الحقوق محفوظة لأصحابها

بثينة الإبراهيم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله في وقفة جديدة مع برنامج يارب..

نقف مع خلق جديد: المداراة، يقول الله عز وجل في القرآن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} يا رب اكتبنا من عبادك وارزقنا القلوب الهينة اللينة التي تعرف المداراة، المداراة تعفي من الخلاف.. من الفرقة، المداراة هي خلق وموقف دقيق جدا، وبين هذا الخلق- المداراة- وبين المداهنة خيط رفيع قد لا ينتبه إليه الكثير، وقبل خطأ تنقلب هذه المداراة إلى المداهنة وحتى نعرف هذا الفرق نريد أن نتعرف ماذا نقصد بالمداراة، المداراة هي بذل الدنيا من أجل الدين، بينما المداهنة هي بذل الدين من أجل الدنيا، وفرق كبير بين الاثنين، المداراة قيل عنها إنها دليل كمال العقل وحسن الخلق ومتانة الفهم، نحتاجها مع الصديق ومع العدو، وعرفت المداراة على أنها الملاينة والملاطفة وخفض الجناح للناس.. لين الكلام للناس.. ترك معاملتهم بالغلظة من القول، المداراة يحتاجها المؤمن وهو يتعامل مع الناس، وقد تكون الحاجة للمداراة تختلف من فترة إلى أخرى، قد تختلف من شخص إلى آخر وأحيانا قد تشتد الحاجة لمداراة ولكن تقل في أوقات أخرى ولكن نحن اليوم وفي هذا العصر تشتد الحاجة إلى المداراة وذلك بسبب انتشار الفساد.. غربة الدين عند الناس.. الناس بحاجة إلى الترغيب.. بحاجة أن نحبب الدين لهم وخاصة مع كثرة المتشددين فترة المنفرين للدين، وقفت عند قول الشاعر.. يقول:

"وأن نحوا مالي وودي ونصرتي

وإن كنتم نحمي الضلوع على بغضي

قد لا أكن لهذا الإنسان الحب

ولكن ما الذي يراه مني يرى العون"

النصرة والتأييد، الأرواح جنود مجندة، أحيانا ناس لا تألف ناس ولكن يبقى هناك حب في التعامل وهي المداراة، قيل أن المداراة وفق العقل بل والمداراة من صفات الأذكياء، من صفات المؤمنين والموفقين، ولكن إذا بدأنا في مجاملة إنسان شرير مخيف في أفكاره وأقررناه على آرائه ومواقفه الخاطئة- بتقدير الشخص طبعا وليس بتقديرنا نحن الشخصي- إذا أقررناه على هذا الفسق وهذا الفجور فهذه المداهنة أما إذا قدمنا له معروفا لكي نتقي به شره فهذه مداراة، يقول الحسن: حسن السؤال نصف العلم، مداراة الناس نصف العقل، نصف العقل أن يتبع الإنسان خلق المداراة، وصورة أخرى بين المداراة والمداهنة أننا أحيانا إن سمعنا من أحد أمر يخالف العقيدة وابتسمنا له وأيدناه أو سكتنا فهذه مداهنة لأننا تنازلنا عن أمر في الدين أما إن كنا في موقف فيه محاصرة مالية.. قضية بيني وبين شخص آخر وفي الأمر حساب مالي وفي أثناء الحساب بيننا وبين هذا الإنسان المعاند المكابر أصر على موقفه فإن سامحنا لبعض هذا الحق المادي فهذه مداراة لأنها لا علاقة لها بالدين ولا بالعقيدة بل هي متعلقة بأمر الدنيا فكانت هذه المداراة وهذا التنازل إنما حتى يحببه فينا وحتى نكسب قلبه وحتى يستمع منا النصح إن نصحناه على هذا الموقف وعلى هذه الأخلاق، ولهذا فلهذه المداراة تعتبر مداراة.. لماذا؟ لأننا ضحينا بالدنيا لأجل الدين، صورة أخرى للفرق بين المداراة وبين المداهنة: إن حدث بيننا وبين آخر خلاف في أمر ما واشتد هذا الخلاف فإن كان الخلاف في أمر الدنيا فالمداراة أولى.. أولى من أن أتشبث برأيي، أما إن نطق هذا الشخص أثناء الخلاف بالكفر أو بالباطل أو بشيء يرفضه القرآن وترفضه السنة ينبغي أن لا نسكت ويجب أن نكون مدافعين عن هذا الدين ولكن بالرفق وباللين.

صورة ثالثة كذلك: إن دارينا إنسانا شريرا وباطش والذي لا يرحم وتلاطفنا معه وبششنا في وجهه من أجل أن ندفع شره فهذا من المداراة بشرط ألا نتنازل عن شيء من المبادئ ومن القيم، والصورة الأخرى تتعلق بأمر هام جدا وهو يجب أن نحذر الإنسان السفيه صاحب الكلام القاسي الذي نعرف أن كلامه ينتشر بسرعة بين الناس، هذا الشخص عندما داريناه بهدية ملكناه فصار معنا وهذا أفضل، على الأقل يسكت يعني، وهذا أفضل ألف مرة من أن نسيره وأن نجادله وثم بعد ذلك يبدأ يشيع عنا بين الناس ما لا ينبغي من الكلام، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة.. أسوة في المداراة، عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أخبرته قالت: استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الرسول صلى الله عليه وسلم الكلام فلما خرج فقامت عائشة فقالت: يا رسول الله.. قلت له ما قلت ثم لينت له الكلام! قال: أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه، نعم هناك صوت من الناس يتجنبه الناس اتقاء سوء خلقه وسلاطة لسانه، اللهم لا تجعلنا منهم، يقول الحسن البصري: كل الناس يقولون: المداراة نصف العقل وأنا أقول: المداراة هي العقل كله، يمكن أن نتلافى بالمداراة شرا كبيرا بكلمة بسيطة، وهذه الكلمة ليس بالضرورة أن يكون فيها تنازل ولكن قد يقدم للإنسان الآخر شيئا من الدنيا فنكون قد امتلكنا قلبه وأصبح معنا حتى وإن كان الموقف هو مخجل لنا، وقال البعض: إن المداراة من أخلاق المؤمنين بل وهي من أقوى أسباب الألفة بينهم فنحن نقابل في الحياة أناس بطباع مختلفة فإن كنا في الدين مكلفين أن نداري سفقه والكفار كما قال الله تعالى لموسى وهارون في دعوتهما لفرعون {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} فمن باب أولى أن نداري إخوة الدين، ويزداد أمر المداراة ضرورة إن كانوا من الرحم: أب أو أم أو أقارب أو إخوة، ويجب أن نتذكر دائما ونحن نتعامل مع الناس أن منهم بهذه الطباع.. هناك الشخص المنفتح والشخص الاجتماعي وهناك انعزالي وهناك الحساس وهناك صاحب الطباع الصعبة، ولا شك أننا لنا أيضا طباعا وقد تكون عند الناس صعبة فحين نعاشر الناس يجب أن نحسن التعامل مع تلك الطباع وقد لا نحتمل بعضها فمن هنا كانت المداراة سلامة وضمان لبقاء هذه العلاقات، وللمداراة فوائد كثيرة منها شعور الراحة في الدنيا والأجر والثواب في الآخرة، وفي المداراة أيضا اتقاء لشر الأشرار ودوام صحبة الأخيار، ففي القصة: جاءت إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه رسالة من عبد الله بن الزبير وكان معاديا لبني أمية وكان معاوية هو خليفة المسلمين.. فيقول عبد الله في الرسالة: أما بعد، فيا معاوية.. هكذا دون أي لقب.. لا أمير مؤمنين ولا حفظك الله.. يا معاوية إن رجالك دخلوا أرضي فانههم عن ذلك وإلا كان لي ولك شأن والسلام، وانتهت الرسالة، من كان عند معاوية؟ كان عنده ابنه يزيد

فقال: يا يزيد اقرأ.. وماذا ترى؟ فقال يزيد: أرى أن ترسل له جيشا أوله عندك عنده وآخره عندك يأتوك برأسه، فقال معاوية: لا يا بني.. خيرا من ذلك وأفضل.. ثم أمر معاوية الكاتب أن يكتب: أما بعد، فقد وقفت على كتاب ابن حواري رسول الله.. هو أعطاه اللقب، هو رفع مكانته.. ولقد ساءني ما أساءه والدنيا كلها هينة جنب رضاه، ولقد تنازلت له عن الأرض وما فيها، شوف خلق المداراة عند معاوية، فجاءه جواب من ابن الزبير: أما بعد، فيا أمير المؤمنين.. تغير الخطاب.. أطال الله بقائك ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل، فجاء معاوية بابنه يزيد فقال له: ماذا كنت تريد؟ قال يزيد: أن نرسل له جيشا أوله عنده وآخره عندك ليأتوك برأسه، قال معاوية: يا بني من عفى ساد ومن حلم عظم ومن تجاوز استمال إليه القلوب، إذن نقول إن المداراة أن لا نداري من الدين شيئا.. لا من العقيدة ولا من الفرائض ولا من الواجبات.. ولكن المداراة هي قمة الذكاء لأن فيها حسن التعامل في الموقف وفيها تحقيق المصلحة، وهكذا لو نظرنا إلى موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الرجل وإلى موقف معاوية.. المداراة فيها قمة توفير الوقت والجهد.. الجهد في الخلاف وفي النقاش فجاءت المداراة لتختصر هذا كله وتختصر الطاقة فلا يضيع الوقت ولا الجهد في الجدل ولا الخلاف ولا تصيد المواقف، وقيل: ثلاثة من أهل الجنة.. من أخلاق أهل الجنة ولا توجد إلا في كريم.. منها: الإحسان لمن أساء إليك، قال تعالى: {خذ العفو واأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وقال عمر بن الخطاب: خالطوا الناس بالأخلاق وزايدوهم- أي فارقوهم- بالأفعال والأعمال، كلمة أخيرة أريد أن أقولها: إن كانت المداراة من الحكمة ومن حسن معاشرة الناس والرفق بهم فيا رب اجعلها من أخلاقنا ونحن نتعامل مع الناس ومن هم أحق الناس بها ألا وهما والدينا، فالله الله بهما وبحسن مداراتهما، يا رب ارزقنا حسن الخلق مع الوالدين وخفض الجناح ولين الجانب لهما والصبر على برهما، استودعكم الله ومع لقاء آخر مع نداء: يا رب.

المصدر: http://www.alresalah.net/morenews.htm?id=1034_0_2_0