"فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ...." )37( آل عمران ، القبول هو الأخذ بالرضا وكان فيه زيادة على مجرد القبول فقد كان قبولا حسنا وفي هذا دليل على أن الناس ستلمح في تربية مريم شيئا فوق الرضا ، إنه ليس قبولا عاديا إنه قبول حسن.
قال كثير من المفسرين أنه لما انتهت فترة حضانة امرأة عمران لابنتها مريم عليها السلام حان الوقت لأن تفي امرأة عمران بالنذر ولتقدمها إلى دار العبادة خادمة لها حيث يقيم الصالحون في ذلك الزمان ، قامت أم مريم فلفت ابنتها في خرقتها ثم خرجت بها إلى المعبد .. سلمتها إلى عُبًاد بني إسرائيل الذين كانوا يقيمون في المعبد صلاةً وعبادة. كانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فلما شاهد العابدون الطفلة تنازعوها واختلفوا فيها كل واحد يريد أن ينال شرف كفالتها والإشراف عليها وفي هذا يكون التنافس والتسابق على العمل الصالح والسعي لمرضاة الله جل وعلا ولا يحق التخاصم أو التنازع في شئون الدنيا الفانية.
كان زكريا عليه السلام هو نبي ذلك الزمان أراد أن يفوز بكفالتها دونهم لأن زوجة زكريا هي أخت مريم أو خالتها على قولهم ، شاحه عُبًاد بني إسرائيل في ذلك كل يريد أن ينال هذا الشرف وقد أخبر الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بقصة مريم في ولادتها في القرآن وقص الله تعالى خبر الخصومة بين عُبًاد بني إسرائيل في كفالة السيدة مريم العذراء عليها السلام واعتُبر ذلك دليلا على النبوة والوحي وإثبات أن القرآن كلام الله جل وعلا.
” ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿44﴾" سورة آل عمران ،
" ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ " قوله تعالى "ذلك" إشارة إلى مجموع الأخبار الواردة في الآيات السابقة من نذر امرأة عمران لما في بطنها لله تعالى إلى كفالة زكريا لمريم إلى بشارته بيحيى عليه السلام إلى كلام الملائكة لمريم العذراء البتول واعتبرتها الآيات غيبا لأنها وقعت قبل قرون من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهي غيبٌ بالنسبة له عليه الصلاة والسلام ووجه دلالتها على النبوة والوحي أن أهل الكتاب يعلمون أن نبينا محمدا عليه الصلاة والسلام أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يصاحب رهبان وأحبار أهل الكتاب فكيف علم بهذه الأخبار لا نجد جوابا غير أن الله تعالى هو الذي أوحى إليه بذلك .
” ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿44﴾" سورة آل عمران ، هكذا أخبرنا ربنا جل في علاه .. سبحانك ربي ما أعظمك .. سبحانك أنت الذي لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عن علمه شيء سبحانك أنت الإله العظيم الذي ترى أفعالهم وتسمع أٌقوالهم سبحانك لا يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السماء .. هذه أنباء غيب تنبئ بها من تشاء وتصرفها عمن تشاء سبحانك عز جاهك وجل ثناؤك وتقدست أسماءك ولا إله غيرك. الآية تشير إلى اختصام وتنازع بين العابدين في المعبد في كفالة الطفلة مريم فلم يتفقوا على واحد منهم لذلك كان لا بد من القرعة ، فكيف كانت القرعة ؟ حملوا أقلامهم ووضعوها في موضع وأمروا غلاما لم يبلغ الحلم فأخرج واحدا منها فظهر قلم زكريا عليه السلام فيكون هو الذي يكفل مريم فأبى العُبًاد وطلبوا أن يقترعوا مرة أخرى على أن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر فأيهم جرى قلمه على خلاف جريان الماء فهو الغالب ففعلوا فكان قلم زكريا هو الذي جرى خلاف جريان الماء ولا زالوا يجرون القرعة تلو القرعة والذي يفوز فيها زكريا عليه السلام فكان زكريا هو الذي يكفل مريم إذ كان أحق بها شرعا وقدرا والقرآن الكريم لم يفصل الطرق التي حصل بها زكريا على كفالة مريم لكننا نعلم أنه أحق الناس بها واستفادت مريم في صغرها من عبادة زكريا ونُسكه.
"فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ ۖإِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿37﴾" سورة آل عمران
قال الله تعالى " فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ" القبول هو الأخذ بالرضا وكان فيه زيادة على مجرد القبول فقد كان قبولا حسنا وفي هذا دليل على أن الناس ستلمح في تربية مريم شيئا فوق الرضا ، إنه ليس قبولا عاديا إنه قبول حسن.
" وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا" وهكذا أنبتها الله منذ صغرها بعنايته الخاصة فنشأت مريم عليها السلام محروسة من الشيطان قريبة من الرحمن وتفننت في أنواع العبادة ابتداء من السابعة من عمرها حتى قيل عنها وإن لم تكن نبية معصومة أنها لم تعمل خطيئة قط ، " وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا " وهذا يعني أن المسألة جاءت من الأعلى إنه الرب سبحانه وتعالى الذي تقبلها بقبول حسن وهو الذي أنبتها نباتا حسنا وهذا من عظيم عناية الله تعالى بالسيدة العذراء مريم أن نشأت على تربية نبي ذلك الزمان زكريا عليه السلام فاكتسبت مريم العذراء أخلاق الأنبياء وصلاحهم فقدر الله تعالى أن يتكفل زكريا مريم فخرج سهمه في القرعة ورضي العابدون الآخرون بهذا لأنهم مؤمنون صالحون عابدون يعلمون أن هذا قدر الله تعالى وإرادته.
ومن حكمة الله تعالى أن جعل كفالة السيدة مريم عند سيدنا زكريا عليه السلام فهو الأحق بها والأولى لأنه أقرب الناس إليها فهو زوج أختها الكبرى وأختها حريصة عليها فكأنها أمها وجعل الله تعالى زكريا عليه السلام كافل مريم وهو النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لأن الله جل وعلا يعد مريم لأمر عظيم ولهذا عاشت مريم طفولتها وشبابها في كنف زكريا عليه السلام اقتبست منه العلم والمعرفة واقتدت به في العبادة والذكر والصلاح واستفادت منه الخلق والسلوك نشأت مريم نشأة إيمانية صالحة كانت عابدة زاهدة قانتة ذاكرة ونتوقف هنا لنتساءل كم منا يرى في وفاة أب غال أو أم حنون أو قريب حبيب يرى بعضنا فيها نهاية الحياة ولكن الله جل في علاه يجبر المصيبة ويخفف اللوعة ويخلف خير منها ويهيئ الخير دائما إنه الله جل وعلا تكفل بمريم إذ كفلها زكريا عليه السلام النبي العابد ويأتي السؤال هنا : ترى من هو زكريا؟
زكريا من آخر أنبياء بني إسرائيل وكان مقيما في بيت المقدس وما حولها بدليل حديث القرآن عن ولادة مريم وكفالة زكريا لها وابنه يحيى نبي أيضا وكان حوله مجموعة من صالحي بني إسرائيل وكان مكرما عندهم أما نسب زكريا ودعوته لبني إسرائيل وتفصيل ما جرى بينه وبينهم من مبهات القرآن التي لا نخوض فيها .
نستطيع أن نصف زكريا عليه السلام بأنه الممتلئ علما مما علمه الله سبحانه وتعالى ودينا وتقوى وهذه الصفات من صفات الأنبياء عامة وزكريا خاصة مما تتناسب مع مهمة تكفل مريم بالرعاية تلك الرعاية التي تؤهلها لقبول الأمر العظيم وولادة طفل بلا أب وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مهنة زكريا لأن كل نبي كان له يأكل من عمل يده فقد روى مسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام قال :" كان زكريا نجارا" وهذا من فضائله عليه السلام فلم يقبل أن يكون عالة على قومه المؤمنين وإنما اتخذ النجارة مهنة له ليأكل من عمل يده وكسب الحلال بعمل اليد هو خير المكاسب كما نص عليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال :" ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قطُّ ، خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِه ، وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ عليهِ السلامُ كان يأكلُ من عملِ يدِه
الراوي: المقدام بن معد يكرب الكندي المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 2072
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
فإن الأنبياء لما بُعثوا داعين الخلق إلى الحق عز وجل لم يطلبوا من الخلق أجرا ولا جزاء وكان لا بد من الجريان مع الأسباب فاشتغل كل منهم بسبب فكان آدم حراثا ونوح نجارا وإدريس خياطا وإبراهيم زراعا وصالح تاجرا وداوود حدادا وزكريا نجارا وموسى كاتبا وكلهم قد رعى الغنم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام .
لقد اتخذ زكريا عليه السلام لمريم مكانا شريفا في المسجد لا يدخله سواها فكانت مريم تعبد الله تعالى فيه وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت إذا جاءت نوبتها وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة والصفات الشريفة حتى أن نبي الله زكريا كلما دخل عليها في موضع عبادتها يجد عندها رزقا غريبا رزقا خاصا في غير أوانه وهي عابدة معتكفة في المحراب فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف وكلمة (كلما) تدل على التكرار أي أن الرزق كان يأتي مريم وهي في المحراب باستمرار دون كد ولا سعي ولا كسب منها فهي في المحراب متفرغة فيه للعبادة والذكر والصلاة والمناجاة والله تعالى يكرمها بتقديم الرزق لها بخارقة ليست مألوفة ولا معروفة .
كلما دخل زكريا المحراب على مريم متفقدا لها وساعيا في حاجاتها يجد عندها ذلك الرزق وهو يعلم أنه لم يقدم هذا الطعام لها وهو متكفل بتقديمه لها فيتعجب من ذلك ولذلك كان لا بد أن يتساءل عن مصدر هذا الرزق ولا بد أن يكون تساؤله معبرا عن دهشة فيسألها " أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا "؟ أي من أي مصدر جاءك هذا الرزق وهو كافلها ومتولي أمرها فتعجب زكريا أن يرى عندها رزقا لم يحمله إليها وهي مقيمة على عبادتها في محرابها فقال لها " يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ؟" وكما يقولون فإن زكريا عليه السلام كان يقفل على مريم الأبواب وإلا لو كانت الأبواب مفتوحة لظن أن هناك من دخل عليها وأحضر لها تلك الألوان المتعددة من الرزق فتجيبه مريم بصراحة قائلة :" هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ " " هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ " أي أن الله تعالى هو الذي ساق لي هذا الرزق وأوصله إلي وأنا في المحراب بدون سعي ولا تحصيل مني ، شاء الله تعالى أن تجيب مريم بهذا الجواب لأنها ستنبه زكريا إلى شيء وستحتاجها مريم أيضا فيما بعد وذلك حينما تحمل مريم من غير زوج فلن تعترض على هذا الوضع وستعلم أنه عطاء من الله تعالى.
وعقب القرآن على جواب مريم بالتذكير بحقيقة " إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ " فهذه الجملة ليست من تمام جواب مريم بل هي خبر من الله يخبرنا فيه أنه يسوق الرزق إلى من يشاء من خلقه بغير حساب ولا إحصاء وأثارت هذه المسألة في نفس زكريا نوازع شتى ، إنها مسألة غير عادية لقد أخبرته مريم أن الرزق الذي عندها هو من عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب إنه الإله القادر على أن يقول كن فيكون إنها قدرة مطلقة تفعل بلا أسباب وتُعطى من غير حساب وهنا ذكر زكريا نفس فبماذا دعا زكريا ربه؟
مع الشكر لفريق تفريغ منتدى العريفي : http://www.3refe.com/vb/showthread.php?t=254179