ما زلنا مع السيدة مريم
تلك الفتاه العذراء..الصدِّيقة..القدِّيسه
التي وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد
لا يعرف عنها احد الا الطهر و العفه
ولا يعرف عن اسرتها الا الطيب والصلاح من قديم
انه رجل مكتمل سويِ
(فارسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا)
أي بشرا من جنسها سويا في الخلقه والتكوين
في غاية الروعة والجمال
قد انسجمت أعضائه وتناسقت على اجمل ما يكون البشر
وهنا ظهر عظيم عفة مريم عليها السلام وتقواها
فانها لما رأت هذا الجمال والكمال لم تقطع يديها او يأخذ بلبها ويسحر فؤادها
وانَا لها وقلبها مشغول القربى ولبها مأخوذ سلفا وعاطفتها تنساح من جوانبها حبا
حب من يستحق الحب وحده سبحانه
فلجأت الى ربها الذي لا يكشف الضر سواه
ما ابدت لذلك الفتى اعجابا ولا تلطفت إليه في الحديث أنسا
ولا نطقت بكلمه واحده يفهم منها ميل الى هذآ الرجل الغريب
وها هي ذي تنتفض انتفاضه العذراء المذعورة
يفاجئها رجل في خلوتها
فتلجئ الى الله تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس ذلك الرجل الغريب
والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي
قالت اني اعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا
فالتقي ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن
ويرجع عن دفعه الشهوة ونزغ الشيطان
وهنا يتمثل الخيال تلك العذاء الطيبه البريئه ذات التربيه الصالحه
التي نشأت في وسط صالح وكفَّلها زكريا
وهذه هي الهزة الاولى
وهنا نطق الرجل فقال انما انا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا
ويتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل
وهذا الرجل السوي الذي لم تثق بعد انه رسول ربها
قد تكون حيلةُ فاسق يستغل طيبتها ليصارحها بما يخدش سمع الفتاه الخجول
وهما في خلوة
وهذه هي الهزة الثانيه
لقد تعوذت السيده مريم بالرحمن جلَّ وعلا
لان جبريل عليه السلام اتاها متمثلا في صورة بشر
(فتمثل لها بشراً سوياً )
وعندما اخبرها بانهُ رسول من الله هدأ روعها
فلم تناقشه في صفته
وانما سألته عن غرابة ما سوف يحصل لها
ان تحمل وهي عذراء طاهرة
ثم نسأل لماذا تمثل لها الملك بشرا
قال العلماء جاء التمثل لان مريم ليس لديها قدرةٌ على رؤية الملائكه
كما هذه القدرةُ موجوده عند الانبياء والرسل
ولو ظهر بصورتهِ الحقيقيه لما تمكنت من رؤيتهِ وهو ملك على صورته الحقيقيه
لافتقادها القدرة التي تمكنها من ذلك
ولبقي الصوت فقط دون صورة مما سيؤدي الى شكها في الامر
(فتمثل لها بشرا سويا )
وهب الله تعالى الملائكه القدرة على التشكل في اشكال
والتحول من صورتهم الملائكيه الى الصورة البشريه
وعندما يتحولون الى الصورة البشريه يتمثلون في صورة رجال وليس في صورة نساء
ليؤكدوا على كذب الكفار الذين زعموا ان الملائكه بنات الله
(تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا )
لم يُخلق المسيح عيسى في بطن مريم مباشره
مع قدرته سبحانه وتعالى على ذلك
لكنه ارسل لها من تسمعه وتراه
لئلا يكثر التساؤل عند مريم عن سر حملها
ايها الاخوة .. ان الذي يقف امام العذراء ليس رجلا
وانما روح القدس
نعم .. انه جبريل عليه السلام
لقد اُرسل اليها روح الله
بعد ما اتخذت مريم حجابا في ذلك المكان الشرقي
والفعل الالهي ارسلنا يشير في دلالته إلى امرين
بعث الرسول و طبيعه البعث
وهي من الفاظ الاعجاز التي عبرت عن الفعل وطبيعته في آنٍ واحد
فالرسول بُعث إلى مريم رسولا وارسالا
والارسال في اللغه يشير إلى المراحل المتقطعة
وليس دفعة واحده
وهذا دليل آخر على أن مريم كانت على علمٍ مسبق بأمر ذلك الرسول
وهو في ذات الوقت رحمة من الله العزيز الرحيم بمريم العذراء
التي لم تكن بمقدورها ان تتلقى هذا الامر الالهي العظيم الذي تزمل منه خاتم الانبياء والمرسلين
لو لم تكن مهيئة بالاخبار والاستعداد
وروحنا هنا هو جبريل عليه السلام
واضافه جبريل الى الله في قوله من روحنا من باب تكريمهِ وتعظيمه
ووصف جبريل بانه روحٌ لانه ينزل بالوحي على انبياء الله ورسله من عند الله
وهذا الوحي المتضمن شريعة الله تعالى واحكامه فيه حياةُ ارواح المؤمنين
فكلام الله تعالى روح يحيي الله تعالى به القلوب والارواح
وحامل هذه الروح هو روح الله جبريل عليه السلام
************************
بينما كانت السيده مريم تحت تأثير الهزة المفاجئه بتمثل بشر سوي امامها
فاذا بهذا الرجل يهز مسآمعهآ هزة ثانيه أعنف عندما صارحها بهدفهِ منها
قال انما انا رسول ربك لاهب لك غلاماً زكيا
اخبرها انه رسول من الله
ارسله الله اليها وهو مكلفٌ بمهمه محدده
انه يريد ان يهبها غلاماً زكيا
فوجئت مريم بهذه المصارحة
لقد سبق ان جاءتها الملائكة ببشرى سارة
وهي ان الله سيجعلها تحمل بولدٍ من غير بعل
ولكن لعلها مع الخوف الشديد والخجل البالغ من رؤية ذلك الرجل الغريب
نسيت ذلك وسيطر عليها الفزع والقلق والخجل
والهبةُ في الاصطلاح عطاءٌ من غير مقابل
ويفهم من هذا ان ما سيحدث لمريم هبةٌ من الله
غير خاضعةٍ للاسباب التكوينيه
والزكي هو الطاهر من الذنوب والنقائص والمطهر من المعاصي والخبائث
ان استخدام لفظ الهبه يشير الى ان مريم عليها السلام
لم تسهم في خلق عيسى عليه السلام باي شيء
لم تشارك في خلقه
سوى الحمل الذي نصت عليه الايه
فهو مخلوق بكامل الخلق بامر كن تامٌ قبل مريم
(وكان امراً مقضيا )
موهوب من الله (لاهب لك غلام زكيا
جنسه غلام (لاهب لك غلاما)
موصوف الخلق (زكيا) اي ان اخلاقه كانت زكيه حسنه
قال روح القدس ل مريم العذراء
انما انا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا
وهنا .. لابد ان تستعلي مريم على خجلها
وهي العذراء العفيفه
لابد ان تصارحه
هذا الموقف لا ينفع معه الا المصارحه
قالت انى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم اك بغيا
انها تعلم حسب معلوماتها البشريه ان المراة لن تحمل بالجنين الا اذا تمت المعاشره بينها وبين رجل
لكن روح القدس يخبرها انه سيهبها غلاما زكيا
كيف !! قالت انَّى يكون لي غلام
من اي وجهٍ يكون لي غلام ولم يمسسني بشر
لم يعاشرها زوج في نكاح حلال
ولم اكُ بغيا ..ولست بغيةً كالبغايا
فمن اين سيأتي هذا الغلام
وجاءها الجواب ليزيل مفاجئتها
ويقضي على دهشتها جواب ايماني
تذكرت به ما كانت قد بشرتها بهِ الملائكه سابقا
ويكاد يكون سؤالها وجوابها واحدا
عند ذلك اطمئنت ووثقت وعلمت ان هذا امر الله جل في علاه
فاستسلمت ورضيت بحكمه
قال لها روح القدس " كذلكِ اللهُ يخلقُ ما يشآء اذا قضى امرا فانَّما يقولُ له كن فيكون
وحين يرد الامر الى هذه الحقيقة الاوليه يذهب العجب وتزول الحيرة ويطمئن القلب
ويعود الانسان على نفسه يسألها في عجب
كيف عجبت من هذا الامر الفطري الواضح القريب
والتقدير كما ان الله قدَّر التكاثر البشري عن طريق الزواج
بحيث اصبح هذا هو المألوف عندهم كذلك الله قادرٌ ان تحملي وتلدي بغير هذه الطريق المعروفه
بل بطريقةٍ اخرى .. ليقدم الله للناسِ آيةً دالةً على قدرتهِ على كل شيء
قالت ربي أنَّى يكونُ لي ولدٌ ولم يمسسني بشر قالَ كذلكِ الله يخلقُ ما يشاء إذا قضى أمراً
فإنَّمآ يقولُ لهُ كن فيكون
.
وفي سورة مريم قال الله تعالى على لسان جبريل عليه السلام
(قال كذلكِ قال ربُّكِ هو علي هيِّن ولنجعلهُ ايةً للنَّاس ورحمة منا وكان امراً مقضيا )
هو علي هيَّن . . اي سهل
فَخلْقُ عيسى عليه السلام سهل عند الله
لانه بالامر الالهي كن
يقول الله سبحانه وتعالى ( إنَّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم )خلقهُ من ترابٍ ثم قال له كن فيكون
بقي الحديث على من هو هيِّن
الرسول جبريل أبلغ مريم بالنص الالهي بانَّهُ هيِّن
فهو هيِّن على الله سبحانه وتعالى
لا عناء ولا نصب ولا تعب
وهو القوي الحكيم
وليس الامر بهين على جبريل عليه السلام
لان الرسول ليس له في هذا الامر كلهِ . اي خلق عيسى عليه السلام الا التبليغ
فعليهِ نستنتج ان روح القدس جبريل عليه السلام لم يتدخل في خلق عيسى عليه السلام لا من قريب ولا من بعيد
وانما هو رسول مبلغ لمريم بامر الله عز وجل
هذا الامر الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه .. هين على الله
فامام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون كل شيء هين
سواءً جرت به السُنَّة المعهوده ام جرت بغيره
قال كذلك قال ربكِ هو علي هين ولنجعلهُ ايةً للناس ورحمةً منا وكان امرا مقضيا
ويخبر روح القدس جبريل عليه السلام ان الله اراد ان يجعل هذا الحادث العجب ايةً للناس
وعلامة على وجوده على قدرته على حرية ارادته
ان يجعله رحمه لبني اسرائيل اولا وللبشريه جمعاء ثانيه
بابراز هذا الحادث الذي يقودهم الى معرفه الله تعالى الى عبادته الى اتباع امره والانصياع لقدرته جل في علاه
***********
بذلك انتهى الحوار بين الروح القدس ومريم العذراء
ولا يذكر السياق القرآني ماذا كان بعد الحوار
فهنا فجوة من فجوات العرض الفني للقصه
فبعد ان اوضح جبريل شأن ولادة المسيح المعجز
ذكر ان هذآ قد انتهى أمره وكان أمراً مقضيا
لكن كيف لم يذكر هنا عن ذلك شيء
ثم تمضي القصه في مشهد جديد من مشاهدها
فتعرض هذه العذراء الحائرة في موقف آخر أشد هولا ...
مع الشكر لفريق تفريغ منتدى الشيخ محمد العريفي : http://www.3refe.com/vb/showthread.php?t=254179