بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
السلام عليكم ورحمة الله ، أيها الأخوة والأخوات أهلاً بكم في حلقة جديدة في برنامج :"الإسلام منهج حياة" .
وأرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ـ حفظه الله ـ الداعية الإسلامي .
فضيلة الدكتور ، تقدم معنا في تعريف العبادة بأنها طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، مستندة إلى معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
وذكرتم أن الإنسان هو الوحيد من بين المخلوقات الذي حمل الأمانة ، فما هي مقومات حمل الأمانة ؟ وإلى ماذا يستند هذا الحمل الثقيل ؟.
مقومات حمل الأمانة :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أستاذ جميل ، الأمانة هي نفس الإنسان أوكله الله إياها ، وقد قال الله عز وجل :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾
( سورة الشمس )
تزكية النفس أن تعرفها بربها وتحملها على طاعته
والفلاح هو النجاح مع الله ، النجاح في الآخرة ،
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾
ومعنى زكاها أنه عرفها بربها ، وحملها على طاعته ، ودفعها للترقب إليه بالأعمال الصالحة ، وهذا هو ثمن الجنة التي خلقنا من أجلها .
فالأمانة هي نفس الإنسان التي بين جنبيه ، جعلها الله أمانة عنده ، فسعادته بيده وشقاؤه بيده ، فإذا زكاها سعد في الدنيا والآخرة ، وإذا دساها جعلها بعيدة عن ربها .
إن لم تنضبط بمنهج الله عز وجل ، وأساءت إلى خلق الله ، شقيت في الدنيا والآخرة ، وحينما حمّل الله الإنسان هذه الأمانة أعطاه مقوماتها ، وهذه المقومات هي معرفة الله أولاً والتقرب إليه ثانياً ، يعرفه من خلال هذا الكون الذي ينطق بكل جزئية من جزئياته بوجود الله ، ووحدانيته ، وكماله ، وكل أسمائه الحسنى تراها في هذا الكون ، وكأن الكون مظهر لأسماء الله الحسنى .
كل ظاهرة في الكون تدل على عظمة الله ووجوده ووحدانيته :
القرآن كون ناطق
إذاً الكون الثابت الأول ، لا يختلف عليه اثنان ، كل البشر على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم ، وأنسابهم ، الكون أمامهم بين أيديهم ، الشمس ، القمر ، الليل ، النهار ، الأطيار ، الأسماك ، البحار ، الجبال ، كل هذه المظاهر تنطق بوجود الله ووحدانيته ، وكماله ، وأنا أسمي الكون الثابت الأول .
بل إن بعض العلماء يقول : "الكون قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي " ، فنحن عندنا قرآن صامت هو الكون ، وكون ناطق هو القرآن ، وإنسان جعله الله قدوة لبني البشر ، إنسان أخلاقه هي القرآن ، قرآن يمشي .
إذاً هو الثابت الأول ، والحديث عن آيات الله في الكون لا تنتهي ، آيات الله في الكون الحديث عنها يحتاج إلى سنوات وسنوات ، كل ظاهرة في الكون تدل على عظمة الله ، على وجود الله ، على وحدانية الله ، على قدرة الله ، على علم الله ، على حكمة الله ، فهذا الكون مظهر ، أو إن صحّ التعبير تجسيد لأسماء الله الحسنى ، وصفاته الفضلى .
معرفة الله تكون عن طريق آياته الكونية خلقه وآياته التكوينية أفعاله وآياته القرآنية كلامه:
ذكر الله في القرآن الكريم ألف و ثلاثمئة آية عن الكون ، وكأنها منهج للتفكر، وعلاقتنا بالكون هذه الآية :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾
الشاهد : من آيات الله اختلاف الليل والنهار
﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
( سورة آل عمران )
هذه الآيات الكونية التي خلقه يقابلها آيات تكوينية هي أفعاله .
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
( سورة الأنعام )
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا ﴾
بمعنى آخر ،
﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
فنحن ننظر في أفعال الله ، فنعرف الله من خلالها ، وننظر في خلق الله فنعرف الله من خلال هذه الآيات .
بقي الآيات القرآنية هي كلامه .
أصل الدين معرفة الله عز وجل :
إذاً أصل الدين معرفة الله عز وجل ، إن عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر ، وهذا حال بعض المسلمين ، ما عرفوا الآمر ، لكنهم عرفوا الأمر ، فتفننوا في فتاوى ضعيفة ، بلف ودوران حول قواعد الشرع ، وكأنهم تحللوا من هذا الشرع بفتاوى أو باجتهادات ما أنزل الله بها من سلطان .
فالشاهد أنك إن عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من هذا الأمر ، معرفة الله عن طريق آياته الكونية خلقه ، عن طريق آياته التكوينية أفعاله ، عن طريق آياته القرآنية كلامه .
الأستاذ جميل :
إذاً فضيلة الدكتور الكون هو المقوم الأول ، والثابت الأول .
المؤمن تجاوز الكون إلى المكون و النعمة إلى المنعم :
الدكتور راتب :
هو القاسم المشترك بين كل البشر ، أينما ذهبت في الأرض ، شرقاً وغرباً ، شمالاً وجنوباً ، دول قوية ، ضعيفة ، الكون لا يختلف ، والإيمان به ثابت .
فالبطولة إذاً أن المؤمن تجاوز الكون إلى المكون ، بينما غير المؤمن بقي عند الكون ، المؤمن تجاوز النعمة إلى المنعم ، غير المؤمن بقي عند النعمة ، المؤمن تجاوز التسيير إلى المسير ، الخلق إلى الخالق ، الحكمة إلى الحكيم ، عملية تجاوز ، وكأن المؤمن جسر تنتقل به إلى معرفة الله عز وجل .
الأستاذ جميل :
الكون إذاً فضيلة الدكتور هو المقوم الأول لحمل الأمانة ، والكون ينظر بالعقل ، فمن كان له عقل استطاع أن يتفكر في هذا الكون ، فماذا عن العقل أيضاً ؟.
العقل أداة معرفة الله عز وجل بشرط أن يكون الوحي نوراً يهتدي به العقل :
الدكتور راتب :
العقل يحتاج لنور الوحي لمعرفة الحقيقة
العقل جهاز أعطانا الله إياه ، وهو من أثمن ما مكّن الله به الإنسان ، العقل له مبادئ ثلاثة ، مبدأ السببية ، والغائية ، وعدم التناقض ، ونظام الكون بني على نظام السببية ، ونظم الكون بني على نظام الغائية ، والكون لا يقبل التناقض كما أن العقل لا يقبل التناقض .
فهذا العقل أداة معرفة الله عز وجل ، لكنه قد يطغى .
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾
( سورة العلق )
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾
( سورة المدثر )
إذاً العقل مع أنه ميزان دقيق قد يطغى لماذا ؟ لأن العين لا قيمة لها من دون نور يتوسط بينها وبين المرئيات ، وكذلك العقل مع أنه أثمن آلة منحنا الله إياها ، لا يجدي نفعاًَ في معرفة الحقيقة ، إلا إذا كان الوحي وسيطاً بينه وبين القضايا الكبرى ، فكما أن النور ضرورة للعين ، كذلك الوحي ضرورة للعقل ، فالعقل يحتاج إلى وحي ليتكاملا ، والعين تحتاج إلى نور ليتكاملا ، فالعقل أداة معرفة الله بشرط أن يكون الوحي نوراً يهتدي به العقل ، أما العقل من دون وحي كما ترى في العالم ، كما ترى النزعة المادية ، وكما ترى أن الإنسان يشقي نفسه بذاته .
الأستاذ جميل :
إذاً الإنسان أوتي أولاً الكون ، ثم أوتي العقل ، وهو يحاسب ويحاكم بعقله ، وينظر في هذا الكون ، أيضاً من مقومات التكليف الفطرة .
الفطرة مقياس نفسي يكشف الإنسان بها أخطاءه :
الدكتور راتب :
الفطرة ، الفطرة مقياس نفسي ، الله عز وجل فطر الإنسان فطرة دقيقة جداً يكشف الإنسان بها أخطاءه ، قال تعالى :
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
( سورة الشمس )
بمعنى أنها حينما تتقي تعلم ذاتياً أنها اتقت ، وحينما تفجر تعلم ذاتياً أنها فجرت .
إذاً الإنسان :
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
( سورة القيامة )
هذه خصيصة في الإنسان أن فطرته متوافقة مع الشرع تماماً ، فأي خطأ في الشرع ينعكس ضيقاً في الفطرة ، وأي خطأ في تطبيق منهج الله عز وجل ينعكس إحساساً بالذنب ، أو تأنيباً للضمير إن صحّ التعبير .
خاتمة و توديع :
الأستاذ جميل :
دكتور أظن أن للحديث بقية ، ونتابعه إن شاء الله في حلقه قادمة ، نشكر لكم حضوركم ، ونشكر لكم أيها الأخوة المشاهدون متابعتكم ونلقاكم في رعاية الله وحفظه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
والحمد لله رب العالمين
http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=2492&id=189&sid=799&ssid=808&sssid=838