، لأن غير المسلم يجد صعوبة في المجيء إلى معاهدنا الشرعية، ولكن بهذه الطريقة يدرس في بيته، ويتعرف على الإسلام عن طريق متخصصين، دون إحراج أو إزعاج. والمعهد الثاني هو جمعية دار العلوم بفرنسا، وهي تشرف على مجموعة مشروعات منها مركز للدراسات والأبحاث عن الغرب، وهدفه فهم الغرب من أجلنا نحن المسلمين؛ لأن معظم المسلمين لا يفهمون الغرب، ونظرتهم إليه نظرة قاتمة سوداء، فنحن نحتاج لأن نفهم غرب اليوم، وليس غرب الخمسينيات وأيام الاستعمار.
ما سبب انتشار مذهب الإمام مالك في المغرب العربي؟
يعود السبب في ذلك إلى المغاربة الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام، وتعلقوا بحب رسول الله صلى الله عليه و سلم. فأثناء رحلاتهم للحج أو العمرة، وحتى لا تضيع الرحلة هباءً، كانوا يفضلون المكوث في مدينة رسول الله حيث يوجد الإمام مالك، فكانوا يجلسون إليه، و يتعلمون على يديه ثم ينقلون ما تعلموه إلى هذه البلاد، كما نقلوا أيضا قراءة قارئ المدينة المنورة للقرآن الكريم وهو"نافع"، ولهذا نجد راويين هما ورش وقالون، وروايتهما هما اللتان اشتهرتا في بلاد المغرب. والزائر لبلاد المغرب العربي يلاحظ مدى تعلق أهله بحب رسول الله وبالمدينة، حتى إنه في مجتمع البربر لا يذكرون كلمة محمد في أسماء أبنائهم لأنه شيء مسلّم به ويُنادى باللقب بدلا منه كالهادي ويقصد به محمد الهادي.
ما أصل و معنى كلمة "مذهب" ؟
أصل الكلمة من الفعل "ذهب"، و"مذهب" اسم مكان، مثل مصنع ومتجر، فـ "مذهب" أي المكان الذي نذهب إليه، ثم تطور المعنى الحسيّ إلى المعنى الفكري ليأخذ معنى الرأي الذي صار إليه، وذهب إليه ذلك العالم؛ فكأنه ذهب في خط مستقيم ليكون رأيه في الفكر والقرآن والسنة.
ماذا يمثل الإمام مالك لكل مسلم عادي؟
يمثل الإمام مالك قمةً من قمم الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبه إلى درجة يكاد الإنسان العادي أن يتعجب منها. فعلى سبيل المثال، كان الإمام مالك يفرق في درسه بين أقوال رسول الله، و بين أن يفتي في مسألة فقهية، أو ينصح في مسألة اجتماعية. فإذا جاءه سائل، يسأله مالك ماذا تريد؟ فإذا قال: أريد أن أسمع منك ما سمعته من مشايخك عن رسول الله، قال له: انتظر حتى أهيئ نفسي لأنني سأقول: "قال رسول الله"، فكان يتوضأ ويصلي ركعتين، ويلبس أحسن ثيابه ويتطيب، ثم يجلس جلسة فيها وقار واحترام لجناب رسول الله، ثم يقول: "قال رسول الله"، فإذا سُئل في الفقه جاوب من غير ذلك. فالناس رأوا فيه تعلقًا شديدًا برسول الله، تعلقًا مؤسسًا على العلم والاقتداء.
لماذا تميز الأئمة الأربعة حتى الآن؟
امتاز الأئمة الأربعة بأمور عديدة منها:
· كان حولهم مجموعة من الطلبة النجباء الذين حملوا عنهم العلم، ونقلوه إلى غيرهم، فحفظوا بذلك تراث الأئمة الأربعة، بخلاف بعض الأئمة الكبار كالليث بن سعد الذي قال فيه الشافعي: "أفقه من مالك"، ولكن فقهه لم ينتشر؛ لأنه لم يكن لديه طلبة مثل الإمام مالك يحملون العلم ويدافعون عن مذهبه. وهذه القضية لها علاقة كبيرة بالتعايش الذي كان متواجدا بين أجيال الطلبة، جيل يسلم جيلا كالحديث الجميل: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم) الذي ينعت به سيدنا يوسف ابن يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم عليهم السلام، فهؤلاء الأئمة حملوا علم من سبقهم. كان يشعر كل واحد منهم أنه مسئول عن حفظ و توصيل ما توصل إليه السابقون، لا يخونه ولا يحرفه وإنما ينميه ويطوره ويزيد فيه وفقا للمنهج الذي تلقاه.
· اعتدال آرائهم، فلم يكونوا أصحاب تطرف في الرأي، ولا تشنج، ولا مغالاة فقَبِلهم الناس، كما قال الصالحون:"الاعتدال من حلية الرجال والإنصاف من شيم الأشراف"، وهذه نقطة مهمة أيضا في التعايش؛ فالرأي إذا تطرف لن يقبل به إلا المتطرف، ولكن إذا كان معتدلا كان قبوله أشمل وأعم.
· إنهم وهبوا أنفسهم للتعليم، لم يصادروا الأنظمة الحاكمة في وقتهم ولم يداهنوها، فوجدت هذه الأنظمة صعوبة في منعهم، وليس معنى هذا أنهم كانوا يداهنون ما يرضيهم، ولكن كانوا ينصحون، وكانوا يقولون كلمة الحق بل أُوذوا في ذلك، وبهذه الطريقة أنشأوا مساحة مشتركة مع الحكام وخاصة حكام الدولة العباسية.
ما هي الملامح المميزة لفقه الإمام مالك؟
ركز الإمام مالك على المسائل العملية والنظرية، فلم يكن يفضل أن يُسأل مثلا عن مسائل لا تقع، وهذا أهم ما يميزه، وقد ألف كتابا سماه "الموطأ" والذي ترجم بروايات عدة، مما يدل على كثرة نقل العلم منه، ويعتبر أول كتاب أُلِّف في الإسلام، فهو بذلك أخضع الفقه الذي سيأتي من بعده باعتباره أول من أُلف، فوضع لَبَنَات المنهج بين طيات هذا الكتاب. فيُروى مثلا أن أحد الناس سأل مالك قال: "يا إمام، لو أن رجلا قال لأخيه يا حمار ما حكم ذلك؟ قال: يؤدب، قال: فإن قال له يا حصان؟ قال: تؤدب
أنت"؛ لأن لا أحد يقول للآخر يا حصان، فهو إذاً لم يهتم بأمور لا وقوع لها لأنه شخصية عملية جدًّا. القاعدة التي قررها الأمام الشاطبي رحمه في المقدمة الخامسة تقول: "كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوضا في ما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بذلك عمل القلب و الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا، ودل على ذلك استقراء الشرع" ويأتي بالأدلة على ذلك، ووافقه على ذلك الإمام البنا رحمه الله، فإذن، لا ينبغي التفكير في أمور مستحيلة وتافهة كمن يسأل الآن :" لو صعدت إلى المريخ كيف أصلي هناك؟!"
الإمام مالك و قضية أهل المدينة:
كان الإمام مالك ناقلاً لفقه كبار علماء المدينة. فقد رأى فقه من عايش الصحابة رضوان الله عليهم، وكانت المدينة تزخر بأكبر عدد من الصحابة الذين ظلوا في المدينة المنورة. وهناك بعض الأحاديث مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن فضائل المدينة منها:
( تنفي الخبث منها كما ينفي الكير خبث الحديد) و(لا يدخلها الدجال)، ففضائل المدينة كثيرة وفقه علمائها كثير ومتين. ورأى الإمام مالك أن المسائل النقلية التي تروى جيل عن جيل، والمشهودة عند الناس مقدمة على خبر الواحد، وإن كان صحيحا، لماذا؟ لأنه يرى أن نقل المدينة في حكم المتواتر.
ففي حكم السلام من الصلاة ، مالك يرى أن الإمام يسلم تسليمة واحدة على اليمين، مع أنه جاء في أخبار الآحاد أنه يسلم تسليمتين، ودليله على ذلك عمل أهل المدينة، وكذلك هو الحال في موضوع تقدير الصاع، لم يعتمد فيها على خبر واحد، وإنما على ما هو معمول به في المدينة. فمالك بذلك لم يرد أن يصنع اضطراباً بوضعه آراءً جديدة ولكنه راعى الواقع، مادام هذا الواقع مقبولاً، ولو حتى على أوسع المذاهب والآراء. ولقد أخذ المالكية هذا عن مالك وطبقوا قاعدة ونظرية أسموها: "الأخذ بما جرى به العمل" أي العرف.
هذه نقطة في منتهى الخطورة؛ فإن الإمام مالك بنى أراءه على مراعاة واقع الناس على أساس أن هذا الواقع ليس حراما، حتى وإن كان مقتنعا بوجهة نظر مختلفة. ولنضرب مثالا على هذا: فلقد كرم الإسلام الأم تكريما شديدا، و لكن الكثيرون اعترضوا على فكرة إقامة عيد للأم باعتباره أن ليس له أصل في الإسلام، وأن النبي لم يقم بذلك، ولكن لماذا لا ندعم فكرة أن أصلها إسلامي؟ فما دام العيد أو الاحتفال ليس له صبغة تشريعية أو دينية واضحة، بأن أقول: هذا دين جديد للمسلمين، أو ليس فيه تشبهًا بدين آخر، فخلاف ذلك لا حرج فيه لأن ذلك فيه تكريم واحتفاء بشيء أعلى الإسلام رتبته، فهذا يؤخذ به مادام شاع في الناس وليس فيه معنى تعبديا محضا، وهذه أحد أسباب قبول الأمام مالك: فقد راعى احتياجات وعُرف المجتمع مادام ليس فيه حراما قطعيا، حتى في المسائل التي اختلف فيها العلماء، ولهذا فقد أرسى الفقهاء قاعدة (لا إنكار في مُختلَفٍ فيه).
مثال في هذا، أن مالكية الأندلس خالفوا مالك في بعض المسائل، منها أنهم قبلوا بغرس الأشجار والزهور في المساجد، واتفقوا بذلك مع الإمام الأوزاعي ومذهب أهل الشام، بينما هو مكروه عند مالك، فهم تعايشوا مع بيئة الأندلس، وطبقوا شيئا ليس محرما قطعيا، ولم يصطدموا بنص واضح، وقال بها أحد الأئمة. وهم دائما داخل أصل من أصول مالك, فإذن، طريقة تفكير مالك هي أحد أسباب نجاحه: كيف أراعي مصالح الناس وأساير أعرافهم ومصالحهم وأيسر عليهم؟
نماذج من فقه الإمام مالك في مسألة المصلحة والتيسير:
وكما قلنا من قبل، أن من أراد أن يتعايش لا بد أن يضع نفسه مكان الآخر، ويرى أين مصلحته؟ فمن نماذج التيسير: أن في الغرب تنتشر تربية الكلاب، ومالك رحمه الله يرى أن الكلب ليس نجسا، ولعاب الكلب ليس نجسا فلو لمس كلب أحدا ما، أو لحسه فهذا لا يلزمه أن يغتسل أو يتطهر، ومن الممكن أن يصلي دون أن يغير ثيابه على قاعدة "أن كل حي طاهر" ما أروع هذا التيسير! فهذه قاعدة معمول بها عند مالك وعند كثير من الفقهاء، وحديث النبي )إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات) يتطرق إلى المسألة التعددية، وليست مسألة النجاسة مادام النبي أمر بأن يغسل سبع مرات. ونذكر هنا أيضا أن أحد أئمة المالكية - وهو أبو زيد القيراواني صاحب الرسالة الشهيرة في الفقه المالكي- اتخذ كلبا للحراسة، فسئل: كيف تقتني كلبا - وأنت أحد أئمة المالكية- بما أن مالك كرّه الاحتفاظ بالكلب داخل البيت-؟ فأجاب بأن مالك إذا كان موجودا الآن لاتخذ أسدا لا كلبا، في فترة كثرت فيها اللصوص، فهو يساير أيضا مبدأ المصلحة. فهناك تطور في فكر الفقيه مع تطور حياة الناس، والفتوى تتغير بتغير المكان، والزمان، والأحوال، والأشخاص.
أود أن أرجع لموضوع فتوى الكلب، وبما أننا نفكر بمنطق التعايش فلا بد أن نؤكد على أن هذه قضية خلافية؛ فإذا كان فقه مالك يقول: لا مشكلة في الكلب وإنه طاهر، فهناك آراء أخرى مخالفة، ونحن نعرض جميع الآراء فأرجو ألا يفتح هذا بابا للخلاف، المهم هو طريقة التفكير. وهناك كلمة قالها أحد أئمة المالكي التونسيين: "أن من كثر علمه قل إنكاره"؛ أي كلما أتسع علم الرجل عرف الخلاف، يقل إنكاره - يعرف كيف ينكر؟- وأي مسألة ينكرها وطريقة الإنكار، فهناك درجات في الإنكار، وهناك ما ينكر، وما لا ينكر،كل هذا فقه.
الإمام مالك وقضية الغناء:
المعروف أن أهل المدينة عموما ما كانوا يرون تحريم الآلات و المعازف، حتى إنه يروى أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه كان لا يشتري الجارية ما دامت لا تحسن ضرب العود، فكانت هذه المسألة من المسائل الخلافية، وابن حزم الأندلسي كان لا يجد حرجا من ذلك أيضا. ولكن دعنا نقول: إن جمهور العلماء اتفق على تحريم المعازف، ولكن تبقى المسألة خلافية. وكيف يكون حراما قطعيا؟ والمصادر الأصلية للإسلام لم يذكر فيها نص بذلك، حتى البخاري لم يذكر في أصوله حديثا مسندا متصلا واضحا في التحريم، ويأتي بحديث معلق مع أنه كان يعرف أكثر من مائة ألف حديث صحيح، حديث يحتاج إلى أن نتأكد صحته، ونقول إنه في حكم المتصل حتى نعمل بالتحريم. حتى تفسير (لهو الحديث) على أنه الغناء في الآية " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ..." (لقمان: 6 ) ليس مؤكدا، حتى لو سلمنا برأي سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه على أنه الغناء فيقصد به الكلام القبيح. كما هو الحال الآن بالطبع مع الغناء الحالي والفيديو كليبات والرقص والكلام الذي يصل إلى حد المعصية، فهذا هو المقصود به هنا. فابن مسعود هنا يتكلم عن الحديث وليس عن المعازف، وعند العرب الغناء الذي هو كلام ملحن فيه طرب، وليس دوما متصلا بمعازف، فإذا كان المقصود الكلام فالذي يحرم هو القبيح من الكلام، خاصة إذا اقترن بما هو داعٍ إلى الرذيلة.
في الختام نود أن نسأل: هل يجب على كل مسلم أن يتبع مذهب من مذاهب الأئمة الأربعة؟
لا ليس شرطا. فكيف كان حال الناس قبل الأئمة الأربعة؟ فالإحجام والخوف من تحمل المسئولية دفع بعض الفقهاء إلى التخلص من العبء فيقول: "أنا على مذهب الإمام أبو حنيفة" ليتحمل أبو حنيفة العبء وحده، أما واقعيا فليس هناك شرعا ما يوجب أن تعبد الله بأحد العلماء، ولكن التعبد على علم. والإنسان البسيط يسأل أهل العلم، لكن ليس كل أهل العلم، لأن كثيرًا من الناس هذه الأيام يدّعون العلم. يجب أن نقتدي بمن اشتُهِر بين الناس بعلمه، وحسن سلوكه، وعُرف أنه من أهل الدين، عالم ثقة كمشايخنا الكبار، وعلمائنا الذين أظهروا حبهم للإسلام وتفانيهم وجهادهم في سيبل الله، وليس مستشرقا على سبيل المثال أو علمانيًّا.
ما رأيكم في كتاب مثل " فقه السنة" الذي جمع رأيه بين المذاهب؟
لا شكَّ أن كتاب فقه السنة من أحسن وأنفع كتب القرن الماضي وهذا القرن، ولقد قدم هذا الشيخ خدمة جليلة للإسلام بأن جعله سهلاً ميسوراً للإنسان العادي، ولابد أن نعلم قيمة الكتاب، خاصة في وقت صدوره حيث بدأت الناس تتنصل من الدين، وكانوا يجدون صعوبة في كتب التراث، فجاء هذا الشيخ وقدم كتابا أغلق به الباب على إقصاء العلم الشرعي، وتُرجم هذا الكتاب للغات عديدة.
ولكن أن يتعلم الإنسان من الكتاب ثم يفتي فهذا خطأ، ففتنة الناس اليوم في الكتب بأن أكتفي بالقراءة في الكتب عن العلماء الثقات، كما يفعل بعض شباب اليوم. وهنا نذكر مقولة الإمام الشاطبي: "كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل منها إلى بطون الكتب وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال فمن طلبه من غير أهله ضل"، فمالك على سبيل المثال، ذكر أحاديثَ في موطأه والبخاري أيضا في صحيحه، فهل نكتفي بالقراءة لنطبق؟ هذه مشكلة لأن الدليل ليس حديثا واحدا أو آية واحدة، وإنما يجمع كل ما ورد في الباب أو المسألة من أدلة وفق درجات العمل بالأدلة، ووفق منهج معين ووفق درجات الحكم الشرعي حتى يصل إلى نتيجة.
أود أن أضرب مثلاً في النهاية، هناك شاب يقرأ حديثا ويقول: قال النبي هذا، إذن، لابد أن أقوم به، لكن الإمام الشافعي والإمام مالك قالا: لا، يجب أن تأخذ كل الأحاديث و الآيات التي لها علاقة. فمثلا هناك حديث:" إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" وهناك آية تقول:"ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى..." (الأنعام: 164)، فجمع العلماء بين الآية والحديث فتوصلوا إلى أنه إذا كان الميت يحب النواح، أو أوصى بذلك فإنه يعذب، ولكن إذا لم يكن يريد ذلك، فكيف يعذب؟ ولكن - بشكل عام- يفضل في مثل هذه الحالة أن يوصي أهله بعدم التباكي، وأن يصبروا ويحتسبوا.
أنا أرى أن هذه الحلقة كانت ثرية، واحتوت على معان عميقة، ولكنني أركز على فكرة التعايش: فنستفيد في النهاية أن الإمام مالك كان يبحث دوما على المصلحة وعُرف الناس، وهذا من أسرار تجمع الناس حوله حيث كان يندمج مع المجتمع. والدكتور زكريا صديقي يُعد أيضا نموذجا من نماذج التعايش، فهو يُعلِّم الإسلام باللغات الأجنبية، وسوف نضع البريد الإلكتروني الخاص به على الموقع لمن يعرف أجانب، أو مسلمين لا يتحدثون العربية، وفي الوقت نفسه فإنه ينقل الفكر الأوروبي لعلماء المسلمين، ولنا ليكون نموذجا ناجحا للتعايش.
أود أن أشكر الدكتور على مجيئه من فرنسا خصيصا لتصوير هذه الحلقة. أشكركم وبهذه الحلقة نكون قد انتهينا من حلقات الإمام مالك، لنبدأ إنشاء الله من الأسبوع القادم مع إمام كبير نتعلق به: الإمام الشافعي. أراكم على خير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1071
Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة
يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع
management@daraltarjama.com :للاستعلام