{ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ .. } [مريم /23] ، التجأت مريم العذراء إلى جذع النخلة في ذلك المكان القصي وإذا كنا رجحنا أن المكان القصي هو بيت لحم فإن الآية القرآنية تشير إلى أنه كان في بيت لحم نخلة حية نامية في ذلك الوقت ..
الشيخ حسن الحسيني : مع أن المعلوم في هذه الأيام أنه لا يوجد في بيت نخلة ولكن لا يقاس الماضي البعيد عن الواقع القائم فتلك النخلة في بيت لحم التي شهدت ميلاد عيسى - عليه السلام - قد تكون قد عادت عليها عوادي الزمن فأيبسها وأماتها وقد مر عبد الوهاب النجار مؤلف كتاب قصص الأنبياء في مطلع القرن العشرين بكنيسة المهد في بيت لحم التي التي يزعم النصارى أنهم أقاموها على مكان ميلاد عيسى - عليه السلام - قال إن وجود النخل في بيت لحم نادر وقد رأيت بكنيسة بيت لحم المبنية على موضع ولادة المسيح مكانا قد قُوِرَ البَلاط فيه ويقولون أن في موضع هذا التقوير كانت النخلة التي وَضَعَتْ عندها مريم عيسى - عليها السلام - والله أعلم ..
الشيخ محمد العريفي : وهنا عند جذع النخلة أخذها الطلق واشتدت بها آلام المخاض فأطلقت زفرة شديدة موجعة قائلة {.. يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا } [مريم /23] ، تمنت وهي عند جذع النخلة أنها كانت نسياً منسياً تمنت لو أنها ماتت قبل هذا الحال المكروب الشديد الذي هي فيه تمنت لو كانت نسياً منسيا {.. يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا ..} ، أي قبل هذا الحال قبل هذا الموقف {.. وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا } ، يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه يا ليتني مت قبل أن أحزن بولادة مولود من غير بعل من غير زوج { .. وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا } ، أي ليتني لم أخلق ولم أكن شيئا قط ليتني كنت شيئا لا يٌعرف ولا يُذكر ولا يُدرى من أنا ليتني كنت شيئا منسيا يُترك ولا يُطلب - سبحان الله - هذا حال مريم -عليها السلام - وهي تجلس عند ذلك الجذع مريم الطاهرة العفيفة العذراء تستتر في مكانٍ قصي وهي لم تفعل منكرا تألمت ألما شديدا وتمنت أنها لم تخلق أنه لم يعرفها أحد بل تمنت لو كانت شيئا لا يذكر ولا يُطلب وهي - عليها السلام - لم تأتي بفاحشة وحاشاها فكيف بمن يجاهر بالمنكر أو بمن يتفاخر بالفاحشة أما مريم - عليها السلام - فكانت مثالا للشرف المصون كانت مثالا للفتاة التقية ..
الشيخ حسن الحسيني : ولكن لماذا تمنت مريم لو ماتت وكانت نسياً منسيا نحاول الإجابة على هذا التساؤل وتصوير مشاعرها في هذه اللحظات الحرجة من خلال مشاهدتنا لمريم وهي تنتبذ مكانا قصيا عن أهلها في موقفٍ أشد هولا من موقفها السابق لما حملت بعيسى فلئن كانت مريم في موقفها الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق بينها وبين نفسها فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة ثم هي تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية والمخاض الذي ألجئها إلجاءً إلى جذع النخلة واضطرها اضطراراً إلى الاستناد عليها وهي وحيدة فريدة تعاني حيرت العذراء في أول مخاض ولا علم لها بشيء ولا معين لها بشيء فإذ هي تقول يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا إننا لنكاد نرى ملامحها ونحس اضطراب خواطرها ونلمس مواقع الألم فيها وهي تتمنى لو كانت نسياً منسيا ..
الشيخ محمد العريفي : هذا وقد نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -عن تمني الموت فقال - عليه الصلاة والسلام - (( لا تمنوا الموت .. ))
الراوي : خباب بن الأرت المحدث : الترمذي - المصدر : سنن الترمذي - الصفحة أو الرقم : 2483 خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح
لماذا ؟ .. لما فيه من طلب إزالة نعمة الحياة لكن هذا النهي مقيدٌ بكون تمني الموت لضرٍ دنيويٍ ينزل بالمرء كالفقر والهم والمرض .. اصبر لا تتمنى الموت أما لو كان الضر دينيا كخشية حلول الفتن في الدين التي قد لا يصبر عليها العبد فحين إذٍ لا بأس لو تمنى أن ينزل به الموت كحال السيدة مريم العذراء - عليها السلام - حينما تمنت فقالت : {.. يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا } ، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي ليس له أب الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على الثقة وحسن الظن ولا يصدقونها في خبرها بل بعدما كانت عندهم عابدة زاهدة تقية ستصبح عندهم فيما يظنون بوصفٍ آخرٍ سيء وحاشاها تأملوا معي دار في رأس العذراء البتول دوامة من الأحزان والهواجس والهموم والمخاوف من أقاويل الناس وافتراءاتهم عليها عصفت ببقايا الصبر عندها فلم تملك أن تمنع صرخة خرجت من كل كيانها على لسانها { ..قَالَتْيَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا } ، مع أنها كانت تعلم بوعد الله لها أن الله سيسترها وينجيها وأنه سيجعلها وابنها آية للعالمين وما هي إلا فترة قصيرة عانت فيها مريم ما عانت من آلام المخاض حتى وضعت مولودها نعم ولد المسيح عيسى - عليه السلام - ..
لقد وضعت السيدة مريم ولدها عيسى المسيح فلم يصرخ لم يصرخ هذا المولود المبارك كما يصرخ بقية المواليد وتلك آية أخرى عجيبة كرامة للمسيح على الله - تبارك وتعالى - ..
الشيخ حسن الحسيني : وقد بين ذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : (( كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ))
الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري
- الصفحة أو الرقم : 3286خلاصة حكم المحدث [صحيح] .
والحجاب هو الجلدة التي فيها الجنين وتسمى المشيمة وعندما وضعت مريم وليدها لم ترفعه من الأرض بعد أن وضعته لعظيم ما بلغ بها من الكرب واعتصرها من الألم ما زالت مريم العذراء أسيرة أفكارها ما زالت قلقة منفعلة ما زالت حزينة مكروبة لم تتمالك والدموع تسيل على خديها حينها قالت بصوت يملأه القهر والحزن تلك الكلمة التي تدل على عظيم ما بلغ بها : { ..قَالَتْيَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا } ، وفي حدة الألم وغمرة الهول تقع المفاجأة الكبرى { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } [مريم /24] ،
{ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ( 22 ) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ( 23 ) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ( 24 ) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ( 25 ) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ( 26 ) } [سورة مريم] ،
الشيخ محمد العريفي : وهنا ونتيجة لذهولها عن وعد الله لها لغلبة الكرب عليها كان لابد من مفاجأتها لإعادتها إلى ما تعرفه من وعد الله وعظيم قدرته جل في علاه ولطفه بأوليائه ومحبته لهم وحكمته البالغة كان لابد من صعقها بما تعرفه من عجائب قدرة ربها قال الله : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا ..} .. من الذي ناداها ؟
إنه مولودها عيسى - عليه السلام - يا الله طفلٌ ولد اللحظة يناديها من تحتها المولود يتكلم الذي لم يولد إلا قبل لحظات في أي قانونٍ من قوانين البشر هذا ما الذي يحدث ؟
إنها معجزة كن فيكون حينها أدركت مريم أنها أمام معجزة عظمى فيطمئن قلبها وهذا المولود يصل أمه بربها يرشدها إلى خالقها إلى خلاصها يوجهها إلى طعامها وشرابها يدلها على حجتها على برهانها قسمات وجه مريم تتلاشى عنها كل المخاوف ارتفع الكرب زالت الهموم والغموم تُرى ما الذي قال لها ابنها وليدها ؟ قال تعالى : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ( 24 ) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ( 25 ) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ .. } [ سورة مريم] ، إن الله تعالى هو الذي ألهم عيسى - عليه السلام - أن يقول لأمه هذا الكلام أنطقه بهذا القول وإلا فما أدراه بهذه الخطة العلمية الحكيمة وهو مولودٌ صغير ..
الشيخ حسن الحسيني : دعونا نتخيل مدى مفاجأة مريم العذراء ولتسمعوا ابنها يناديها ويكلمها ويشد أعصابها ويرفع معنوياتها فناداها من تحتها أن لا تزني لا تحزني يا مريم أليس ربك هو الذي يرعاك برعايته الخاصة في عموم الأحوال فكيف بك وأنت على هذه الحال لا تحزني هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها المسيح لأمه العذراء قالها قوية في حزم صادقة في عزم صارمة في جزم لا تحزني فما دام الله معك فلم الحزن ولما الخوف ولما القلق أماه أُسكني أُثبتي اهدئي اطمئني لأنه الله معك لا تحزني أزيلي ما اعتراك من همٍ وكرب لا تتوتري لا تقلقي لا تنفعلي لا تحزني مما حصل يا أماه فإن الله معك يحفظك ويرعاك فهاهو الطعام والشراب قد ساقه الله لك معجزة من المعجزات أماه لا تحزني في التفكير بمواجهة الناس فإن الله سيقدم آية يرفع بها الالتباس أماه لا تحزني ما دام الله معك فثقي بأننا لن نُغلب بأننا لن نُهزم بأننا لن نضل بأننا لن نضيع لماذا لأن الله معنا غدا سوف تظهر الحقيقة وتتحقق الشريعة وتنشر العقيدة غدا يا أماه سوف تعلوا الراية وتظهر الرسالة وتسمع الكلمة ويُنصر الدين لأن الله تعالى معنا ..
الشيخ محمد العريفي : قال الله : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } [مريم /24] ، يواصل الرضيع السيد المسيح خطابه لأمه بأن الله لم ينسك الله - جل وعلا - يراكِ لم يتركِ بل قد أجرى لكِ وليس بعيدا عنكِ بل تحت قدميكِ جدولا للماء ساريا جرى للحظته يُنبوعا يتدفق تدفق بضربة من رجل جبريل الأمين ففجر الله لها الماء وأتبعه عندما لجأت إلى جذع النخلة وجعله يمر من تحتها ويتابع سريانه وجريانه كان هذا خارقة من المعجزات المتتابعة التي أجراها الله - جل وعلا - لسيدنا المسيح ولأمه التي صاحبت خلق عيسى - عليه السلام - وصاحبت الحمل به وولادته وبعدما أشار عيسى إلى سَرِيِ الماء الذي يجري من تحت أمه أرشدها إلى النخلة التي تستند إليها فقال لها : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ( 25 ) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ ..} [سورة مريم] ، كلي واشربي هُزِيها فتساقط عليك رطبا كلي واشربي أي اطمئني قلبا ونحسبها قد دُهِشت طويلا وبُهِتت قبل أن تمد يدها إلى جذع النخلة هذا غلامٌ مولودٌ يتكلم .
مع الشكر لفريق تفريغ منتدى العريفي : http://www.3refe.com/vb/showthread.php?t=254179&page=2