{ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } [مريم /22] ، فالنشهد مريم العذراء تنتبذ مكانا قصياً عن أهلها في موقف أشد هولا من موقفها الذي أسلفنا فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق بينها وبين نفسها فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بما يراه فضيحة ..
الشيخ محمد العريفي : ها هي السيدة مريم تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية تواجه المخاض الذي أجائها جاءها إلى جذع النخلة واضطرها اضطراراً إلى الاستناد عليها وهي وحيدة فريدة تعاني حيرت العذراء في أول مخاض ولا علم لها بشيء ولا معين لها في شيء فإذا هي تقول : { .. يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا } [مريم / 23] ، إننا لنكاد نرى ملامحها ونحس اضطراب خاطرها نلمس مواقع الألم فيها وهي تتمنى لو كانت نسيا وهي خرقة تستعمل ثم ترمى وتنسى تمنت لو كانت تنسى فما الذي حصل ببعد نفخة روح القدس في جيب ذِرْعِ مريم العذراء – عليها السلام - ..
{ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) } [من سورة مريم] ..
الشيخ حسن الحسيني : قابل جبريل - عليه السلام - مريم وهي منفردة عن أهلها منتبذة منه مكانا شرقيا ونفخ فيها نفخة بأمر الله وكان في النفخة كلمة الله الأزلية كُن وفيها روحٌ من عند الله وشاء الله أن تَخَلَقَ الجنينُ في رحمها بتلك النفخة فحملت بعيسى - عليه السلام – وقد أشارت آيات القرآن بإيجاز إلى مشهد ولادة مريم لابنها المسيح عيسى - عليهما السلام - يقول الله تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) [من سورة مريم] ، آيات معجزة تعرض لقطات هذا المشهد المؤثر متعاقبة متتابعة معطوفة بعضها على بعض بحرف الفاء الذي يدل على الترتيب والتعقيب الفوري ..
الشيخ محمد العريفي : لما نفخ جبريل - عليه السلام - في جيب ذِرْعِ مريم - عليها السلام - نزلت النفخة حتى ولجت الفرج فحملت بعيسى بإذن الله تعالى فلما حملت مريم بالمسيح - عليه السلام - ضاقت ذرعا وما تدري ما تقول للناس فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا وذلك أن زكريا - عليه السلام - كان قد سأل الله تعالى الولد فأجيب إلى ذلك فحملت امرأته فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها وقالت أشعرتي يا مريم أني حُبلى فقالت لها مريم وهل علمت أيضا أني حُبلى وذكرن لها شأنها وما كان من خبرها وكانوا بيت إيمانٍ وصدق ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في بطنها يسجد للذي في بطن مريم أي يعظمه ويخض به وكان السجود في ملتهم عند السلام مشروعاً كما سجد لموسى أبواه وإخوته وكما أمر الله تعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم - عليه السلام - ولكن حُرِمَ السجود في ملتنا تعظيما وتكميلا لجلال الرب - جل وعلا - ..
يا مريم إن الله سيسألك عن أمرٍ فلا تعجلي أيكون قط شجرٌ بغير حب ؟ أو يكون زرعٌ بغير بذر ؟ أو يكون ابنٌ من غير أب ؟
الشيخ حسن الحسيني : كان في المعبد مع مريم - علها السلام - رجل صالحٌ من قرابتها يخدم معها بيت المقدس يُقال له يوسف النجار فلما رأى هذا العبد الصالح ثقل بطنها وكبره أنكر ذلك من أمرها ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ثم تأمل ما هي فيه فجعل أمر مريم يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه فحمل نفسه على أن عَرَضَ لها في القول
فقال لها يوسف النجار: يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي
قالت مريم : وما هو ؟
قال يوسف النجار : هل يكون قط شجرٌ من غير حب ؟ وهل يكون زرعٌ من غير بذر ؟ وهل يكون ولدٌ من غير أب ؟
فقالت السيدة العذراء : نعم
وقد فهمت ما أشار إليه يوسف النجار فردت عليه قائلة أما قولك هل يكون شجرٌ من غير حب وزرعٌ من غير بذر فإن الله تعالى قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حبٍ ولا بذر وهل يكون ولدٌ من غير أب فإن الله - سبحانه وتعالى - قد خلق آدم من غير أبٍ ولا أم حينها صدقها يوسف النجار وسلم لها حالها ..
الشيخ محمد العريفي : حين استشعرت مريم - عليها السلام - من قومها اتهامها بالريبة { ..فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } [مريم /22] ، أي قاصيا منهم بعيدا عنهم قال محمد بن إسحاق لما حملت به وملأت قُلتها يعني ما تحمله لتضع فيه الطعام ورجعت استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل من الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون حتى فَطَرَ لسانها فلم يدخل على أهل بيتٍ كما دخل على آل زكريا من الهم والغم لا يدرون ماذا سيقول الناس شاع الحديث في بني إسرائيل في كل موطن فقالوا إنما صاحبها يوسف النجار ولكن معها في الكنيسة غيره توارت مريم عن الناس واتخذت من دونهم حجابا ذهبت إلى مكان قاصٍ بعيد لا يراها أحد ولا ترى أحدا والإنتباذ هو الابتعاد والإنفراد عن الآخرين واعتزالهم ولقد ذكر الله - جل وعلا - في كتابه انتباذين لمريم يقومان على المرحلية والتدرج الأول انتباذٌ عام وهو المذكور في قوله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا } [مريم /16] ، وقد عرضناه سابقا وهو إنها لما انفردت للعبادة تعودت على ذلك واعتاد أهلها أيضا أن تبتعد عنهم لأجل أن تتعبد وتصلي وتتقرب كانت تقوم به في مكان يقع شرقي أماكنهم وكان لها فيه حجاب أو ربما كان بناء أو كان صومعة تتعبد مريم فيها كانت تعبد الله وتناجيه في ذلك المكان الشرقي أما الإنتباذ الثاني فهو انتباذٌ خاص وكان في المكان القصي انتبذت به مكانا قصيا حصل بعد الحمل بعيسى - عليه السلام - مصداقا لقول الله - جل وعلا - : { فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } [ مريم /22] ، والسؤال لماذا انتبذت مريم مكانا قصيا ؟ ..
لقد ذهبت السيدة العذراء إلى ذلك المكان القصي رغبة منها في المبالغة في الابتعاد عن أهلها لأنها خشيت اتهامها بالرذيلة وخافت من كلام الناس ونظراتهم وتوقعت استغرابهم ودهشتهم ..
الشيخ حسن الحسيني : إن استغراب الناس أمرٌ متوقع فهي فتاة عذراء بتول طاهرة صالحة يعرف أهلها صلاحها وطهارتها وهي تحمل في بطنها جنينا هل يصدقون روايتها بأنها نفخا من عند الله وأنه لم يمسها بشر فلعلها أحبت أن تبتعد عن قومها وأن تنتبذ بجنينها إلى ذلك المكان القصي لتسلم من اتهامات الناس ونظراتهم ثم المكان القصي أين يكون هذا المكان لم يحدد ذلك القرآن وذهب جمهور العلماء بأن المكان القصي هو بيت لحم وهو قول المؤرخين والنصارى وبيت لحم مكان قصي بالنسبة إلى القدس يبعد عن القدس حوالي 9 أميال حيث أقامت فيه مريم وأنجبت فيه المسيح عيسى - عليه السلام - ثم عادت إلى أهلها وهي تحمله ..
الشيخ محمد العريفي : لقد ذهبت السيدة مريم إلى المكان القصي في بيت لحم منتبذة بابنها من أهلها حينها أحست بآلام المخاض والطلق والوضع قال الله - جل وعلا - : { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ.. } [مريم /23] ، والفاء هنا فأجاءها يدل على الترتيب والتعقيب الفوري أنها حملت ثم جاءها المخاض مباشرة والتقدير فحملته فانتبذت به فأجاءها المخاض والتعبير عن مراحل حملها بعيسى وولادته - عليه السلام - بالفاء دليلٌ على أن الأمر إنما استغرق ساعات ما بين حملها - عليها السلام - به وما بين ولادتها له هذا قولٌ لبعض العلماء وبعض العلماء ذكر أنها حملت به حملا طبيعيا استمر معها كما يستمر مع النساء 9 أشهر كما تحمل النساء وهذا القول هو قول أكثر أهل العلم وأنها ولدته بعدما أتمت فعلا هذه 9 أشهر ..
الشيخ حسن الحسيني : قطعا كان حمل مريم العذراء معجزاً
لكن كيف حملت مريم بالمسيح ؟ وكم حملته ؟
إن السياق القرآني لم يذكر ذلك
هل كان حملا عادياً كما تحمل سائر النساء وتكون نفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة ؟
إن هذا جائز كما أنه من الجائز أيضا في مثل هذه الحالة الخاصة أن لا تسير البويضة بعد النفخة سيرا عاديا فتختصر المراحل اختصاراً ويعقبها تكون الجنين واكتماله في فترة وجيزة أقول ليس في النص القرآني ما يدل على إحدى الحالتين فلا نجري طويلاً وراء تحقيق القضية التي لا سند لنا فيها وإن كان جمهور العلماء يرون أن حمل مريم كان حملاً طبيعياً ..
الشيخ محمد العريفي : لقد كانت السيدة مريم - عليها السلام - مشهورة في بني إسرائيل بالزهد والعبادة وذلك أن أمها نذرت وهي في بطنها أن تجعلها للمعبد تخدم فيه وتشاحى العُبَادُ في تربيتها وهي صغيرة حتى تكفل بها زكريا - عليه السلام - كان الرزق من الله يأتيها في كل حين وها هي اليوم مريم البتول العفيفة العذراء الطاهرة تحمل في أحشائها طفلا من غير زوج بلا أب وهي في المكان الشرقي فانتبذت به إلى المكان القصي هناك انتبذت به إلى بيت لك فكانت مثالا للشرف للفتاة التقية النقية وهناك { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ..} [مريم /23] ، المخاض هو آلام الطلق رحم الأم يضطرب ويتحرك إذا دنت ولادتها وفي المكان القصي هناك نخلة فلما أحست بألم المخاض اضطرت أن تلجأ إلى تلك النخلة أن تتكئ عليها أن تجلس تحتها وما من أحدٍ عندها ولقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال - جل وعلا - { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ..} [مريم /23] ، أي جاءها المخاض إلى جذع النخلة ألجأها إلى هناك اضطرها إلى القدوم إليها أكرهها وهذا التعبير القرآني العظيم يصور لنا فعلا كيف أن هذا المخاض الشديد أخضع مريم بألمه دفعها دفعا جعلها تسير حتى تتكئ وتجلس تحت تلك النخلة تستند إلى جذعها لتستعلي على آلام الوضع والطلق التي تواجهها أول مرة في حياتها ..
بعد الإنتباذ الثاني للسيدة مريم - عليها السلام - كانت اللحظة الحاسمة في حياة السيدة العذراء ألا وهي ميلاد السيد المسيح فما قصة ذلك الميلاد المعجز .
مع الشكر لفريق تفريغ منتدى العريفي : http://www.3refe.com/vb/showthread.php?t=254179&page=2