بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن النية من وراء هذا البرنامج هي حل الخلافات والمشاكل الكثيرة التي في بلادنا، وبين المسلمين بعضهم البعض، والتي تسبب عدم تفاهمنا وتحاورنا مع بعضنا البعض، وعدم تقبلنا لبعضنا البعض حيث إننا نبني حوائط بيننا وبين بعضنا البعض عوضا عن أن نبني الجسور بيننا، بداية من الأزواج والزوجات، وحتى العراق ولبنان ودارفور، وبدءا أيضا من علاقاتنا بداخل البنايات بين الجيران بعضهم البعض، وحتى المصانع والشركات.
ما هي النية من وراء فكرة التعايش؟
نحن بالفعل في حاجة - وبإذن الله سنستطيع ذلك - إلى تعلم كيفية التعامل مع الناس، وكسب محبتهم، وحب الناس والتآلف معهم، وبالتالي نيتنا هي قول الله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ...} سورة الحجرات (الآية 10)، وقوله تعالى { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ...} سورة الأنفال (الآية1)، فأسأل الله تبارك وتعالى أن تصل هذه النية إليكم وتكون جزءا من طريقة تفكيركم لكيفية الوصول إلى الناس والتفاهم معهم وحبهم. بالتأكيد جميع البشر مختلفون عن بعضهم البعض، ولكن كيف نجعل هذا الاختلاف تكاملا وحبًّا وتفاهما؟ كيف أقبل هذا الاختلاف وأحوله إلى فائدة لكلا الطرفين المختلفين؟ نوضح ذلك من خلال قصة الأئمة الأربعة، ونستفيد ونتعلم من كل إمام في نواحٍ ومواقف كثيرة.
لم كان اختيارنا للأئمة الأربعة؟ لأن المساحة التي في حياتهم والتي بها قدرة على التفاهم والتعايش عالية جدا، مما يجعلنا نفتخر بهم. أنتم كذلك يا شباب ويا نساء، تستطيعون ذلك أيضا، لأن أصل ديننا هو ذلك، كيف نتفاهم؟ وكيف نوجد مكانا مشتركا للتفاهم؟ القاضي عياض له كلمة جميلة حيث يقول: "الألفة من أعظم أركان الشريعة".
لقد وصلنا اليوم لآخر جزء من الإمام أبو حنيفة، فكان لابد أن يكون معنا عالم من العلماء المتخصصين في فقه الإمام أبو حنيفة، لنسأله ونفهم منه، ولنرى علاقة هذا الإمام بالتعايش، ولنتعرف على معالم فقه الإمام أبو حنيفة. معنا اليوم سماحة مفتي عكار بشمال لبنان، فضيلة الشيخ الدكتور أسامة رفاعي. أهلاً وسهلاً بك، وجزاك الله خيرا لمجيئك من لبنان.
التعريف بسماحة المفتي أسامة الرفاعي:
اسمحوا لي بالتعريف سماحة المفتي تعريفا سريعا؛ لقد حصلت على الدكتوراه من جامعة بالمدينة المنورة هي الجامعة الإسلامية. وقد كانت الدكتوراة عن فقه المواريث، ولقد درّست بالجامعة في لبنان، ثم عملت قاضيا، وفي الوقت نفسه تعمل مفتي عكار شمال لبنان.
إن لبنان غالية على قلوبنا جميعا، أعانكم الله على الألفة وجمع الناس، فأنا أعرف أن لك دورا كبيرًا في لم الشمل. سنبدأ اليوم بإذن الله مناقشتنا مع حضرتك عن الإمام أبو حنيفة.
إن لكل إنسان مفتاحا لشخصيته، وأبو حنيفة هو أول من أسس وشكل الفقه الإسلامي، وهو أول من بدأ في الأئمة الأربعة، ومدرسته هي الأكثر انتشارا، فما هو الشيء المركزي الذي حرك هذا الرجل؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد فأشكر لكم هذا اللقاء الطيب، وخاصة في هذه الأيام، التي نحن في حاجة ماسة إلى تعريف الناس فيها بالأئمة الأربعة – رضي الله تعالى عنهم-، فقد كانوا بمثابة لوحات إسلامية صادقة بين العلم من ناحية والتطبيق من ناحية أخرى. وأرادوا بذلك تتويج هذه الأعمال في أن يقدموا فقها إسلاميا للناس، من أجل أن يُحسن كل إنسان تعامله فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين أي إنسان. ومن المعلوم أن أبو حنيفة - رحمه الله تعالى- كان من التابعين، وأنه أدرك بعض الصحابة – رضي الله عنهم-. ولقد ولد رضي الله عنه في عام ثمانين هجريا، وتوفي في عام مئة وخمسين هجريا.
بعض الأوجه التي تبين احترام الإمام أبو حنيفة لحرية الإنسان:
والناظر في فقهه يجد أن المفتاح الأساسي لشخصيته - رحمه الله تعالى - بالإضافة إلى جملة العلوم الشرعية، أنه يركز على إنسانية الإنسان، وأننا يجب أن نصون كرامته كما صانها الشرع الإسلامي، وأن نصحح تصرفاته وأعماله قدر ما نستطيع، ولذلك فتراه مثلاً في باب الحجْر على السفيه (وهو الإنسان الذي يتصرف في أمواله تصرفا غير مستقيم كما يجب)، أو يمكن أن يسمى في أيامنا هذه بـ "الإنسان المبذِّر"، اعتبر الإمام أبو حنيفة هذا الإنسان حرًّا في تصرفه ومعتقداته، حرًّا في أن يفعل شيئا ما أولا يفعله، حرًّا في أن يتحمل نتائج هذه التصرفات في الدنيا أو في الآخرة.
عندما تحدث الناس عن الحجر على الإنسان إذا ما بلغ خمسة وعشرين عاما، وكان سفيها أو مبذرا، قال جمهور العلماء بأن يُحجر عليه، أي يمنع من التصرفات ويُعين عليه وصيًّا يدير أمواله، وهذا لا يصدر إلا بحكم القاضي. أما الإمام أبو حنيفة فيقول: "إذا ما بلغ الخمسة وعشرين لا يحجر عليه"، ولما سُئل عن ذلك قال: "أستحي أن أحجر على إنسان فيما لو فرضنا أنه تزوج مبكرا أن يكون جَدًّا وهو في الخمسة والعشرين عاما..."، لأنه مثلاً تزوج وهو ابن الثالثة عشرة وبالتالي، قال "...تبقى تصرفاته له ولا يحجر عليه". ومن هذا المنطلق قال بأن الإنسان حرًّا في تصرفاته وأعماله وكل ما يقوم به، وبالتالي طالما أمكن أن نحمي حرية هذا الإنسان وأن نحافظ على كرامته وإنسانيته، فإننا نسلك السبل ولو حتى بشبهة.
إذًا، فقضية إنسانية الإنسان واحترام حرية الإنسان - هذه القضايا- هي التي أنطلق منها وبالتالي، نجد أن له في موضوع حرية المرأة كلاما مهما جدا، سبَّبَ له ولمن آزره في رأيه مشاكل إلى اليوم. فقد ناقش الإمام أبو حنيفة قضية حرية المرأة في الزواج، وحرية المرأة في تولي القضاء، وإذا قلنا إن مفتاح شخصيته هي قضية الحرية، فهل هذا نفسه المنطلق الذي انطلق منه الإمام أبو حنيفة في مواضيع المرأة؟
يلاحظ الإنسان في قضية الحجر، أن الإمام أبو حنيفة - رحمه الله منع- أن يحجر على الإنسان وهو في هذه السن احتراما لتصرفاته ببقاء نوع التصرف الإنساني عنده منوطا بالناحية الفقهية. ولكنه على قاعدة أن يعمل على تصحيح تصرفات الإنسان ما أمكن إلى ذلك سبيلا، أي نساعده في تصحيح تصرفاته دون أن نمنع حريته. أما بالنسبة مثلاً إلى قضية المرأة، فبالإضافة إلى الأدلة الشرعية حيث إننا ننطلق من المنطلقات الأساسية المستوحاة من الشريعة الإسلامية، وعندما نظر الإمام أبو حنيفة إلى هذه القضية وجعلها محور حياته الفقهية، كان ذلك نتيجة استقراء؛ فأي إنسان لا يستطيع أن يُكوِّن فكرة أو أن ينزع إلى فعل إلا إن كانت هناك ثقافة معينة نتيجة استقراء النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وحياة الصحابة.
إن الإمام أبو حنيفة ينظر إلى المرأة على أساس أنها إنسان كامل وبالتالي، لها أهلية التصرف وأهلية الأداء وأهلية التحمل، وأن عقودها ليست موقوفة على إجازة الغير، وليست متوقفة على إمضاء الغير، بمعنى لو كانت المرأة عاقلة بالغة ووصلت إلى مرحلة تريد أن تختار زوجا لها مثلاً، وأتى الولي وأراد أن يتعسف في استخدام الحق الذي جعله الله عز وجل له، هنا تتضارب إرادتان - إرادة الفتاة البالغة العاقلة الراشدة والتي ترغب في أن تقترن بشخص ما وإرادة الولي الذي ربما أراد أن يمنعها من أن تتزوج به- الشارع كما فهم الإمام أبو حنيفة يقول عبارة المرأة العاقلة البالغة مقررة في الشريعة الإسلامية تمنع الولي الذي يريد أن يصادر قرارها ليكون قرارها هو المقدم انطلاقا من جملة أمور منها قوله -عليه الصلاة والسلام: "الأيم أحق بنفسها من وليها"، قالوا الأيم في اللغة هي المرأة التي لا زوج لها، سواء كانت بكرا أو كانت ثيبا، كما في الحديث الشريف أيضا: "البكر تستأذن والثيب تستأمر" أي تسأل الثيب لأن لها جرأة على الكلام، أما البكر فإنها تستأذن وإذنها صماتها، أي سكوتها.
ولكن المسألة أبعد من ذلك، والإمام أبو حنيفة رحمه الله يروي بسنده أن امرأة أتت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- وقالت له: "يا رسول الله إن أبي أراد أن يزوجني من ابن عم لي ليرفع بي خفيفته..."، لأنه يبدو أن هذا الأب كان في حالة اجتماعية أعلى من حالة أخيه فأراد أن يرفع خفيفته من الناحية الاجتماعية، "...وأنا كارهة لذلك". قال لها: "أجيزي ما فعل أبوك". قالت: "أنا لا أرغب، أنا أكره ذلك". قال: "إذًا اذهبي فزوجي نفسك". قالت: "لا رغبة لي عما صنع أبي..." – أي لا أريد مخالفته- "...وإنما أردت أن أعلم النساء أنه ليس بأوليائهن من أمرهن شيء".
أي أرادت أن تعطي درسا تعليميا: أن الولي إذا أراد أن يفرض زوجا على البنت وهي كارهة، فإن الشارع الحكيم يقول أبدا، وبنص الحديث قالت: "...أردت أن أعلم النساء أنه ليس بأوليائهن من أمرهن شيء". ولذلك فالقاعدة عند مذهب الحنفية قال: "وعبارة النساء معتبرة في النكاح حتى لو زوجت المرأة العاقلة البالغة نفسها ممن شاءت صح عقدها وللأولياء حق الاعتراض إذا كان الزوج غير كفء". إذًا صحح عقدها ووجد أن عبارتها صحيحة، وقال "كيف أجزتم لها أن تبيع وأن تشتري وأن تقبل الهبة وأن تتصدق وأن توقف المال، كل هذه العقود ورفضتم لها هذا الأمر؟".
ولكن سبب خلاف الأئمة له على هذه المسألة هو خوفهم من أن ترك الفتيات للاختيار بأنفسهن قد يؤدي إلى الكثير من المشاكل وخاصة في هذه الأيام. ولكن المخالفة ليست على الإطلاق عند كل الأئمة. فمثلاً الإمام مالك - رحمه الله- صحيح أنه اشترط الولي في قضايا الزواج، ولكن قال بأن هذا يشترط في الفتاة التي تمكث في البيت ولا تخالط الناس، أما التي تخالط الناس وتعرف خيرهم من شرهم، يجوز لها أن تلي أمر عقد النكاح. وعندما ناقش الحنفية هذه المسألة قالوا: "لما اشترط في الفتاة التي تلزم البيت ولم يشترط في الفتاة التي تنزل إلى السوق وتعالم الناس وغيره، قالوا: إذًا الأصل أنها تلي أمر عقد النكاح بنفسها - والأولياء نحفظ لهم الحق-. فإذا كان الزوج غير كفء، فلهم الحق أن يعترضوا على عدم التخلي". وبالتالي، ليس معنى أن تزوج الفتاة نفسها أن تأخذ بأي رجل دون النظر إلى الكفاءة. ولهذا نقول أن هناك إرادتين، إرادة الفتاة التي ترغب في إمضاء عقد زواج، وإرادة الولي الذي يمنع، فأي الإرادتين نأخذ بها؟ نأخذ بإرادة الفتاة بشرط أن تكون عملية الاختيار في موقعها، فلو كان الزوج غير كفء، فللولي أن يعترض عند ذلك. ولذلك في المحاكم الشرعية الآن لو لجأت الفتاة إليهم شاكية أمر الولي الذي يمنعها من الزواج، فإن القاضي يرسل إلى ولي أمرها ويستفسر منه عن سبب المنع، فإذا وجد رأيه في المنع وجيها لا يزوجها، وإذا لم يجد رأيه سديدا في المنع يأذن بالزواج، يأذن بالزواج لأن له ولاية عامة.
فعندنا في لبنان هذا النص - في قانون حقوق العائلة-: "إذا أتت البالغة التي بلغت سبعة عشر عاما وشكت إلى القاضي أنها تريد الزواج وأن وليها معارض، على القاضي أن يرسل للولي ويأتي به ويسأله عن سبب المنع، فإذا وجد السبب وجيها لا يجري العقد. أما إذا وجد تعنتا من الولي، أجاز عقد النكاح وجعل المرأة تلي أمر العقد بنفسها، أو أن القاضي يعين من يلي أمر العقد نيابة عنها بولايته العامة.
أريد أن أؤكد أن هذا الكلام قاله أبو حنيفة في عام ثمانين هجريا. لكن كانت هناك آراء لأحد الأئمة الأربعة في هذه الحرية للمرأة، وأن من يقول في الغرب أو في بلادنا إن الإسلام سلب المرأة حريتها، فإن جزء من الرد عليه هو أنه أباح لها التصرف المالي، وأباح لها أن تحتفظ باسمها. أما عن الغرب إلى اليوم، فإنها لا تحتفظ باسمها بل تغيره إلى اسم الزوج. وبالتالي نحن أقدم حرية، ومع ذلك المحافظة على المرأة لكي لا تضيع جانب مهم. إن رأيي الشخصي أن المرأة مظلومة في بلادنا وهذا الظلم يمنعها من التعايش مع المجتمع، وأحيانا تظن أن الإسلام هو السبب فلا تتعايش حتى مع دينها.
تعليقا على هذا الكلام، نقول بأن الفقهاء الحنفية يقولون: والأولى بالمرأة ألا تلي عقد النجاح بنفسها حتى لا تنسب إلى الوقاحة. ولكن ولعمل التوازن، فإن هناك فتاة بكر ستجبر على الزواج، وهناك ولي يريد أن يمارس هذا الحق وهي رافضة، أي الأمرين أكثر ضررا؟ أن تزوج الفتاة البكر رغما عنها لتكون في بيت لا تقبل صاحبه ولا تحبه ولا تميل إليه وربما أدى ذلك إلى الطلاق أو إلى المشاكسة، أم أن نتدخل لنقول للولي: إذا أنت عارضت وكانت معارضتك غير مجدية، فإن الشارع يجيز للمرأة أن تبني أمر العقد مباشرة حتى نرفع ضرر أكبر بضرر أصغر؟ إذًا، فمفتاح شخصية أبو حنيفة هو الحرية وإنسانية الإنسان. من الجميل جدا أن أول إمام من أئمة الفقه الإسلامي يكون هذا مفتاح شخصيته.
اختلافات الأئمة الفقهية لا تتعارض مع فكرة التعايش:
إن هناك اختلافات فقهية كثيرة بين الأئمة الأربعة، وهذه الاختلافات تجعل الناس يتساءلون، كيف نتحدث عن التعايش ونضرب مثلاً بالأئمة الأربعة؟ إن بينهم أصلا مئات القضايا المختلفين فيها.
في علم الحوار المعاصر يقولون إن الثقافة هي قبول الطرف الآخر، ولا يمكن أن أقبل الطرف الآخر إلا إذا كانت ثقافتي عنه سليمة وبالتالي، لو أردنا أن نأخذ الأئمة الأربعة- رحمهم الله تعالى- على أنهم يمثلون الوحدة الإسلامية المتكاملة في صورتها المشرقة في التعايش فيما بينهم وينعكس ذلك على مدارسهم وتلامذتهم، فلابد وأن نعرف من خلال التأثير أن أسباب اختلاف الفكر الإسلامي بين الأئمة الأربعة له ما يبرره. وإذا اقتنعنا أن هذا الاختلاف له أسبابه الشرعية الوجيهة، بعد ذلك يمكن أن يقبل كل منا الآخر. فعندما أقتنع أن الذي خالفني في مسألة ما له أسبابه، عند ذلك أرى أن قوله - وإن كنت رافضا له- لكن له دليل أو شبهة دليل على الأقل.
دكتور، قبل أن تتطرق إلى التفاصيل، أريد أن أخبر الشباب بشيءٍ ما: إن لدينا مشكلة ما، وهي أنه أحيانا يسمع شابا ما فتوى أو رأيا، وأن هذا الرأي من العالم الفلاني وأصله من القرآن ومن السنة، فيرفض أن يسمع أي رأيٍ آخر.
الفرق بين الاختلافات الفقهية في الفروع والعقائد:
هناك ما يسمى "التعصب الفقهي للمذهب"، وهناك ما يعرف بـ"التعصب ضد المذاهب"، وهذا معناه أن هناك من يتمسك بالمذهب فيعادي ويوالي عليه، وهناك من يتعصب ضد المذاهب أي يريد رفض المذاهب جميعا، وهذا قد يكون له نية سليمة، ولكن الممارسة والنتيجة تكون خاطئة. والسؤال هنا، طالما هناك كتاب وسنة فلما اختلف العلماء؟ ولما لا يتفقون على رأي واحد؟ وللإجابة على هذه المسألة أقول: إن الاختلاف الفقهي في الفروع ضرورة شرعية وطبيعة بشرية، فأنا مثلا لدي في الإسلام فروع فقهية وعندي أيضا عقائد، ويجب أن يستقر في الأذهان أن العقائد متفق عليها بين أئمتنا الأربعة. فكل ما يتعلق بذات الله تعالى أو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو القضايا الشرعية، أو الجنة أو النار، أو الملائكة فهذه القضايا مسلمة. وهؤلاء الأئمة الأربعة يقول عنهم بعض الناس أنهم أئمة السلف، ولكنهم ليسوا من السلف العاديين، لأنهم كانوا في القرون الأولى المشهود لها بالخيرية. وبالتالي، فنحن نتبع في الفروع وفي الأصول، أي في العقائد، أئمة سلف هذه الأمة، الذين رأى بعضهم الصحابة رضي الله عنهم، فكان من التابعين كالإمام أبي حنيفة، ومنهم من رأى التابعين وبالتالي، أصبح من تابع التابعين، أي من رأى الذين رأوا الصحابة.
أما الفروع فأقول إنها ضرورة شرعية وطبيعة بشرية، والفروع هي كأحكام الصلاة وأحكام الزكاة، والقصر في الصلاة الرباعية وجمع التقديم في الصلاة، ووضع اليد فوق السرة أو تحت الصدر الخ. ويجب أن نضع في الأذهان أن من رحمة الله تعالى على العباد أنه كانت الأحكام الفرعية التكليفية المتعلقة بأفعال العباد موسعة على الشكل، أما الاختلاف أدى إلى رحمة بالبشرية. ولذلك يذكرون حديثا والخلاف فيه كبير، والصحيح أنه ليس بحديث "اختلاف أمتي رحمة". بعض الناس يقولون إذا كان الاختلاف رحمة إذا فالاتفاق نقمة. لا، لأن هذه مغالطة، ولذلك عندما أتى رجل ألف كتابًا أسماه "اختلاف الفقهاء"، قال له الإمام أحمد - رحمه الله تعالى-: سمه كتاب "السعة".
إن هذه نقطة خطيرة، أي أن هذا الشخص جمع الاختلافات - جميعا- المتعلقة بالأئمة وأسماه كتاب "الاختلاف"، فقال له أسمه كتاب "السعة"، أي أن هذه رؤية الإمام أحمد بن حنبل، وهي رؤية كل الأئمة رضي الله تعالى عنهم.
ولذلك، فعندما سئل الإمام أبو حنيفة في سبب أن الحرية الموجودة عنده حرية مقدسة يمارسها ويعلمها، بدليل أنه في مدرسته لم يفرض رأيا واحدا، بل أسس مجمعا فقهيا، وكان الأول من نوعه، ثم كان يطرح المسائل العلمية للمناقشة. فلو كان الإمام أبو حنيفة لا يؤمن بحرية التعبير وحرية الإنسان وكرامته لألزمهم برأيٍ واحدٍ. وهذا كان مكررا عند مدرسة الإمام مالك ومدرسة الإمام الشافعي ومدرسة الإمام أحمد. حتى إن الإمام أحمد قد تجد له في المسألة الواحدة أحيانا عشرة روايات، السبب أنه كان دائما يقلب وجهات النظر في المسألة، فتارةً يغير رأيه لأثر أو لدليل من السنة مباشرة، و تارةً يتضح له رأي يختلف عما سبق من الآراء السابقة.
أما عند الإمام الشافعي فكان له رأي في المدينة بمدرسة أهل الحجاز، وناقش الإمام مالك رحمه الله، ثم انتقل إلى العراق وأسس المذهب الشافعي هناك، وغَيَّر في بعض المسائل فأصبح عنده المذهب القديم والمذهب الجديد. وكذلك الإمام مالك له مراجعات في بعض المسائل والروايات، فأتى أصحابه ورجحوا، يقول الإمام أبو حنيفة: "رأينا هذا وما أتينا به هو في النهاية رأي، ومن أتى بأفضل منه فهو أولى منا بالثواب". وبالتالي هم لم يجبروا أحدا على رأي، وهم مقتنعون بأن كل ما يصلون إليه هو اجتهاد يقبل الخطأ والصواب. ولذلك عمّت وانتشرت قاعدته الشهيرة "مذهبنا صواب ويحتمل الخطأ ومذهب غيرنا خطأ ويحتمل الصواب".
أسباب اختلافات الأئمة:
وإن من أسباب اختلاف العلماء الكثيرة مثلاً: طبيعة الناس، الأمر الثاني: طبيعة النص، الأمر الثالث: اختلاف العرف والعادات. وطبيعة الناس هنا المقصود بها أنهم يختلفون فهما وحفظا ومعرفةً وإدراكا وبيئةً، أما طبيعة النص وهذه قضية أساسية أن الشارع الكريم عندما نزل قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ...} سورة البقرة (آية 228)، فالله عز وجل يعلم أن كلمة "القرء" في لغة العرب تطلق إما عن الطهر أو عن الحيض، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يرفع الخلاف لأنزل الكلمة لا تحتمل أكثر من معنى، فهناك آيات محددة، مثل قوله تعالى {... فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ...} سورة البقرة (الآية 196)، وبالتالي فإن الاختلاف نعمة. فمعرفة السبب تلغي هذه المهاترات بشأن الاختلاف بين المذاهب. فالاختلاف ليس فقط طبيعة بشرية بل ضرورة شرعية، ففي حياة النبي – صلى الله عليه وسلم- كان الاختلاف موجودا، قال – عليه الصلاة والسلام-: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريضة"، فمن الصحابة من صلى في الطريق ومنهم من أخر حتى صلى في بني قريضة، ولم يعد النبي – صلى الله عليه وسلم- على أحد من الفريقين. وليقولن قائل إن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان يعلم أن أحد الفعلين كان صوابا، والآخر كان خطأً، ومن يقول هذا فإنه مجرم، فكلا الفعلين كان صوابا. إن النتيجة أن النص الشرعي الذي يحتمل أكثر من معنى هو الذي كان سببا في اختلاف الفقهاء.
كان هناك جملة قد قرأتها وأحب أن أقولها للناس، يقول عمر بن عبد العزيز: "ما من شيء أحب إلي من اختلاف أصحاب رسول الله"، وفي رواية أخرى يقول: "هذا أحب إلي من حلو النعم"، لأن ذلك سعة للأمة.
ولأن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- إذا اتفقوا على مسألة لكان الآخذ لقولهم آخذا بالسنة والتارك لقولهم تاركا للسنة. فلما اختلفوا، فمن أخذ بقول أحدهم كان آخذا بالسنة.
إذًا، نحن نقول إن الأئمة الأربعة اتفقوا على العقائد، وكان خلافهم على الفروع. وبالتالي، الخلاف في الفروع سعة ونعمة وثراء، وهذا ينشأ عن طبيعة النص، وأن الله تعالى من حكمته أن أراد ذلك.
مثال أيضا يدعونا إلى فهم أسباب الاختلاف، ونرى ممارسة الأئمة للاختلاف وكيف كانت نتيجة الاختلاف عليهم تعايشا ومحبة وبركة؟ فمثلاً في قوله عليه الصلاة والسلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" أي أحدهم بائع والآخر مشترٍ، فإذا تمت بينهما صفقة وتم العقد هما بالخيار ما لم يتفرقا، والخيار معناه إتمام العقد أو نقده، وهذا ما يسمى عند الفقهاء بـ"خيار المجلس"، فما موقف الأئمة من هذا الحديث وفهم الحديث؟ وهو حديث صحيح وأخرجه الإمام مالك في موطئه. بعض الناس يقول بأن مالكً قام بخلافه لأنه ليس في "الموطأ"، ولكنه بالفعل في موطأ الإمام مالك.
قال الإمام أبو حنيفة والإمام مالك – رغم أن أحدهما في مدرسة حجازية والآخر في مدرسة عراقية والتي تسمى بمدرسة أهل الرأي- قالا: "المقصود بالتفرق هو التفرق بالأقوال وليس التفرق بالأبدان"، بمعنى إذا قال البائع: بعتُك، وقال المشتري اشتريت، فقد تم العقد، ولا يمكن لأحد أن يفسخ العقد، وهذا هو التفرق المقصود به في الحديث، ويقول الله تبارك وتعالى {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ ... } سورة النساء (الآية:130). فبالنسبة للأزواج فالتفرق بالطلاق. فلو قال لها "أنت طالق"، واتفقا على ذلك وتم التفرق، وليس لأحدهما خيار النقد وهذا ما يسمى بـ"خيار المجلس". ولكن هناك في الشريعة شيء ما يسمى الإقالة، فمن أقال نادما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة. ولكن الإمام أبو حنيفة في قضية الحرية وتصليح تصرفات الإنسان بحريته غير موقوفة على إجازة الغير. قال هذا عاقل راشد حر، تصرف تصرفا وهذا التصرف كان ملزما صحيحا نافذا غير متوقف على إجازة الغير. قال: "إذا أجزنا خيار المجلس فرغنا قوة العقد من معنى الإلزامية"، وبالتالي تصبح العقود هشة في إمضائها وإنشائها، وما سمي العقد عقداً إلا لأنه يعقد وبالتالي، قال هذا العقد نحترمه. والإمام الشافعي والإمام أحمد - رحمهما الله- قالا: "التفرق بالأبدان"، فإذا غيروا المجلس فقد انتهى خيار المجلس, فما داما في مجلس والتفرق لا يعتبر تفرقا حقيقا كالأكل مثلاً فلأحدهما أن يقول إني تراجعت، وهذا يصح، طبعا هناك نقاش طويل والإمام أبو حنيفة ناقش غيره في المسألة، قال له: "أنت ترد الحديث لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، وأنت كيف تقول تم العقد والتفرق بالأقوال لا بالأبدان؟" قال: "أرأيت لو كان المتبايعان في زورق واحد في البحر؟ كيف يتم التفرق بالأبدان؟" فسكت، وهذا نشأ عنه - بالإضافة إلى المسألة الخلافية- أن كل واحد يحترم رأي الآخر، فما أدى هذا إلى تمنع الشافعي - رحمه الله- أن يخرج عن مالك.
أريد أن أؤكد هذه النقطة ثانيةً، إن الحديث صحيح ولكن كل واحد منهما فهم كلمة يتفرقا بشكل مختلف، أحدهما بأن يتفرقا بالأبدان، والآخر أن يتفرقا في الرأي، وقد يكون من حكمة النبي –صلى الله عليه وسلم- أن ترك الكلمة دون تحديد معنى معين ليكون هناك سعة.
إمكانية الاقتداء بغيرنا من أصحاب المذاهب المختلفة:
إن هذا الكلام قاعدة يجب أن نتنبه إليها، وهي قاعدة مهمة تخفف من غلواء الاختلاف والتنافر، وتدعو إلى التعايش والتحابب، فمهما اختلفنا في مسألة فرعية فنحن في الأصل تحت ظلال الأخوة الإسلامية. يقول الإمام الشافعي: أجمع العلماء على أن الله تعالى لا يعذب في مسألة خلافية أي في الفروق. ولذلك فحتى عمر بن عبد العزيز ومن أتى بعده اتبعوا هذه القاعدة. يقول بعضهم لبعض: "إذا رأيت الرجل يعمل عملاً قد اختلف فيه وترى غير ما يعمل فلا تنهاه"، والإمام الغزالي أيضا - رحمه الله- نص في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،: "لا تناكر في مسائل الخلاف"، لذلك عندما ذهب الشافعي لزيارة قبر أبو حنيفة ومن سنة الشافعي أن يرفع اليدين في الصلاة بعد الرفع ولكنه هذه المرة قلد أبو حنيفة، فلم يرفع يديه، احتراما لصاحب هذا القبر. فمن الجائز أن نقتدي بالمخالف عنا في الفروع، فالإمام الشافعي ينظر إلى المسألة على أنها احتمالية وأن النصوص متعددة وأن من الناس من يصل إليه النص ومنهم من لا يصل إليه النص.
لقد التقى الإمام أبو حنيفة بالكثير من علماء الحجاز وجالسهم حيث يقال إنه حجّ أربع وخمسين مرة. وعندما التقى الإمام أبو حنيفة بالإمام مالك رضي الله تعالى عنه، وجالسه في المدينة وناقشه في مسائل عديدة، انفصل كل إمام إلى أتباعه، فقال الليث بن سعد تلميذ الإمام مالك والذي نشر المذهب الحنفي والمالكي في مصر، قال: "أراك عرقت مع أبي حنيفة يا إمام"، قال: "عرقت مع رجل لو ناقشك في هذه السارية- أي سارية المسجد- أنها من ذهب لأقام عليك الحجة"، ولما التقى تلامذة الإمام أبو حنيفة به رحمه الله سألوه عن الإمام مالك، قال: "رأيت جبلاً من العلم".
هذا هو التعايش بالفعل يا مسلمين! أن نختلف لأن ذلك طبيعة بشرية وضرورة شرعية ولكن أن نحترم بعضنا البعض وأن نقبل باختلاف الآخرين ونعذرهم ولا نلومهم على أخذهم برأي آخر طالما هو اختلاف في الفروع. وكذلك أنه من الممكن أن نقلدهم في الفروع لو كنا مختلفين. ولقد قرأت عن الإمام أحمد بن حنبل في فقهه أنه لا يُجهر بالبسملة في صلاة الجماعة إلا في المدينة، لأن أهل المدينة يجهرون بالبسملة ولذلك إذا كنت في المدينة فاجهر بالبسملة تأليفا لقلوبهم.
في موضوع الاقتداء بالطرف الآخر، حصل مع الإمام أبو يوسف رحمه الله تعالى أنه أتى مع الخليفة العباسي إلى المدينة المنورة، وهناك احتجم الخليفة (من الحجامة)، عند الحنفية فإن خروج الدم من الجسد إلى موضع يلحقه حكم التطهير يفسد الوضوء، فصلى الخليفة بعد أن احتجم وخرج منه الدم، وأفتاه مالك بصحة الصلاة لأن خروج الدم عند المالكية لا ينقض الوضوء، فقال بعض العلماء لأبو يوسف: "كيف صليت خلفه وأنت ترى أن خروج الدم ينقض الوضوء؟" كيف وقد أفتاه مالك نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة؟
قصة أخرى عن التعايش وهي أن أحد تلامذة الإمام أحمد وهو المشهور بالعندليب يقول: "قدم علينا علي بن المدين وكان أحد أئمة الحديث الكبار، وكان بينه وبين الإمام أحمد علاقة أخوة ومحبة وكلاهما في طبقة المحدثين، فتناقشا في مسألة، وهي هل علي بن المدين يقول بالشهادة أي بالجنة لمن بشر بالجنة كالعشرة المبشرين بالجنة إذا مات على الإيمان؟ الإمام أحمد يقول: "نعم هو في الجنة، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- بشره"، أما علي بن المدين عنده شبهة، فيقول: "أنا لا أقطع جزما تأدبا بين يدي الله، وإنما أقول يرجى". قال العندليب تلميذ الإمام أحمد "فاختلفا، وعلت أصواتهما، فخفت عليهما من أن يقتتلا. فلما انتهت المناقشة، أخذ الإمام أحمد بيد علي بن المدين، وقال له: "ألا تسعنا أخوتنا وإن لم نتفق في مسألة" ". في رواية أخرى يقول "فلما أراد علي بن المدين الانصراف، أخذ الإمام أحمد بركاب فرسه، حتى يركب". وهذه هي الخلافات التي كانت تقع بين الأئمة الكبار ولكن لأنهم كبار كانوا يعتبرونها خلافات طبيعية.
وصف لعصر الإمام أبو حنيفة:
إن أبو حنيفة قد جاء في زمن الخلافات والصراعات الفكرية، فكيف تعايش مع هذا العصر؟
إن الله قد ثبَّت بالإمام أبو حنيفة عقائد أهل السنة والجماعة في العراق أيام الفتن، كما ثبت به الله عقيدة أهل السنة والجماعة بالنسبة للقول بخلق القرآن أيضا في العراق أيام الفتن بالإمام أحمد رحمه الله. لقد نشأ الإمام أبو حنيفة في بيئة متلاطمة بالفتن والنزاعات الفكرية والاختلافات المذهبية سواء كانت فرعية أو عقائدية مع بعض الفرق، ونحن نعلم أن الكوفة التي مصرها سيدنا عمر – رضي الله تعالى عنه- في العام السابع عشر للهجرة، وأرسل إليها كبار الصحابة وعلى رأسهم عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- وهي كانت مقر خلافة سيدنا علي – رضي الله عنه- وطبعا أتى معه من أتى من الخوارج الذين خرجوا على سيدنا عثمان، واستوطنوا في الكوفة التي دخلها ما لا يقل عن ألف وخمسمائة صحابي، متفق عليهم أنهم دخلوها، وهذا أكبر عدد من الصحابة يدخل مدينة بعد مكة والمدينة المنورة، ومع ذلك كانت تموج بالفتن وفيها استشهد سيدنا علي - رضي الله عنه-.
ونشأ التشيع في بدايته وكان يختلف عما هو عليه في أيامنا هذه، كما أنه عاصر زيدًا بن علي وعاصر عبد الله بن حسن المعروف بـ"النفس الذكية". هؤلاء كلهم من آل البيت وكلهم يطلقون شعار نصرة آل البيت. ووجد في زمنه الخوارج، وكان لهم أتباع. ووجد في زمنه المرجئة، وكان لهم أتباع. ووجدت الفرق بكل أنواعها إلى درجة أنه كان يقال في الكوفة، إذا وجد إنسان متفوق فهذا الإنسان فقيه وهذا الفقه كوفي. ويقولون عن المتعبد هذه عبادة بصرية، كالحسن البصري ومحمد بن واسع رحمهما الله. في هذه الأثناء، كان الإمام أبو حنيفة يناقش أصحاب الفرق ثابتا على عقيدته ومثبتا لأهل السنة على عقائدهم، أي أنه كان يناقش الشيعة المرجئة والمعتزلة والخوارج ويناقش مالك في المدينة، ويحتفظ في النهاية بصورته وعقيدته. وثبت الله به عقيدة أهل السنة والجماعة.
إن من كرامات أبي حنيفة - رحمه الله- أنه على الرغم من هذا العجاج الفكري والعقدي والفقهي خرج بعقيدة أهل السنة والجماعة كما يخرج اللبن السائغ من بين فرثٍ ودمٍ لبنا خالصا سائغا للشاربين.
نعم للتعايش لا للذوبان:
كيف خرج خالصا؟ إن فكرتنا تقول نعم للتعايش ولكن لا للذوبان. فقد يظن بعض الناس أن التعايش معناه أن نفقد أفكارنا وهويتنا، فمثلاً إننا نطلب من المسلمين في الغرب أن يتعايشوا مع المجتمع الغربي، هل معنى ذلك أن يصبحوا غربيين ويتلاشوا؟ لا، إننا نقصد التعايش والاندماج مع الاحتفاظ بالهوية والاعتزاز بها. وهذه هي فكرة التعايش مع الثبوت على الفكر، فكيف ثبت الإمام أبو حنيفة؟
كما قالوا قديما "ارفع للحق راية يأتك أهلها"، أي على الإنسان أن يرفع راية الحق وإن كان وحده، وسيأتي أهل الحق يجتمعون تحت هذه الراية. إذا علمنا أن الإمام أبو حنيفة انتقل من الكوفة إلى البصرة حوالي ثمانية والعشرين مرة ليناقش أهل الأهواء ويردهم إلى منهج الاعتدال، إلى منهج أهل السنة والجماعة، ولقد ناقش الخوارج في كثير من المسائل، وكان يرد عليهم الأدلة العقلية الملزمة خوفا من أن يدخلوا في الآيات القرآنية، كما قال سيدنا علي –رضي الله عنه- لابن عباس – رضي الله عنهما- لما أرسله ليناقشهم، قال: "احتج عليهم بالسنة. لا تحتج بالقرآن، فإن القرآن حمال أوجه"، فإذا قلت لهم أنا أفهم من هذه المسألة كذا فسيقولون لك نحن نفهم منها كذا، هذا في قضايا العقيدة وليس في قضايا الفروع.
لما كان الإمام أبو حنيفة مع تلامذته فقد أسس هذا المعنى فبدأ يدافع عنه إلى آخر لحظة من لحظات عمره، بدليل أنه عندما أراد النزول إلى الحج أوصى تلامذته أنه إذا سئلتم في مسألة عقدية فلا تجيبوا وقولوا إننا ننتظر شيخنا ليعود، فلما رجع قالوا له: "سألونا عن قضية الإيمان يزيد وينقص، أو لا يزيد ولا ينقص، سألونا عن مسائل تتعلق بالإمامة، سألونا في قضايا مرتكب الكبيرة، سألونا في التحكيم، سألونا في القرآن الكريم، هل هو كلام الله عز وجل هل هو مخلوق أم لا؟ فقالوا: لا نجيب عن هذه الأسئلة حتى يعود الإمام أبو حنيفة"، فقالوا: "جزاكم الله عنا كل خير".
مثال: الإمام أبو حنيفة كان في مسجده مرتان، فدخل عليه جماعة من الخوارج، قالوا له: "نريد أن نسألك سؤالاً"، والحقيقة أنهم كانوا يريدون أن يستبيحوا دمه، فقالوا: "معنا جنازة في الخارج، هل يصلى عليها أم لا يصلى عليها؟" كان هذا الرجل إما خالفهم في قضايا ارتكاب الكبيرة، هل هي تكفر أم لا تكفر؟ "هل هو في منزلة بين منزلتين؟ أم مرتكب الجريمة كافر؟ كما هو رأي الخوارج. فكانوا يتوقعون أن يقول لهم يصلى عليه لأنه مسلم قتلوه ظلما، فهم يريدون قتل الإمام بذلك، لأنه إذا وافق أن هذا الرجل مسلم ويصلى عليه خالفهم، إذاً يقتلونه، فهم متطرفون فكرياً. وما من تطرف في زمننا هذا إلا وله ركائز تاريخية. فقال لهم بما عرف عنه من ذكاء وسرعة بديهة: "أجنازة يهودي؟" قالوا: "لا"، قال: "جنازة نصراني؟" قالوا: "لا"، قال: "جنازة من؟" قالوا: "جنازة مسلم"، قال: "أنتم حكمتم".
في إحدى المرات دخلوا عليه، وقالوا: "نريد أن نستفسر في أمر، ما رأيك في التحكيم؟" وكانوا يقصدون بالتحكيم أي التحكيم بين علي ومعاوية في الخلاف القديم، فكيف أن كلاهما رضي بالتحكيم وأرسل من ينوب عنه. والخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي -رضي الله عنه- يرفضون التحكيم، ولذلك خرجوا عليه وقالوا "لا حكم إلا لله". فقال سيدنا علي –رضي الله عنه- كلمة حق أريد بها باطل. وبالحديث عن موضوع التعايش أن الخصم حتى لو لم يتق الله فينا فيجب أن نتقي نحن الله فيه. ولما قيل لسيدنا علي –رضي الله عنه- أن الخوارج يعتبرون كفارا، فقال: "لا ما هم بكفار"، قالوا: "إذًا، منافقون!"، قال: "المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً"، لأن الخوارج كانوا يصلون كثيرا ويقرؤون القرآن كثيرا، كما ورد في الأحاديث، قالوا: "إذا فمن هم؟" قال: "إخواننا بغوا علينا"، وقاتلهم وقاتلوه، وأخيرا قتلوه –رضي الله تعالى عنه- كما فعل عبد الرحمن بن ملجم.
وعندما سألوا الإمام أبو حنيفة عن التحكيم، فلو قال لهم أن التحكيم جائز ابتداء وانتهاء وما يترتب عليه من آثار لقتلوه، قال: "نتناقش في المسألة"، فالإمام أبو حنيفة وهو في أول نشأته تعلم علم الكلام، حتى أصبح رأسا فيه، ثم بعد ذلك تركه وأدلف إلى علم الفقه، ولأنه يخشى من أن يمارس علم الكلام غير المتمكن، نهى ولده حماد أن يتكلم في علم الكلام، وقال كلاما رائعاً. قال له ولده حماد: "أتنهى عن علم الكلام وأنت الذي أصبحت فيه علما يشار إليك بالبنان؟" "نعم، كنا إذا تكلمنا في علم الكلام كأن على رؤوسنا الطير، خشية أن يزل أحدنا فيكفر، أما أنتم فإنكم تناقشونه تتمنون زلته، فإذا زل كسرتموه، ومن تمنى الكفر لأخيه كفر". وعندما قال لهم الإمام أبو حنيفة: "نتناقش في المسألة"،
فقالوا له: "جميل".
فقال لهم: "إذا اختلفنا أنحتاج إلى من يحكم بيننا؟" أي من يرجح فعلاً أنه بالفعل حصل هذا النقاش، فاختاروا واحدا منهم أن يكون حكما إذا اختلفوا في مسألة أو اتفقوا على رأي، وكأنه مراقب يقر بأن الحق مع كذا أو أن هذا صواب وهذا خطأ، فلما رضوا بذلك،
قال: "أنتم حكمتم"، أي أنكم أحضرتم أيضا حكما وبالتالي فأنتم رضيتم بالتحكيم.
الختام:
إن في الفروع تساهل وجمع إلخ..، أما في الثوابت فثبات على مبدأ. فالإمام أبو حنيفة كان متعايشا في قضايا الفروع إلى أقصى درجة، وصلب وثابت في ثوابت هذا الدين لا يذوب، فلا يفقد ثوابت هذا الدين لأقصى درجة. هل من إضافة لك يا دكتور في ختام هذه الحلقة؟
أريد فقط أن أختم بجملة أمور ولو سريعا، أولا وهي أن الثبات على العقيدة أو الثوابت لا يلغي فكرة التعايش مع الآخرين، فالأئمة الذين أخذوا من النبي – صلى الله عليه وسلم- عن طريق الصحابة، علمونا هذا المبدأ. فرسول الله – صلى الله عليه وسلم- تعايش مع الناس لأنه داعية، ولا يمكن للداعية أن يكون منعزلاً عن الناس، ولكن حافظ على الثوابت التي علمها لأصحابه، فكان يلتقي بالمشركين مناقشا، ويلتقي بأهل الكتاب مناقشا، وعقد وثيقة العيش المشترك الأولى في العالم وهي في المدينة المنورة.
الأمر الثاني هو أن الاختلاف الفقهي إذا عرفنا أسبابه وعرفنا أنها أسباب طبيعية وضرورية من أجل أن تكون هناك سعة، فلا يمنع أن نكون مختلفين على أربعة مذاهب بدلاً من أن تدعوا بالخط العريض على إتباع الكتاب والسنة خوفا على عيشنا المشترك، ونفاجئ أننا أصبحنا آلاف المذاهب الموجودة في أيامنا هذه، والتي لا يقبل بعضها البعض الآخر، لا نقاشا فحسب ولكن ربما كفر بعضهم بعضا على بعض المسائل الجزئية، حتى وصل الأمر ببعضه أنهم أنزلوا كل المسائل الفرعية من ناحية التطبيق بمنزلة واحدة. فليس عندهم ترتيب أولويات. فقد غاب عن الأذهان كثيرًا من هذا الترتيب. فهم لا يفرقون بين الفرض والواجب، والسنة المؤكدة وغير المؤكدة، كل يدعى إليه على أنه في دائرتي إما المأمور وإما الممنوع أو المنهي عنه، وهذا خطأ ففي المأمورات هناك درجات وفي المنهيات هناك أيضا درجات، ولذلك عندما دخل سيدنا علي رضي الله عنه إلى مسجد الكوفة ووجد بعض الناس تصلي قبيل صلاة العيد على أنها سنة أو تحية المسجد، مع أنه ليس هناك سنة له في الأصل، فقال له بعض من جالسه: "ألا تنهى الناس عن هذه الصلاة ولم يفعلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم-؟" فقال بالخط العريض الفقهي الكبير، "{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى{9} عَبْداً إِذَا صَلَّى{10}} سورة العلق (الآيات 9،10) ، كيف أنهاه عن الصلاة؟
الأمر الثالث، يمنع علينا أن نتعصب لمذاهبنا الفقهية حتى لا تتحول هذه المذاهب التي بنيت على أساس السعة والسماحة ورفع الحرج والمشقة إلى أن تصبح هي نفسها مشكلة تمنع أن يتعاون الحنفي مع المالكي، أو الشافعي مع الحنبلي والعكس.
أما الأمر الآخر، فإذا منعنا التعصب فلا بأس من التحاور والمناقشة العلمية الرزينة في قضايا الفكر، ولكن بشرط أن تبقى الآداب الإسلامية وأن تبقى معاني الأخوة قائمة وأن يكون القصد والإخلاص ظاهرا بين أيدينا حتى نصل إلى حقيقة معينة، فإن لم نتفق فكما قال الإمام أحمد: "يا علي بن المدين، ما ضر أخوتنا إن لم نتفق في مسألة قط".
جزاك الله خيرا سيادة المفتي، كلمة مني في الختام عن أبي حنيفة هي قول له هو: "اللهم من ضاق صدره بنا، فاجعل قلوبنا تتسع له". إن هذا هو التعايش بالفعل، وهذا الإمام العظيم في عام ثمانين هـ، ومؤسس أول مدرسة للفقه الإسلامي يقول هذا الكلام، يجب أن نستطيع من الآن تقبل بعضنا البعض طالما أن الموضوع ليس ثابتا من ثوابت ديننا. فيجب أن نستوعب بعضنا البعض، ليس بفقد الهوية وإنما بالاعتزاز بإيماننا وما نراه ونمارسه وباحترامنا للآخرين.
المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1048
Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة
يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع
management@daraltarjama.com :للاستعلام