وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
ومعناها: اذكر إذا استسقى موسى لقومه.. وهذه وردت كما بينا في عدة آيات في قوله تعالى:{ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ }[الأعراف: 141]
وقول سبحانه:{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً }[البقرة: 51]
وقوله جل جلاله:{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً }[البقرة: 55]
وقلنا أن هذه كلها نعم امتن الله بها على بني إسرائيل وهو سبحانه وتعالى يذكرهم بها. إما مباشرة وإما على لسان موسى عليه السلام. والحق يريد أن يذكر بني إسرائيل حينما تاهوا في الصحراء أنه أظلهم بالغمام.. وسقاهم حين طلبوا السقيا.. ولقد وصلت ندرة الماء عند بني إسرائيل لدرجة أنهم لم يجدوا ما يشربونه.. لأن الإنسان يبدأ الجفاف عنده لعدم وجود ماء يسقي به زرعه.. ثم يقل الماء فلا يجد ما يسقي به أنعامه.. ثم يقل الماء فلا يجد ما يشربه.. وهذا هو قمة الجفاف أو الجدب..
وموسى عليه السلام طلب السقيا من الله تبارك وتعالى.. ولا تطلب السقيا من الله إلا إذا كانت الأسباب قد نفدت.. وانتهت آخر نقطة من الماء عندهم؛ فالماء مصدر الحياة ينزله الله من السماء.. وينزله نقيا طاهرا صالحا للشرب والري والزرع وسقيا الأنعام..
والحق سبحانه وتعالى جعل ثلاثة أرباع الأرض ماء والربع يابسا.. حتى تكون مساحة سطح الماء المعرضة للتبخّر بواسطة أشعة الشمس كبيرة جدا فتسهل عملية البخر؛ فإنك إذا جئت بكوب ماء وتركته في حجرة مغلقة لمدة يومين أو ثلاثة. ثم عدت تجده ناقصا قيراطا أو قيراطين. ولكن إذا أمسكت ما في الكوب من ماء وألقيته على أرض الحجرة.. فأنه يجف قبل أن تغادرها لماذا؟.. لأن مساحة سطح الماء هنا كبيرة.. ولذلك يتم البخر بسرعة ولا يستغرق وقتا.
وهذه هي النظرية نفسها التي تتم في الكون. الله تبارك وتعالى جعل سطح الماء ثلاثة أرباع الأرض ليتم البخر في سرعة وسهولة.. فيتكون السحاب وينزل المطر نأخذ منه ما نحتاج إليه، والباقي يكون ينابيع في الأرض، مصداقا لقوله تبارك وتعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ }[الزمر: 21]
هذه الينابيع تذهب إلى أماكن لا يصلها المطر. ليشرب منها الناس مِمّا نُسميه الآبار أو المياه الجوفية.. وتشرب منها أنعامهم.. فإذا حدث جفاف يخرج الناس رجالا ونساء وصبيانا وشيوخا. يتضرعون إلى الله ليمطرهم بالماء.. ونحن إذا توسلنا بأطفالنا الرضع وبالضعفاء يمطرنا الله.
وبعض الناس يقولون أن المطر ينزل بقوانين علمية ثابتة.. يصعد البخار من البحار ويصبح سحابا في طبقات الجو العليا ثم ينزل مطرا.
. تلك هي القوانين الثابتة لنزوله.
وأن السحاب لابد أن يكون ارتفاعه عدد كذا من الأمتار.. ليصل إلى برودة الجو التي تجعله ينزل مطرا. ولابد أن يكون السحاب ملقحا.. نقول أن هذا كله مرتبط بمتغيرات. فالريح تهب أو لا تهب. وتحمل السحاب إلى منطقة عالية باردة ولا تحمله وغير ذلك..
إذن فكل ثابت محمول على متغير.. قد تعرف أنت القوانين الثابتة.. ولكن القوانين المتغيرة لا يمكن أن تنبأ بما ستفعل ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:{ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً }[الجن: 16]
إذن فعوامل سقوط المطر لا تخضع لقوانين ثابتة. ولكن المتغير هو العامل الحاسم. ليسوق السحاب إلى المناطق الباردة وإلى الارتفاع المطلوب.. ولابد أن نتنبه إلى أن هناك قوانين ثابتة في الكون وقوانين تتغير.. وأن القانون المتغير هو الذي يحدث التغيير.
وقوله تعالى: } وَإِذِ اسْتَسْقَىا مُوسَىا لِقَوْمِهِ {.. تدل على أن هناك مُستسقى بفتح القاف وأن هناك مستسقي بكسر القاف.. مستسقي بكسر القاف أي ضارع إلى الله لينزل المطر.. أما المستسقى بفتح القاف فهو الله سبحانه وتعالى الذي ينزل المطر..
إن هذا الموقف خاص بالله تبارك وتعالى فلا توجد مخازن للمياه وليس هناك ماء في الأرض.. من أنهار أو آبار أو عيون ولا ملجأ إلا الله.. فلابد من التوسل لله تبارك وتعالى:
عن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقي بالعباس بن المطلب رضي الله عنه فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال: فيُسقون "
بعض الناس يقولون هذا دليل على أن الميت لا يستعان به.. بدليل أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لم يتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وإنما توسل بعم رسول الله.. نقول وبمن توسل عمر؟.. أتوسل بالعباس أم بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.. توسل بالرسول، وبذلك أخذنا الحجة أن الوسيلة ليست مقصورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وإنما تتعدى إلى أقاربه..
وهنا يأتي سؤال لماذا نقل الأمر من رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى عم الرسول؟.. نقول لأن رسول الله قد انتقل ولا ينتفع الآن بالماء.. ولكن عمه العباس هو الحي الذي ينتفع بالماء.. لذلك كان التوسل بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكن منطقيا أن يتوسلوا برسول الله عليه الصلاة والسلام وهو ميت ولا يحتاج إلى الماء.. والذين أرادوا أن يأخذوا التوسل بذوي الجاه.. نقول لهم أن الحديث ضدكم وليس معكم.
. لأنه أثبت أن التوسل جائز بمن ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لابد أن نتحدث كيف أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن قابل بنو إسرائيل النعمة بالجحود والنكران فكيف يسقيهم؟.. نقول إنها النبوة الرحيمة التي كانت السبب في تنزل الرحمة تلو الرحمة على بني إسرائيل.. وكان طمع موسى في رحمة الله بلا حدود.. ولذلك فإن الدعوات كانت تتوالى من موسى عليه السلام لقومه.. وكانت الاستجابة من الله تأتي.
كان من المفروض لاستكمال المعنى أن يقال وإذا استسقى موسى ربه لقومه فقال يا رب اسقهم.. ولكن هذه لم تأت حذفت وجاء بعدها الإجابة: } وَإِذِ اسْتَسْقَىا مُوسَىا لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ {.. إذن قوله يا رب اسق قومي واستجابة الله له محذوفة لأنها مفهومة.. ولذلك جاء القرآن باللفتات الأساسية وترك اللفتات المفهومة لذكاء الناس.. تماما كما جاء في سورة النمل: الهدهد ذهب ورأى ملكة بلقيس وعرشها. وعاد إلى سليمان وأخبره. فطلب سليمان من الهدهد أن يلقي إلى ملكة سبأ وقومها كتابا وقال:{ اذْهَب بِّكِتَابِي هَـاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }[النمل: 28-29]
فسليمان أمر الهدهد أن يلقي كتابا إلى بلقيس وقومها.. والآية التي بعدها جاءت بقوله تعالى: قالت } ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ { كل التفاصيل حذفت من أن الهدهد أخذ الكتاب وطار إلى مملكة سبأ وألقى الكتاب أمام عرشها.. والتقطت بلقيس ملكة سبأ الكتاب وقرأته.. ودعت قومها وبدأت تروي إليهم قصة الكتاب.. كل هذا حُذف لأنه مفهوم.
قال موسى يا رب اسق قومي.. والله سبحانه وتعالى قال له: إن أردت الماء لقومك.. كل هذا محذوف.. وتأتي الآية الكريمة: } اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ {.
} اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ { لنا معها وقفة.. الإنسان حين يستسقي الله.. يطلب منه أن ينزل عليه مطرا من السماء، والحق تبارك وتعالى كان قادرا على أن ينزل على بني إسرائيل مطرا من السماء. ولكن الله جل جلاله أراد المعجزة.. فقال سأمدكم بماء ولكن من جنس ما منعكم الماء وهو الحجر الموجود تحت أرجلكم.. لن أعطيكم ماء من السماء.. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يُرِي بني إسرائيل مدى الإعجاز.. فأعطاهم الماء من الحجر الذي تحت أرجلهم.
ولكن من الذي يتأثر بالضرب: الحجر أم العصا؟.. العصا هي التي تتأثر وتتحطم والحجر لا يحدث فيه شيء.. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد بضربة واحدة من العصا أن ينفلق الحجر.. ولذلك يقول الشاعر:أيا هـازئاً من صـنوف القـدرْ بنفسـك تـعنف لا بالقـدرْويا ضـاربا صخـرةً بالعصـا ضربْتَ العصا أم ضربْتَ الحجرْ
إن انفجار الماء من ضربة العصا دليل على أن العصا أشارت فقط إلى الصخرة فتفجر منها الماء.. وحتى لو كانت العصا من حديد.. هل تكون قادرة على أن تجعل الماء ينبع من الحجر؟
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه كان من الممكن أن ينزل الماء من السماء.. ولكن الله أرادها نعمة مركبة.. ليعلموا أنه يستطيع أن يأتي الماء من الحجر الصلب.. وأن نبع الماء من متعلقات " كن ".
هنا لابد أن ننظر إلى تعنت بني إسرائيل. قالوا لموسى هب أننا في مكان لا حجر فيه. من أين ينبع الماء؟.. لابد أن نأخذ معنا الحجر حتى إذا عطشنا نضرب الحجر بالعصا.. ونسوا أن هناك ما يتم بالأسباب وما يتم بكلمة " كن ".. ولذلك تجد مثلا كبار الأطباء يحتارون في علاج مريض.. ثم يشفى على يد طبيب ناشئ حديث التخرج.. هل هذا الطبيب الناشئ يعرف أكثر من أساتذته الذين علموه؟.. الجواب طبعا لا.
إن التلميذ لا يتفوق على أستاذه الذي علمه فليس العلاج بالأسباب وحدها ولكن بقدرة المسبب.. ولذلك جاء موعد الشفاء على يد هذا الطبيب الناشئ.. فكشف الله له الداء وألهمه الدواء.
يقول الحق سبحانه وتعالى: } فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً { لماذا اثنتا عشرة عينا. لأن اليهود كانوا يعيشون حياة انعزال. كل مجموعة منهم كانت تسمى " سبطا " لها شيخ مثل شيخ القبيلة.. والحق تبارك وتعالى يقول: } قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ { أي كل سبط أو مجموعة ذهبت لمشرب.. نبعت العيون من الحجر امتدت متشعبة إلى الأسباط جميعا كل في مكانه.. فإذا ما أخذوا حاجتهم ضرب موسى الحجر فيجف. ولذلك نعرف أن الحجر كان يعطيهم الماء على قدر الحاجة وكانت الجهة السفلى من الحجر الملامسة للأرض.. والجهة العليا التي ضرب عليها بالعصا لم ينبع منهما شيء، أما باقي الجهات الأربع فقد نبع منها كل منها ثلاثة ينابيع.
وهناك شيء في اللغة يسمونه اللفظ المشترك.. وهو الذي يستخدم في معانٍ متعددة.. فإذا قلت سقى القوم دوابهم من العين.. العين هنا عين الماء.. وإذا قلت أرسل الأمير عيونه في المدينة يعني أرسل جنوده.. وإذا قلت اشتريته بعين أي بذهب.. وإذا قلت نظر إلي بعينه شذرا أي ببصره.. إذن كلمة عين تستخدم في أشياء متعددة.. ومعناها هنا عين الماء الجارية.
قوله تعالى: } قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ { أي أن كل سبط عرف مكانه الذي يلزمه.. حتى لا يضيع من كل منهم الماء.. ولكن الإنسان حينما يكون مضطرا يلتزم بما يطلبه الله منه ويكون ملتزما بالأداء، فإذا فرج الله كربه وعادت إليه النعمة يعود إلى طغيانه.
. ولذلك يقول الحق جل جلاله فيها: } كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ { أي لا يكون شكركم على النعمة بالإفساد في الأرض.. واقرأ قوله تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ }[سبأ: 15-15]
هنا نرى أن أهل سبأ رزقهم الله فأعرضوا عن شكره.. كانوا يتيهون بالسد الذي يحفظ لهم مياه الأمطار.. ويمدهم بما يحتاجون إليه منها طوال العام، وأخذوا يتفاخرون بعلمهم ونسوا الله الذي علمهم.. فكان هذا السد هو النكبة أو الكارثة التي أهلكت زرعهم.. كذلك حدث لبني إسرائيل، قيل لهم: } كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ { فأفسدوا في الأرض ونسوا نعمة الله فنزل بهم العذاب.
(/64)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
هذه الآية الكريمة أيضا من آيات التذكير بنعم الله سبحانه وتعالى على موسى وعلى بني إسرائيل.. وكنا قد تعرضنا لمعنى طعام واحد عند ذكر المن والسلوى.. وقلنا أن تكرار نزول المن والسلوى كل يوم جعل الطعام لونا واحدا.. وكلمة واحد هي أول العدد.. فإذا إنضم إليه مثله يصير اثنين.. وإذا إنضم إليه مثله يصبح ثلاثة.. إذن فأصل العدد هو الواحد.. والواحد يدل على وحدة الفرد ولا يدل على وحدانية.. فإذا قلنا الله واحد فإن ذلك يعني أنه ليس كمثله أحد.. ولكنه لا يعني أنه ليس مكونا من أجزاء.. فأنت لست واحداً ولست أحداً لأنك مكون من أجزاء ـ كما أن هناك من يشبهونك.. والشمس في مجموعتنا واحدة ولكنها ليست أحداً لأنها مكونة من أجزاء وتتفاعل.. والله سبحانه وتعالى واحد ليس كمثله شيء.. وأحد ليس مكونا من أجزاء.. ولذلك من أسمائه الحسنى الواحد الأحد.. ولا نقول أن الاسم مكرر فهذه تعني الفردية، وهذه تنفي التجزئة.
وقوله تعالى: { لَن نَّصْبِرَ عَلَىا طَعَامٍ وَاحِدٍ }.. نلاحظ هنا أن الطعام وُصف بأنه واحد رغم أنه مكون من صنفين هما المن والسلوى.. ولكنه واحد لرتابة نزوله.. الطعام كان يأتيهم من السماء.. ولكن تعنتهم مع الله جعلهم لا يصبرون عليه فقالوا ما يدرينا لعله لا يأتي.. نريد طعاما نزرعه بأيدينا ويكون طوال الوقت أمام عيوننا.. وكأن هذه المعجزات كلها ليست كافية.. لتعطيهم الثقة في استمرار رزق الله.. إنهم يريدون أن يروا.. ألم يقولوا لموسى: { أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً }..
ماذا طلبوا؟.. قالوا: { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ }.. { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ } أي أطلب من الله.. ولأن الدعاء لون من الطلب فإنك حين تتوجه إلى الله طالبا أن يعطيك.. فإنك تدعو بذلة الداعي أمام عزة المدعو.. والطلب إن كان من أدنى إلى أعلى قيل دعاء.. ومن مساوٍ إلى مساوٍ قيل طلب.. ومن أعلى إلى أدنى قيل أمر..
لقد طلب بنو إسرائيل من موسى أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يخرج لهم أطعمة مما تنبت الأرض.. وعددوا ألوان الأطعمة المطلوبة.. وقالوا: { مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا }.. ولكنها كلها أصناف تدل على أن من يأكلها هم من صنف العبيد.. والمعروف أن آل فرعون إستعبدوا بني إسرائيل.. ويبدو أن بني إسرائيل أحبوا حياة العبودية واستطعموها..
الحق تبارك وتعالى كان يريد أن يرفع قدرهم فنزل عليهم المن والسلوى.
. ولكنهم فضلوا طعام العبيد.. والبقل ليس مقصوداً به البقول فحسب.. ولكنه كل نبات لا ساق له مثل الخس والفجل والكرات والجرجير.. والقثاء هو القتة صنف من الخيار.. والفوم هو القمح أو الثوم. والعدس والبصل معروفان.. والله سبحانه وتعالى قبل أن يجيبهم أراد أن يؤنبهم: فقال } أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىا بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ {..
عندما نسمع كلمة استبدال فاعلم أن الباء تدخل على المتروك.. تقول إشتريت الثوب بدرهم.. يكون معنى ذلك إنك أخذت الثوب وتركت الدرهم.
قوله تعالى: } الَّذِي هُوَ أَدْنَىا بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ {.. أي انهم تركوا الذي هو خير وهو المن والسلوى.. وأخذوا الذي هو أدنى.. والدنو هنا لا يعني الدناءة.. لأن ما تنتجه الأرض من نعم الله لا يمكن أن يوصف بالدناءة.. ولكن الله تبارك وتعالى يخلق بالأسباب ويخلق بالأمر المباشر.. ما يخلقه الله بالأمر المباشر منه بكلمة " كن ".. يكون خيرا مما جاء بالأسباب.. لأن الخلق المباشر لا صفة لك فيه.. عطاء خالص من الله.. أما الخالق بالأسباب فقد يكون لك دور فيه.. كأن تحرث الأرض أو تبذر البذور.. ما جاء خالصا من الله بدون أسبابك يقترب من عطاء الآخرة التي يعطي الله فيها بلا أسباب ولكن بكلمة " كن ".. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىا مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىا }[طه: 131]
فالله تبارك وتعالى يصف رزق الدنيا بأنه فتنة.. ويصف رزق الآخرة بأنه خير منه.. مع أن رزق الدنيا والآخرة، وكل رزق في هذا الوجود حتى الرزق الحرام هو من الله جل جلاله.. فلا رازق إلا الله ولكن الذي يجعل الرزق حراما هو استعجال الناس عليه فيأخذونه بطريق حرام.. ولو صبروا لجاءهم حلالا..
نقول إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرزق.. ولكنه سمى رزقا فتنة وسمى رزقا خيرا منه.. ذلك أن الرزق من الله بدون أسباب أعلى وأفضل منزلة من الرزق الذي يتم بالأسباب..
إذن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: } أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىا بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ {.. يكون المعنى أتستبدلون الذي هو رزق مباشر من الله تبارك وتعالى.. وهو المن والسلوى يأتيكم " بكن " قريب من رزق الآخرة بما هو أقل منه درجة وهو رزق الأسباب في الدنيا.. ولم يجب بنو إسرائيل على هذا التأنيب.. وقال لهم الحق سبحانه وتعالى: } اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ {.. ولا يقال لهم ذلك إلا لأنهم أصروا على الطلب برغم أن الحق جل جلاله بين لهم أن ما ينزله إليهم خير مما يطلبونه.
.
نلاحظ هنا أن مصر جاءت منوّنةً.. ولكن كلمة مصر حين ترد في القرآن الكريم لا ترد منونة.. ومن شرف مصر أنها ذكرت أكثر من مرة في القرآن الكريم.. نلاحظ أن مصر حينما يقصد بها وادي النيل لا يأتي أبدا منونة وإقرأ قوله تعالى:{ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً }[يونس: 87]
وقوله جل جلاله:{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـاذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي }[الزخرف: 51]
وقوله سبحانه:{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ }[يوسف: 21]
وقوله تبارك وتعالى:{ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ }[يوسف: 99]
كلمة مصر ذكرت في الآيات الأربع السابقة بغير تنوين.. ولكن في الآية التي نحن بصددها: } اهْبِطُواْ مِصْراً { بالتنوين.. هل مصر هذه هي مصر الواردة في الآيات المشار إليها؟.. نقول لا.. لأن الشيء الممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.. إذا كان لبقعة أو مكان.. مرة تلحظ أنه بقعة فيبقى مؤنثاً.. ومرة تلحظ أنه مكان فيكون مذكرا.. فإن كان بقعةً فهو علم ممنوع من الصرف.. وإن كان مكانا تكون فيه علمية وليس فيه تأنيث.. ومرة تكون هناك علمية وأهمية ولكن الله صرفها في القرآن الكريم.. كلمات نوح ولوط وشعيب ومحمد وهود..
كل هذه الأسماء كان مفروضا أن تمنع من الصرف ولكنها صرفت.. فقيل في القرآن الكريم نوحا ولوط وشعيبا ومحمدا وهودا.. إذن فهل من الممكن أن تكون مصر التي جاءت في قوله تعالى: } اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ { هي مصر التي عاشوا فيها وسط حكم فرعون.. قوله تعالى: } اهْبِطُواْ مِصْراً { من الممكن أن يكون المعنى أي مصر من الأمصار.. ومن الممكن أن تكون مصر التي عاش فيها فرعون.. وكلمة مصر تطلق على كل مكان له مفتي وأمير وقاض.. وهي مأخوذة من الاقتطاع.. لأنه مكان يقطع إمتداد الأرض الخلاء.. ولكن الثابت في القرآن الكريم.. إن مصر التي لم تنون هي علم على مصر التي نعيش فيها.. أما مصراً التي خضعت للتنوين فهي تعني كل وادٍ فيه زرع..
وقوله تعالى: } وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ {.. الذلة هي المشقة التي تؤدي إلى الإنكسار.. ويمكن أن ترفع عنك بأن تكون في حمى غيرك فيعزك بأن يقول إنك في حماه.. والله سبحانه وتعالى يقول عن بني إسرائيل:{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ }[آل عمران: 112]
حبل من الله كما حدث عندما عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.. وعاشوا في حمى العهد.. إذن بحبل من الله أي على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين به.
. وبحبل من الناس أي في حماية دولة قوية كالولايات المتحدة الأمريكية.. إذا عاهدتهم عزوا وإن تركتهم ذلوا..
وقوله تعالى: } وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ { ضربت أي طبعت طبعة قوية بضربة قوية تجعل الكتابة بارزة على النقود.. ولذلك يقال ضربت في مصر.. أي أعدت بضربة قوية أذلتهم وبقيت بارزة لا يستطيعون محوها.. أما المسكنة فهي انكسار في الهيئة.
أهل الكتاب كانوا يدفعون الجزية والجزية كانت تؤخذ من الأغنياء.. وكانوا يلبسون الملابس القذرة.. ويقفون في موقف الذل والخزي حتى لا يدفعوا الجزية.
وقوله تعالى: } وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ {.. أي غضب الله عليهم بذنوبهم وعصيانهم. حتى أصبح الغضب ـ من كثرة عصيانهم ـ كأنه سمة من سماتهم لماذا؟: } ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ { أي أنهم كانوا يكفرون بالنعم ولا يشكرون.. ويكفرون بالآيات ويشترون بها ثمنا قليلا.. ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يقتلون أنبياء الله بغير حق..
الأنبياء غير الرسل.. والأنبياء أسوة سلوكية ولكنهم لا يأتون بمنهج جديد.. أما الرسل فهم أنبياء بأنهم أسوة سلوكية ورسل لأنهم جاءوا بمنهج جديد.. ولذلك كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. والله سبحانه وتعالى يعصم أنبياءه ورسله من الخطيئة.. ولكنه يعصم رسله من القتل فلا يقدر عليهم أعداؤهم.. فمجيء الأنبياء ضرورة.. لأنهم نماذج سلوكية تسهل على الناس التزامهم بالمنهج، وبنو إسرائيل بعث الله لهم أنبياء ليقتدوا بهم فقتلوهم.. لماذا؟.. لأنهم فضحوا كذبهم وفسقهم وعدم التزامهم بالمنهج.. ولذلك تجد الكافر والعاصي وغير الملتزم يغار ويكره الملتزم بمنهج الله.. ويحاول إزالته عن طريقه ولو بالقتل.. إذن فغضب الله عليهم من عصيانهم واعتدائهم على الأنبياء وما ارتكبوه من آثام.
(/65)