الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
الله تبارك وتعالى يقول إن الذين جاءهم الكتاب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفونه.. يعرفون ماذا؟ هل يعرفون أمر تحويل القبلة؟ أم يعرفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه ورسالته التي يحاولون أن يشككوا فيها؟ الله سبحانه وتعالى يشرح لنا ذلك في قوله تعالى:{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }[البقرة: 89]
فكأن اليهود والنصارى يعرفون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. ومكتوب في التوراة والإنجيل أنه الحق ومطلوب منهم أن يؤمنوا به.. إن كعب الأحبار كان جالسا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان موجودا فسأله عمر أكنتم تعرفونه يا كعب؟ أي أكنتم تعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم ورسالته وأوصافه؟ فقال كعب وهو من أحبار اليهود.. أعرف كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد.. فلما سألوه لماذا؟ قال لأن ابني أخاف أن تكون امرأتي خانتني فيه أما محمد (صلى الله عليه وسلم) فأوصافه مذكورة بالدقة في التوراة بحيث لا نخطئه.
إذا فأهل الكتاب يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرفون زمنه ورسالته.. والذين أسلموا منهم وآمنوا فعلوا ذلك عن اقتناع، أما الذين لم يؤمنوا وكفروا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوا ولكنهم كتموا ما يعرفونه.. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }.. وساعة تقول كتم الشيء.. فكأن الشيء بطبيعته كان يجب أن يبرز وينتشر.. والحق بطبيعته لابد أن يبرز وينتشر ولكن إنكار الحق وكتمه يحتاج إلى مجهود.
إن الذين يحققون في القضايا الدقيقة يحاولون أن يمنعوا القوة أن تكتم الحق.. فيجعلون من يحققون معه لا ينام حتى تنهار قواه فينطق بالحقيقة.. لأن النطق بالحق لا يحتاج إلى مجهود، أما كتم الحق فهو الذي يحتاج إلى كجهود وقوة، وعدم النطق بالحق عملية شاقة.. ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }.. أي أنهم ليسوا جاهلين ولكنهم على علم بالحقيقة.. والحق من الله فهل يستطيع هؤلاء كتمانه؟ طبعا لا، لابد أن يظهر.. فإذا انتشر الكذب والباطل فهو كالألم الذي يحدث في الجسد.. الناس تكره الألم ولكن الألم من جنود الشفاء لأنه يجعلك تحس أن هناك شيئا أصابه مرض فتتجه إليه بأسباب العافية.
إن أخطر الأمراض هي التي لا يصاحبها ألم ولا تحس بها إلا بعد أن يكون قد فات وقت العلاج.. والحق دائما غالب على أمره ولذلك لا توجد معركة بين حقين.. أما الباطل فتوجد معركة بين باطل وباطل. وبين حق وباطل. لأنه لا يوجد إلا حق واحد أما الباطل فكثير..
والمعارك بين الحق والباطل تنتهي بهزيمة الباطل بسرعة.. ولكن الذي يطول هو معركة بين باطلين.. ولذلك فإن معارك العصر الحديث تطول وتتعب الدنيا.. فمعارك الحرب العالمية الثانية مثلا لازالت آثارها ممتدة حتى الآن في الحرب الباردة وغير ذلك من الحروب الصغيرة.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "
(/150)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
الحق من الله سبحانه وتعالى.. ومادام من الله فلا تكونن من الذين يشكون في أن الحق سينتصر.. ولكن الحق لابد من قوة تحميه.. وكما يقول الشاعر:السـيـف إن يـزهـى بـجـوهـره ولـيس يـعـمـل إلا في يـدي بـطلفما فائدة أن يكون معك سيف بتار.. دون أن توجد اليد القوية التي ستضرب به.. ونحن غالبا نكون مضيعين للحق لأننا لا نوفر له القوة التي ينتصر بها.
وقوله تعالى: { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }.. الممتري هو الذي يشك في حدوث الشيء.. والشك معناه أنه ليست هناك نسبة تتغلب على نسبة.. أي أن الاحتمالين متساويان.. ولكن الحق من الله ولا توجد نسبة تقابله.. ولذلك لا يجب أن نشك ولا ندخل في جدل عقيم حول انتصار الحق.
(/151)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
شاء الله سبحانه أن يجعل الإنسان مختارا.. ومن هنا فإن له الاختيار في أن يؤمن أو لا يؤمن.. أن ينصر الحق أو ينصر الباطل.. أن يفعل الخير أو يفعل الشر.. كل هذه اختبارات شاء الله أن يعطيها للإنسان في الدنيا بحيث يستطيع أن يفعل أو لا يفعل.. ولكن هذا لن يبقى إلى الأبد. إن هذا الاختيار موجود في الحياة الدنيا.
ولكن بشرية الإنسان تنتهي ساعة الاحتضار فعند مواجهة الموت ونهاية العمر يصبح الإنسان مقهورا وليس مختارا.. فهو لا يملك شيئا لنفسه ولا يستطيع أن يقول لن أموت الآن.. انتهت بشريته وسيطرته على نفسه حتى أعضاؤه تشهد عليه.. ففي الحياة الدنيا كل واحد يختار الوجهة التي يتجه إليها، هذا يختار الكفر وهذا يختار الإيمان.. هذا يختار الطاعة وهذا يختار المعصية، فمادام للإنسان اختيار فكل واحد له وجهة مختلفة عن الآخر.. والذي يهديه الله يتجه إلى الخيرات وكأنه يتسابق إليها.. لماذا؟ لأنه لا يعرف متى يموت ولذلك كلما تسابق إلى خير كان ذلك حسنة أضافها لرصيده.
إن المطلوب من المؤمنين في الحياة الدنيا أن يتسابقوا إلى الخيرات قبل أن يأتيهم الأجل ولا يحسب واحد منهم أنه سيفلت من الله.. لأنه كما يقول عز وجل: { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً }.. أي أنه ليس هناك مكان تستطيعون أن تختفوا فيه عن علم الله تبارك وتعالى بل هو يعرف أماكنكم جميعا واحدا واحدا وسيأتي بكم جميعا مصداقا لقوله تعالى:{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً }[الكهف: 47]
وقوله سبحانه:{ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }[الذاريات: 50]
أي أن الحق جل جلاله يريدنا أن نعرف يقينا أننا لا نستطيع أن نفر من علمه. ولا من قدره ولا من عذابه.. وأن الطريق الوحيد المفتوح أمامنا هو أن نفر إلى الله.. وأنه لا منجاة من الله إلا إليه.. ولذلك لا يظن كافر أو عاص أنه سيفلت من الله.. ولا يظن أنه لن يكون موجودا يوم القيامة أو أنه لن يحاسب أو أنه يستطيع أن يختفي.
إن غرور الدنيا قد يركب بعض الناس فيظنون أنهم في منعة من الله وأنهم لن يلاقوه.. نقول لهم إنكم ستفاجأون في الآخرة حين تعرفون أن الحساب حق والجنة حق والنار حق. ستفاجأون بما سيحدث لكم.. ومن لم يؤمن ولم يسارع إلى الخير سيلقى الخزي والعذاب الأليم.. إن الله ينصحنا أن نؤمن وأن نسارع في الخيرات لننجوا من عذابه، ويقول لنا لن يفلت واحد منكم ولا ذرة من ذرات جسده من الوقوف بين يدي الله للحساب.. ولذلك ختم الله هذه الآية الكريمة بقوله: { إِنَّ اللَّهَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.. أي أن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء ولا يخرج عن طاعته شيء.. إنه سبحانه على كل شيء قدير.
(/152)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
لابد أن نتأمل كم مرة أكد القرآن الكريم قضية تحويل القبلة.. أكدها ثلاث مرات متقاربة.. لأن تحويل القبلة أحدث هزة عنيفة في نفوس المؤمنين.. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُذهب هذا الأثر ويؤكد تحويل القبلة تأكيدا إيمانيا.
لقد جاء بثلاث آيات التي هي أقل الجمع.. واحدة للمتجه إلى الكعبة وهو داخل المسجد.. والثانية للمتجه وهو خارج المسجد.. والثالثة للمتجه من الجهات جميعا.
قوله تعالى: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }.. هو رد على المنافقين واليهود والنصارى الذين حاولوا التشكيك في الإسلام.. بأن واجهوا المسلمين بقضية تغيير القبلة.. على أساس أنها قضية ما كان يجب أن تتم لأنه ليس فيها زيادة في التكليف ولا مشقة زائدة تزيد ثواب المؤمن.. فالجهد الذي يبذله المؤمن في الاتجاه إلى المسجد الأقصى هو نفس الجهد الذي يبذله في الاتجاه إلى البيت الحرام.. فأنت إذا اتجهت في صلاتك يمينا أو شمالا أو شرقا أو غربا فإن ذلك لا يضيف إليك مشقة. فما هو سبب التغيير؟.
نقول لهم إن هذه ليست حجة للتشكيك في تحويل القبلة لأن الاتجاه إلى المسجد الحرام هو طاعة الله.. ومادام الله سبحانه وتعالى قد قال فعلينا أن نطيع طاعة إيمانية.. يقول المولى جل جلاله: { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.. أي أن ما فعلتموه من تحويل القبلة هو حق جاءكم من الله تبارك وتعالى.. والله عز وجل ليس غافلا عن عملكم بحيث تكونون قد اتجهتم إلى البيت الحرام. بل الله يعلم ما تبدون وما تكتمون.. فاطمئنوا أنكم على الحق وولوا وجوهكم تجاه المسجد الحرام.. واعملوا أن الله سبحانه محيط بكم في كل ما تعملون.
(/153)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
الحق تبارك وتعالى يؤكد لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوجه هو والمسلمون إلى المسجد الحرام.. سواء كانوا في المدينة أو في خارج المدينة أو في أي مكان على الأرض.. وتلك هي قبلتهم في كل صلاة بصرف النظر عن المكان الذين يصلون فيه.
وقوله تعالى: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ }.. الناس هنا المقصود بهم المنافقون واليهود والنصارى.. حجة في ماذا؟ لأن المسلمين كانوا يتجهون إلى بيت المقدس فاتجهوا إلى المسجد الحرام.. وليس لبيت المقدس قدسية في ذاته ولا للمسجد الحرام قدسية في ذاته كما قلنا.. ولكن نحن نطيع الأمر من الآمر الأعلى وهو الله.. إن الله تبارك وتعالى أطلق على المنافقين واليهود والنصارى كلمة (ظلموا) ووصفهم بأنهم الذين ظلموا.. فمن هو الظالم؟ الظالم هو من ينكر الحق أو يغير وجهته. أو ينقل الحق إلى باطل والباطل إلى حق.. والظلم هو تجاوز الحد وكأنه سبحانه وصفهم بأنهم ق تجاوزوا الحق وأنكروه يقول سبحانه: { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } أي لا تخشوا الذين ظلموا: { وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }.. أي أن الخشية لله وحده والمؤمن لا يخشى بشرا.. لأنه يعلم أن القوة لله جميعا.. ولذلك فإنه يقدم على كل عمل بقلب لا يهاب أحدا إلا الحق.
وقوله سبحانه: { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }.. تمام النعمة هو الإيمان. وتمام النعمة هو تنفيذ مطلوبات الإيمان.. فإذا هدانا الله للإيمان فهذا من تمام نعمة علينا. ولكي يكونُ الإيمان صحيحا ومقبولا فلابد أن أؤدي مطالبه والمداومة على تنفيذ تكليفات الله لنا، فلا نجعل التكليف ينقطع. لأن التكليف نعمة بغيرها لا تصلح حياتنا ولا تتوالى نعم التكليف من الله سبحانه وتعالى إلا إذا أقبلنا على منهج الله بعشق.. وأنت حينما تأتي إلى المنهج قد يكون شاقا، ولكن إذا تذكرت ثواب كل طاعة فإنك ستخشع وتعشق التكليف.. لأنك تعرف العمل الصالح بثوابه والعمل في المعصية بعقابه.. ولذلك قال الله تبارك وتعالى:{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }[البقرة: 45-46]
إذن الخاشعون هم الذين يقرنون الطاعة بالثواب والمعصية بالعقاب والعذاب، لأن الذي ينصرف عن الطاعة لمشقتها عزل الطاعة عن الثواب فأصبحت ثقيلة، والذي يذهب إلى المعصية عزل المعصية عن العقاب فأصبحت سهلة.. فمن تمام النعمة أن يديم الله علينا فعل مطلوبات الإيمان.. ولذلك في حجة الوداع نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية الكريمة:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً }
[المائدة: 3]
وكان ذلك إخبارا بتمام رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الأحكام التكليفية قد انتهت.. ولكن الذين يستثقلون التكليف تجدهم يقولون لك لقد عم الفساد والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.. كأنه يحكم بأن هذا في وسعه وهذا ليس في وسعه وعلى ضوئه يأخذ التكليف.. نقول له أَكَلَّفَ الله أم لم يُكلِّف، إن كان قد كَلّف فيكون التكليف في وسعك.. لأنه سبحانه حين يجد مشقة يأمر التخفيف مثل إباحة قصر الصلاة للمسافر وإباحة الإفطار في رمضان للمريض والمسافر فهو سبحانه قد حدد ما في وسعك.
قوله تعالى: } وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {.. الهداية هي الطريق المستقيم الموصل إلى الغاية وهو أقصر الطرق، وغاية هذه الحياة هي أن تصل إلى نعيم الآخرة.. الله أعطاك في الدنيا الأسباب لتحكم حركة حياتك ولكن هذه ليست غاية الحياة.. بل الغاية أن نذهب إلى حياة بلا أسباب وهذه هي عظمة قدرة الله سبحانه وتعالى.. والله جل جلاله يأتي ليعلمنا في الآخرة أنه خلقنا لنعيش في الدنيا بالأسباب وفي الآخرة لنعيش في كنفه بلا أسباب.
إذن قوله تعالى: } وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {.. أي لعلكم تنتبهون وتعرفون الغاية المطلوبة منكم.. ولا يظن أحدكم أن الحياة الدنيا هي الغاية أو هي النهاية أو هي الهدف.. فيعمل من أجل الدنيا فيأخذ منها ما يستطيع حلالا أو حراما باعتبارها المتعة الوحيدة المخلوقة له.. نقول لا، إنه في هذه الحالة يكون قد ضل ولم يهتد لأنه لو اهتدى لعرف أن الحياة الحقيقية للإنسان هي في الآخرة. ولعرف أن نعيم الآخرة الذي لا تفوته ولا يفوتك.. يجب أن يكون هدفنا في الحياة الدنيا فنعمل ما نستطيع لنصل إلى النعيم بلا أسباب في الجنة.
(/154)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
الله جل جلاله بعد أن حدثنا عن الهداية إلى منهجه وإلى طريقه. حدثنا عن نعمته علينا بإرسال رسول يتلو علينا آيات الله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ستأتي على يديه قمة النعم وهو القرآن والدين الخاتم.
قوله تعالى: { رَسُولاً مِّنْكُمْ } أي ليس من جنس آخر. ولكنه صلى الله عليه وسلم رسول منكم تعرفونه قبل أن يكلف بالرسالة وقبل أن يأتي بالحجة.. لماذا؟ لأنه معروف بالخلق العظيم وبالقول الكريم والأمانة وبكل ما يزيد الإنسان رفعة وعلوا واحتراما.. إن أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم هم أولئك الذين يعرفونه أكثر من غيرهم.. كأبي بكر الصديق وزجته صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة وابن عمه علي بن أبي طالب.. هؤلاء آمنوا دون أن يطلبوا دليلا لأنهم أخذوا الإيمان من معرفتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلف بالرسالة.. فهم لم يعرفوا عنه كذبا قط. فقالوا إن الذي لا يكذب على الناس لا يمكن أن يكذب على الله فآمنوا.. فالله سبحانه وتعالى من رحمته أنه أرسل إليهم رسولا منهم أميا ليعلمه ربه.. ولذلك قال الحق تبارك وتعالى:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }[التوبة: 128]
الحق سبحانه يقول: { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ }.. الآيات هي القرآن الكريم والتزكية هي التطهير ولابد أن يكون هناك دنس ليطهرهم منه.. فيطهرهم من عبادة الأصنام ومن وأد البنات والخمر والميسر والربا.. ومعنى التزكية أيضا سلب الضار فكأنه جاءهم بالنفع وسلب منهم الضر.
وقوله تعالى: { وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }.. الكتاب على إطلاقه ينصرف إلى القرآن الكريم والحكمة هي وضع الشيء في موضعه.. والكتاب يعطيك التكليف إما أن يأمرك بشيء وإما أن ينهاك عن شيء.
إذن فهي دائرة بين الفعل والترك.. والحكمة أن تفعل الفعل الذي يحقق لك خيرا ويمنع عنك الشر. وهي مأخوذة من الحكمة أو الحديدة التي توضع في فم الجواد لتحكم حركته في السير والوقوف، وتصبح كل حركة تؤدي الغرض منها والحكمة أيضا هي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقا لقوله تعالى:{ وَاذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىا فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْـمَةِ }[الأحزاب: 34]
وقوله سبحانه: { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } لأنكم أمة أمية. فإن بهرتكم الدنيا بحضارتها فستبهرونهم بالإشعاعات الإيمانية التي تجعلكم متفوقين عليهم.. فكل ما يأتيكم من السماء هو فوق كل حضارات الأرض.. لذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما عمر لولا الإسلام.
(/155)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
قوله تعالى: " فاذكروني " أي كل هذه النعم والفضل عليكم يجب ألا تنسوها.. أن تعيشوا دائما في ذكر من أنعم عليكم.. فالله سبحانه وتعالى يريد من عباده الذكر وهم كلما ذكروه سبحانه وشركوه شكرهم وزادهم.. والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي:
" أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "
هذه هي رغبة الكريم في أن يعطي بشرط أن نكون أهلا للعطاء لأنه يريد أن يعطيك أكثر وأكثر.. فقوله تعالى: " اذكروني " أي اذكروا الله في كل شيء. في نعمه. في عطائه. في ستره. في رحمته. في توبته. يقول بعض الصالحين: سمعت فيمن سمع عن حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك إذا ما أقبلت على شرب الماء فقسمه ثلاثا.. أول جرعة قبل باسم الله واشربها، ثم قل الحمد لله وابدأ شرب الجرعة الثانية وقل باسم الله وبعد الانتهاء منها قل الحمد لله.. ثم قل باسم الله واشرب الجرعة الثالثة واختمها بقولك الحمد لله. فمادام هذه الماء في جوفك فلن تحدثك ذرة من جسدك بمعصية الله. جربها يوما في نفسك وقل باسم الله واشرب، وقل الحمد لله وكررها ثلاث مرات فإنك تكون قد استقبلت النعمة بذكر المنعم وأبعدت عن نفسك حولك وقوتك، وأنهيت النعمة بحمد الله. ولكن لماذا الماء؟ لأن الماء في الجوف أشبع من أي شيء آخر.
قوله تعالى: { وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } الشكر على النعمة يجعل الله سبحانه وتعالى يزيدك منها. واقرأ قوله تبارك وتعالى:{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }[إبراهيم: 7]
وشكر الله يذهب الغرور عن نفسك فلا تفتنك الأسباب وتقول أوتيته على علم مني. { وَلاَ تَكْفُرُونِ } أي لا تستروا نعم الله بل اجعلوها دائما على ألسنتكم.. فإن كل نعمة من نعم الله لو استقبلت بقولك " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " لا ترى في النعمة مكروها أبدا لأنك حصنت النعمة بسياج المنعم.. أعطيت لله حقه في نعمته فإن لم تفعل وتركتها كأنها منك وأنت موجدها ونسيت المنعم وهو الله سبحانه وتعالى فإن النعمة تتركك.
(/156)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
الله سبحانه وتعالى يطالبنا أن نستعين بالصبر والصلاة.. على ماذا؟ على كل ما يطلبه منا الله.. على تكليفاته ومنهجه نستعين على ذلك بالصبر والصلاة.. ولكن لماذا الصبر؟ لأن الصبر هو منع النفس من أي شيء يحدث وهو يأخذ ألوانا شتى حسب تسامي الناس في العبادة.
فمثلا سئل الإمام علي رضي الله عنه عن حق الجار؟ قال: تعلمون أنك لا تؤذيه؟ قالوا نعم.. قال وأن تصبر على أذاه.. فكأنه ليس مطلوبا منك فقط ألا تؤذي جارك بل تصبر على أذاه.. والصبر هو الذي يعينك على أن تفعل ما أمرك الله به ولا تفعل ما نهاك عنه.
إن الله منعك من أشياء هي من شهوات النفس وأمرك بأشياء فيها مشقة وهذه محتاجة إلى الصبر.. وأنت أن أخذت منهج الله تعبداً ستأخذه فيما بعد عادة. يقول أحد الصالحين في دعائه: اللهم إني أسألك ألا تكلني إلى نفسي فإني أخشى يا رب ألا تثيبني على الطاعة لأنني أصبحت أشتهيها فسبحانك أمرتنا أن نحارب شهواتنا.. انظر إلى الطاعة من كثرة حب الله أصبحت مرغوبة محببة إلى النفس.. رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لبلال ساعة الآذان:
" أرحنا بها يا بلال "
ولم يقل كما يقول بعض الناس والعياذ بالله أرحنا منها؛ ذلك أن هناك من يقول لك أن الصلاة تكون على كتفي مثل الجبل وأرتاح، نقول له أنت ترتاح بها ولا ترتاح منها؛ لأنك وقفت بين يدي الله المكلف، ومادام الإنسان واقفا أمام ربه فكل أمر شاق يصبح سهلا.
يقول أحد العابدين: أنا لا أواجه الله بعبوديتي ولكن أواجهه بربوبيته فأرتاح لأنه ربي ورب العالمين.. الذي له أب يعينه لا يحمل هما فما بالك بالذي له رب يعينه وينصره.
قول الحق سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } أي أنه يطلب منك أن تواجه الحياة في معية الله؛ فأنت لو واجهت المشكلات في معية من تثق في قوته تواجه الأمور بشجاعة فما بالك إذا كنت في معية الله وكل شيء في الوجود خاضع لله، أيجرؤ شيء أن يقف أمامك وأنت مع الله؟
إن الأحداث لا تملأ الخلق بالفزع والهلع إلا ساعة الانفلات من حضانة ربهم.. وإنما من يعيش في حضانة ربه لا يجرؤ عليه الشيطان فالشيطان خناس.. ما معنى خناس؟ إذا سهوت عن الله اجترأ عليك وإذا ذكرت الله خنس وضعف؛ فهو لا قوة له.. وهو لا يدخل مع الله سبحانه وتعالى في معركة، وإنما يدخل مع خلق الله الذين ينسون الله ويبتعدون عنه يقول القرآن الكريم:
{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 82-83]
ومادام الله سبحانه وتعالى مع الصابرين فلابد أن نعشق الصبر.. وكيف لا نعشق ما يجعل الله معنا؟ يقول الحق جل جلاله في الحديث القدسي:
" يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده " يقول بعض الصالحين: اللهم إني استحي أن أسألك الشفاء والعافية حتى لا يكون ذلك زهدا في معيتي لك.. إذن لابد أن نعشق الصبر لأنه يجعلنا دائماً في معية الله.
الله سبحانه وتعالى يقول: } إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {.. ونحن نريد أن يكون الله سبحانه معنا دائما.. إن هذه الآية لا تجعل الإنسان ييأس مهما لقى في حركة حياته من المشقة.
(/157)