بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، مكملين السير على طريق الله؛ لإحياء روح العبادة، هدفنا أن نتعلم ديننا وتؤثر العبادة فينا فتلتقي أرواحنا مع الله سبحانه وتعالى، وهذه الحلقة سنتكلم عن مسألة فقهية هامة، تحدث الله عنها في القرآن وكذلك النبي في سنته، والعلماء ألفوا فيها مجلدات، وهي فقه الأولويات.
الأولى يعني أحق وأهم، ولكي يستثمر الإنسان عمره بكفاءة، الله رتب لنا أولوياتنا في السير إليه سبحانه، وكانوا الصحابة دائمًا يسألون عن أهم العبادات وأكبر الكبائر، وعندما تعرف الأولويات سيكون هناك بساطة وسهولة في السير على طريق الله، والشخص الذي ليس لديه أولويات متخبط، لا يعرف ماذا يفعل ومتى، فهو لا يدرك عبادة الوقت، فيشجعه الشيطان أن يفعل المفضول على الفاضل، أي العبادة الأقل ثوابًا ويجعلك تظن أنك على خير.
ومن الأولويات الهامة هي أولوية البدء بالعلم قبل العمل، فعلم بلا عمل تعطيل، وعمل بلا علم تضليل؛ لذا التسيب في أي مجال وخاصة في الدين يأتي من الجهل أو التشدد، فالعلم هو الأصل، فيجب أن تتعلم، وأن تتأكد بأن هذا العلم على مراد الله، والأمام معاذ بن جبل يقول العلم إمام والعمل تابع له، والعلماء يوضحون أهمية العلم بأن أول آية نزلت على الرسول كانت {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (سورة العلق: 1)، وثاني سورة كانت {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنْذِرْ} (سورة المدثر 2:1)، فكلها أعمال لكن أول آية نزلت على الرسول في سورة العلق بها تعلم؛ لذلك العلماء في كتبهم بعد باب النية يضعون باب العلم، وقال صلى الله عليه وسلم "فضلُ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ"، وكان عمر بن عبد العزيز يقول من عمل في غير علم كان ما يفسد أكتر ما يُصلح، وهناك شخص من قلة علمه حكم على النبي وصنفه، فذات مرة كان النبي يقوم بتوزيع الغنائم بعد غزوة، فقال له يا محمد أعدل فأنك لم تعدل هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال النبي ويلك ومن يعدل إن لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل، وذهب الرجل فاحتاروا الصحابة ماذا يفعلون به، فطلب منهم النبي أن يتركوه وقال: "يخرج من ضدي هذا أقوامٍ يحقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتِهم. وصيامَه مع صيامِهم. يقرأون القرآنَ. لا يجاوزُ تَراقيهم. يمرُقون من الإسلامِ كما يمرُق السهمُ من الرَّميَّةِ"، ومعنى الكلام أن هذا الرجل سيخرج من نسله ناس عبادتهم وأعمالهم كثيرة ولكنهم غير متعلمين؛ لذلك أولوية العلم قبل العمل، والله في القرآن تحدث عن أنك لو أردت أن تكون في منصب كبير عليك بالعلم، ففي الآية {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ( سورة يوسف: 55)، والله اصطفى سيدنا طالوت قائد على بني إسرائيل لعلمه، ففي الآية {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ( سورة البقرة: 247)، وأوصيكم أن يكون لك شيخ يسمع لك وألا تتوقف عن التعلم.
الأولوية الثانية هي أولوية الفهم عن الحفظ، فالفهم يعني الدراية والحفظ يعني الرواية، فأن نفهم آيات القرآن أولى من أن نحفظها، ففي القرآن {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ( سورة التوبة: 122)، والكلام على الشريعة أو أي مجال تكون فيه، فيجب أن تربط بين النصوص والواقع، فكان سيدنا عبد الله بن عُمر يقول أنهم كانوا يحفظون عشر آيات من القرآن ويعملون بها، فأوتوا الإيمان والعمل معًا.
الأولوية الثالثة هي التيسير أولى من التعسير، فاختار الطريق السهل إلى الله أولى من الطريق الذي فيه تعسير، وسيدنا محمد تقول عنه السيدة عائشة ما خُير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثم أو قطيعة رحم، والحكمة في التيسير أن تكون متناسبة مع قدراتك فتستمر، وقال سفيان الثوري الإمام الكبير(الدين الرخصة من الثقة، وإن التشديد يحسنه كل أحد)، والعمل الصغير المستمر أهم وأولى من العمل المنقطع ولو كان كبيرًا، فقليل دائم أولى وأعظم من كثير منقطع، وسُئِلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ؟ قال: (أدوَمُها وإن قلَّ).
فالأولى الثابت القليل لتشعر بالمعاني المرسلة من الله، وهناك أولوية العمل متعدي المنفعة أهم وأولى من العمل قاصر المنفعة، فالعمل الصالح نوعان عمل ينفعني وعمل ينفعني وينفع غيري، ويكون هذا العمل أولى من العمل الذي ينفعك فقط، وكان يقول النبي أن أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، وفي الحديث: "إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ : صدقةٍ جاريةٍ, أو علمٍ يُنتفَعُ به, أو ولدٌ صالحٌ يدعو له"، وكل تلك الأعمال أعمال متعدي المنفعة؛ لذلك هي أولى من الأعمال قاصرة المنفعة.
وهناك أولوية عمل القلب أولى من عمل الجوارح، فإذا انصلح القلب سيعطي أمر للجوارح بأن تنصلح؛ لذلك أولوية تقديم إصلاح القلب، فإذا كان قلب صالح سيأمر الجوارح أن تكون صالحة.
الأولوية الأخيرة أولوية حقوق العباد مقدمة على حق الله المجرد، فحق الله مبني على المسامحة أما حق العباد مبني على المشاحة أي الخلاف فالعبد لا يسامح في حقه، فالشهيد يغفر له إلا إذا تأخر في أن يوفي دين من الديون.
http://web.mustafahosny.com/article.php?id=3581