الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أهلاً بكم في الحلقة الثانية من "دعوة للتعايش"، وهي عبارة عن مقدمة تشويقية أرجو أن تنال إعجابكم .



دعونا نستذكر أولاً معنى "التعايش"، "التعايش" يعني كيف نتفاهم ونتحاور؟ وكيف يحترم ويقدر بعضنا بعضاً؟ كيف نبحث عن مساحة مشتركة فيما بيننا، ونبني جسوراً لا حوائط وحواجز بيننا؟ هذا البرنامج موجه للزوج وزوجه، للآباء والأبناء. ونيتنا منه أن نُرَسِّخَ معاني الحوار والتفاهم داخل العائلة، وأن نقلل من نسب الطلاق ونقلل من التعاسة، وأن نحمي جيل الشباب وننقذهم مما ينتشر بينهم من المخدرات والتطرف؛ فنستوعبهم ونستمع إليهم - ويستمعون إلينا هم أيضاً- لا أن نتهمهم وقد نكون نحن السبب في رفضهم التحدث معنا، أو أنه لا يوجد حوار مشترك أصلاً بيننا وبينهم.



نيتنا في هذا البرنامج: ".... فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ...." (الأنفال:1)، نيتنا: " إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ...." (الحجرات:10)، نيتنا: (المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)، نيتنا: (المؤمنون أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم )، نيتنا أن يُحترمُ الإسلام في العالم بعدما وُجِدت صور صارخة من عدم احترام بعضنا البعض وعدم استماع بعضنا بعضاً، فظن المسلمون أن دينهم لا يوجد به تعايش، وظن الغرب أن المسلمين بعيدون كل البعد عن الحوار والتفاهم حتى وُصِمنا بالهمجية! ونحن نقول بأن ديننا هو أعظم الأديان حوارًا وتعايشاً، فقرآننا كتاب حِوَاريّ. لكن ليس معنى التعايش معك أيها الغرب أن تفرض علينا ثقافتك، وتمحو شخصية شبابنا، ولا أن تأخذ أرضي وتدعوني للتعايش؛ فالتعايش لا يعني الذوبان، بل هو أن نكون أنا طرف، وأنت طرف، ونبحث عن مساحة مشتركة للحوار والتفاهم. والتعايش للمسلمين المتواجدين في الغرب هو كيف يندمجون في المجتمع الغربي ليعطوا صورة جميلة للإسلام دون أن يفقدوا هويتهم الإسلامية.



حينما بحثنا عن أمثلة للتعايش، وجدنا أن علينا اختيار نماذج من تاريخ أمتنا. فأنا أريد التعايش مع الغرب، ولكن حين أبني تصوري للتعايش ولنهضة أمتنا، لابد أن يكون ذلك نابعًا من جذورنا لكي يعرف الغرب حقيقة الإسلام. إن هذا البرنامج يخاطب الغرب، ولا مانع من الاستعانة بالتجارب الأخرى فهذا من التعايش. وقد رَوَيْنا من قبل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجدنا تجربة مفيدة جدًّا، ومناسبة للوقت الذي نعيشه: الأئمة الأربعة.



لماذا الأئمة الأربعة ؟

أولاً، أقول بأن هذه الحلقة تشويقية، بمعنى أنني سأذكر عنهم بعض الأمور، وأسأل لماذا فعلوا كذا؟ وكيف تصرفوا في موقف كذا؟ ثم نعرف التفاصيل في الحقات القادمة إن شاء الله. وقد اخترنا الأئمة الأربعة لأنهم من تاريخنا، ولأنهم أئمة التعايش في تاريخ المسلمين، بل وفي تاريخ البشرية. وسوف أثبت صحة هذه الكلمة خلال العشرين حلقة القادمة -إن شاء الله-. فهم أئمة التعايش، والتفاهم والحوار، والحضارة في تاريخ البشرية، كما أنهم تواجدوا في أواخر الدولة الأموية، وفي عصر الدولة العباسية - أي في زمن مشابه لزماننا- في زمن شَهَد انفتاحًا ضخمًا، وتجديدًا، وعلومًا، ونهضةً، وانطلاقةً غيرَ عادية بالإضافة لنقطة مشابهة جدًّا لواقعنا الحالي، وهي أنهم جاءوا في وقت غزوٍ ثقافي للمسلمين من ثقافات أخرى كالفرس والروم، فكلهم يدخلون في الإسلام بثقافتهم، وقد استطاع الأئمة الأربعة التعايش مع هذه الثقافات المختلفة دون أن يذوبوا فيها، وحافظوا على دين الأمة وثقافتها دون أن ينغلقوا على أنفسهم. فقد جاءوا بعد زمن شهد الفتنة بين سيدنا علي بن أبي طالب، وسيدنا معاوية بن أبي سفيان، فكيف تعاملوا مع هذا الأمر؟ وماذا قالوا عنهم؟ وماذا قالوا عن سيدنا عثمان؟ وعن أبي بكر وعمر؟ كيف كانوا يتصرفون إذا تطاحن الناس؟



الأئمة الأربعة مختلفين:

وجد الأئمة الأربعة في بداية تشكيل الفقه الإسلامي، فالنبي صلى الله عليه وسلم مات وترك لنا القرآن والسنة. عدد الآيات والأحاديث محدود بينما ستستجد - إلى يوم القيامة- أحداثًا وعقودًا، وقضايا في البيع والشراء، والزواج والطلاق، وعلاقة المسلمين بغير المسلمين وعلاقة الحاكم بالمحكوم، والعبادات وغيرها، فكيف نستخرج ونستنبط من هذه الآيات والأحاديث المحدودة حلولاً لمشاكل غير محدودة ؟ هذا هو الفقه. لذلك فهو من أهم وأعظم العلوم الإسلامية.



والأئمة الأربعة من أوائل من قام بهذا، وكان لكل منهم طريقة وفكر وقواعد مختلفة عن الآخر، أي أنهم مختلفون في قضايا كبيرة وليست فرعية - كما هو الحال الآن- ورغم هذا الاختلاف إلا أنهم كانوا يُكنّون لبعضهم كل الحب والاحترام، فهل رأيتم مثل هذا التعايش؟ وهل علمتم سرَّ اختياري للأئمة الأربعة؟ لأنهم نموذج رائع في التفاهم والتعايش، والود والاحترام، والاستماع وقبول الآخر، وليس قبول فكره بالضرورة، ولكن قبول وجوده بجانبي. نريد أن نكون مثل هؤلاء، ونريد أن نحكي عنهم للغرب الذي يقول إن من أسباب جمود المسلمين جمود فقههم وأئمتهم الأوائل.



تتحدث هذه الحلقة عن الأئمة الأربعة جميعًا. وابتداءً من الحلقة القادمة - بإذن الله- سوف نتناولهم واحدًا تلو الآخر بحسب ترتيبهم الزمني، وسنبدأ أولاً بحياة الإمام أبي حنيفة فنحبه ونتخيله، ثم نبحث في مدى تعايشه، وفي تعامله مع مشاكل عصره، ومع الحكام، ومع العصاة ومع غير المسلمين، ونرى كيف كان يفكر؟ وكيف استمر نجاحه ثلاثين سنة - والناس مجتمعة عليه-؟ حتى نتعلم منه. لاحظوا أنه لو لم يكن الأئمة الأربعة متعايشين لما نجحوا إلى هذا الحد. ولا تظنوا أنه لم يوجد فقهاء غيرهم، بل وأعلم منهم - ومنهم أساتذتهم- فلماذا وصلنا فقه الأئمة الأربعة، ولم يصلْنا فقه هؤلاء؟ وما الذي ميَّزَ هؤلاء الأربعة عن الباقين؟ الموضوع ليس مجرد فقه، بل هو القدرة على التعايش؛ فهؤلاء الأربعة تعايشوا مع الجيل التالي لهم، فورَّثوا علمهم لتلامذتهم الذين نشروا هذا العلم. فأين - من الجامعات اليوم- مَنْ يفعلُ مثل هذا ويعتني بأفراد بعينهم ليكونوا علماء بعد عشرين سنة بدلا من هجرة العقول الناجحة إلى الغرب؟ كان أبو حنيفة أول من فعل ذلك حين اختار أربعةً من تلامذته، وبدأ يعطيهم المنح المالية لفقرهم حتى يتفرغوا للعلم قبل أن تعرف جامعات أوروبا هذا النظام بسنوات، فخرج من تحت يده أربعةٌ، منهم: أبو يوسف الذي أصبح فيما بعد قاضي قضاة العالم الإسلامي، في حين إن علماءً آخرين مثل: الليث بن سعد الذي كان في مصر والذي قال فيه الإمام الشافعي: (الليث بن سعد أفقهُ من مالك غير أن أصحابه ضيعوه) ضيعوا علمهم فلم يُورِّثوه.



من أسباب نجاح الأئمة الأربعة كذلك، مرونتهم ومرونة فقههم؛ فالإنسان المرن يجيد التعايش مع الناس، ومنها كثرة سفرهم واحتكاكهم بالناس، وسكنهم في مدن رئيسية. فالمنعزل لا ينجح، وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه). ومن الأسباب كذلك، علاقتهم بالحكام رغم عدم موافقتهم أحيانًا على ما يفعله الحاكم إلا أنها لم تصل أبدًا إلى الصدام، فلم يُداهنوهم كما لم يصطدموا بهم، ولذلك لم يُحْجَبوا عن الناس ولم تُمنَع أفكارهم. ومن أسباب نجاحهم، أنهم قدموا المنفعة لملايين من الناس، فهم دائمًا لديهم أفكاراً جديدة، حتى إن الإمام الشافعي قد تأثرت به أوروبا لأنه أتى بفكرة جديدة، وهي أن أي علم لابد له من قواعد يقوم عليها - وذلك لم يكن موجود من قبل-، فوضع قواعد لاستنباط الأحكام الفقهية من القرآن والسنة وجعلها في كتاب، فأسس بذلك طريقة للتفكير المنطقي، وكيفية التفكير بشكل مرتب ومتسلسل، وقد أخذها عنه ابن رشد في الأندلس، وأخذتها أوروبا عن ابن رشد. وكذلك الإمام أحمد بن حنبل الذي كان يحضر له 5000 طالب و10.000 طالب في ذلك الزمان ولمدة عشر سنوات في بغداد. انظروا للإمام مالك الذي مات في الثامنة والسبعين من عمره وقد استمرت حلقته 60 عامًا متواصلة والناس تأتي إليه من القارات الثلاث وحضر عنده ثلاثة أجيال.



تعريف بالأئمة الأربعة :

أولاً المولد: وهنا ملحوظة هامة، فقد جاءوا جميعًا من مدن كبرى، أي عاشوا محتكين بالناس في مجتمعات كبيرة، اثنان منهم وُلِدا في العراق، واثنان وُلِدا في الحجاز. أما العراق، فقد ولد الإمام أبو حنيفة عام 80 للهجرة في الكوفة التي كانت مقرًّا للخلافة الإسلامية أيام سيدنا علي بن أبي طالب، والإمام أحمد بن حنبل الذي ولد في بغداد، فهذان يمثلان مدرسة العراق. وأما الحجاز، فقد ولد الإمام مالك في المدينة، والإمام الشافعي في غزة بفلسطين لكنه - وهو في الثالثة من عمره - عاد إلى مكة بعد وفاة أبيه، وهو في الأصل من مكة، فهذان يمثلان مدرسة الحجاز.



ثانياً الأصول: اثنان من أصول عربية، أحدهما: الشافعي فهو قرشي، ومن نسب النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر أحمد بن حنبل من بني شيبان، وهي قبيلة عربية كبيرة، ومنها المثنى بن حارثة - أول من حارب الفرس في الفتوحات الإسلامية-. واثنان من أصول غير عربية، أحدهما: أبو حنيفة فأصله فارسي، والآخر الإمام مالك إذ يقال إن أصله من الموالي، وهذه نقطة خطيرة في التعايش، فقبل الإسلام لم يكن العربي ليقبل أن يتبع أحدًا من غير العرب، فهل يعقل أن الإسلام غيرَّهم لهذه الدرجة؟ بينما اليوم، نجد داخل المجتمع الواحد طبقة ترفض الأخرى ويُنظر للناس على أساس الجنسية أو الغنى والفقر!



ثالثاً الترتيب الزمني: نرتب الأئمة الأربعة ترتيبًا زمنيًا: فأولهم الإمام أبو حنيفة، يليه الإمام مالك، ثم الإمام الشافعي، وأخيرًا الإمام أحمد بن حنبل. وكلهم تتلمذوا على يد بعض، فأحمد بن حنبل تلميذ الشافعي، والشافعي تلميذ مالك، وأحمد والشافعي تتلمذا على تلاميذ أبي حنيفة، فأحمد بن حنبل تلميذ أبي يوسف، والشافعي تلميذ محمد بن الحسن. وكلهم مختلفون في الفكر. وهذا يبين لنا كيف أن التعايش لا يعني الذوبان وفقدان الشخصية، وفي الوقت نفسه، يحب ويحترم بعضهم بعضًا. فهل يمكنك أن تكون شخصية منفتحة ومتعايشة دون أن تفرّط بثوابتك؟



رابعاً الوضع الاجتماعي والمالي: اثنان منهم أغنياء، واثنان فقراء؛ أبو حنيفة ومالك من الأغنياء، فأبو حنيفة تاجر غني جدًّا لكنه كان إذا جالس الفقراء لم يحسبوه غنيًّا. والشافعي وأحمد بن حنبل من الفقراء، ومع ذلك يتودد لهما الملوك والأمراء. وبالمناسبة، كلهم أشكالهم جميلة، وكلهم طوال القامة، اثنان منهم أبيضا البشرة وهما أبو حنيفة ومالك. وقد كان مالكًا أشقرَ أزرقَ العينين، واثنان أسمران.



خامساً الكتب: ثلاثة منهم قد ألّفوا كتبًا، وواحدًا لم يؤلف. فالشافعي وضع فكره في كتاب أسماه "الرسالة". وأحمد بن حنبل جمع "مسند الإمام أحمد بن حنبل". ومالك كان أول من ألف، فكتب كتابه "الموطأ"، أما أبو حنيفة فلم يؤلف كتابًا، لكنه صنع رجالاً، والرجال هم الذين كتبوا كلامه. وقد قام أبو حنيفة بعمل عجيب، فقد اتفق مع أصحابه أن يعملوا ضمن فريق، وأن يناقشوا كل مسألة، والرأي الذي يتفقون عليه في النهاية هو الذي يُكتَب، وليس رأي أبي حنيفة الشخصي، أي أنه عمل أكاديمية أو مَجْمَعًا فقهيًّا، فصار تلامذته يعشقون هذا اللقاء الذي يجمع عددًا كبيرًا من طلاب العلم. واستمر هذا المَجْمَع ثلاثين عامًا حتى إن بعض العلماء الكبار في ذلك الوقت تركوا حلقاتهم وانضموا لمجلس أبي حنيفة من أجل مصلحة الإسلام. فليستمع الغرب الذي يتحدث عن العصف الذهني وفرق العمل ماذا فعل أبو حنيفة منذ ذلك الزمن؟!



لو نظرنا إلى متوسط أعمارهم نجد أنهم عاشوا طويلاً: أبو حنيفة 77 سنة، ومالك 86 سنة، وأحمد بن حنبل 77 سنة، والوحيد الذي مات صغيرًا كان الشافعي 54 سنة لكن كان له إنتاج غزير. ولم يحدث لأيٍّ منهم أن انفضَّ الناس عنه قبل موته، وليس السبب في علمهم فقط- وإن كان العلم أساسيًّا بالطبع- لكن هناك أمرًا آخر، هل هو التعايش؟ هل هو القدرة على التعامل مع الناس؟ كان الإمام أبو حنيفة في الحج، فجلس إلى الحلاق ليحلق رأسه، فسأله أبو حنيفة: كم سأدفع لك؟ أجابه الحلاق: لا يصح في النسك أن نتشارط على المال، فاستأذنه أبو حنيفة في كتابتها، ثم عاد فجلس فقال له الحلاق: استدر نحو القبلة فهذا نسك، فكتبها أبو حنيفة، ثم قال له الحلاق: كَبِّرْ وهلِّل إنها نُسك، فجعلها أبو حنيفة في فقهه وقال: تعلمتُ من الحلاق خمسة مسائل في الفقه لم أكن أعلمها من قبل، ولعل هذا من أسرار تفوقهم، أنهم لا يستكبرون على التعلم من أحد. وهذا الإمام مالك، قد بدأ حلقته وكان له من العمر 17 سنة واستمر حتى مات. وطوال هذه المدة كان الحضور بالآلاف حتى اضطر للاستعانة بمن يساعده في النظام فكان ينادي: (ليدخل أهل الحجاز) فلا يدخل غيرهم، (ليدخل أهل الشام)، (ليدخل أهل مصر). ويقال إنه لم يشتهر في تاريخ المسلمين - في عصرهم بعد الخلفاء الراشدين - مثل الشافعي وأحمد بن حنبل. وكان الشافعي أينما انتقل يجتمع له عشرات الآلاف في مسجد عمرو بن العاص بمصر وفي المسجد الجامع بالعراق .



فمن يتعلم التعايش مع الغير سينجح في التعامل مع الناس. اليوم، يخسر الشخص جاره لأبسط سبب - إن خسارة إنسان واحد لأمرٌ عظيم-، فكيف تكون طريقة تفكيرنا أنني أريد أن أكسب الناس ولا أخسرهم؟ وهناك قاعدة تقول: لو أن ألفَ شخصٍ راضون عنك، وواحدًا فقط ليس براضٍ فاركضْ نحو هذا الشخص، ولا يعني هذا أنك لن تخسر أحدًا كما لا يعني التعايش أنك منافق. فالأئمة الأربعة أُوذوا وسُجنوا وضُربوا، فهم متعايشون مع الجماهير وفي الوقت نفسه أصحاب مبدأ. والتعايش لا يعني أنك لن تصاب بأذى، بل هو طريقة تفكير. وكان الإمام أحمد يقول لخصومه: بيننا وبينكم الجنائز، وقد خرج في جنازته عشرات الآلاف حتى سُدَّت الطرق، بينما من تسببوا في إيذائه وسَجْنِهِ ماتوا لا يُذكَرون. كيف يكون الإيذاء بسبب المبدأ رغم التعايش؟ هذا أبو حنيفة كان متعايشًا مع الخليفة، وكان يحترم الخلافة العباسية إلى أن طلب منه الخليفة أن يتولى أمر القضاء فرفض لأنه لم يجد حرية القضاء متحققة، فعُذِّب وضُرِب بالسياط حتى قالت له أمه: اقبل، قال: يا أمي إنْ قبِلتُ فَقَدْتُ الدنيا والآخرة. لكنه مع ذلك قال لتلميذه أبي يوسف: أراك ستكون قاضيًا وسيتغير الزمن، قال: كيف أقبلُ القضاء وأنت رفضته؟ قال: وهل زمنك مثل زمني؟ القضاء عظيم لكن ما أنا فيه هو ما منعني. فانظروا إلى التوازن والتعايش .



دور المرأة في حياة الأئمة الأربعة:

فالمرأة لها دور كبير في حياة الأئمة الأربعة، وهذا أمر ربما يَخفَى على الكثيرين. فأحمد بن حنبل وراءه أمه التي مات زوجها وهي شابة فرفضت الزواج حتى تربيه. والإمام الشافعي وراءه أمه التي قالت له: قد نذرتك للعلم لعل الله يجمع بك الأمة. ففكرة التعايش وجمع الأمة كانت عند أم الشافعي وغرستها به وحثته على تعلم كل ما يمكن أن يجمع به الأمة حتى كان إمام التعايش. والإمام مالك وراءه أمه إذ أنقذته، فقد كان يسير في طريق مختلف تمامًا فحوَّلت مساره بذكاء الأم دون قهر. فيا أمهات، بالله عليكن نريد أن نستفيد من قصص الأئمة الأربعة ونُخرج أبناءً بهذه الصورة. وكانت ابنة الإمام مالك تجلس خلف الجدار أثناء الدرس، وأحد تلامذته يقرأ والإمام مالك يعلق، فكانت لو أخطأ الرجل طرقت على الجدار لتنبه أباها فهي تحفظ كتابه الموطأ مثله تمامًا. وقد كان ممن تعلم الإمام مالك العلم على أيديهم: عائشة بنت سعد بن أبي وقاص. كذلك الإمام الشافعي حين انتقل إلى مصر ذهب ليتعلم على يد السيدة نفيسة بنت الحسن بن علي، ولم يأنف أن يتتلمذ على يد امرأة. أما الإمام أبو حنيفة فكان للنساء مكان مخصص في حلقته ضمن طلاب العلم الثلاثين الذين يشاورهم في الفتاوى.



ثم انظروا إلى تعايش أبي حنيفة مع الأم التي ترى ابنها صغيرًا مهما كبر. فذات يوم، حلفت أمه يمينًا، وأرادت أن ترجع فيه، فسألته فأفتاها لكنها أبت القبول منه وقالت له: بل أذهب إلى زرعة القاص - وزرعة القاص عابد يحبه الناس ولكنه ليس فقيهًا-، فلو أن غير أبي حنيفة مكانه لربما رفض وقال: لها ستفضحينني أمام الناس، ولكن أبا حنيفة أخذ أمه إلى زرعة القاص وأرسل له يقول: لو جاءك سؤال كذا فجوابه كذا، فلما دخلوا على زرعة قالت له: أفتنا، قال: أفتيكِ ومعكِ إمام الأمة؟! فقال له أبو حنيفة: أفتها، فأجابها بمثل جواب أبي حنيفة فقبلت منه.



الأئمة الأربعة والعبادة: فقد كانوا قدوة كاملة وكان كلامهم موافقًا لعملهم، وهذا هو سر نجاحهم. فكانت عبادتهم عظيمة فتراهم يصومون ويقومون الليل، حتى إن الإمام أبا حنيفة قام ليلةً يصلي بآية: "فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ . إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ" (الطور:27،28)، فجاءه أحدهم ليستفتيه وجده يقرأها فذهب ثم رجع فوجده ما زال يصلي بها ويبكي.



الأئمة الأربعة ومواهب أخرى: وقد كان لديهم مواهب أخرى غير الفقه، فالإمام أحمد كانت لديه موهبة الخط الرائع، والإمام الشافعي لديه موهبة الشعر، وهو القائل: نعيبُ زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا، والإمام مالك والتفكير في مصلحة الناس.



هذه كانت مقدمة وتمهيد للحديث عن الأئمة الأربعة. أنا فخور وأنا أتكلم عن تاريخنا، وأقول للغرب: اسمعوا تاريخنا. وأقول للمسلمين في الغرب: اندمجوا في المجتمع حولكم وأنتم فخورون بهذا الانتماء. وأقول لشبابنا: افتخروا بثقافتنا وتعايشوا دون ذوبان. وأقول لأهل فلسطين ولأهل لبنان وأهل العراق: تاريخنا جميل فمن المعيب أن نختلف فيما بيننا هكذا والعالم يسخر منا، نريد أن نتعايش في البيت، مع الأزواج، مع الأولاد، مع الجيران والأقارب إلى أن نصل للتعايش مع كل الأمة .

المصدر: http://daraltarjama.com/dt/block.php?name=e3dad_articles&item_id=1010

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

management@daraltarjama.com :للاستعلام