لقد فصّل المولى –سبحانه وتعالى- في مراحل ولادة المسيح عيسى تفصيلاً دقيقاً دون سائر الخلقِ من عباده وحتى آدم ؛ لأن آدم لم يولد وإنما خلقَه الله خلقاً وتسوية , أما عيسى فخُلِق بالأمر الذي تلقّته مريم من قِبل الله تعالى
ولأن الله –جل و علا- هو العليم الخبير , يعلم بما سيكون على ألسنة المتقوّلين عن عيسى وأمه –عليهما السلام- في خلقه , وطريقة ولادته , ومن أبوه ؟ ففصّل الله تعالى تفصيلاً دقيقاً في كتابه ليرد عليهم قبل أن يتكلموا , وقد جاءت الآيات التي وضحت مراحل خلق عيسى المسيح –عليه السلام- , جاءت في سياقين , في سورتين :
- السياق الأول في سورة آل عمران حيث قال ربنا –جل في علاه- ]إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ[
- أما السياق الثاني ففي سورة مريم الصدّيقة –عليها السلام- وقد قال ربنا –سبحانه وتعالى- : ]وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا[
ومن خلال النظر في الآيات نلاحظ مراحل خلق عيسى من أمه مريم , وهي سبع مراحل :
- مرحلة البشارة
- مرحلة الانتباه الأولى
- مرحلة الحمل
- مرحلة المخاض
- مرحلة المناداة
- مرحلة بث الاطمئنان
- مرحلة بدء التبليغ
وسنبدأ في هذه الحلقة بالمرحلة الأولى من قصة هذه المعجزة , وهي :
(مرحلة بشارة الملائكة لمريم العذراء)
ذكرنا سابقاً أن الله –جل وعلا- بعث الملائكة لمريم حين أخبرتها باصطفاء الله تعالى لها , وتفضيلها على نساء العالمين , طالبتها بالصلاة والعبادة , وهاهو ربنا –جل في علاه- يبعث الملائكة لمريم مرةً ثانية , ولكن هنا جاءتها الملائكة بالبشرى , ولقد كان إخبار الملائكة لمريم باصطفاء الله لها تمهيداً لإخبارها بأنها ستُنجِب ولداً بلا أبٍ بأمر الله –جل وعلا- ومابين البشارتين زمنٌ الله –جل وعلا- أعلم بمدّته , ولم يكُن ما حدث بين والعذراء بشرى فقط , لا , وإنّما كان قولاً مسموعاً , وهذا القول لا شكّ قد علمه زكريا –عليه السلام- وآخرون , ونعتقد أن منهم من سيكون من المصدّقين لمريم –عليها السلام- ومن المؤمنين بأن ما سيحدث معها هو معجزةٌ من الله العظيم –جل في علاه-
الملائكة بشّرت مريم أنها ستلِد غلاماً ]إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ[
هذا الوحي الذي يبدو بأجلَى صورة هو كلام الله تعالى عبر الملائكة , وهذا ما ارتقت إليه مريم العذراء , ومُصدّق مريم في ذلك فهو مناصرٌ لمريم , بل مناصر لدين الله –عز وجل- القادر على كل شيء , والبشارة من الله تعالى هنا بأمرٍ مفرحٍ لمريم , وقد فعل الله تعالى ما يُسمّى بالمعجزة لزكريا عندما رُزِق بيحيى بعدما انتفت عنه وعن زوجه أسباب الولادة , كلّ ذلك كان مقدمةً وتوطئةً لمعجزة الله تعالى التي ستحدث لمريم العذراء , ولاشكّ أن ميلاد عيسى المسيح المُعجِز كما هو إعجازٌ لمريم وعيسى في آنٍ واحد , هو أيضاً بُشرى لجميع المؤمنين بعظمة الله تعالى وبقدرته –سبحانه وتعالى-
أرسل الله –جل وعلا- مجموعةً من الملائكة , أرسلهم إلى مريم –عليها السلام- لتبشيرها بالبشرى قبل أن يأتيَها روح القدُس جبريل لينفخ فيها كما ذكرت آيات سورة مريم , وقال آخرون : الذي جاء لمريم بالبشرى هو جبريل فقط أرسله الله –جل وعلا- إلى مريم ليبشّرها بالبشرى , فالمراد بالملائكة هنا جبريل وحده –عليه السلام- أخبرها جبريل أن الله تعالى سيهبُها ولداً من غير زوج , استغربَت , فوجِئَت , قالت : ] قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ[ فأجابها بأن هذا من أمر الله –جل وعلا- : ]قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء[, وبناءً على هذا القول فهذا معناهُ أن الله تعالى أرسل جبريل إلى مريم مرّتين : في المرة الأولى عندما بشّرها أن الله سيَهبُها ولداً من غير بعل (من غير زوج) , وفي المرة الثانية جاءها جبريل بعد ذلك بفترةٍ الله أعلم بمدتها , بعدما ابتعدت عن أهلها , وتمثّل لها بشراً سوياً , جاءها ليُمثِّل البشارة السابقة بأمر الله , حيثُ نفخ فيها , وحملت بعيسى .
ولكن .. من هو جبريل –عليه السلام- ؟
إن الملائكة خلقٌ من خلقِ الله خلقهم من نور , وجبريل ملكٌ من الملائكة , ومن حيث الدرجة يكون جبريل في مقدمتهم , وهو السفير بين الله –عز وجل- وبين الأنبياء من البشر .
لقد وصف الله –تبارك وتعالى- رئيس الملائكة جبريل –عليه السلام- في سورة النّجم , بأنّه :]ذُو مِرَّة[ أي : ذو قوةٍ جسميةٍ عظيمة , وجبريل –عليه السلام- رئيس الملائكة , له ستمائة جناح يتساقط منها تهاويل الدرّ والياقوت , كلّ جناح يسدّ مابين المشرق والمغرب , لا تسعه هذه الأرض , وهذا يدل على عظمة جبريل وأنه كبير جداً فوق ما نتصور , ومع ذلك يأتي جبريل أحياناً بصورة بشر كما تشكّل لمريم –عليها السلام- وكما أتى لرسولنا r مرةً بصورة دحية الكلبي , وأتى مرةً بصورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر , وقد سماه الله تعالى روحاً فقال : ] نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ[ ؛ لأنه ينزل بالروح : أي القرآن , فهو ينزل بالوحي الذي فيه حياة القلوب و روح القلوب .
نعم .. جاءت البِشارةُ من روح القدُس (جبريل –عليه السلام-) لِمريم العذراء ]إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ[ الكلمة هنا : هو عيسى –عليه السلام- ومصدرها منه : مصدرها من ربّنا –جل وعلا- فكان المولود المعجزُ هو كلمة الله ؛ لأن عيسى –عليه السلام خُلِق وَ وُجِد بكلمة وهي كلمة (كُن) , فأُطلِق عليه : كلمة الله حيث أراد الله –تبارك وتعالى- أن يخلقه خلقاً مباشراً خاصاً , فقال له كن فوُجِد كما أمر الله تعالى , ولهذا قال الله تعالى عن يحيى –عليه السلام- : ]مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ[ أي : مصدّقاً بعيسى الذي خُلِق بكلمةٍ من الله , فليس عيسى هو نفسُ الكلمة , إنما خُلِق وصار بالكلمة , وقد أحالَ القرآن الكريم المستغربين من خَلْقِ عيسى على خَلْقِ آدم الذي خلقه الله أيضاً بكلمة (كُن) فكان بدون أبٍ أو أم ]إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ[ .
]يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ[ إنها بشارةٌ كاملة , إفصاحٌ عن الأمر كله , بشارة ]بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ[
يولَد مولودٌ بلا أب , كيف ؟
لقد شاء الله –جل وعلا- أن يبدأ الحياة البشريّة كلها , بخَلقِ أبينا آدم من التراب , فكيف دبّت الحياة في هذا التراب ؟ كيف انتفضت الروح في هذا الكِيان ؟ ما طبيعةُ هذا السر ؟ ما سر الحياة التي لابست أول مخلوقٍ بشريٍّ من تراب , فقام حيّاً ؟ من أين جاءت هذه الحياة ؟ كيف جاءت ؟ ما هو سر هذه الحياة ؟ وما هو سرّ الروح في الإنسان ؟ من أين جاء هذا السر ؟ ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي[ أسئلة ٌلا نعرف جوابها , وكوننا نجهل كلّ هذا , هذا لا يعني أنه يحقّ لنا أن ننكر أو نهذر كما يفعلُ المادّيّون في لُجَاجةٍ صغيرةٍ لا يحترمها عاقل , فضلاً عن عالِم !
نحنُ لا نعلم إلا ما يُعلّمه الله تعالى لنا , وقد ذهَبت سُدى جميع المُحاولات التي بذلناها نحنُ البشر بوسائلٍ ماديّة لمعرفة مصدرها , أو لإنشائها بأيدينا من الموات.
نحن لا نعلم لكنّ الله –جل و علا- الذي خلق آدم من غير أمٍّ ولا أب , وخلق عيسى –عليه السلام- من أمٍّ بلا أب , هو سبحانه وتعالى يعلم كيف تُنفخ الروح , وكيف تدِبّ الحياة , هو الذي يخلق بكلمة (كُن) فيكون .
في سرّ ولادة المسيح شاء الله أن يُنشِئ حياةً على غير مثال , فأنشأها وفق إرادته الطليقة , التي تُنشِئ الحياة بنفخةٍ من روح الله , بكلمةِ (كُن)
نُدرك أثرَها , لكنّنا نجهل ماهيّتها
مع الشكر لفريق تفريغ منتدى العريفي : http://www.3refe.com/vb/showthread.php?t=254179