بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. نستكمل قصة سيدنا موسى، خرج سيدنا موسى من مصر في يوم وليلة، ووصل بعد ذلك إلى مَدين كما عرفنا سابقًا الذي قضاه في مَدين حتى سقى البنتين. والآن نكمل ما حدث بعدما سقى البنتين ونروي ما حدث طيلة العشر سنوات التي قضاها في مَدين. حيث يخرج سيدنا موسى بعد أن سقى البنتين ويجلس تحت ظل شجرة كما قال الله تعالى {.. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ .. }القصص24.
حال سيدنا موسى بعد أن سقى للفتاتين:
عاد سيدنا موسى وحيدًا مرة أخرى في هذا المكان بعدما انفض الجميع من حوله، ولم يجد مكانًا يجلس فيه إلا تحت ظل الشجرة وهى أقرب شجرة للبئر، تخيل معي كيف هي حالته الآن؟! ولا تنس أنه حبيب الرحمن حيث يقول الله تعالى: {..وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي .. }طه39. فلا يمكن أن تراه إلا وتحبه، فإذا رأيته يوم القيامة وأحببته فهذا دليل على إيمانك؛ فلا يحبه إلا مؤمن، أما الظالمين لن يشعروا بأي شيء تجاهه؛ لأنه عدو الظالمين ونصير الضعفاء. فتخيل رغم أنه حبيب الرحمن وسيكون بعد ذلك كليمه إلا أنه جالس وحيد في هذه الصحراء التي لا يوجد بها الآن أنيس ولا بشر وغير مأهولة بالسكان، فما بالكم بشكلها منذ ثلاثة آلاف سنة!
دعاء سيدنا موسى إلى الله:
جلس سيدنا موسى تحت ظل الشجرة بجسده، وذهب إلى ظل رحمة ربنا بروحه وقلبه، وتخيل معي حالته وهو يقول هذا الدعاء {... فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }القصص24 . فممكن أن تشعر بهذا الدعاء وتكتبه وتقوله عندما تشعر بأي ضعف. هيا بنا نعيش مع هذا الدعاء، ونستشعر حال سيدنا موسى عندما كان جالسًا بمفرده، تخيلوا ضعفه وحاله وهو تحت ظل الشجرة يدعو: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }القصص.16 {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ }القصص17. {... قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص21. {... قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ }القصص22. {... فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}القصص24
ففي كل خطوة دعاء، وكل الدعوات استجيبت، قال رب اغفر لي، فغفر له. قال رب نجني من القوم الظالمين، فنجاه ربه. قال عسى أن يهديني سواء السبيل، مشى حتى وصل إلى مدين. قال رب إني لما أنزلت إلىّ من خير فقير، ستستجاب أيضًا. يا شباب، يا نساء، يا رجال، ادعوا في كل خطوة وأزمة واحتياج في حياتكم. يقول النبي صلى الله عليه وسلام: (إن الله يستحي أن يرفع العبد يديه، يقول يا رب يا رب، ثم يردهما صفرًا خائبتين). يقولون لأحد العُبَّاد: كيف عرفت الله؟ فقال: عرفت الله بإجابته للدعاء، ما ردني أبدا. فإياك أن تقول أن الله يعلم بحالي فلماذا ادعو والله يعلم كل شيء؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(من لا يسأل الله يغضب عليه). الله سبحانه وتعالى يحب سماع صوتك، ويحب أن يرى يديك مرفوعة إليه تدعوه. وعندما أصبح سيدنا موسى نبي قال بني إسرائيل له: لِمَ ندعو الله وهو أعلم بحالنا؟ فسأل سيدنا موسى الله تعالى فأوحى إليه الله أن يا موسى إني أعلم بحالهم، ولكني أحب أن أسمع ضجيج عبادي في الدعاء، حتى إذا رفعوا أكفهم بين يديَّ وتوسلوا إليَّ كنت لهم أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ:
يقول سيدنا موسى: {.. رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }القصص24 . تخيلوا وهو جالس تحت ظل الشجرة يقول: يا رب، أنا فقير، بلا مأوى، بلا أهل، ليس لي أحد، عُدت فقيرًا. فالأمير موسى ابن قصر الأمس يجلس تحت ظل شجرة في هذه الصحراء الواسعة أمام هذا البئر ويقول: يا رب أنا فقير! فتشعر أن سيدنا موسى يلجأ إلى الله بضعفه وذله. وأحسن عبادة، عندما تلجأ إلى الله بضعف وذل، الجأ له بضعفك يمدك بقوته، الجأ له بفقرك يمدك بغناه، الجأ له بذُلك يمدك بعزته، قل له: يا قوي، من للضعيف إلا أنت؟ يا غني من للفقير إلا أنت؟ يا عزيز من للذليل إلا أنت؟ يقول أحد العلماء: طرقت الأبواب إلى الله فوجدتها ملأى، فطرقت باب الذل (من باب الضعف والمسكنة) فوجدته فارغًا فدخلت وقلت لكم هلموا. أحيانا تقول دعاء صغير بصدق، يُفتح لك عند الله من هذا الدعاء أبواب كثيرة، يقول سيدنا موسى وهو مستشعر بالذل والضعف: يا رب أنا فقير. وهذا الدعاء جعل سيدنا موسى كليم الله، كيف؟ فعندما كلم الله سيدنا موسى وقال له: يا موسى، أتدري لِما اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي؟ فقال: لا يا رب. فقال الله له: يا موسى، إني قلبت عبادي في زمانك ظهرًا وبطنًا، فلم أجد نفسًا أذل لي منك، فأحببت أن أرفعك بين عبادي بِذُلك لي.
سرعة إجابة الدعاء:
لاحظ دعاء سيدنا موسى، ذكر أولًا خير الله عليه، ثم قال له أنه فقير. فمن عادتنا عندما تكثُر المشاكل علينا أن ندعوا الله مباشرةً دون أن يذكروا نعمة الله عليهم، ولكن سيدنا موسى ذكر أولاً خير ربنا عليه. من أنه الذي أنقذه من الموت وهو صغير، ورده إلى أمه، وغيرها من النعم الكثيرة، ورغم كل ذلك لازلت إلى ما انزلت إلىَّ من كل هذا الخير فقير، لاحظ كم أن نفسية سيدنا موسى غير ساخطة بالرغم من أنه كان من ثمانية أيام الأمير موسى، واليوم لا يجد الطعام، ولكن كانت نتيجة الدعاء مع التذلل وذكر نِعَم الله قبل أن يقول شكواه {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا .. }القصص25. فإذا الفتاة تأتيه بسرعة بعد أن دعا الله {فَجَاءتْهُ } الفاء هنا للسرعة، وهذا يدل على سرعة إجابة الدعاء، تقول له: {... إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ...}القصص25. يدعوك على الطعام؛ لتأكل عندنا، أرأيتم كيف نصرة الضعيف؟ فإنه كان عند البئر، ثم أكرم الفتاتين، وبعد ذلك جلس تحت ظل الشجرة يدعو الله، ثم جاءته فورًا إحدهما؛ كي تدعوه إلى الطعام، ومنذ ذلك الوقت وهبه الله الاستقرار والطعام والمأوى والسكن والزواج فيما بعد.
قانون الارتداد:
هناك يا إخوتي ما يسمى بقانون الارتداد، ما هذا القانون؟ هو قانون علمه سيدنا جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له: يا محمد، اعمل ما شئت، فإنك مجزي ٍ به (فإذا فعلت الخير يرجع إليك)، فمثلا: إذا تصدقت بمبلغ من المال، فسوف يرجع إليك أضعاف مضاعفة، أو لعلك تكرم ضعيف، فيرد ذلك خير وبركة على بيتك وأهلك، أو لعلك تقف بجوار فتاتين كما فعل سيدنا موسى فيأتوك كي تتفضل معهم إلى المأوى والسكن، جرب هذا القانون، إنه قانون في الحياة كلها وليس في الخير فقط، كيف ذلك؟ على سبيل المثال: الدورة الدموية تبدأ من القلب حيث يضخ الدم ثم يرجع له مرة أخرى، وأيضا دورة المياه، ينزل المطر من السماء على الأرض فتتبخر وترجع لها مرة أخرى، فالخير الذي تفعله لابد وأن يُرَد إليك، اعملوا يا جماعة وضعوا سيدنا موسى -نصير الضعفاء- نصب أعينكم وقدوة لكم، افعلوا مثل ما كان يفعل، وقولوا لأنفسكم سننصر الضعفاء.
كيف جاءت الفتاة إلى سيدنا موسى:
ونكمل القصة، كيف جاءت الفتاة إلى سيدنا موسى؟ وماذا حدث؟ أخذت الفتاتان الغنم ورجعا إلى أبوهم الذي تعجب من رجوعهم من سقي الغنم بسرعة؛ أنهما في الغالب يتأخران ويرجعان بعد ساعات طويلة وذلك لأنهم يسقون آخر ناس بعد الأقوياء، فسألهم الأب (وهو الشيخ الكبير): ما الذي عاد بكم بسرعة؟ فقالوا له: شاب عجيب في الثلاثين من عمره، لا يرتدي ملابس أهل البلد، ولكنه يرتدي ملابس المصريين، وقوي قوة غير عادية، ولقد رفع الصخرة بمفرده، شهم ولم يطلب أجر ما سقى لنا، ولم يتحدث معنا فقط سألنا ثم تولى إلى الظل. وكان لدى الشيخ الكبير (الأب) فِراسة شعر من خلالها أن هذا الإنسان لن يعوض، هذا بالإضافة إلى أن الشيخ ذاته لم يكن أقل شهامة من سيدنا موسى، فإذا كان سيدنا موسى أكرم الفتاتين، فالشيخ بعث إحدى ابنتيه ليدعو سيدنا موسى ويكرمه مثل ما أكرمه.
وصف حياء الفتاة:
{فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ }القصص25 . انظر إلى حلاوة القرآن وهو يصف حياء البنت، فكلمة الاستحياء مبالغة في الحياء، وهي من أجمل صفات المرأة، ولقد وصف الله تعالى الفتاة التي ستكون بعد ذلك زوجة موسى عليه السلام بأنها في منتهى الحياء، وتمشي على استحياء. فشبه الحياء بأنها سجادة مفروشة على الصحراء، وهي تمشي عليها، ومن الممكن أن يقول {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي...{ ثم يقف ويقول {...عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ... } فهي تمشي وتتحدث على استحياء والأرض مبسوطة حياء، ما هذا الجمال الذي في القرآن! فيا شباب، إياكم أن تتزوجوا بنت ليس عندها حياء، ولكن تزوجوا امرأة مثل التي تزوجها سيدنا موسى، وإياكم! يا بنات أن تقولوا أريد أن أكون منفتحة وارتدي الملابس العارية حتى أسهل زواجي، إياكِ أن تفعلي هذا! أتعلمين ماذا يقولون الشباب بينهم وبين بعض؟ يقولون هذه البنت للعب، وهذه البنت للزواج، ويقولون هذه البنت مجرد تسلية، وهذه حيية تصلح للزواج. انظروا إلى حياء البنت، لم تقل له أدعوك على الطعام، ولكن بدأت حديثها بذكر أبيها:{... قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ...}القصص25.
تصرف سيدنا موسى عندما جاءته الفتاة:
انظروا إلى تصرف النبي نحوها، كان من الممكن أن يقول لها بعنف: أنا آسف، لن آخذ أجرًا على شهامتي، ألا تعرفين من أنا؟ ولكن سيدنا موسى ذهب معها، لأنه يتعامل مع وضعه الجديد بمرونة، فهو يعلم إنه لم يعد الأمير موسى، وفي الوقت نفسه راضِ بقضاء الله، فلما دخل سيدنا موسى على الشيخ أخبره بكل شيء منذ كان طفلا {... فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ..}القصص25. وكيف تربى في قصر فرعون، وماذا فعل له فرعون، وكيف أنه أهان بني إسرائيل، وقصته مع الرجل الضعيف، وغيرها من القصص، فقال له الشيخ: {... قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص25. لم يكن سيدنا موسى يحتاج فقط إلى السكن والطعام بل يحتاج أيضًا إلى الأمان؛ لأنه كان قلقًا، وعند خروجه من مصر لم يكن علم هل نجا أم لم ينج فدعا ربه أثناء خروجه {... رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص21. فاستجاب الله دعوته وطمأن قلبه وذلك عندما جلس مع الشيخ وحكى له كل شيء قال له الشيخ {.. لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص25. يا جماعة ادعوا وتذللوا إلى الله وانصروا المظلوم، فالدعاء مستجاب.
فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا:
لاحظ أيضًا أن بين اليسر والعسر دقائق، وبين الكرب والفرج شبر واحد، كيف هذا؟ كان سيدنا موسى من دقائق بلا مأوى ولا طعام ولا شرب ولا عائلة ولا أمان، وبعدها مباشرةً جاءت الفتاة وقالت له أن أبيها يدعوه للطعام ليجازيه على ما فعل، ثم اطمئن قلبه عندما قال له الشيخ أنه نجا من القوم الظالمين. { فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا }الشرح5-6. وكذلك بين نجاة سيدنا موسى وبني إسرائيل وهم أمام البحر وفرعون ورائهم وبين أن ينفتح البحر رمية عصا، وأيضًا بين أم سيدنا موسى التي كانت خائفة على ابنها من الذبح وبين أنه يعود لها في حضنها نصف يوم فقط. فاجعل حسن ظنك بالله بأن مع العسر يسرًا، هل عندك هذه الثقة في الله؟ فلو كان العسر والكرب والشدة في صخرة محشورة داخل الجبل، لجاء اليسر بفضل الله وأخرجها، ربنا كريم وعند حسن ظن عباده، ولكن اظهر لربنا من نفسك التذلل والخشوع والدعاء.
القوي الأمين:
وتبدأ حياة جديدة.. من الكرب والهم والألم والتذلل إلى الله والدعاء إلى الفرج واليسر وذلك بنصرة ضعيف، ويعيش سيدنا موسى من سن الثلاثين إلى الأربعين في هذا المكان، وبدأ يتقرب من الشيخ والعائلة، وأصبح الشيخ أنيسًا له، وبدأت المودة تزيد بينهم، وإذا بالفتاة الحيية والقوية تطرح فكرة لم يفكر أحد فيها - ولاحظ أن قليل من البنات لن يستطيعوا أن يجمعوا بين الصفتين. فإما أن تكون حييه، ولكنها منكسرة، ولا تعرف كيف تتماشى مع الحياة، أو أن تكون قوية وليس عندها أي حنان، ولكن هذه البنت تجمع بين الحياء والقوة والنضج والعقل- {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ...}القصص26. أي اجعله يعمل ويرعي الغنم. وقالت له {.. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }القصص26 . فسألها الشيخ: كيف عرفتِ أنه القوي الأمين؟ فقالت: إنه قوي؛ لأنه رفع الصخرة بمفرده، ورأيت الأمانة في عينيه. يا جماعة، البنت تعرف أن هذا الرجل أمين عليها أو لا من عينيه. فهذه الفتاة تفهم الدنيا؛ لأنها جمعت صفات الموظف الكفء ( القوي الأمين). فعندما تبحث عن موظف لابد أن يكون لديه هذه الصفات، وهذه الصفات غالية جدا؛ فالقوي الأمين هو الذي ينصر ويعز الإسلام، يا ترى يا مسلمين هل لديكم هذه الصفات؟ للأسف إنهم قلّة... ترى هل من الممكن أن يقبل موسى ابن القصر بوظيفة رعي الغنم؟
هل يرعى سيدنا موسى الغنم؟
الشيخ محرج أن يعرض على أمير مصر أن يعمل عندهم راعٍ للغنم بالأجرة، هل سيقبل العمل في هذه الصحراء الممتلئة بالعقارب والحيات؟ مذا تفعل لو كنت مكان سيدنا موسى؟ هل ستقبل؟ فالشاب يقول الآن: أن أعيش في بطالة أفضل من أن أعمل في مثل هذه الوظيفة، فأنا متعلم تعليم عال ولن أقبل أي عمل إلا لو كان بمرتب عال. ولكن سيدنا موسى تقبل هذا العمل، لماذا تقبله؟ قيمة العمل غالية جدًا، ولأنه شخصية مستعدة تتعامل مع الحياة في كل أوضاعها وحالاتها المرتفعة والمنخفضة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( آتاني جبريل وخيرني بين أن أكون ملكًا نبيا أم عبدًا نبيًا، فاخترت أن أكون عبدًا نبيًا، أجوع يومًا فأصبر، وأشبع يومًا فأشكر). فهذا هو حال الدنيا وجميع الأنبياء في هذه الحالة. فعندما تنقلب الدنيا عليك يظهر معدنك، ويظهر إذا كنت ساخط على ربنا أم أنك راضٍ وتصرفاتك تدل على ذلك، فما تصرفك يا سيدنا موسى؟ إنه راضٍ بالذي كتبه الله، والدليل أنه قَبِلَ أن يكون راعي غنم.
وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي:
يقول تعالى: {.. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }طه39. يا جماعة، نحن ندعي طوال شهر رمضان أن يرضى الله عنا، وينظر إلينا بعين الرضا ولو ساعة واحدة، فتخيلوا عُمر سيدنا موسى كله يُصنع على عين الله، فماذا حدث؟ أخذ سيدنا موسى خبرات رهيبة، عاش في ثلاث بيئات، عاش أول حياته في القصور، ثم عاش مع بني إسرائيل الضعفاء والفقراء، ثم عاش في وسط البدو والصحراء، فلم يكن سيدنا موسى عنصري بل منفتح يتعايش مع جميع الجنسيات، لماذا نسيتم يا بني إسرائيل نبيكم؟ وكيف أخذتم هذه العنصرية؟ سيدنا موسى الآن لديه ثلاث لغات: العبرية "لغة بني إسرائيل"، والهيروغليفية " لغة المصرين القدماء"، والعربية " لغة أهل مَدين"؛ لأنه عاش واندمج في وسط العرب عشر سنوات. وجعله الله يعيش في الصحراء؛ لأنه سيعيش مع بني إسرائيل خمسة عشر سنة، و بني إسرائيل لابد أن يجدوا قائدًا غير متردد في معرفة الصحراء، فإذا شَكوا لحظة أنه غير قادر على أن يقودهم تركوه مباشرةً، فأنت الآن يا موسى أصبحت خبير في الصحراء أكثر منهم. وأراد الله له أيضًا أن يعيش مثل أي مواطن، يعيش مع الضعفاء والمساكين، فإذا استمر سيدنا موسى ابن القصر لن يستطيع أن يقود بني إسرائيل، ولكن الله جعله يتعب ويشقى؛ لأن كل هذا يجعله خبير في الحياة.
شيء آخر: الصحراء، والسماء، والسكون، فالصحراء ساكنة ولا يوجد فيها غير حركة الماعز البطيئة، وهو كان يعيش مع فرعون في ضوضاء المدينة.
عبادة التفكر:
فيتجه سيدنا موسى إلى نوع جديد من العبادة "عبادة التفكر"، وللأسف كثير من الناس محرومين من هذه العبادة، يا أهل الخليج ، اخرجوا إلى البر، يا أهل مصر اخرجوا بعيدًا عن ضوضاء المدينة، تفكروا في خلق الله، هذه العبادة أخذت عشر سنوات من سيدنا موسى كي يكون نبيًا، وأخذت كذلك عشر سنوات من سيدنا محمد في غار حراء كي يكون نبيا، أحيانا يا جماعة تفكر ساعة خيرٌمن عبادة سنة، فهذه العبادة تؤهل الأنبياء أن يكونوا أنبياء. فاعبدوا الله بهذه العبادة "عبادة التفكر والخشوع ". فماذا تعلم سيدنا موسى في مصر؟ تعلم الحياة العملية، والعلم، وحياة القصور، وعدم الخوف من فرعون، والبروتوكولات. وماذا تعلم في الصحراء " مدين"؟ تعلم الذل، والتفكر، والهدوء النفسي. كل هذا يجسده الله في آية واحدة {... وأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }طه39. يا جماعة، أنا مشتاق لمقابلة سيدنا موسى، ولقد شعرت به جدًا أثناء تحضيري لهذا البرنامج، وأحبه لأني أحب القرآن، ولقد كان الصحابة يحبونه ويستشهدون بكلامه في كثير من المواضيع، وعندما خاف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أن يقول الناس أن محمد نبينا، وموسى ليس نبينا، فقال: (لا تفضلوني على موسى). وقال: (لا تفضلوني على موسى، فإن الناسَ يُصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطِشًا بساقِ العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى اللـه؟). ما أجمل مقام سيدنا موسى، وما أحسن تواضعك يا رسول الله، عندما تقول لا تفضلوني عن موسى ونحن نعلم أنك خير خلق الله.
زواج سيدنا موسى:
وعرض الأب" الشيخ الكبير" على سيدنا موسى أن يعمل معه "راعي غنم" لمدة عشر سنوات، وكان الأب حساس وذكي، فرأى ابنته الحيي تتحدث عن سيدنا موسى بالمدح " القوي الأمين"، إنه الأب الصديق الذي يشعر باحتياجات ابنته، والذي شعر بإعجاب ابنته نحو سيدنا موسى عندما ظهرت له بعض الكلمات الرقيقة، المؤدبة، النظيفة بإعجابها بهذا الشاب، ففكر الأب في فكرة، لماذا لا يُزوج سيدنا موسى ابنته؟ ما أجمل إحساس هذا الأب بابنته. يا آباء، هل تشعرون ببناتكم؟ ابنتك كبرت ولم تعد طفلة فاشعر بها، المهم أن الأب عرض على سيدنا موسى فكرة الزواج {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ ... } القصص27. ويوافق سيدنا موسى على الزواج، كم يبلغ الآن عمر سيدنا موسى؟ ثلاثون عاما، هل ظل سيدنا موسى بلا زواج حتى هذا السن؟ أتريد تقنعني أن أمير مصر ابن فرعون لم يتزوج حتى الآن؟! جميع أمراء مصر يتزوجون في سن السابعة عشر والثامنة عشر، وجميع بنات مصر تتمناه، فلماذا لم يتزوج حتى الآن؟! لأن التكافؤ مهم والبنت المصرية لن تتكافأ معه؛ لأنه من بني إسرائيل، خذوا بالكم يا بنات أهم شيء التكافؤ حتى لو كانت البنت المصرية مؤمنة، ولكن كان هناك فرق اجتماعي بين بني إسرائيل والمصريين. ولماذا لم يتزوج من بني إسرائيل؟ لأن فرعون سيقهره، فيتزوج سيدنا موسى بنت عربية، وضع تحت كلمة عربية مائة خط، فسيدنا موسى لم يكن عنصري أبدًا.
الحكمة من رعي الغنم:
وبدأ سيدنا موسى عمله في رعي الغنم، يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:( ما بعث الله عز وجل نبيا إلا راعي غنم قالوا ولا أنت يا رسول الله قال وأنا كنت أرعى لأهل مكة بالقراريط). لماذا اختار الله له أن يعمل " راعي غنم" ؟ لأن هذا كفيل بأن يعلمه الصبر، وهو لابد وأن يصبر على بني إسرائيل، ويتعلم الحلم وعدم العجلة، فسيدنا موسى إلى الآن في عجلة حتى يكون نبي الله، ومن أولي العزم من الرسل الصابرين، فيجب أن يرعي الغنم لتزول هذه العَجلة، وليتعلم الصبر والتفكر والحكمة. وبدأت العصا " عصا الغنم" تظهر في حياة سيدنا موسى، وهو لا يدري أن هذه العصا سيصنع بها الله معجزات عظيمة، فعندما صبر على العصا من أجل الغنم، جعل الله له هذه العصا بصبره وإخلاصه سبب في عزّة ونصر كبيرة، فمن الذي أهدى لسيدنا موسى العصا؟ زوجته؛ لأنها هي الذي علمته رعي الغنم.
إذا عرضك الله سبحانه وتعالى لموضوع فيه صبر ومشقه ماذا تفعل؟ هل ستصبر أم لن تطيق وستمل؟ لو تعرضت لأي اختبار اصبر وسترى كيف يرفعك الله كما فعل مع سيدنا موسى، فسيدنا موسى رعى الغنم عشرة أعوام، فأين هوالآن؟ منزلته في السماء السادسة. كان سيدنا موسى عليه السلام يقول عن عصاه: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي... }طه18. وسبحان الله نبي يرعى الغنم عشر سنين يا له من تعب ويا لها من مشقة، كم تعب الأنبياء، كم شاهدوا وخبروا في هذه الدنيا حتى يستطيعوا أن يقودوا أممًا، إذا أردت أن تفعل شيئًا للإسلام تحمل المشقة والتعب، واحتك بالناس، وتعلم أشياء كثيرة لكي تكون رجل يستطيع أن يرفع ويعز الإسلام.
الرضا بقضاء الله:
ويعيش سيدنا موسى في مدين في بيت صغير عبارة عن خيمة من الخيش "بيت الرعاة"، وهو بيت بسيط جدًا، يعيش في مثله الرعاة الحاليين، فالأمير موسى الذي كان يسكن في قصر فرعون بمصر والتي كانت أم الحضارة وتقود العالم يعيش الآن في خيمة الرعاة! ما الذي نتعلمه من هذا الموقف؟ نتعلم أن الدنيا ليست سهلة، ترتفع وتنخفض، فعندما تنخفض بك، ارض بقضاء الله، وعندما ترتفع بك اشكر الله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له). فإذا الدنيا انقلبت عليك إياك والسخط، وإياك وقول أنك راض وأنت في حقيقة أمرك غاضب وغير راضٍ، ارض وكن مرن مثل سيدنا موسى الذي تعامل بقضاء الله بمنتهى الرضا، فبالأمس كان الأمير موسى واليوم أصبح موسى راعي الغنم، ما أجمل رضاك بالله ! بعد هذه الحلقة أنا راضٍ عن ربنا برضا موسى عليه السلام عن ربنا.
دار الترجمة
http://amrkhaled.net/newsite/articles1.php?articleID=NTM0Ng==&id=5346