بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
السلام عليكم ورحمة الله ، أيها الأخوة والأحبة أسعد الله أوقاتكم بكل خير ، وأهلاً بكم في لقاء جديد في برنامج " الإسلام منهج حياة ".
ضيف البرنامج فضيلة هو الدكتور محمد راتب النابلسي الداعية الإسلامي ـ حفظه الله ـ أهلاً بكم فضيلة الدكتور .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ جميل جزاك الله خيراً .
الأستاذ جميل :
مازال الحديث عن قواعد وأسس الدعوة إلى الله عز وجل متابعة لهذا العنوان الكبير ، هل لكم أن تحدثونا عن هذه القواعد والأسس ؟.
أية دعوة إلى الله ينبغي أن تتجه إلى عقل الإنسان بالعلم وإلى قلبه بالحب :
الدكتور راتب :
إن شاء الله تعالى ، أولاً : بما أن الإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك ، وغذاء العقل العلم ، وغذاء القلب الحب ، وغذاء الجسم الطعام والشراب ، والإنسان حينما يلبي هذه الحاجات الثلاث معاً يتفوق ، أما إذا لبى حاجة واحدة يتطرف ، وفرق كبير بين التطرف وبين التفوق ، الآن ما دام الإنسان بعيداً عن جسمه ، عقل يدرك ، وقلب يحب ، أية دعوة إلى الله ناجحة ينبغي أن تتجه إلى عقل الإنسان بالعلم ، وإلى قلبه بالحب ، وأية دعوة تكتفي بالعقل دعوة عرجاء ، وأية دعوة تكتفي بالقلب دعوة عرجاء ، لأن الله سبحانه وتعالى خاطب القلب والعقل معاً ، خاطب العقل في آيات كثيرة ، وخاطب القلب في آيات كثيرة ، وفي آية خاطب العقل والقلب معاً قال :
﴿ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾
( سورة الانفطار الآية : 6 )
يخاطب القلب يستثيره .
﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾
( سورة الانفطار )
يخاطب العقل .
العلم العميق المؤصل والحب الصادق أصل كبير من أصول الدين :
أنا أرى أن الداعية ينبغي أن يتجه إلى عقول الناس بالعلم العميق المؤصل ، وإلى قلوب أخوته الكرام بالحب الصادق ، الذي هو أصل كبير من أصول الدين ، ذلك أن في الإنسان خطوطاً أربعة ، وكأن الحق دائرة تجمع تلك الخطوط ، خط النقل الصحيح ، وخط العقل الصريح ، وخط الفطرة السليمة ، وخط الواقع الموضوعي ، فأي شيء جاء به وحي السماء ؟ طبعاً الصحيح ، بتأويل صحيح وحي السماء ، فالحق ما قبله العقل الصريح غير التبريري ، وارتاحت إليه الفطرة السليمة غير المنطمسة ، وأكده الواقع الموضوعي غير المزور ، أي خط النقل الصحيح ، مع خط العقل الصريح ، مع خط الفطرة السليمة ، مع خط الواقع الموضوعي ، هذه أربعة خطوط تجتمع في دائرة الحق ، فإذا بحثت عن الحقيقة شيء يتوافق مع العقل ، والنقل ، والعاطفة ، والواقع ، لأن العقل مقياس أودعه الله فينا ، ولأن الفطرة مقياس أخلاقي أودعه الله فينا ، ولأن الوحي كلامه وشرحه المعصوم ، ولأن الواقع خلقه ، فإذا عادت الفروع الأربعة إلى أصل واحد فهي فيما بينها متساوية .
لذلك لا يعقل ولا يقبل أن يتناقض النقل مع العقل ، مستحيل ! .
الدعوة الناجحة إلى الله تخاطب القلب و العقل معاً :
هناك شيء آخر ، أنت حينما تدعو إلى الله على بصيرة أي بالدليل والتعليل ، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء ، لولا الدليل لفقد الدين ، نحن عندنا أدلة ، ديننا دين أدلة حتى لو أن إنساناً رأى النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال له كلاماً يختلف عن حديثه الشريف تُرد الرؤيا ويثبت الحديث ، لأن هذا الدين دين مؤصل ، دين مبادئ ، دين قيم ، دين أدلة ، دين نصوص لا دين أمزجة ، ودين أهواء .
فلذلك لا بد من أن نخاطب العقل بالعلم ، وأن نخاطب القلب بالحب ، أما إذا خاطبنا العقل وحده لم تنجح الدعوة ، أما إذا خاطبنا القلب وحده لم تنجح الدعوة ، ينبغي أن نخاطب العقل والقلب معاً ، لأن الله جلّ جلاله خاطب العقل القلب معاً ، والدعوة إلى الله يجب أن تهتم بهذه القاعدة الثمينة جداً .
العالِم الحق يتسع قلبه للشباب و أسئلتهم :
هناك شيء آخر : إنسان شاب سأل النبي أن يسمح له بالزنا ، طبعاً الصحابة قاموا إليه بهذا التجاوز غير المعقول مع سيد الخلق ، فالنبي الكريم قال : دعوه ، تعال يا عبد الله ، الآن دعونا ندقق كيف خاطبه النبي ؟ قال : له يا هذا أترضاها لأمك ؟ قال : لا ، قال : ولا الناس يرضونه لأمهاتهم ، أترضاها لأختك ؟ لابنتك ؟ لعمتك ؟ لخالتك ؟ فهذا الشاب خاطبه النبي عليه الصلاة والسلام بلغة المنطق ، وفي الوقت نفسه خاطبه بلغة القلب ، أترضاه لأمك ؟ يخاطب قلبه ، مبادئه ، قيمه ، قال : لا ، فهذا الشاب قال : والله دخلت على رسول الله وما شيء أحب إليّ من الزنا ، وخرجت من عنده وما شيء أبغض إليّ من الزنا .
معنى ذلك أنه على الداعية أن يخاطب الشباب ، أي يقبل أسئلتهم غير المعقولة ، أن يتسع صدرهم لهم ، أن يحملهم على ما يحبون .
أبو حنيفة النعمان له جار مغنٍّ أقلقه لسنوات طويلة ، يغني في الليل ، وله أغنية يحبها كثيراً ، أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ، فمرة افتقد صوته قال : لعل مكروهاً أصابه ، سأل عنه فإذا هو في السجن ، فذهب أبو حنيفة النعمان بكيانه الكبير ، ومكانته العلية إلى مدير السجن يشفع له ، فمدير السجن أعطاه هذا المغني ، ثم أركبه خلف دابته ، و قال : يا فتى هل أضعناك ؟ فقال : عهدا لله لن أعود إلى الغناء .
أنا تأثرت من هذه القصة ، أبو حنيفة النعمان قلبه الكبير اتسع لهذا الشاب الذي أقلقه بالغناء ، لو أن الدعاة إلى الله توسعوا بقلوبهم لهؤلاء الشباب ، لهم أسئلة كثيرة ، لهم أسئلة محرجة ، لهم أسئلة تنم عن جهل فاضح ، فالعالم الحق ينبغي أن يتسع لهؤلاء الشباب ولأسئلتهم ، فقال له : ائذن لي بالزنا ، كما يقول إنسان لوزير داخلية مع الفارق الكبير : ائذن لي بقتل إنسان ، مستحيل ! مهمته ضبط الأمن ، قال : ائذن لي بالزنا ، فحاوره النبي حواراً لطيفاً ، علمياً ، وقلبياً .
الأستاذ جميل :
دكتور ، لعل تربية النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام من أكبر قواعد الدعوة إلى الله عز وجل ، حيث كان يُعنى بتربيتهم ، وليس التعنيف أو النهر ، هل هي رحمة منه صلى الله عليه وسلم ؟ أو أنه أسلوب يجب أتباعه ؟.
التربية لا التعرية من مبادئ التربية الدعوية :
الدكتور راتب :
رحمة ، وحكمة ، ومنهج ، لأنه الإنسان له كرامته ، أنا أقول دائماً : إن أردت أن تنصح فلتكن نصيحتك بينك وبين المنصوح ، لا أمام ملأ ، لأن هذه ليست نصيحة أمام الملأ ، إنها فضيحة ، فالبطولة أن أنقل له وجهة نظري في هذا الموضوع بيني وبينه .
لذلك من مبادئ التربية الدعوية : التربية لا التعرية ، أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اسمه حاطب بن بلتعة ، اجتهد اجتهاداً خاطئاً ، أرسل كتاباً لقريش إن محمداً سوف يغزوكم فخذوا حذركم ، جاء الوحي للنبي وأخبره بما فعل حاطب ، فأرسل النبي من يأخذ هذا الكتاب من المرأة التي تحمله ، واستدعى حاطباً ، قال : ما هذا يا حاطب ؟ سيدنا عمر يغلي كالمرجل قال له : ائذن لي يا رسول الله أن أضرب عنق هذا المنافق ، قال له : لا يا عمر إنه شهد بدراً ، انظر إلى وفائه صلى الله عليه وسلم ، قال : تعال يا حاطب لمَ فعلت هذا ؟ قال له : والله يا رسول الله ما كفرت ولا ارتددت ، ولكن لي مال وأهل في مكة ، أردت أن أحفظ مالي وأهلي بهذه الطريقة ، وأنا موقن بنصرك , فقال النبي الكريم ببساطة ما بعدها بساطة : إني صدقته فصدقوه ، ولا تقولوا فيه إلا خيراً .
الأستاذ جميل :
مع أنها في كل القوانين خيانة.
الدكتور راتب :
طبعا لكن هذه نبوة ، هو صدقه لأنه كان صادقاً ، هذا الذي حصل , قال : ما كفرت ولا ارتددت لكن اجتهدت ولعلي أخطأت ، فاغفر لي ذلك يا رسول الله .
فلذلك نحن نريد أن نربي لا أن نعري .
الداعية الناجح يوازن بين الترغيب و الترهيب في دعوته إلى الله عز وجل :
مثلاً ينبغي أن تزاوج بين الترغيب والترهيب ، مثلاً عندنا بسورة مقطعين :
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾
( سورة الحاقة )
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ﴾
( سورة الحاقة الآية : 25 )
القرآن ذكر نموذجين ، فما بال بعض الدعاة يتحدثون عن النار فقط ؟ حدثهم عن الجنة والنار ، رغبهم ورهبهم ، أما تكتفي بالترهيب هذا خطأ كبير ، وأن تكتفي في الترغيب هذا خطأ كبير ، لا بد من التوازن بين الترغيب وبين الترهيب .
شيء آخر : التيسير لا التعسير ، مرة رجل دخل الإسلام و هو فرنسي الأصل وتتلمذ على يد شيخ أزهري أبقاه ستة أشهر في أحكام المياه حتى خرج من جلده ، فترك الإسلام ، التقى بالإمام محمد عبدو فقال له : كلمة واحدة ، قال له : الماء الذي تشربه توضأ منه ، فأنا من أنصار التسهيل .
التيسير لا التعسير :
لذلك الإسلام الآن يحتاج إلى أشياء ثلاثة ، يحتاج إلى عقلنة ، لأن العقل أصل في الدين ، ويحتاج إلى تطبيق ، ويحتاج إلى تبسيط ، المسائل العويصة التي لا تقع في مليون عام لا داعي للبحث فيها ، أرأيت إن كنت كذا وكذا ، الفقهاء كانوا في فراغ كبير ، وكانوا على ثقافة عالية جداً ، فأمضوا أوقات مديدة فيما يسمى أرأيتيات ، هذه القضايا لا تقع ولا في مليون عام مرة ، فلو حذفنا هذه القضايا الشائكة المعقدة التي لا تقع ، وأبقينا على الأمور الواضحة الميسرة ، أنا من أنصار تبسيط الدين لأنه كالهواء ، هواء يحتاجه الناس جميعاً ، ينبغي أن يكون مبسطاً ، وواضحاً ، ومدللاً عليه بالأدلة الصحيحة .
خاتمة و توديع :
الأستاذ جميل :
جزاكم الله خيراً فضيلة الدكتور ، وأحسن إليكم ، كنا أيها الأخوة في أساليب الدعوة ، قواعد الدعوة إلى الله عز وجل ، نترككم في أمان الله وحفظه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
والحمد لله رب العالمين