التفسير المطول - سورة التوبة 009 - الدرس ( 49-70 ) : تفسير الآيات 69 - 70، الفرق بين اللذة والسعادة، الخسارة الكبيرة عند إحباط العمل.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2011-04-22
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الواعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الإنسان كائن متحرك :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس التاسع والأربعين من دروس سورة التوبة، ومع قوله تعالى:
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام، الإنسان كائن متحرك، ما الذي يحركه؟ حاجته إلى الطعام والشراب، حفاظاً على وجوده كفرد، وما الذي يحركه؟ حفاظه على بقاء النوع عن طريق الزواج، وما الذي يحركه؟ حفاظه على بقاء الذكر عن طريق التفوق، فحاجته إلى الطعام والشراب حفاظاً على وجوده كفرد، وحاجته إلى طرف آخر - إلى الزواج- حفاظاً على بقاء النوع، وحاجته إلى بقاء ذكره حفاظاً على مكانته، هذه الدوافع الثلاث تحركه فهو كائن متحرك.
الناس رجلان لا ثالث لهما :
أما هذه الحركة فإن كانت وفق منهج الله سلم وسعد في الدنيا والآخرة، وإن كانت هذه الحركة بخلاف منهج الله شقي وهلك في الدنيا والآخرة، هذه حقيقة دقيقة جداً، تؤكدها آيات كثيرة في قوله تعالى:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
[سورة الليل]
صدق أنه مخلوق للجنة، فاتقى أن يعصي الله، وبنى حياته على العطاء كثمن للجنة:
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾
[سورة الليل]
صدق بالدنيا وكفر بالآخرة فاستغنى عن طاعة الله، وبنى حياته على الأخذ، لن تجد نموذجاً ثالثاً، هذا التقسيم القرآني لبني البشر على اختلاف مللهم، ونحلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وطوائفهم.
الله عز وجل منح البشر حظوظاً متباينة وزعها توزيع ابتلاء :
قال تعالى:
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ﴾
أي الله عز وجل حينما منح الحظوظ للبشر، هذه الحظوظ أي نصيبه من الوسامة، نصيبه من الجمال، نصيبه من الغنى، نصيبه من القوة، نصيبه من التفوق العقلي، هذه الحظوظ الذي يمنحها الله لبني البشر النقطة الدقيقة فيها أنها تمنح في الحياة الدنيا ابتلاءً، توزع الحظوظ على البشر ابتلاءً، أي أنت ممتحن فيما أعطاك الله، أعطاك مالاً أنت ممتحن في هذا المال، أعطاك قوة أنت ممتحن بهذه القوة، أعطاك جاهاً أنت ممتحن بهذا الجاه، فكل شيء أعطاك الله إياه من دون استثناء مادة امتحانك مع الله.
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
[ سورة المؤمنون]
علة وجودك في الدنيا الابتلاء لأن الإنسان حينما:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
[سورة الأحزاب الآية:72]
لما قبل حمل الأمانة:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾
[سورة الجاثية الآية:13]
جاء به إلى الدنيا كي يتعرف إلى الله، وكي يتقرب إليه، ليكون هذا التعرف والتقرب ثمناً لجنة ربه، هذه الحكمة التي أرادها الله من مجيئنا إلى الدنيا.
الامتحان علة وجود الإنسان في الحياة الدنيا :
الإنسان في الدنيا حينما يغادرها يندم على شيء واحد هو العمل الصالح، يؤكد هذا قوله تعالى:
﴿ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
[سورة المؤمنون]
إذاً الله عز وجل منح البشر حظوظاً متباينة، هذه الحظوظ المتباينة التي وزعها الله على بني البشر وزعها توزيع ابتلاء، أي امتحان.
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾
[سورة الملك الآية:2]
أنت ممتحن بمالك، ممتحن بصحتك، ممتحن بزوجتك، ممتحن بأولادك، ممتحن بقوتك، ممتحن بضعفك، ممتحن بغناك، ممتحن بفقرك، علة وجودك في الدنيا الابتلاء، أي الامتحان.
الموت ينهي كل شيء :
الله عز وجل في الآية التاسعة والستين من سورة التوبة يقول:
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ﴾
لذلك الموت ينهي قوة القوي، ينهي ضعف الضعيف، ينهي غنى الغني، ينهي فقر الفقير، ينهي وسامة الوسيم، ينهي دمامة الدميم، كل هذه الحظوظ في الدنيا سوف تنتهي، لكن الله سبحانه وتعالى امتحنك بها، فماذا تفعل؟ الآية الكريمة:
﴿ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾
[ سورة الأعراف]
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ ﴾
ومع ذلك أهلكهم الله، لأن:
كل مخــلوق يـمـوت ولا يبقــى إلا ذو الــعزة والـــجبـروت
***
والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر
***
كل ابن أنثى و إن طــــالت سلامته يوماً علـى آلــة حدبـاء مـحمـولُ
فإذا حملــت إلــى القبـور جنـازة فاعلـم بأنــك بعـــدها مـحمـولُ
***
إذاً من أدق أدق تعريفات الإنسان التي ذكرها الإمام الحسن البصري أن الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، فأنت بضعة أيام إما أن تكون في طاعة أو في معصية، إما أن تكون في قرب من الله أو في بعد عنه، أما أن تكون مع الخيرين، أو مع الشريرين، الدنيا ساعة اجعلها طاعة، والنفس طماعة عودها القناعة، هؤلاء الأقوياء جاء الموت فأخرجهم من الدنيا، هؤلاء الأغنياء جاء الموت فأخرجهم من الدنيا، إذاً:
كل مخـــلوق يـمـوت ولا يبقـى إلا ذو الــعزة والـــجبـروت
***
والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر
***
بطولة المؤمن أن يعيش المستقبل :
أيها الأخوة الكرام،
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ ﴾
سيدنا عمر بن عبد العزيز فيما يروى عنه أنه كان إذا دخل مقر عمله كل يوم يتلو هذه الآية:
﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾
[سورة الشعراء]
والآية بليغة جداً:
﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ﴾
وجاء الموت أنهى قوتهم، كانوا أغنياء جاء الموت ألغى غناهم، كانوا متماسكين جاء الموت فرق هذا التماسك.
إذاً البطولة الآن لا أن تعيش حاضرك، ولا أن تعيش ماضيك، لكن البطولة أن تعيش مستقبلك، ومعظم الناس يعيشون ماضيهم أو يعيشون حاضرهم، أما المستقبل فلا يفكرون فيه، مع أن أخطر زمن بالنسبة للإنسان هو المستقبل، لماذا؟ لأن في المستقبل مغادرة الدنيا، المغادرة تعني من قصر إلى قبر، من غنى إلى قبر، من مكانة اجتماعية إلى قبر، هذا النقلة المخيفة من دنيا عريضة إلى قبر لا يزيد عن أمتار، فلذلك البطولة في المؤمن أنه يعيش المستقبل ويعيش هذه اللحظة.
مرة طالب حقق الدرجة الأولى على بلد بأكمله، فأجروا معه لقاء صحفياً فسأله: ما سرّ هذا التفوق؟ قال: لحظة الامتحان لم تغادر ذهني ولا ثانية، وأنا أقول: والمؤمن الموفق لحظة مغادرة الدنيا لا تفارق ذهنه إطلاقاً.
الموت ينهي كل شيء ويبقى العمل الذي يحاسب الإنسان عليه :
ماذا أقول لله إذا سألني عن هذا السؤال؟
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
[سورة الحجر]
هذا المال ممَ اكتسبته؟ فيمَ أنفقته؟ هذا العلم ماذا عملت به؟ هذا الزوجة لِمَ طلقتها؟ هذه الشراكة لِمَ عقدتها؟ هذه الرحلة لِمَ قمت بها؟ هناك سؤال دقيق جداً، فلذلك الله عز وجل يبين لنا ولو كنت قوياً،
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ﴾
ولو كنت غنياً، ولو كنت عظيماً، ولو كنت ذا شأن، الموت ينهي كل شيء، الموت ينهي قوة القوي، وغنى الغني، وحكمة الحكيم، ينهي كل شيء ويبقى العمل الذي تحاسب عليه.
قال:
﴿ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً ﴾
كما قال الله عز وجل:
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[سورة الكهف الآية:46]
زينة، لكن الآية الدقيقة جداً:
﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾
[سورة الكهف الآية:46]
في قوله تعالى:
﴿ وَالْبَاقِيَاتُ ﴾
عرف المال والبنون، كيف عرف المال والبنون؟ بأنهما زائلان، فلذلك الإنسان مهما علا شأنه، مهما تمتنت علاقته بما حوله، هذه العلاقة سوف تنتهي عند الموت، فالذي تحبه إما أن تفارقه أو أن يفارقك، الذي تحرص عليه إما أن تفارقه أو يفارقك.
الحياة الدنيا محدودة تنتهي بالموت بينما الحياة الأبدية لا نهاية لها :
﴿ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ ﴾
الخلاق هنا حظوظ من الدنيا، إنسان وسيم، إنسان قوي، إنسان غني، إنسان بمنصب رفيع، هذا الخلاق يعني الحظوظ من الدنيا،
﴿ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ ﴾
لكن الفرق كبير كبير بين حياة محدودة وبين حياة متصلة، الحياة الدنيا محدودة تنتهي بالموت، بينما الحياة الأبدية لا نهاية لها، ولا بد من تعريف قريب لهذا الأبد الذي جاء ذكره في القرآن الكريم كثيراً، الأبد لو تصورنا رقم واحد في الأرض وأصفاراً، إلى أين؟ إلى مسافة معروفة، إلى الشمس، كل ميلي صفر، أول ثلاثة أصفار ألف، ثاني ثلاثة أصفار مليون، ثالث ثلاثة أصفار ألف مليون، رابع ثلاثة أصفار مليون مليون، لو تابعنا الأصفار إلى الشمس ما هذا الرقم؟ أكبر رقم تتصوره، وليكن واحد في الأرض وأصفار إلى الشمس، وبين الأرض والشمس مئة و ستة و خمسون مليون كيلو متر، وكل ميلي صفر، هذا الرقم إذا نسب إلى اللانهاية فهو صفر، فالدنيا بكل ما فيها من أموال، من متع، ومن مباهج الدنيا إذا نسبت إلى الآخرة فهي صفر، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث قال:
((ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما أخذ المخيط غرس في البحر من مائه))
[ الطبراني عن المستورد بن شداد]
اركب البحر أمسك إبرة، مخيط، اغمسه في ماء البحر وانظر بمَ يرجع؟ المحيط الهادي في بعض الأماكن العمق فيه يقدر باثني عشر ألف متر- هذا خليج مريانا- فهذه البحار الخمس، المحيطات، الهادي، والأطلسي، والمتوسط، والشمالي، والجنوبي، وبحر العرب لو غمست في أحد البحار إبرة ونزعتها بمَ ترجع من ماء البحر؟ هذا الذي أخذته من مياه البحر هو نسبة الدنيا إلى الآخرة، فلذلك الله عز وجل يذكر هؤلاء:
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً ﴾
فالبطولة ليس وضعك في الدنيا، البطولة ما تنتهي إليه حياتك في الدنيا، إما إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفد عذابها.
حينما رأى النبي جنازة قال:
(( مستريح، أو مُسْتَراح منه، فقالوا: يا رسول الله ما المستريحُ وما المستَراح منه؟ فقال: العبد المؤمنُ يستريح من نَصَب الدنيا، والعبد الفاجرُ يستريح منه العبادُ والبلادُ والشجر والدواب ))
[أخرجه البخاري ومسلم والنسائي ومالك عن أبي قتادة]
فبين أن تكون مستريحاً من الموت وبين أن يكون الإنسان مستراحاً منه عند الموت؟ فهذا الذي شرد عن الله كان قوياً، أو كان غنياً، أو كان ذا شأنٍ في المجتمع فلما جاء الموت أنهى كل هذه الخصائص.
اللذة و السعادة :
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً فَاسْتَمْتَعُوا ﴾
فرق كبير بين اللذة والسعادة، فرق كبير جداً، قالوا: اللذة حسية، أن تأكل طعاماً طيباً، أن تسكن في بيت واسع، أن تطل من هذا البيت على مناظر خلابة، أو تكون لك زوجة جميلة، فاللذائذ حسية، معنى اللذائذ حسية أي تحتاج إلى أشياء ثلاث، تحتاج إلى وقت، وإلى مال، وإلى شباب- قوة-، ولحكمة أرادها الله عز وجل دائماً هذه الأشياء الثلاث تفتقد واحداً منها، ففي بداية الحياة الصحة جيدة، والوقت موجود لكن لا يوجد مال، إذاً لم تتحقق شروط اللذائذ أو مباهج الدنيا، في منتصف الحياة الصحة موجودة، واللذائذ موجودة لكن لا يوجد وقت، مشغول بأعماله، في خريف العمر هناك وقت، ومال لكن لا يوجد صحة، لحكمة بالغة بالغةٍ الإنسان إذا شرد عن الله أسباب اللذائذ يفتقد واحداً منها دائماً، أما إذا عرف الله فهو يعيش لا باللذائذ ولكن في سعادة، السعادة تنبع من الداخل، أما اللذائذ فتأتي من الخارج، السعادة تحتاج إلى اتصال بالله، أما اللذائذ فتحتاج إلى أموال، السعادة تحتاج إلى اتصال بالله بأي عمر كنت، أما اللذائذ فتحتاج إلى مال بعمر معين، لذلك الفرق كبير جداً بين اللذائذ وبين السعادة، السعادة تنبع من الداخل، ولا حدود لمستوياتها، فالله عز وجل حينما:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
[ سورة الأحزاب الآية: 72]
هذا الإنسان مصمم إن صحّ التعبير تصميماً لا نهائياً، هو مصمم بمعرفة الله، والقرب منه، مصمم لجنة عرضها السموات والأرض، لذلك هذا الإنسان لا يملأ نفسه إلا معرفة الله عز وجل، أما إذا اختار هدفاً مادياً فهذا الهدف هو أكبر منه بكثير، إذا اختار هدفاً مادياً سرعان ما يمل منه ويتركه، هذه حقيقة ثابتة اسأل الأغنياء ملوا من المال، اسأل الأقوياء ملوا من مناصبهم، اسأل كل فئة في الأرض، طبيعة هذه الحياة الدنيا ما سمح الله لها أن تمد الإنسان بسعادة مستمرة، بل بسعادة متناقصة، وإذا كان هناك معصية مع السعادة المتناقصة فهناك كآبة، كآبة المعصية، ما سمح الله للدنيا أن تمدك بسعادة مستمرة، بل بسعادة متناقصة، الإنسان لو اشترى بيتاً واسعاً جداً أسبوع شهر يتمتع به تماماً لكن بعد حين أصبح شيئاً عادياً، لو اقتنى مركبة بعد حين أصبحت شيئاً عادياً، إذاً الآية الدقيقة:
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً ﴾
القوة قوة منصب أحياناً، والأموال، والأولاد زينة الحياة الدنيا.
من كان رأسماله كله في الدنيا فالموت ينهي له كل ما يملك :
﴿ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ ﴾
فاستمتع استمتاعاً كاملاً، يا ترى هذه المتعة إلى متى؟ إلى الموت؟ إلى مغادرة الدنيا؟ لكن المؤمن خطه البياني صاعد صعوداً منتظماً، ويبقى صاعداً حتى إذا مات، وما الموت إلا نقطة على هذا الخط الصاعد، بينما أهل الدنيا قد يكون خطه البياني صاعداً أيضاً صعوداً حاداً، لكن بعد هذا الصعود الحاد هناك هبوط مريع، هو الموت ، الموت ينهي كل شيء، فالإنسان إذا كان كل رأسماله في الدنيا فالموت ينهي كل ما يملك، إذا كانت كل مكتسباته وخصائصه ورأسماله في الدنيا الدنيا زائلة، أما المؤمن فسار في طريق الحق، فخطه البياني صاعد صعوداً مستمراً، لذلك:
﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾
خضتم في الدنيا، في أعمالها، في أموالها، في مباهجها، في لذائذها، في مسراتها،
﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾
إحباط العمل :
أيها الأخوة الكرام، الخطورة الكبيرة جداً أن يحبط العمل، ما معنى أن يحبط العمل؟ إحباط العمل أن ينحط العمل، بدل الزواج الزنا، بدل الكسب المشروع الكسب الغير مشروع، ما من شيء أودعه الله فيك، بل ما من شهوة أودعها الله فيك إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، بالإسلام لا يوجد حرمان، ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، فحينما يستمتع الإنسان بشيء محرم الموت ينهي هذه المتعة، ويبقى وزرها، وحينما يجهد الإنسان في طاعة الله، ويأتي الموت، الموت أنهى هذا الجهد الكبير، وبقيت السعادة التي وعده الله بها.
﴿ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾
المعنى الأول لإحباط العمل أنه أصبح عملاً منحطاً بخلاف منهج الله، أصبح عملاً عدوانياً، بنيت مجدك على أنقاض الآخرين، بنيت عزك على ذلهم، بنيت قوتك على ضعفهم، بنيت غناك على فقرهم، هذا نوع من أنواع إحباط العمل، والشيء الثاني حتى لو كان عملاً عظيماً بمقاييس الأرض لأن صاحبه أراد العز، والمال، والجاه ليس غير، هذا العمل محبط أيضاً، لأنه فقد قيمته الأخروية، فالعمل يحبط مرتين، مرة إذا أصبح عملاً سيئاً بمقاييس الشرع، ومرة إذا كان هذا العمل لغير الله.
العمل يقبل عند الله بشرطين؛ الإخلاص و الصواب :
لذلك حينما قال الله عز وجل:
﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾
[ سورة النحل الآية: 19]
متى يرضى الله عن العمل؟ قال بعض العلماء: إذا كان خالصاً وصواباً، صواباً ما وافق السنة، وخالصاً ما ابتغي به وجه الله، فالعمل يقبل عند الله بشرطين، إذا كان خالصاً وإذا كان صواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً إذا وافق السنة، فأي عمل يخالف منهج الله عز وجل لو ابتغيت به وجه الله لا يقبل، وأي عمل ولو كان عظيماً إن لم تبتغِ به وجه الله لا يقبل، فهذه قاعدة دقيقة جداً استنبطت من قوله تعالى:
﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾
والله يرضى عن العمل إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً إذا وافق السنة.
الخسارة الحقيقية خسارة الآخرة :
﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
ما الخسارة؟ إذا الإنسان فقد رأسماله فهو خاسر، والخسارة لا تعرف الألم الذي تورثه إلا من ذاقها، الخسارة مؤلمه جداً، قد يخسر الإنسان رأسماله، قد يخسر مكانته، قد يخسر منصبه، قد يخسر زوجته، قد يخسر أولاده، لكن الخسارة الحقيقية:
﴿ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
[ سورة الشورى الآية: 45]
حينما تشعر أن الله عز وجل خلقك لجنة عرضها السموات والأرض، وأنت جئت إلى الدنيا، ولهوت بالدنيا، ولم تعبأ لمنهج الله لك، ثم جاء ملك الموت، فإذا أنت بعيد عن منهج الله، وعن أسباب دخول الجنة، هذه الخسارة الحقيقية، لذلك ورد في بعض الآثار النبوية:
((إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول يا رب لإرسالك بي إلى النار أيسر علي مما ألقى وأنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب ))
[أخرجه الحاكم عن جابر بن عبد الله ]
عذاب الندم عذاب لا يحتمل، إذاً:
﴿ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
الفلاح و النجاح :
دائماً وأبداً ينبغي أن تحكم مقاييس ربنا جلّ جلاله، الله قال:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾
[ سورة الأعلى]
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾
[ سورة الأعلى]
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾
[ سورة المؤمنون]
فأنت إذا فتحت القرآن على قد أفلح هي بضعة آيات، والفلاح كما تعلمون ليس كالنجاح، نجاح محدود، نجاح في كسب المال، نجاح في تسلم منصب رفيع، نجاح في الزواج، لكن الفلاح نجاح في الدنيا ونجاح في الآخرة، نجاح في العلة التي خلقت من أجلها، هذا هو الفلاح، لذلك الفالحون والمفلحون في القرآن لها معان دقيقة جداً.
بطولة المؤمن أنه يتعظ بغيره :
الآن الله عز وجل يقول:
﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
[ سورة التوبة]
الإنسان أحياناً يقرأ آية في أمر هذا الأمر يقتضي أن تأتمر، يقرأ آية فيها نهي هذا الأمر يقتضي أن تنتهي، تقرأ آية ذكر من آيات الله هذه الآية تقتضي أن تتفكر في خلق السموات والأرض، ولكن لو قرأت عن أمة سابقة أهلكها الله تتعظ، لذلك بطولة المؤمن أنه يتعظ بغيره، أما غير المؤمن فلا يتعظ إلا بنفسه.
بالمناسبة: أحياناً حينما تتعظ قد تكون هذه المعصية لم تبقِ لك ما تتعظ فيه، ما كل معصية بإمكانك أن تخرج منها، فلذلك من بدأ حياته بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة.
الله عز وجل ضرب قوم عاد مثلاً على الإنسان أن يتعظ منه :
أيها الأخوة الكرام، الله عز وجل ضرب على هؤلاء المفسدين في الأرض، هؤلاء الطغاة قوم عاد، الله عز وجل قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
[ سورة الفجر]
عاد تفوقت في كل المواطن، تفوقت في شتى المجالات،
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
تفوقت في شتى المجالات، هناك آية ثانية:
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ﴾
[ سورة الشعراء]
تفوق عمراني.
﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾
[ سورة الشعراء]
تفوق صناعي.
﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾
[ سورة الشعراء]
تفوق عسكري، وهناك تفوق علمي.
﴿ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾
[ سورة العنكبوت]
تفوق عمراني:
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ﴾
تفوق صناعي:
﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾
تفوق عسكري،
﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾
وهناك شيء آخر فيه عجرفة:
﴿ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾
[سورة فصلت الآية:15]
ومع هذا التفوق في شتى المجالات، في المجال العلمي، والعمراني، والصناعي، والعسكري كان هناك غطرسة، واستعلاء، وكبر،
﴿ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾
بطولة الإنسان أن يتعظ فيما يأتي في القرآن الكريم من قصص :
شيء آخر: هؤلاء القوم قوم عاد ماذا فعلوا؟ قال:
﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
[سورة الفجر]
وكأن هؤلاء القوم كانوا نموذجاً للأمم الطاغية الباغية التي استعلت، وطغت، وبغت، ونسيت ربها جل جلاله.
فيقول الله عز وجل مذكراً:
﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
لذلك الإنسان أحياناً يغتني فيطغى، والآية الكريمة:
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾
[سورة العلق]
حينما يتوهم الإنسان أنه غني، وأن هذا المال تنحل به كل المشكلات، ونسي الله عز وجل، أنا أقول من هو الغبي؟ الغبي من لم يدخل الله في حساباته، قال بعضهم: عرفت الله من نقض العزائم، فهؤلاء قوم عاد طغوا في البلاد، أكثروا فيها الفساد، تفوقوا بعلمهم، تفوقوا ببنائهم، تفوقوا بصناعتهم، تفوقوا بقوتهم العسكرية، طغوا في البلاد، أكثروا فيها الفساد، فالله عز وجل
﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
فالبطولة أن تتعظ فيما يأتي في القرآن الكريم من قصص.
الدنيا لمن يتقنها ويحسن إدارتها أما الآخرة فخاصة بالمؤمنين :
شيء آخر، والنقطة الدقيقة جداً أن الله عز وجل، الدنيا يعطيك بالربوبية كل حاجاتك بصرف النظر عن إيمانك، أي الإنسان، يأكل، ويشرب، ويتزوج، ويسافر، ويتاجر، ويربح، ويستمتع بالحياة، هذا منهج من مناهج الله عز وجل، فالدنيا من ينالها؟ القوي أحياناً، أو الذي أتقنها، لكن الآخرة لعباده المؤمنين، فالدنيا يمكن أن ينالها القوي، بل لحكمة أرادها الله أن الذي أتقن الدنيا ينالها، لذلك إن الله أحياناً ينصر الأمة الكافرة العادلة على الأمة المسلمة الظالمة، هذا كلام دقيق جداً، الدنيا لمن يتقنها، الدنيا لمن يحسن إدارتها، ينالها، أما الآخرة فوعد صادق خاصة بالمؤمنين.
فلذلك قال تعالى:
﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾
﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
بمعنى أن الله سبحانه وتعالى رحمة منه يرسل الرسل والأنبياء ليبينوا لهؤلاء الذين شردوا عن الله عز وجل منهجهم الصحيح، فمن يتعظ له الجنة، ومن يتجاهل هذه الرسالات له عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة.
لذلك عطاء الربوبية لكل البشر، مؤمنهم وكافرهم، أما عطاء الإلوهية فللمؤمنين وحدهم، أي المؤمن وحده هو الذي ينال الآخرة بأعلى درجاتها.
مثلاً الأهرامات في مصر، حدثني أخ كريم قرأ عنها الكثير، قال: هناك نافذة في الأهرام، زاوية هذه النافذة مدروسة دراسة مذهلة، بحيث أن الشمس تعبر خلال هذه النافذة في العام كله يوم واحد، يوم موت فرعون، لا يوجد الآن إمكانية أن تصمم نافذة بزاوية معينة، بحيث في يوم واحد فقط الشمس تعبرها إلى داخل الهرم، فهؤلاء الذين كانوا قبلنا كانوا أقوياء جداً، ومع ذلك أهلكهم الله عز وجل، لذلك:
﴿ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك عادل :
أيها الأخوة الكرام، البطولة لا أن تعيش حاضرك، أن تعيش المستقبل، والمستقبل في مغادرة الدنيا، وكل هذه الآيات التي قرأت في هذا اللقاء الطيب من أجل أن تتجه إلى الآخرة، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك عادل، والآخرة فيها أبد، والأبد مهما شرح يصعب أن يوضع في مفهوم بين يدي الناس، الأبد يعني ما لا نهاية، وأكبر رقم على وجه الأرض إذا نسب للانهاية كان صفراً.
أيها الأخوة الكرام، الآيات التي قرئت في هذا اللقاء الطيب
﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ ﴾
أي بالحظوظ التي وهبكم الله إياها.
﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾
خضتم في وحل الدنيا
﴿ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾
العمل فقد قيمته إن كان للدنيا، وفقد قيمته إن كان سيئاً، الإحباط نوعان إما أن العمل يخسر الثواب الذي وعد الله به، أو أن يكون منحطاً فعلاً.
﴿ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
وكلمة:
﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾
هذا نفي الشأن وهو من أشد أنواع النفي في القرآن الكريم، أي مستحيل وألف ألف ألف مستحيل لا يظلمهم، ولا يرضى أن يظلمهم، ولا يمكن أن يظلمهم، فكل أنواع الأفعال التي تنفى بهذه الصيغة أفعال قطعية.
والحمد لله رب العالمين