بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أهلًا ومرحبًا بكم، سنتحدث اليوم عن طفولة وشباب سيدنا موسى عليه السلام.
اختصاص ومهمة:
لماذا اختص الله سيدنا موسى بتكليمه؟؟ ولماذا سيدنا موسى بالأخص هو كليم الله؟ (... وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)(النساء: من الآية164) لم يرتق ِ أحد من البشر ويصل إلى منزلة أن يكلم الله عز وجل دون وسيط إلا سيدنا موسى عليه السلام وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في المعراج، ماذا يوجد برسالة سيدنا موسى أوصله إلى هذه المنزلة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فجعل الناس يطوفون بالبيت يقولون ما أجمله ما أحسنه إلا موضع لبنة، فأنا موضع اللبنة ) أي أنه هو الذي أكمل هذا البناء، فما هي لبنة سيدنا موسى الذي تفرد بها على مر التاريخ؟
هو قائد صنعه الله ليقضي على الظلم ويحول أمة من مستضعفين إلى أعزة منتصرين، مهمته أصعب مهمة في التاريخ بعد مهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي مهمة سيدنا موسى عليه السلام، فهو مطلوب منه:
1- مواجهه أكبر طاغية على مر التاريخ (فرعون) ذلك السفاح الذي قتل آلاف الأطفال، يواجهه بمفرده بلا قوة وبلا سلاح.
2- أن يدعو فرعون إلى التوحيد.
3- أن يدعو بلده كلها إلى الإيمان بالله.
4- أن يحرر بني إسرائيل من الذل الذي ملأهم.
5- أن يخرجهم من مصر (... فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ)(الأعراف: من الآية105) وذلك ليبني بهم أمة جديدة ويقوم بعمل نهضه لهذه الأمة.
ولذلك هيئته مناسبة لهذه المهمة، فهو طويل أسمر ذو شعر أجعد مفتول العضلات، ذو شخصية قوية، ولكن لماذا أصبح كليم الله؟ انتبه معي .. إن المهمة شاقة جدًا، واعلم أيضًا أنه كان مهدد بالقتل منذ كان في المهد حتى وفاته، لا يوجد أحد غيره من الأنبياء كان له هذا الحظ من التهديد بالقتل، كل الأنبياء هُددو بالقتل بالفعل وتعرضوا لمحاولات قتل، لكن سيدنا موسى الوحيد الذي كان كذلك منذ مولده وحتى وفاته، ذلك بالإضافة إلى مهمته سالفة الذكر، لذا فهو يحتاج لإعانة غير عادية حتى لا يضعف، بل يصمد ويواجه ويستمر في تحقيق مهمته تلك، هو في حاجة لدعم من الله ليعطيه قوه هائلة لمواجهة كل ذلك الظلم والبطش، ولذلك تكررت كلمة الخوف في قصة سيدنا موسى كثيرًا جدًا؛ لأنه تعرض لأهوال وفي الوقت نفسه هو بشر فلابد وأن يخاف كسائر البشر، وكأن رسالته من أجل نصرة الضعفاء والمظلومين وتوحيد الأمة على قول لا إله إلا الله ، فهي التي تحرر الأنفس الذليلة، هذا هو معنى لا إله إلا الله ، ألا تخاف من قوي ولا ذو سلطان أو أي أحد فلا إله إلا الله القوي والأقوى من أي شيء أو أحد، إذًا سيدنا موسى جاء بالتوحيد والتحرير وحرية الشعوب، وذلك يعني أن أوربا ليست أول من أتت بالحرية، بل إن سيدنا موسى وأنبياء الله هم أول من تكلم عن الحرية.
مراحل قصة سيدنا موسى:
تنقسم حياة سيدنا موسى إلى أربع مراحل، مرحلتين إعداد ومرحلتين تنفيذ.
· مرحلة الإعداد الأولى: وهي منذ المولد وحتى الثلاثين من عمره ويقضيها ما بين قصر فرعون وبين بيوت بني إسرائيل، ما بين أمه وبين آسية.
· مرحلة الإعداد الثانية: وهي عبارة عن عشر سنوات يقضيها في مدين حتى يصبح في الأربعين من عمره.
· مرحلة التنفيذ الأولى: وفيها يعود إلى مصر لمواجهة فرعون، وتستمر لمدة خمسة عشر عامًا.
· مرحلة التنفيذ الثانية: وفيها يخرج من مصر، وبناء بني إسرائيل وتحريرهم من الذل الذي قضى عليهم، وتستمر لمدة عشرة أعوام وحتى الوفاة.
وهذا يعني أن سيدنا موسى توفي وهو في سن الخامسة والسبعين من عمره تقريبًا.
صناعة قائد:
مرحلة الإعداد الأولى بين قصر فرعون وبيت أمه في البيوت الفقيرة لبني إسرائيل، بين ذلك القصر الفخم، وتلك البيوت الفقيرة، وذلك لينشأ ولديه الثقافتين، ثقافة الملوك وثقافة الفقراء، حتى يتمكن من التعامل مع الفئتين ، لذلك قال الله له ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)(طـه: من الآية39) أي أنه سيتم إعداده على يد الله سبحان الله وتعالى.
نيل وبحر:
لسيدنا (موسى) ذكريات عديدة مع ماء النيل، فلقد رُمى في النيل، والتقط من النيل، وعاش جزء من حياته مع أمه على ضفاف النيل، وجزء آخر من حياته في قصر فرعون على ضفاف النيل أيضًا، ثم نجا من فرعون وانشق البحر وتجاوزه هو وبني إسرائيل، ثم قصته مع سيدنا (الخضر) ورحلته في الماء، كلمة (موسى) ذات نفسها في اللغة المصرية القديمة معناها المُلتَقط من الماء، (مو) هي الماء، و(سى) هي المُلتقَط، وفي كلام آخر أن (موسى) معناها ابن الماء. هناك أمر آخر.. من تعتقد أنه اسماه (موسى)؟ لا يوجد سوى ثلاث بدائل: إما (فرعون) أو أمه أو (آسيا) ، فأما فرعون فهو لم يكن يحبه، وأما أمه فلا تملك تسميته؛ لأنها أمام الجميع المرضعة، فلا يتبقى سوى (آسيا) التي قامت بتسميته بذلك الاسم وهي الوحيدة التي لها مثل هذه المقدرة.
بين حنان أميه:
أصرت أم موسى أن تربيه في بيوت بني إسرائيل على ضفاف النيل، وسط حياتهم البسيطة، ولقد حاولت معها (آسيا) امرأة فرعون كثيرًا إقناعها بتربيته في القصر، إلا أنها لم تفلح في ذلك، فقد كانت أم موسى على يقين من الله (... إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (القصص:7)، (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ... ) (القصص:13) ووافقت (آسيا) على أن يذهب (موسى) مع مرضعته التي رفض أن يرضع من سواها وذلك خوفًا من أن يموت جوعًا، مرضعته التي هي في الحقيقة أمه، ذهب سيدنا (موسى) مع أمه إلى بيوت بني إسرائيل وعاش معها فترة الرضاعة والفطام؛ أي عامين عاش هذين العامين بين حنان أميه، أمه الحقيقية (يوكابد) وأمه بالتبني (آسيا)، هذا الحنان الذي يعيشه سيدنا (موسى) هو أولى صفات القائد، حيث يعينه على الوقوف للصعاب وفي نفس الوقت يكون قائد رحيم، تخيل معي بعد أن حُرمت أمه منه بقذفه في اليم، وكاد قلبها ينفطر عليه، ثم عاد إليها لتقر عينها به، تخيل مقدار الحب والحنان اللذين ستغدقهما عليه، وفي نفس الوقت حُرمت (آسيا) من الأولاد فتخيل أيضًا مقدار الحب والعطف اللذين سوف ينعم بهما منها، إن صفة الرحمة التي اكتسبها هي ما تميز القائد الحكيم، فالقائد بدون رحمة يصبح جبار مثل (هتلر) مثلًا .
في قصر فرعون:
وهناك اكتسب (موسى) صفة جديدة من صفات القائد وهي الصفة الثانية له وتتمثل في التعليم المتميز، فهو في قصر فرعون حيث سيتعلم علوم لا يتعلمها باقي المصريين، فما بالك ببني إسرائيل، لم تكن أمه لتستطيع أن توفر له هذا القدر من التعليم، وكأن الله قد أرسله في بعثة إلى أحسن الجامعات للتعلم، شيء آخر تعلمه في قصر فرعون وهي الصفة الثالثة له كقائد وهي القوة البدنية الهائلة، فمن عادات الفراعنه تربية أولادهم على التدريبات البدنية القوية، الصفة الرابعة تعلم في قصر فرعون أن يكون ذو نفس حرة، والتي تؤهله بعد ذلك للتصدي لفرعون نفسه، نعم فرعون نفسه، حياته مع فرعون في نفس القصر في حد ذاتها أفقدته هيبة فرعون؛ فقد رآه على طبيعته، وهو جائع وهو مريض وهو يذهب ليقضي حاجته كسائر البشر، لأنه بشر عادي، فأصبح بالنسبة لـ (موسى) إنسان عادي لا يهابه .
الحقيقة الأولى:
عمره الآن سبع أو ثمانِ سنوات، تعود سيدنا (موسى) أن يزور مرضعته كثيرًا، مثلما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع مرضعته (حليمة السعدية)، في هذه المرحلة من عمره والتي بدأت فيها شخصيته بالتكون وصار من الطبيعي أن يسأل أو يسمع ويعقل الكلام الذي يسمعه قررت (آسيا) أن تخبره الحقيقة بأنه ليس ابنها وأنها قد التقطته من الماء، لأنه حتمًا سيعلم ذلك، فقد شاهد حادثة التقاطه الكثيرمن الناس، ذلك بالإضافة إلى أن فرعون لا يحبه، فكان من الطبيعي أن يسألها عن أمه من تكون؟ فأجابته بأنها لا تعلم، وفي الوقت نفسه لم تستطع أمه (يوكابد) أن تخبره بحقيقة أنها هي أمه؛ فهو لا يزال صغير وخشيت أن يكثر كلامه مثل سائر الأطفال، فظل لا يعلم لنفسه أمًا، في هذه الفترة بدأت تظهر لديه الصفة الخامسة للقائد ألا وهي الشجاعة، فقد أصبح صاحب نفس شجاعة تتحمل الصدمات، انظر معي إلى شخصيته، لديه الرحمة وفي نفس الوقت الشجاعة وعزة النفس، مما أدى إلى أن تكون نفسه نفس سوية، هذه هي صناعة الله سبحانه وتعالى.
بين قصر فرعون وبيوت بني إسرائيل:
سمحت (آسيا) لـ(موسى) بزيارة مرضعته رغم صغر سنه، وظل سيدنا (موسى) يتردد على مرضعته ويتودد إليها حتى نشأت علاقة قوية بينه وبينها، وبينه وبين إخوته هارون ومريم، وبدأ يشعر براحة في بيوت بني إسرائيل أكثر من تلك التي يشعر بها في قصر فرعون، ففرعون يكرهه ولولا (آسيا) لما ظل هناك، أراد الله له ذلك لينشأ لديه حب لبني إسرائيل وفي نفس الوقت يعتاد على حياتهم منذ صغره فلا يشعر بغربة بينهم بل يأنس إليهم، فرحت أمه (يوكابد) كثيرًا لما رأته يأنس إلي بيت أبيه وإخوته وقومه حتى وإن كان لا يزال لا يعلم أنه منهم، فأرادت أن تزيد من هذه الصلة، فشرعت تحكي له قصص عن سيدنا (يوسف) عليه السلام، وهذا ذكاء منها فقد اختارت له شخصية تاريخية ورمز تاريخي محبوب لدى الفريقين، حتى إذا ذهب إلى القصر وتحدث عن سيدنا ( يوسف) لا ينزعج منه أحد؛ فالمصريون يحبون سيدنا ( يوسف) وفي الوقت نفسه هو من بني إسرائيل، وهي تريد أن تنمي لدى سيدنا (موسى) حبه لبني إسرائيل تمهيدًا لإخباره بأنه منهم، وهنا تظهر لديه صفة جديدة من صفات القائد وهي الصفة السادسة ألا وهي القدوة والمثل الأعلى الذي يحتذي به، ثم أخبرته أن هذا القائد العظيم الذي أصبح يحبه ويراه مثلًا أعلى هو من أجدادها، فازداد تعلق سيدنا (موسى) بمرضعته وبني إسرائيل، وزاد انتمائه إليهم.
الحقيقة الثانية:
إلى أن أتى اليوم المناسب الذي تستطيع أن تأتمنه على السر فأخبرته بأنها هي أمه الحقيقية، وأنها لم يكن لديها أي وسيلة أخرى لتنجيه من موت محقق على يد فرعون سفاح الأطفال إلا بقذفه في النيل، وأن الله قذف في قلبها إيمانًا بأنه سيعود إليها ، وها هو قد عاد بالفعل، وسردت له القصة من بدايتها وحتى نهايتها، وأخبرته بأنه يجب أن يعود إلى قصر فرعون حتى لا تُقتل هي أو يُقتل هو إذا علم فرعون بحقيقة أمرهما.
المرونة والموازنة:
لم تكن أم ( موسى ) أمًا عادية بل كانت مربية ذكية، فقد غرست لديه صفة جديدة من صفات القائد، الصفة السابعة وهي المرونة والتوازن، ما رأيك أنت؟ هل يعود إلى حياته في قصر فرعون المليء بالفساد ، فهناك فرعون الذي يقول (أنا ربكم الأعلى) وكهنة وآلهه، أيعود بعد أن عرف الحقيقة وعرف أمه واستقر بين أحضانها، نعم .. أصرت أمه على عودته إلى ذلك القصر بالرغم من كل ذلك؛ فهو لا يزال بحاجة للمزيد من التعليم الذي لا يستطيع أن يحصل عليه إلا في ذلك القصر وحده فقط، وهذه الفترة هي التي أصقلت صفة المرونة والتوازن لديه، الكثير منا سوف يختارون عدم العودة لذلك القصر لما فيه من فتن ومصائب حتى ولو كان ذلك على حساب الفائدة التي يمكن أن يحصل عليها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" المؤمن الذي يخالط الناس خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه". تعلم سيدنا موسى الموازنة بين شيء فيه المفسدة والمصلحة في نفس الوقت، ويصر على الحصول على الفائدة دون أن يتأثر بالمفسدة، لذا ظل سيدنا موسى في قصر فرعون ليستفيد من العلم المتاح لديه في القصر ويحتك أكثر بالمصريين، ليعرفونه أكثر لأنهم سيدافعون عنه فيما بعد، تواجده في القصر واحتكاكه بالمصرين بعد أن عرف حقيقته وأصله لبني إسرائيل علمه الصفة الثامنة للقائد وهي الشخصية المنفتحة، فقد عاش في البيئتين رغم اختلافهم واختلاف ثقافتهم، يستطيع الآن أن يتعامل مع برتوكولات القصر وطبيعة الحياة الملكية ويتعامل مثل الملوك والفراعنة، وفي الوقت نفسه يستطيع التعامل مع الحياة البسيطة لبني إسرائيل التعايش معها بأريحية بالغة على عكس طبيعة الملوك العاديين.
ولما بلغ أشده:
الصفة التاسعة والتي لا يصلح قائد بدونها، الهدف والرسالة، ولقد قرر أن يكون هدفه إنقاذ بني إسرائيل، الكثير منا يظن أن سيدنا (موسى) حرر بني إسرائيل لأن الله كلفه بهذا، ولكن الحقيقة هي أنه اختار ذلك بنفسه فاختبره ربه ووجده مصرًا على أن ينقذهم مما هم فيه بعد أن أحس مدى الذل الذي يعيشونه فكلفه الله بذلك وأيده.
الصفة العاشرة وهي الصحبة الصالحة والتي من دونها يضل أي قائد وأي شخصٍ ناجح، وتمثلت صحبته الصالحة في أخوه هارون الذي سوف يسانده ويقف بجانبه وينصحه إلى آخر رحلته.
إلى الآن اكتسب سيدنا (موسى ) عليه السلام عشر صفات أساسية من صفات القائد وهي:
1. الرحمة
2. التعليم المتميز
3. القوة البدنية الهائلة
4. نفس حرة
5. الشجاعة
6. القدوة والمثل الأعلى
7. المرونة والتوازن
8. الشخصية المنفتحة
9. الهدف والرسالة
10.الصحبة الصالحة
وقد لخص الله لنا كل ذلك في آية عظيمة، هي من دلالات إعجاز القرآن الكريم (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ)(القصص:14).
دار الترجمة
http://amrkhaled.net/newsite/articles2.php?articleID=NTMyNQ==