التفسير المطول - سورة التوبة 009 - الدرس ( 42-70 ) : تفسير الآيات 58 - 59 ، فرق بين الهمز واللمز.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2011-03-04
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
اللمز :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثاني والأربعين من دروس سورة التوبة، ومع الآية الثامنة والخمسين وهي قوله تعالى:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾
لا زال الحديث عن المنافقين، لكن:
﴿ وَمِنْهُمْ ﴾
من للتبعيض، أي بعض هؤلاء المنافقين،
﴿ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾
أي في موضوع الصدقات، ما هو اللمز؟ الله عز وجل قال:
﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾
[ سورة الهمزة]
ما هو الهمز؟ الحقيقة هو السخرية من الآخرين، فأنت حينما تسخر فأنت هماز، حينما تعيب على الآخر بغير حق فأنت هماز، حينما تسخر بإشارة منك، أو بحركة، أو بابتسامة، أو بتعبير بعضلات الوجه، كل أنواع التعابير، وليست كلاماً، وقد تكون كلاماً، هناك إنسان يبني مكانته على أنقاض الآخرين، هذا أسلوب غير جيد هذا أسميه قناص، يبني مكانته على قنص الآخرين، على إظهار عيوبهم، على الوقوف عند سلبياتهم، هذا الإنسان القناص يبني مجده على أنقاض الآخرين، أما المؤمن فمن كماله أنه يتعامل مع الآخرين بإيجابيتهم، وفرق كبير بين أن تتقصى النواحي السلبية في الإنسان وبين أن تتقصى النواحي الإيجابية، والموضوعية كما أقول دائماً قيمة علمية أخلاقية في وقت واحد، أنت إذا كنت موضوعياً فأنت عالم في أحكامك، وأنت إذا كنت موضوعياً فأنت أخلاقي في سلوكك.
بطولة الإنسان أن يكون موضوعياً :
لذلك حينما استعرض النبي الكريم أسرى بدر فوجئ أن صهره زوج ابنته مع الأسرى جاء ليحاربه، فقال عليه الصلاة والسلام: "والله ما ذممناه صهراً".
ما هذه الموضوعية؟ إنسان جاء ليحاربك، ومع ذلك لا تنسى إيجابياته.
فلذلك البطولة أن تكون موضوعياً، وأنا لا أصدق أن يكون العالم موسوعياً لكنه ليس موضوعياً، فالموضوعية جزء من علم العالم، أنت أخلاقي إذا كنت موضوعياً، وعالم كبير إذا كنت موضوعياً، وفي هذه الموضوعية يلتقي العلم مع الأخلاق، فلما رأى صهره، قال: "والله ما ذممناه صهراً".
وأنا أتصور أن سبب إسلام صهره هذا الموقف الموضوعي، فأنا لا أقول أن المسلم يمكن أن يتعامى عن الخطأ، لكن إذا كان هناك خطأ لا ينسى معه الصواب، فأنا أرى أن المسلمين تنقصهم الموضوعية.
لذلك الآية الكريمة:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ ﴾
ما قال: هم يلمزونك، قال: منهم، هذا حكم موضوعي.
الموضوعية قيمة أخلاقية وعلمية :
أحياناً:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ﴾
[ سورة البقرة الآية: 8]
أكثر الكلمات من الناس.
﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾
[ سورة النساء الآية: 159]
هذا موضوع، موقف موضوعي، لا يوجد به تعميم.
مرة كنا في الجامعة نناقش رسالة الدكتوراه، قال المشرف كلمة لا أنساها ما دمت حياً قال: التعميم من العمى، فالذي يعمم أعمى، لا تقل كل أهل هذه البلدة، لا تقل أهل هذه البلدة ليسوا كما ينبغي، قل: بعضهم، لو تتبعت بالقرآن لرأيت أن الله عز وجل قال في الآيات ومنهم أي بعضهم، فأنا أقول الموضوعية قيمة أخلاقية، والموضوعية قيمة علمية، وأنت إذا كنت موضوعياً فأنت أخلاقي، وأنت إذا كنت موضوعياً فأنت عالم، والعلماء تنقصهم هذه النقطة، أحياناً هناك انحياز أعمى إلى جهة معينة، هذا هو التعصب، والنبي الكريم يقول:
(( وليس منا من قاتل على عصبيَّة، لَيسَ مِنَّا مَنْ دَعا إِلى عَصبيَّة))
[أخرجه أبو داود عن جبير بن مطعم]
البطولة أن تكون موضوعياً، أن تقاتل، أو أن تتحرك وفق منهج، وفق مبدأ، وفق قيمة.
الهمز و اللمز :
لذلك هؤلاء:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ ﴾
اللمز هو النقد، والنقد سراً، هذا اللمز، الهمز النقد علناً، دائماً الضعفاء يلمزون، والأقوياء يهمزون، الآن الأقوياء يهمزون لا يخافون، ينتقدون خصومهم على الملأ، أما الضعفاء ففيما بينهم سراً يلمزون، فالنبي الكريم بيّن عن هذه الآية أشياء كثيرة، قال:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾
قال بعضهم في أصل الصدقة، هم يتوهمون أن إنساناً بذل جهداً كبيراً وجمع مالاً، يأتي الفقير ويأخذه بلا تعب، هذا منطلق أهل الدنيا، لكن بمنطلق الآخرة والحقيقة أقول كلمة دقيقة: إن آمنت بالآخرة الإيمان الذي أراده الله يجب أن تنعكس مقاييسك، هناك مقاييس مستنبطة من قوانين الأرض، مجتمع عنده ظروف معينة، من هذه الظروف المعينة يستنبط قوانين، مثلاً بالمجتمع الصناعي المتقن يبيع أكثر، الآن بمجتمع آخر الذي يمدح يرتقي، مستنبطة هذه المقاييس من واقع اجتماعي معين، إلا ن المؤمن يتحرك وفق مقاييس الله عز وجل، لا تأخذه بالله لومة لائم، ينطق بالحق ولو كان مراً.
قال له: يا أبا حنيفة لِمَ لا تتغشانا، قال له: ولِمَ أتغشاكم ـ للمنصورـ وليس لي عندكم شيء أخافكم عليه؟ إنك إن أكرمتني فتنتني.
أبو حنيفة أيضاً رأى غلاماً أمامه حفرة، قال له: إياك يا غلام أن تسقط- قصده في الحفرة- فقال له هذا الغلام: بل إياك يا إمام أن تسقط، إني إن سقطت سقطت وحدي، وإنك إن سقطت سقط معك العالم.
إذاً اللمز هو النقد سراً، والهمز هو النقد علانية، والضعفاء يلمزون، والأقوياء لا يلمزون سراً بل يهمزون علانية.
الإيمان بالآخرة يدفع الإنسان إلى عمل صالح :
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾
موضوع الصدقات في أصله المنافقون رفضوه، إنسان يتعب وإنسان لم يتعب، لكن أنت حينما تؤمن بالآخرة يجب أن تنعكس مقاييسك لأن الإيمان بالآخرة يدفعك إلى عمل صالح، يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، أما أنت فحينما تؤمن أن هذه الدار دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل فرح لا منزل ترح.
في بعض الخطب النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إن هذه الدنيا دار التواء ))
[ من كنز العمال عن ابن عمر ]
أي ينجح في عمله لا ينجح في بيته، ينجح في زواجه قد لا ينجح في تربية أولاده، ينجح في زواجه وفي تربية أولاده لكن دخله أقل من حاجته، هناك مشكلة.
(( إن هذه الدنيا در التواء لا دار استواء))
ولحكمة بالغةٍ بالغة هذه الدنيا لا تستقيم لإنسان، لو استقامت لكره لقاء الله، لو استقامت كما يتمنى لكره لقاء الله عز وجل.
المؤمن خاضع لمنهج الله عز وجل وهذا هو الإسلام الحقيقي :
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾
لماذا الصدقة؟ إما أنه ينتقد أصل الصدقة، أو ينتقد كميتها، أو ينتقد طريقة أخذها أو إنفاقها، هناك نقد، غير المؤمن قناص، لكن المؤمن كما قال الله عز وجل:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ﴾
[ سورة الأحزاب الآية: 36]
هذه ما كان نفي الشأن، وهو أشد أنواع النفي في اللغة، إذا سألت إنساناً وهو إنسان محترم جداً هل أنت سارق؟ هل يقول لك: لا؟ يقول لك: ما كان لي أن أسرق، هذا نفي الشأن، لا أريده، ولا أدعو له، ولا أرضاه، ولا أقره، ولا، ولا، بعض علماء النحو عدوا اثني عشر معنى من نفي الشأن.
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾
[ سورة الأحزاب الآية: 36]
مع وجود آية قطعية الدلالة، مع وجود حديث صحيح، يلتغى اجتهاد المؤمن، الاجتهاد متى؟ في آية ظنية الدلالة، في موضوع لم يرد فيه نص يقيني، هنا الاجتهاد، أما في قضية واضحة فلا يوجد اجتهاد، أنت مؤمن خاضع لمنهج الله عز وجل، وهذا هو الإسلام الحقيقي.
العلاقة بين الأمر القرآني والنبوي علاقة علمية :
بل إن القرآن الكريم أكّد في كل آياته أن الأنبياء جميعاً مسلمون، بمعنى استسلموا لمنهج الله عز وجل، فالإنسان أعقد آلة في الكون، تعقيد إعجاز لا تعقيد عجز، ولهذه الآلة صانع حكيم، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات التشغيل والصيانة.
فانطلاقاً من حرصنا على سلامتنا وعلى سعادتنا ينبغي أن نطيع ربنا، العلاقة بين الأمر والنتيجة التي ينتهي إليها، والعلاقة بين النهي والنتيجة التي ينتهي إليها علاقة علمية، أي علاقة سبب بنتيجة، كيف؟
لو أن طفلاً وضع أصبعه على مدفأة مشتعلة تحترق، نقول: هناك علاقة علمية بين وضع الأصبع على المدفأة واحتراقها، علاقة علمية، لكن لو أن للبيت مدخلين، أعطى الأب أمراً لأولاده أن استخدموا هذا الباب، فأتى ابن و خالف هذا الأمر، فعاقبه الأب، لا يوجد علاقة علمية بين عقاب هذا الابن وبين دخوله من باب في الأساس معد لدخوله، لكن هذا في علاقة وضعية.
أحياناً يكون الأمر لمصلحة معينة، لكن لا يوجد علاقة علمية، لكن ينبغي أن نؤمن جميعاً كمؤمنين أن العلاقة بين الأمر القرآني والنبوي علاقة علمية، أي علاقة سبب بنتيجة.
حقّ العباد على الله إذا هم عبدوه عبادة صحيحة ألا يعذبهم :
لذلك قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
[سورة الأنفال الآية:33]
أي مستحيل وألف ألف مستحيل أن يعذب المسلمون ومنهج النبي مطبق فيهم، طبعاً الآية في حياة النبي لها معنى معروف، لكن ما معناها بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى؟
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
أي مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن يعذب المسلمون ومنهج النبي مطبق في حياتهم،
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ ﴾
هنا ما كان نفي الشأن
﴿ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
لذلك النبي الكريم أردف سيدنا معاذ:
((قال له يا معاذ: ما حق الله على عباده؟ قال: أن يعبدوه، - سأله سؤالاً آخر- قال له: يا معاذ ما حق العبادة على الله إذا هم عبدوه؟ قال: ألا يعذبهم))
[ البخاري عن معاذ ]
ما قولك؟ أي الله عز وجل أنشأ لنا حقاً عليه، حق العباد على الله إذا هم عبدوه عبادة صحيحة ألا يعذبهم، فأنت في مأمن من عذاب الله.
من يتبع منهج الله عز وجل لا يضل عقله ولا تشقى نفسه :
أنا أقول دائماً:
﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
[ سورة الأحقاف الآية: 13]
أنت الآن الساعة الفلانية كذا وكذا، هناك ماض وهناك مستقبل، الله عز وجل أعطاك ضمانتين ألا تخاف من المستقبل، وألا تندم على ما فاتك من الماضي، لذلك مما يروى عن سيدنا الصديق أنه ما ندم على شيء فاته من الدنيا قط، والله عز وجل يقول:
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
[سورة طه]
أي لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه.
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
[سورة البقرة]
اجمع الآيتين، الذي يتبع منهج الله عز وجل لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، ولا يندم على ما فات، ولا يخشى على ما هو آت، ماذا بقي من السعادة في الدنيا والآخرة؟
من عرف الآمر ثم عرف الأمر تفانى في طاعة الآمر :
لذلك الآية الكريمة:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ ﴾
هذا المنافق لم يعبأ بتشريع الله عز وجل، لم يرَ هذا التشريع من عند خالق السموات والأرض، لم يرَ هذا التشريع من عند العليم الحكيم، من عند الرحمن الرحيم، من عند القوي الحكيم، أنت حينما تعرف من هو القائل، من هو المرسل، تعرف قيمة الأمر.
أنا أقول دائماً: إذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر، وهذا شأن معظم المسلمين اليوم، هم في مدارسهم تعلموا الحرام، والحلال، الزنا، والقتل، والرشوة، وما إلى ذلك، لكنهم ما بذلوا وقتاًً لمعرفة الخالق.
لماذا الصحابة الكرم بقوا في مكة والآيات تتأتى تتحدث عن اليوم الآخر وعن خالق السموات والأرض؟ أنا أقول: بكل دعوة أسلامية مرحلة مكية، ومرحلة مدنية، المرحلة المكية التعريف بالله، التعريف بالآمر، التعريف باليوم الآخر، وفي المرحلة المدنية تفاصيل التشريع.
فنحن إذا اكتفينا في دعوتنا إلى الله ببيان تفاصيل هذا التشريع، ولم نلق بالاً إلى تعظيم الله عز وجل لأن الآية الكريمة:
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ ﴾
[ سورة الحاقة]
لماذا؟ قال:
﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾
[ سورة الحاقة]
آمن بالله، ما آمن به عظيماً، إبليس آمن، قال ربي:
﴿ فَبِعِزَّتِكَ ﴾
[ سورة ص الآية: 82]
قال:
﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
[ سورة الأعراف]
لكن ما آمن به عظيماً،
﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾
فالعبارة أن تؤمن بالله العظيم، الآية الكريمة تنصب على كلمة عظيم، لأن أي إنسان ولو كان عاصياً يؤمن بالله، الملحدون قلائل جداً في الأرض، معظم أهل الدنيا آمنوا بالله خالقاً، لكن الذي يعظمه من خلال التفكر في خلق السموات والأرض هو الذي يعظم أمره.
العمل الصالح علة وجود الإنسان في الدنيا بعد الإيمان بالله :
إذاً
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾
صدقة نزل بها أمر إلهي، قرآن، والنبي فصل، هم لا يرونها تشريعاً يصلح لهم، هم توهموا أنهم جمعوا المال بجهدهم، والثاني أخذه وهو فقير، لكن أنت حينما تعلم في الدنيا أنك من أجل عمل صالح، والدليل: الإنسان إذا وافته المنية ماذا يقول؟
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
[ سورة المؤمنون]
معنى ذلك أن علة وجود الإنسان في الدنيا بعد الإيمان بالله، علة وجودك العمل الصالح، فالإنسان حينما يأتيه ملك الموت يقول:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
أنت جاء الله بك إلى الدنيا كي تعمل عملاً يؤهلك لدخول الجنة، الإنسان يدرس سبع سنوات في الجامعة حتى يعمل في الطب مثلاً، حتى يكون له دخل معقول، ويكون له بيت معقول، ومركبة معقولة، وزوجة معقولة، فالإنسان عندما يتحرك حركة في الأرض، الحركة هذه منوطة بأهدافه، أنا الذي أتمنى أن يكون واضحاً أن المؤمن يعظم أمر الله، بينما غير المؤمن يستخف بأمر الله عز وجل.
﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴾
[ سورة نوح]
هذا الإله العظيم أنزل قرآناً، القرآن كون ناطق، والنبي الكريم قرآن يمشي.
على الإنسان أن يميز بين الإنسان النفعي و الإنسان المبدئي :
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾
يلمزك؛ ينتقدك، يعيب عليك في أصل الصدقة، أو يعيب عليك في حجمها، خمسة بالمئة كثير، أو يعيب عليك في طريقة أخذها ودفعها، يعيب عليك ثلاثة موضوعات، إما بأصلها كمبدأ، أو في أخذها وإنفاقها، أو في طريقة دفعها، إنهم ماديّون:
﴿ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا ﴾
إذا ناله نصيب يرضى بها، معنى هذا أنه نفعي، هناك إنسان نفعي وهناك إنسان مبدئي، المؤمن مبدئي، غير المؤمن نفعي، لذلك هو مستعد أن يقبل أي شيء تقوله، ما دام في منفعة، هذا يكشف الإنسان، يقول لك إنسان فرضاً: أنا لا آكل مالاً حراماً، أحياناً يأتيه مبلغ فلكي، يقول: أنا مضطر عندي أولاد، أخذه، فهو امتُحن وبالامتحان رسب:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾
معنى هذا أنه نفعي، إيمانه أو سبب إيمانه المادة، إذا كان هناك مادة يقرك على أي شيء، إذا لم يكن هناك نفع يرفض أي شيء، إذاً هناك تفرقة كبيرة بين الإنسان النفعي والإنسان المبدئي.
القوي بمنصبه أو بماله أو بعلمه ينشر العلم بين الناس :
أنا أقول دائماً: إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون قوياً، لأن القوي متاح أمامه من العمل الصالح ما لم يتح لغيره، فالذي معه مال وفير أنا أقول: القوة؛ قوة المال، قوة العلم، قوة المنصب، وهذا كلام دقيق، إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون قوياً، والنبي الكريم يؤكد هذا المعنى يقول:
((المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير))
[أخرجه مسلم عن أبي هريرة]
هو جبار خواطر، لكن إذا كنت قوياً معنى ذلك أن فرص العمل الصالح التي أمامك كبيرة جداً، أنت بالمال تطعم الجياع، تواسي المرضى، تنشر العلم، فالبعد عن الدنيا فيه خطأ كبير، ينبغي أن تكون في يديك لا في قلبك، لأن المسلمين بحاجة إلى قوة، والحق يحتاج إلى قوة، طبعاً عند أهل الدنيا القوة هي الحق، أنت قوي إذاً أنت على حق، مادمت قوياً القوة تصنع لك الحق، هذا عند أهل الضلال، أما عند أهل المؤمنين فالقوة شيء آخر، القوة وسيلة لتقوية الحق، فالحق ما جاء به الوحيان الكتاب والسنة، والقوة تدعم الحق، فأنا أقول: إذا كان طريق الحق سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون قوياً، لأن الفرص المتاحة أمام القوي لا تعد ولا تحصى، ولأن علة وجودك في الدنيا العمل الصالح، والعمل يحتاج إلى قوة، إما إلى قوة- طبعاً القوي بمنصبه بجرة قلم يحق حقاً ويبطل باطلاً، يقر معروفاً ويزيل منكراً- أو إلى مال، فالقوي بماله يطعم الجياع، يزوج الشباب أحياناً، يرعى الأرامل، هناك أعمال لا تعد ولا تحصى، والقوي بمنصبه أو بماله أو بعلمه ينشر العلم بين الناس.
المؤمن راض عن الله عز وجل :
لذلك هؤلاء المنافقون ما عبئوا بمنهج الله، ولم يعرفوا من هو القائل، ما قدروا عظمة هذا القرآن الكريم، قال:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾
لكنهم نفعيّون،
﴿ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾
المؤمن راض عن الله.
قال إنسان يطوف حول الكعبة يناجي ربه: يا رب هل أنت راض عني؟ وراءه الإمام الشافعي، قال له: يا هذا هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى الله عنك؟ الآية الكريمة:
﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾
[ سورة البينة الآية: 8]
قال له يا سبحان الله! أنا أتمنى رضاه فكيف أرضى عنه؟ فقال له الإمام الشافعي: إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله.
لذلك قال سيدنا علي: " الرضا بمكروه الرضاء أرفع درجات اليقين".
دائماً السيارة لا تمتحن بالطريق الهابط بل في الطريق الصاعد، لا تحتاج إلى محرك أصلاً في الطريق الهابط، أما في الصاعد فتحتاج إلى ذلك، لذلك قالوا:" المصائب محك الرجال".
أنواع المصائب :
الإنسان يكشف على حقيقته بالمصيبة، إذاً المصائب أولاً للمؤمنين لها تعبير خاص، للمؤمن دفع ورفع، مؤمن سرعته إلى الله بطيئة، أعماله الصالحة قليلة، عباداته غير متقنة، تأتيه مصيبة تدفعه إلى باب الله بسرعة أعلى، وبنية أعلى، إما أن تدفعه فتزاد السرعة، أو أن تعلي مقامه عند الله، مصائب المؤمنين مصائب دفع ورفع، لكن مصائب غير المؤمنين مصائب قصم وردع، يردعه، أو يقصمه، أما مصائب الأنبياء فمصائب كشف، ينطوون على حقيقة وعلى كمال لا متناه، هذا الكمال اللامتناهي يعبر عنه بحادث.
نبي كريم يذهب إلى الطائف مشياً على قدميه، ثمانون كيلو متراً، وصل إليهم يدعوهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة، آذوه، وكفروا به، وشتموه، وأغروا صبيانهم به، لكن الذي لا يصدق أن الله سبحانه وتعالى أرسل له ملك الجبال، قال له: "يا محمد أنا طوع أمرك، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين، قال: لا يا أخي، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده".
إذاً مصائب غير المسلمون مصائب ردع- إذا كان فيه بقية خير- أو قصم، مصائب المؤمنين مصائب دفع أو رفع، مصائب الأنبياء مصائب كشف، هناك حقيقة لا تظهر إلا بوضع صعب.
أن يأتي مشياً للطائف على قدمين، أن يكذبوه، أن يسخروا منه، أن يغروا أولادهم بضربه، يأتيه ملك الجبال، يقول له: "لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين، قال: لا يا أخي، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون".
المصائب هي النعم الباطنة :
لذلك مصيبة المؤمن مصيبة دفع أو رفع، الله عز وجل قال:
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
[ سورة لقمان الآية: 20]
قال بعض علماء التفسير المصائب هي النعم الباطنة، الآية الكريمة:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾
إذاً هو مادي، ما دام هناك مادة يرضى عنك، إن لم يكن هناك مكسب مادي يسخط عليك، الآية الكريمة:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ﴾
[ سورة التوبة]
كأن الله تمنى عليهم أن يرضوا بعطاء الله، أن يرضوا بنصيبهم من الله عز وجل، والحقيقة من علامة المؤمن الرضا عن الله عز وجل، راض عن الله، نحن عندنا أشياء، لكن أنت مسير بأمك وأبيك، أنت لم يختارهم، أنت مسير بمكان ولادتك، مسير في وقت ولادتك، مسير كونك ذكراً أو أنثى، مسير في قدراتك العامة، في كونك ذكر أو أنثى، ومن فلان أو فلانة، وفي مدينة كذا، وفي عصر كذا، وفي قدرات عامة، أنت حينما تؤمن إيماناً مبنياً على علم دقيق أن الله عز وجل أقامك في أكمل حال يناسبك، الآن إنسان عنده ألم لا يطاق في بطنه، هذا مكانه ليس مكان جميل وإطلالة على البحر، يحتاج إلى مستشفى، فدائماً الله عز وجل يسوق للعبد ما يناسبه لكن البطولة أن تؤهل نفسك للإكرام، الله عز وجل في الحديث القدسي يقول:
(( إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلى صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض علي منهم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنتهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عند بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم لولدها))
[ رواه البيهقي والحاكم عن معاذ، والديلمي وابن عساكر عن أبي الدرداء ]
الله عز وجل يسوق للعبد ما يناسبه لكن البطولة أن يؤهل الإنسان نفسه للإكرام :
كأن الله تمنى على هؤلاء أن يرضوا ما أتاهم، أي أن تكون راضياً عن الله شيء رائع جداً، إن رضيت عن الله عز وجل قربك الله عز وجل، خالق الأكوان، ملك الملوك، قيوم السموات والأرض، القوي، الغني، الرحيم، الحكيم، ساق لك هذه المشكلة، أو جعلك بهذا الوضع، أو جعلك في كفاف.
مرة قال لي إنسان: دخلي يقابل مصروفي، قلت له: إذاً أصابتك دعوة النبي، قال: ماذا دعا عليّ؟، قلت: قال: من أحببني فاجعل رزقه كفافاً.
أحياناً يكون عندك شيء يغطي حاجاتك، لكن لا يوجد عندك شيء يكون زلة قدم، لأن الإنسان عندما يموت ورد في بعض الآثار:
(( روحه ترفرف فوق النعش، تقول: يا أهلي، يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ وحرم، فأنفقته في حله، وفي غير حله، فالهناء لكم والتعبة علي))
[ورد في الأثر]
والله مرة حدثني أخ أبكاني، قال لي: قريبي ترك ألف مليون، رأيت ابنه بعد يومين في الطريق، قلت له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: أريد أن أشرب الخمر على روح والدي.
الإنسان إذا لم يربِّ أولاده عنده مشكلة كبيرة، وضع بين أيديهم مالاً وفيراً يكون هذا المال سبب فسقهم، وفجورهم، والأب يحاسب على ذلك، فنحن نريد أن ينتبه الابن، أو ينتبه الأب أن أولاده سيحاسب عنهم، والدليل قول النبي الكريم:
((خير كسب الرجل ولده))
[ أحمد عن أبي بردة بن نيار]
قال:
﴿ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا ﴾
[سورة التوبة الآية:58]
مادي إذاً.
المؤمن إنسان مبدئي وغير المؤمن إنسان نفعي :
المؤمن مبدئي، قال النبي الكريم:
((لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه))
[ السيرة النبوية]
هذا المؤمن، المؤمن إنسان مبدئي، غير المؤمن نفعي، بالمال يسكت، تعطيه يسكت لأن مشكلته مشكلة مال فقط.
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ﴾
ملك سأل جواريه: اطلبي وتمني، كل واحدة طلبت شيئاً، هذه تريد بيتاً، و هذه تريد قصراً، كل واحدة طلبت، إلا أن واحدة قالت: أنا أريدك أنت، قال: أنا وما أملك لك؟ لذلك ورد في بعض الآثار:
(( من أحببنا أحببناه، ومن طلب منا أعطيناه، ومن اكتفى بنا عما لنا كنا له وما لنا ))
أنت تقول: حسبي الله ونعم الوكيل،
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ﴾
من يرفض الدين يحتقر نفسه :
لذلك الإنسان أحياناً يحتقر شيئاً فيرفضه، عرضوا عليه بيتاً صغيراً وثمنه غال رفضه، لماذا رفضه؟ احتقاراً له، قد تعرض عليك فتاة للزواج، لكن أخلاقها ليست كما تتمنى رفضتها، الإنسان يرفض في حياته آلاف الأشياء احتقاراً لها، إلا أنه إذا رفض هذا الدين احتقر نفسه، فرق كبير، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾
[سورة البقرة الآية: 130]
أنت حينما ترفض هذا الدين تحتقر نفسك، لأنك المخلوق الأول والدليل:
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
[سورة الأحزاب الآية:72]
الإنسان هو المخلوق الأول و المكلف بعبادة الله عز وجل :
أنت المخلوق الأول المكرم:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
[ سورة الإسراء الآية: 70]
أنت المخلوق المكلف؛ مكلف أن تعبد الله.
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
[ سورة الذاريات]
والعبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، أنت مخلوق مكرم، مكلف، مخلوق أول، من عرف نفسه عرف ربه، جئت إلى الدنيا من أجل أن تدفع ثمن الآخرة، وأكبر دليل:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
إذا عرفت سرّ وجودك.
لو أن أباً أرسل ابنه إلى باريس للدراسة، مدينة عملاقة، واسعة جداً، فيها معاهد، فيها جامعات، فيها أسواق، فيها ملاه، فيها نوادٍ ليلية، فيها حدائق، فيها متاحف، فيها كل شيء نقول: هذا الطالب الذي أرسله أبوه إلى باريس ليدرس لينال الدكتوراه علة وجوده في هذه الدنيا شيء واحد هي الدراسة، فإذا غفل عن سرّ وجوده فهو أغفل الغافلين.
العبادات الشعائرية لا نقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادات التعاملية :
أنا أتمنى على الأخوة المشاهدين أن يعلموا علم اليقين ما علة وجودهم في الدنيا الدليل:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
لكن قد يفهم الناس العبادة فهماً ساذجاً، يظن الناس العبادة أن تصلي فقط، وأن تصوم، وأن تحج بيت الله الحرام، وأن تزكي فقط، مع أنه يوجد عندنا آيات وأحاديث دقيقة جداً، يقول عليه الصلاة والسلام:
((يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))
[أخرجه ابن ماجه عن ثوبان بن بجدد]
سأل مرة النبي أصحابه:
((أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المفْلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ قبل أن يُقْضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم يُطْرَحُ في النار))
[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة]
هذه الصلاة، الصيام:
((مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ))
[أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة]
الحج:
(( من حج من مال حرام ووضع رجله في الركاب، وقال: لبيك اللهم لبيك، قال: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك))
[الأصبهاني في الترغيب عن أسلم مولى عمر بن الخطاب ]
الزكاة:
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾
[ سورة التوبة]
إذاً العبادات الشعائرية كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والنطق بالشهادة إن لم يصاحبها استقامة على أمر الله، وتطبيق لمنهجه، لا يمكن أن تقطف ثمارها إطلاقاً، لذلك لما سأل النجاشي سيدنا جعفر أجابه:
((أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ))
[أخرجه ابن خزيمة عن جعفر بن أبي طالب]
هذا يقتضي عبادات شعائرية، وهناك عبادات تعاملية، والعبادات الشعائرية لا تقطف ثمارها إلا إذا كانت عبادات تعاملية، وهذا معنى الاستقامة على أمر لله.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الآيات حافزاً لنا على طاعة الله عز وجل:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ﴾
والحمد لله رب العالمين