أعزائي المشاهدين ضيفنا في هذه الحلقة أحد مشاهير علماء المسلمين الذين ساهموا في تقدم الحضارة ، وفتح آفاق جديدة في العلم والمعرفة أمام الإنسانية... فهو الوجه الأصيل من تراث أمتنا الذي أفاد منه العالم أجمع. وأثنى عليه الغرب قبل العرب أنفسهم.
لقد كانت حياته الفكرية خصبة جداً ، ألف كتباً كثيرة ، ضاع أكثرها، على أنه اشتهر بين العرب بشروحه على فلسفة أرسطو ، ولكن همته لم تقف عند الشروح فقط لا غير ، بل ألف طائفة صالحة من الرسائل أوضح فيها فلسفته الخاصة ، مثل : (فصوص الحكم)، و (إحصاء العلوم)، و (الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو) ، و(السياسات المدنية) ، و(أراء أهل المدينة الفاضلة) ، و(تحصيل السعادة) وغيرها.
لقد كان يميل إلى التأمل والنظر، ويفضل العزلة والهدوء، بدأ شبابه متفلسفاً، وقضى كهولته متفننأً، وختم حياته متزهدا متصوفاً ، وذكروا أنه لا يكون عادة إلا حيث المياه الجارية والحدائق المتشابكة الأشجار. هناك كان يؤلف كتبه.
إنه (الفارابي) محمد بن أوذلغ بن طرخان، الشهير باسم الفارابي نسبة إلى فاراب ، مولده. صاحب لقب " المعلم الثاني " بعد المعلم الأول أرسطو. . وأعظم فلاسفة الإسلام، صاحب المؤلفات القيمة في الفلسفة والمنطق والموسيقى والعلوم.
ولد الفارابي في بلدة تسمى وسيج من مدن فاراب في عام 873 م (260هـ) وتوفي في الثمانين من غمره عام 950 م (339هـ) وكانت الحالة السياسية خاضعة للصراع بين سلطة الخليفة وسلطة الأتراك من الناحية الأخرى، فكثرت المكائد والمؤامرات والاغتيالات.
زهده:
مع أن الفارابي عاش حياته زاهدا في المال والسلطة ، لا يتصل بالسياسة إلا فكره ورؤيته للحياة المثالية الفاضلة. فقد كان هذا هو الحال للدول العربية التي تحرك بينها من الناحية السياسية. وعلى أي حال فقد كان حكام الدول والإمارات ينظرون إلى الفارابي كعالم جليل ، يحظى بالاحترام والتقدير. كما كان الحال مع سيف الدولة الحمداني.
في ذلك العصر، تطرقت الرفاهية إلى الحياة الاجتماعية، خاصة بين الطبقات العليا والأغنياء. فظهرت فنون الهندسية الشرقية في قصور الخلفاء والأمراء والقادة والتجار، فكانت دورهم فخمة ذات اتساع ، تضم حدائق غناء.
فانتشرت مجالس الغناء والطرب يعقدها الخلفاء والحكام ويحضرها الشعراء والمغنون والأدباء والموسيقيون وأهل الفكاهة. ومع هذا أو بسببه، ازدهرت الصناعة ونمت الجارة والزراعة، فتقدمت الصناعات اليدوية. واشتهرت كل مدينة بنوع خاص من الصناعة يتوارثه الأبناء عن الآباء.
ومن ناحية أخرى نرى صورة مغايرة : نرى اختلال الأمن بسبب كثرة الحروب بين الأمراء ، وبسبب غارات الجند وانقلاباتها، مما أشاع البطالة بين الناس وجعل عامة الشعب تعاني من الفقر واختفاء الأمن والطمأنينة.
ولد الفارابي وعاش ومات في عصر تعددت فيه الحركات الدينية، بتعدد الحركات السياسية.
عربي الموطن والثقافة:
من هنا اشتهر أبو النصر بلقب الفارابي، نسبة إلى مسقط رأسه في فاراب. واكتسب أبو نصر لقبه من نسبته إلى ولاية فاراب التي تضم مدينة وسيج التي ولد فيها معظم المؤرخون الذين كتبوا عن الفارابي يقولون أنه فارابي الأصل . وقال أحدهم، وهو ابن أبي أصيبعة: إن أباه كان قائد الجيش وكان فارسي النسب.
كما أن الفارابي عندما غادر فاراب لم يرجع إليها، وأمضى سنوات دراسته وانتاجه في عدد من العواصم العربية : بغداد ، حلب، دمشق، مصر. . .
وثقافة الفارابي في بغداد والشام كانت ثقافة عربية . كما أن مؤلفات الفارابي التي زادت عن المائة كانت كلها باللغة العربية.
لهذا ، استحق الفارابي لقب "فيلسوف العرب" ذلك لأنه كان عالما عربيا مبتكرا وفيلسوفا عربيا مبدعا وموسيقيا عربيا بارعاً، كما كان أديبا عربيا في علمه وثقافته وموطنه ، ومؤلفا من كبار المؤلفين.
تفوقه على أساتذته:
دخل بغداد على عهد الخليفة المقتدر العباسي. وصل إليها وفي عزمه أن يستعيد من وجوده بين طائفة من أفضل العلماء في مختلف التخصصات و العلوم .
بدأ بدراسة اللغة العربية على يد أبى بكر ابن السراج ،كذلك درس عليه النحو و كان ابن سراج في نفس الوقت يتعلم منه علم المنطق ، سمع الفارابي بعد ذلك عن الأستاذ يوحنا بن خيلان الذي يعيش في مدينة (حران) فسافر إليه ليدرس على يديه الفلسفة والمنطق ، وقد استفاد الفارابي من معرفة ابن خيلان بعلوم الطب ، فدرس الطب على يديه، وإن لم يشتغل به الفارابي بعد ذلك . و عندما انتهت دراسته في (حران) عاد إلى بغداد و عندما عاد إلى بغداد واصل دراسة الفلسفة والمنطق ثم اتجه لدراسة الرياضيات والموسيقى.
وظل الفارابي ينهل من معين العلم في بغداد يقرأ ويدون الملاحظات ويحضر مجالس العلم والعلماء. حتى تفوق في علمه ومعرفته على أساتذته.
صفة "المعلم الثاني"
إنّ سر اهتمام الفارابي بالفلسفة والحكمة، هو أن رجلا من طلاب العلم، أودع عنده جملة من الكتب لأرسطو كأمانة، وأن الفارابي أخذ يقرأ في هذه الكتب، فأعجبته الموضوعات التي تتحدث عنها. وهكذا انكب على هذه الكتب ، يستوعب ما بها ويتفهم معانيها، حتى أحاط بها. وصار فيلسوفا كبيرا.
رأي الفارابي في بغداد، وقد تجاوز الخمسين من عمره، يدرس الفلسفة والمنطق والرياضيات والموسيقى واللغة ويسعى إلى كبار الأساتذة، مسافرا من بغداد إلى حران ، لا يجد في ذلك حرجا، ولا يجد بكبر السن مانعا في مواصلة الدرس والبحث، ولهذا استحق لقب : "المعلم الثاني"
أستاذ ابن سينا:
من أقوال ابن سينا في الفارابي: "سافرت في طلب الشيخ أبي نصر، وما وجدته، وليتني وجدته، فكانت حصلت إفادة." وهو يعني بهذا أنه سافر يبحث عن الفارابي ليستفيد من علمه. فلم يوفق في ذلك ، وهو يأسف لهذا، فقد كان من الممكن أن ينتفع بعلم الفارابي إلى حد بعيد.
وهكذا يعترف العالم والفيلسوف الكبير ابن سينا، بأستاذة الفارابي ، فهو لم يفهم كتاب "ما بعد الطبيعة" رغم أنه قرأه أربعين مره، وحفظه عن ظهر قلب، لكن ابن سينا، ما إن قرأ كتابات الفارابي الواضحة حول هذا الموضوع، حتى فهم كتاب أرسطو، وتوصل إلى معانيه وأفكاره.
فقد كانت حياة الفارابي في بغداد وحلب ودمشق ومصر، حياة دراسة وتدوين وتعلم وانتاج. ولقد نبغ الفارابي في الفلسفة بمعناها الواسع الذي كان مستخدما في ذلك الوقت نبوغا ملفتا للنظر، تفوق في الفلسفة بوصفها العالم الجامع الشامل الذي يضع أمام الإنسان صورة كلية شاملة للكون بكل ما فيه.
لهذا اعتبر أن الفارابي في أنحاء العالم كله: أكبر الفلاسفة بعد أرسطو. وأعظم من شرح ووضح ونشر آراء أرسطو المعلم الأول، ولهذا حصل بحق على لقب: "المعلم الثاني"
شهادة من أهل الغرب:
لقد كان الفارابي في هذه الفترة من عمره منتجا إلى أبعد حدود الإنتاج. أخرج للناس المؤلفات والرسائل ما يزيد على المائة. بل وفي قول بعض المؤرخين ما يزيد على المائتين، تناول فيها الفلسفة بفروعها وعلوم النجوم والمنطق والإعداد والهندسة والموسيقى. وكان يدون كتبه هذه بأسلوب ممتاز. لا إطالة فيه أو استطراد؛ عندما لا يقتضي الأمر كذلك مع دقة في التعبير، ومنطق مرتب في تتابع الحقائق وربط الموضوعات بعضها ببعض.
ومما يذكر، أن بعض الأوروبيين عندما وقعت في أيديهم بعض رسائل الفارابي القيمة؛ نقلوا محتوياتها إلى لغاتهم. ونسبوها إلى أنفسهم . لكن البحث العلمي والتحقيق الدقيق، كشف عن هذا وأعاد إلى الفارابي فضه وأسبقيته.
ولقد شهد أهل الغرب بفضل الفارابي في أكثر من مناسبة وعلى مدى القرون التي بين زمنه وزماننا ، وهذا ما قاله المستشرق دياخو عن رأيه في شخصية الفارابي، قال: "إن الفارابي شخصية قوية وغريبة حقا"
وهو –عندي – أعظم جاذبية وأكثر طرافة من ابن سينا، لأن روحه كانت أوفر تدفقا وجيشانا، ونفسه أشد تأججا وحماسة. . لفكره وثبات كوثبات الفنان، وله منطق مرهف بارع متفاوت، ولأسلوبه مزية الإعجاز والعمق".
أخلاق المفكر:
إلى جانب هذا التفوق العلمي والعقلي، الذي شهد به أهل الغرب والشرق، تحدث المؤرخون عن أخلاق الفارابي: فقالوا انه كان زكي النفس، هادئ الطبع، ساكنا لا يعبأ بشيء من أمور الدنيا، من مأكل أو مشرب أو ملبس أو مسكن.
كانت أغلب ملابسه من ملابس الأتراك، يقتصر على أبسط أنواع الغذاء. كان أكثر أيامه ينفرد بنفسه لا يجالس الناس.
ولا يكون عادة إلا حيث المياه الجارية والحدائق المتشابكة الأشجار. هناك كان يؤلف كتبه، ويزود تلاميذه والذين يسعون إلى تلقي العلم على يديه، فيسألونه فيما استعصى عليهم، وليس أدل على زهده من رفضه عطايا سيف الدولة الحمداني واكتفاؤه بأربع دراهم باليوم. لا يطلب غيرها لضروريات معيشته.
واذ كان الفارابي قد آثر حياة الزهد والاعتزال والبعد عن الناس، وعن السعي إلى المناصب والوظائف، فإنه لا ينصح الآخرين بهذا الموقف من الحياة ولا يجعل لنا حياته نموذجا يقتدى به في هذا المجال.
الترابط بين أجزاء فلسفة الفارابي: -
إن أول ما يلاحظه المطلع على فلسفة الفارابي هو هذا التسلسل المنطقي والترابط المحكم والصارم بين مختلف أجزاء فلسفته، نعني بذلك حرص الفارابي على عدم إهمال أي نقطة من نقاط الموضوع الذي يبحث فيه، مع ذلك جهده في جعل أي جزء من أجزاء فلسفته متصلاً اتصالاً وثيقاً بالأجزاء الأخرى، ويظهر هذا واضحاً في الترابط بين نواحي فلسفته النظرية والعملية، أي الماورائية الاجتماعية والسياسية بشكل خاص.
ما ذكرناه يشكل أحد أهم عناصر الفلسفة المنهجية إذا لم يكن هو المنهج بعينه. فلننظر فيما يلي في تعريف المنهج ولنحاول تطبيقه على فلسفة الفارابي.
يعرف "لالاند" المنهج والفلسفة المنهجية بقوله: إنه مجموعة عناصر يتوقف بعضها على بعضها الآخر بحيث تشكل هذه العناصر كلاً منتظماً. والفلسفة المنهجية هي مجموعة أفكار مترابطة منطقياً بحيث تفسر الأفكار الأخيرة بالأفكار الأولى.
ينطبق هذا التحديد بكل تفاصيله على الفلسفة الفارابية من خلال كتابه \"آراء المدينة الفاضلة\" الذي يعتبره أكثر الباحثين الكتاب الذي يعبر أفضل تعبير عن فلسفة الفارابي ككل.
ينقسم كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة إلى قسمين كبيرين: قسم فلسفي وقسم سياسي اجتماعي. يبحث القسم الأول - وهو الأكبر – في الموجود الأول وفي نفي الشريك عنه ونفي الضد، وفي صفات الإله وعلمه وأنه حق وحياة وحكمة وما شابه ذلك.
أما القسم الثاني فيرتكز على الأول, ويبحث فيه الفارابي في احتياج الإنسان إلى التعاون، ثم يذكر المدينة الفاضلة وأضدادها.
فالقسم الأعظم من كتاب المدينة الفاضلة مخصص إذن للبحث في الإلهيات لا في السياسات، لأن رأي الفارابي في المدينة الفاضلة ناتج من نظرياته الفلسفية في العقول السماوية, وصدور الموجودات عن الخالق، وعلاقة الأكوان بعضها ببعض.
وهذا ما يوضح ما قلناه من أن المنهج عبارة عن ارتباط أجزاء فلسفة ما بعضها ببعض من جهة ثانية تدخل فكرة الفعل الواعي المراد والهادف الذي يتعارض مع الفعل العفوي.
(مرجع سابق، شمس الدين،1990)
التوفيق بين أفلاطون وأرسطو: -
لقد ساء الفارابي أن يرى دارسي فلسفة كل من أفلاطون وتلميذه أرسطو ينتقدونهما، لما بينهما من وجوه الخلاف فقام بمحاولة التوفيق بين هذين الفيلسوفين العظيمين لحسبانه أن الخلاف ظاهري وحسب، أما جوهر فلسفتيهما فواحدة وأصولها تتشابه. وكذلك له هدف بعيد من محاولة التوفيق هذه ألا وهو رغبته في مواجهة الدين بفلسفة موحدة لتسهل عليه محاولة التوفيق بين الوحي والعقل بعد ذلك.
والفارابي يرى في محاولة توفيقه بين الفيلسوفين، أن قول النقاد بقيام الخلاف بينهما لا يعدو حالات ثلاث فقط وهي:-
أولاً: إما أن يكون الحد المبين عن ماهية الفلسفة غير صحيح.
وقد رد على هذا بقوله إن الفلسفة في نظر أفلاطون وأرسطو هي \"العلم بالموجودات بما هي موجود\" وهذا الحد صحيح لأنه يبين ذات المحدود ويدل على ماهيته ويطابق علم الفلسفة.
ثانياً: إما أن يكون رأي الجميع أو الأكثرين واعتقادهم في تفلسف هذين الرجلين سخيفاً ومدخولاً وهذا مردود بالطبع على قائليه فلا يمكن أن يتفق الناس على تقديم رجل أو رجلين إلا لأن عقولهم وأفهامهم أجمعت على حقيقة لا مراء فيها ولعظم مكانتهما وقولهما.
ثالثاً: وإما أن يكون في معرفة الظانين فيهما بأن بينهما خلافاً في هذه الأصول، تقصير.
وقام الفارابي باستعراض عدة مسائل فلسفية ومواقف حياتية لدى الفيلسوفين لينتهي من ذلك إلى إثبات اتفاق ما قالا به من الآراء.
(الهاشم،1968 )
لقد حاول الفارابي أن يوفق ويجمع بين الأمور التالية لدى الفيلسوفين اليونانيين:
1. طريقة معيشتهما، بالنظر إلى زهد أفلاطون ولذة أرسطو.
2. أسلوباهما في التأليف والتصنيف.
3. رأياهما في الأخلاق.
4. رأياهما في المثل, واختلافهما الصريح حول تلك النظرية.
5. رأياهما في قدم العالم.
6. نظرية المعرفة.
منابع فلسفة الفارابي: -
كان للفارابي منبعين أساسيين يستمد منهما فلسفته الأول الإسلام، والثاني الفلسفة اليونانية المتمثلة بأفلاطون وأرسطو إضافة إلى مدرسة الإسكندرية المتمثلة بأفلوطين وإتباع المدرسة الأفلاطونية الجديدة.
أما اعتبارنا الإسلام منبعاً أساسياً لفلسفة الفارابي فهو شيء طبيعي لا يحتاج إلى تحليل أو تعليل، ذلك لآن أبا نصر وإن كان يعتبر مؤسس الفلسفة – بمعناها اليوناني الواسع – في الثقافة الإسلامية، فإن لم يخرج عن كونه مسلماً، نشأ في بيئة إسلامية، واطلع على العلوم والمبادئ الإسلامية – كـأي مثقف مسلم – قبل أن يبدأ بالتفلسف.
أما تأثره في الفلسفة اليونانية فيتمثل من ثلاثة اتجاهات فهو من جهة تلميذ لأفلاطون في الأخلاق والسياسات والإلهيات، وهو من جهة ثانية ذو نزعة أرسطية في المنطق والطبيعيات وفي مبادئ ما بعد الطبيعة وتابع من جهة ثالثة مدرسة الأفلاطونية الجديدة في نظرية الخلق والصدور.
وعلى الرغم من تأثر الفارابي المزدوج بالإسلام والفلسفة اليونانية، فإن المطلع على فلسفته لا يستطيع إلا أن يرى تفرده في مذهب خاص به فهو يخرج عن الشرع الإسلامي أحياناً ويخرج عن الفلسفة اليونانية أحياناً أخرى.
كل هذا يجعلنا نقول أن هناك مصدراً ثالثاً استمد منه الفارابي فلسفته، هذا المصدر هو عقله الذي أتاح له إبداع فلسفة متميزة قلما نجد فيلسوفاً آخر جاء بعده لم يقتبس من أفكارها ويستمد من معينها.
(شمس الدين، 1990)
منطلقات الفارابي الفكرية:-
اتسم تطور العلم في ظل الخلافة العربية الإسلامية بملمحين أساسيين، برزا بوضوح في أعمال الفارابي، وهما الموسوعية والعقلانية. وقد وجدت عقلانية العلماء العرب صدى لها حتى في الإنجازات العلمية المعاصرة، بعد أن كانت نفضت يديها من المعتقدات الغيبية، موجه فكر االشرق العربي الإسلامي نحو البحث عن الأسس الأولية للعالم المادي.
وارتبطت موسوعية العلم العربي من جانب بـ \" استيعاب المعرفة الموروثة عن البلدان الأخرى \" والذي كفل للعلم العربي تفوقاً معيناً على علوم العصور القديمة.
ومن جانب آخر لم يقيد المبدعون في دولة الخلافة العربية مجال نشاطهم في ميدان واحد من ميادين المعرفة، فقد كانوا جميعاً مساهمين في مختلف فروع العلوم الطبيعي والفلسفة وإذ فضل الفارابي الفلسفة فقد انغمر في دراسة الكثير من المسائل الخاصة والتطبيقية.
يتميز أسلوب أبي النصر الفارابي في التفكير:-
1. بالإيغال في العقلانية.
2. أن الانتظام والاتساق المنهجي لهو الملمح الساطع في أسلوب إبداع الفارابي.
3. ثم أن توجهاته المنهجية تجد تطبيقها العلمي عند بحثه لدائرة عريضة من الموضوعات مثل الشعر والفن والفيزياء والرياضيات وعلم الموسيقى والفلك والطب والأخلاق.
4. ومن وجهة نظر المنهجية يتعامل الفارابي مع الفرق في مستويات استيعاب العالم بين الفلسفة والدين.
5. نلاحظ أن الفارابي كان أحياناً مثالياً في منطلقاته الفلسفية لكن هناك فرقاً بين مثالية وأخرى فقد جرت عملية التصدي للغيبيات على يدي بعض أشكال المثالية أيضاً بيد أن للفارابي ميلاً نحو المادية أو تردد بين المثالية والمادية عند حل عدد كبير من القضايا وأيضاً هناك أحياناً له بعض الخروج عن المبادئ والفلسفة الإسلامية.
لكن هذا كله ليتفرد بفلسفته عمن سبقوه.
6. مهدت فكرة العقل، كأساس لنظيرة المعرفة لدى الفارابي بطرح القضايا المعرفية في الفلسفة المشائية الشرقية، فإذا كان الكندي قد اعترف بأولوية الإلهام الرباني، فإن أولوية المعرفة العقلية، عند الفارابي، أمر لا شك فيه، زد على ذلك أنه يضع المعرفة الحسية مقدمة لها، أدنى منها درجة ولكنها ضرورية لها. من هنا يتضح الدور التقدمي الذي لعبه الفارابي في تطور نظرية المعرفة في الشرق العربي.
مؤلفات الفارابي:
كانت حياته الفكرية حياة خصبة، وقد بلغت مؤلفاته من الكثرة ما جعل بعض المستشرقين يخصص لحصرها مجلدا ضخما، ولكن أغلب هذه المؤلفات قد ضاع ولم يبق منها غير أربعين مؤلفا وهي موزعة على عدة فنون وهي: المنطق والخطابة والشعر ونظرية المعرفة وما بعد الطبيعة والفلسفة العامة والفيزياء وعلم الطبيعة والموسيقى والأخلاق والفلسفة السياسية.
ومن أشهر مؤلفاته:
1. كتاب الجمع بين رأي الحكيمين (أفلاطون وأرسطو).
2. كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة.
3. كتاب الموسيقى الكبير.
4. رسالة في إحصاء العلوم.
5. رسالة في قوانين صناعة الشعر والخطابة.
إسهامات الفارابي في الفكر الاجتماعي:
آراء أهل المدينة الفاضلة :
يعتبر كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي من أكثر كتبه التي نالت الحظ الكبير من البحث والدراسة ، وقد نشره المستشرق / فريدريخ ديتريش في مدينة ليدن الهولندية ، سنة 1895 م ، ثم نشره الأستاذ / ألبير نصري نادر ، في تحقيق جيد ، مع مقدمة مفيدة ، وكان صدوره في بيروت ، سنة 1959 م ، في 162 صفحة ، ثم أعيد طبعه أكثر من مرة ، كان آخرها ـ حسب معلوماتي ـ في بيروت عن دار المشرق ، سنة 1972 م.
ويمثل هذا الكتاب كثيراً من جوانب فلسفة الفارابي النظرية / المثالية ، من حيث ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع الكامل من الناحية الفكرية ، أي من ناحية جملة الآراء التي يجب أن يعلمها ويتعلمها أعضاء المجتمع الفاضل .
ومن الناحية العملية ، أي ناحية شروط الحياة الفاضلة الكاملة ، وعليه ينقسم كتاب الفارابي إلى قسمين:
القسم الأول : القسم الفلسفي : وهو عبارة عن جملة نظرة الفارابي للوجود ، ويشمل الكلام في الموجود الأول ، وهو الله عز وجل ، وفي وحدانيته ، وفي صفاته ، وفي كيفية صدور الموجودات عنه ، وذلك بحسب مراتبها ، وفي أجسام العالم ، وفي النفس الإنسانية ، وقواها ، ونظريته في الوحي ، هذا مع بيان موقف الإنسان بين مراتب الموجودات.
القسم الثاني : القسم السياسي : وهو يتضمن نظرية الفارابي في المجتمع ، ورياسته ، وصفات العضو الرئيس فيه ، وتصوره للمجتمعات غير الكاملة وصفاتها.
وهنا نجد نظريات طريفة شبيهة إلى حد كبير بالنظريات الحديثة فيما يتعلق بطبيعة تكوين المجتمع ، وبنشأة المجتمعات ، مثل : نظرية العقد الاجتماعي ، وفلسفة القوة ، ونشأة الأخلاق ، وأهمية ودور الدين والتدين .
وبالطبع هذه الجوانب تهم بشكل أو بآخر الباحث الاجتماعي الذي يريد أن يدرس فكر الفارابي من الزاوية الاجتماعية ، ونحب أن نقول هنا : إن الفارابي سبق الكثيرين من المفكرين الغربيين في الموضوعات والجوانب والنظريات التي ذهب إليها ، وقام ببحثها ، ولعل هذا أيضاً مما استلفت نظر الباحثين الأوربيين ، ويستحق أكثر من دراسة علمية جديدة تبرز دور الفارابي ، وتعطيه حقه ومكانته ، كرائد اجتماعي سبق عصره .
نعود لنقول : إن كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) يشبه كتاب (السياسات المدنية) للفارابي أيضاً ، من حيث الموضوع والتقسيم.
من أجل مجتمع فاضل :
نؤكد هنا على أن الفارابي واحد من المفكرين المسلمين الذين برعوا في دراسة الموضوعات السياسية والاجتماعية والفلسفية ، بأسلوب يختط في بحثه المنهج العلمي إلى حد كبير ، ولعل ذلك نراه جلياً في كتابه : (السياسات المدنية) ، وكذلك كتابه : (آراء أهل المدينة الفاضلة).
والكتاب الأخير من أشهر مؤلفات الفارابي في الفلسفة والاجتماع ، وكان على غرار كتاب : (جمهورية أفلاطون) الذي ظهر في اليونان ، عندما كانت الحضارة اليونانية في أوج عظمتها وعزتها .
وهدف الفارابي من تأليف كتاب (أهل المدينة الفاضلة) وهو تكوين مجتمع فاضل ، وجمهورية مثالية ، شبيهة بجمهورية أفلاطون .
وكتاب (أهل المدينة الفاضلة) يعتمد على أفكاره الفلسفية ، كما اعتمد أفلاطون على تعاليمه الفلسفية عند كتابته لكتابه (الجمهورية).
لقد اعتمد أبو نصر الفارابي في القسم الأول من كتابه على مبادئ الدين الإسلامي، فتكلم عن أجزاء النفس الإنسانية ، أو أجزاء الروح ووظائفها ، كما تناول قضايا تتعلق بالإرادة والاختيار ، وهو الجزء أو القسم الفلسفي الذي اهتم فيه بالأسس الفلسفية التي تستند عليها المدينة الفاضلة ، والذي استهله بالكلام عن صفات المولى عز وجل ، وأهميته في خلق الموجودات والكائنات .
أما القسم الثاني فقد أوضح فيه المبادئ أو الأسس التي تقوم عليها المدينة الفاضلة ، وواضح أن الرجل قد تأثر بآراء أفلاطون وأرسطو .
ولكن الذي يهمنا في هذه السطور هو : أن أهم المسائل الاجتماعية والسياسية التي عالجها الفارابي في كتابه هي مسألة : تحليل حقيقة الاجتماع الإنساني ، أي : كيفية نشوء ، وظهور المجتمع ، وتقسيم المجتمعات البشرية ، وأسس المدينة الفاضلة ، وصفات قائدها .. إلى آخره .
حقيقة الاجتماع الإنساني :
لقد بدأ الفارابي أبحاثه الاجتماعية بتحليل حقيقة الاجتماع الإنساني ، والدوافع الأساسية في قيامه ، ولا ريب في أنه رجع في هذا الصدد إلى أرسطو ، عندما قال بأن الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه ، أي أنه : يحتاج إلى أشياء كثيرة لا يستطيع أن يحصل عليها ، أو يحصلها بمفرده ، فهو لا بد له من التعاون مع الآخرين من أعضاء جنسه البشري ، من أجل أن يبلغ الكمال .
والكمال الذي يقصده الفارابي هو السعادة ، والسعادة لا يتم للإنسان تحقيقها في نفسه إلا عن طريق التعاون المادي ، ومعه ـ وهذا هو الأهم ـ التعاون الروحي أو الفكري ، فالسعادة تتصل بتحقيق الأشياء المادية والروحية في آن واحد .
ورغبة الإنسان في تحقيق السعادة لا يمكن أن تتم إلا إذا استطاع تكوين هيئة أو سلطة سياسية منظمة تتولى القيام بوظائف عديدة للأفراد (نيابة عن الأفراد) ، ومثل هذه الوظائف ينبغي أن تجلب السعادة للمجتمع ، وتحقق أماني وطموحات الأفراد .
والسعادة عندما تنتشر في المجتمع ، وانتشارها يعتمد على مبادئ العدالة والمساواة ، فإن المدينة الفاضلة التي تكلم عنها الفارابي سوف تظهر للعيان .
هذا ، وقد ذكر الفارابي وهو يشرح بإسهاب ، طبيعة المدينة الفاضلة ، ذكر أنها المدينة التي يتعاون أفرادها واحدهم مع الآخر ، بغرض نيل السعادة ، ويتخصص كل واحد منهم في أداء عمل معي.
وظائف المدينة:
وأهم وظائف المدينة وأكبرها خطراً وظيفة الرئاسة ، ذلك أن الرئيس هو منبع السلطة العليا ، والمثل الأعلى الذي تتحقق في شخصيته جميع معاني الكمال ، وهو مصدر حياة المدينة ، ودعامة نظامها .
ومنزلة الرئيس (حاكم المدينة) بالنسبة للأفراد كمنزلة القلب بالنسبة لسائر أنحاء الجسم . وعليه فإنه لا يصلح للرياسة ـ حسب اعتقاد الفارابي ـ إلا من زود بصفات وراثية ، ومكتسبة ، يتمثل فيها أقصى ما يمكن أن يصل إليه الكمال في الجسم والعقل والعلم والخلق والدين.
ويشير إلى أن رئيس المدينة الفاضلة يجب أن يتصف بالمزايا التالية : ـ
1 ـ أن يكون الرئيس تام الأعضاء ، وسليم الحواس .
2 ـ أن يكون جيد الفهم .
3 ـ أن يكون جيد التصور لكل ما يقال أمامه .
4 ـ أن يكون ذكياً .
5 ـ أن يكون حسن العبارة ، وقوي اللسان .
6 ـ أن يكون محباً للعلم وللعلماء .
7 ـ أن يكون محباً للعدل ، كارهاً للظلم .
8 ـ أن يكون كبير النفس ، محباً للكرامة .
9 ـ يجب أن لا يهتم بجمع المال .
10 ـ أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل .
11 ـ أن يكون جسوراً ، مقداماً غير خائف .
12 ـ ألا يكون ضعيف النفس .
13 ـ أن يكون حكيماً ، وعالماً ، وحافظاً للشرائع ، والسنن ، والسير .
عندما تكون المدينة غير فاضلة !! :
كان هذا ما يتعلق بصفات وطبائع المدينة الفاضلة ، وماهية الصفات التي ينبغي أن تتوافر عند قائدها أو حاكمها ، أما المدينة غير الفاضلة فتكون على أشكال مختلفة ، كما ذهب أبو نصر الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة ، وهذه الأشكال أو الأنواع أو الأنماط هي كالأتي : ـ
أ ـ المدينة الجاهلة : وهي المدينة التي ينغمس أفرادها في الترف ، وفي الملذات البدنية ، وأهلها يقتصرون على الضروري من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، والمسكون ، ولا يفكرون إلا في التعاون على نيل ذلك .
ب ـ المدينة الضالة : وهي المدينة التي يضل أهلها بالدين ، ويذهبون بصدد تفسير العقائد ، والطقوس تفسيراً ضالاً فاسداً ، غير مستقيم ، ويكون رئيس المدينة ضالاً ، ويظن أنه يوحى إليه ، فيخادع ، ويموه بأقواله وأفعاله .
ج ـ المدينة الفاسقة : وهي التي يعرف أهلها آراء واتجاهات المدينة الفاضلة ، ولكنهم يعملون ضدها ، كما أنها المدينة التي أصابها زيغ وانحراف ، حيث يعلم أهلها ما يعمله أهل المدينة الفاضلة من أسباب السعادة ، ويعتقدون ذلك كله ، ولكن أفعالهم تكون مثل أفعال أهل المدينة الجاهلة ، فهم يقولون بما يقول به أهل المدينة الفاضلة من غير أن يعملوا به .
د ـ مدينة الإباحية : وهي المدينة التي ليس فيها ضوابط اجتماعية وأخلاقية ، تستطيع السيطرة على سلوك أفرادها ، من أجل حياة أفضل لهم .
وختاماً
ندعو الكتاب والباحثين إلى ضرورة الرجوع إلى التراث الاجتماعي الإسلامي العربي الذي يجسد أفكار الرواد الأوائل ، والاعتماد عليه في تفسير حقيقة الواقع الاجتماعي ، بعد الأخذ بعين الاعتبار المستجدات والتغيرات التي طرأت على علم الاجتماع في ضوء المساهمات الحديثة لعلماء الاجتماع في زماننا الراهن.
كما ينبغي أن يكون التراث الاجتماعي الإسلامي العربي هو الإطار المرجعي الأساسي للملامح الحديثة التي يتسم بها علم الاجتماع الإسلامي العربي .
إن علم الاجتماع الإسلامي العربي يجب أن نحدد خصوصياته وهويته القومية والحضارية التي تميزه عن علم الاجتماع البرجوازي ، أو علم الاجتماع الماركسي ، أو علم الاجتماع الغربي ، وغيره من مدارس علم الاجتماع ، وهذا هو دور كل المثقفين دون استثناء
نهاية جليلة:
مضت حياة الفارابي يسودها الزهد والتقشف والانكباب على الدراسة والإنتاج حتى توفي في دمشق سنة 950 هجرية، واختلف المؤرخون في تاريخ ولادته وفي نسبه وفي تاريخ سفره إلى بغداد، واختلفوا أيضا في وفاته.
المصدر: http://www.alresalah.net/morenews.htm?id=444_0_2_0