ندوات تلفزيونية - قناة اقرأ - موسوعة الأخلاق الإسلامية - الدرس (28-28 ) : الشهوة
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-02-28
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
الأستاذ أحمد :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أخواني المشاهدين يسرني أن ألتقي بكم في حلقة جديدة من حلقات:"لموسوعة الأخلاق الإسلامية"، مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين في دمشق، أهلاً ومرحباً بكم دكتور .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ أحمد جزاك الله خيراً .
الأستاذ أحمد :
سيدي الكريم في حلقة سابقة كنا قد تحدثنا عن مقوم من مقومات التكليف، ألا وهو مقوم الفطرة، وحبذا أن نعرج على مقوم آخر، ألا وهو مقوم الشهوة، وأول ما يستوقفنا في استعراضنا اليوم قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾
[ سورة النور الآية : 19 ]
فهل هناك أناس يعملون لإشاعة الفاحشة ونشرها ويخالفون فطرتهم التي فطرهم الله عز وجل عليها؟
الشهوات ليست سبب هلاك الإنسان بل سبب تقربه من الله عز وجل :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أستاذ أحمد قبل أن نجيب عن هذا السؤال لا بد من مقدمة، الله عز وجل في قرآنه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقول:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[ سورة آل عمران الآية : 14 ]
أي أن الله أودع في الإنسان الشهوات، الشهوة ميل الإنسان، يميل إلى الطعام والشراب لأن الله خلق فيه الحاجة إلى الطعام والشراب، الإنسان يميل إلى المرأة لأن الله عز وجل خلق فيه الحاجة إلى الجنس، الإنسان يميل إلى أن يؤكد ذاته إلى العلو في الأرض لأن الإنسان يحتاج إلى أن يكون شخصاً مهماً في الحياة، فهناك شهوات أودعها الله في الإنسان، والحقيقة أن هذه الشهوات قد يتوهم بعض الناس أنها سبب الهلاك، والحقيقة عكس ذلك، أقول كلمة أستاذ أحمد: لولا الشهوات التي أودعها الله فينا ما ارتقى الإنسان إلى رب الأرض والسماوات، أي الله عز وجل الذات الكاملة، خالق السماوات والأرض، رب العالمين، الرحمن الرحيم، كل الخير في الإقبال عليه، كل السعادة في التوجه إليه، كل الطمأنينة في الاحتماء به، ولكن كيف نصل إليه؟ كيف نَتَقرب إليه؟ كيف نحث الخطا إلى بابه الكريم؟ لا بد من ثمن، ما هو الثمن؟ حينما نضبط شهواتنا، لولا الشهوات التي أودعها الله فينا ما ارتقى الإنسان إلى رب الأرض والسماوات، هذه حقيقة أولى ليست الشهوات سبب هلاكنا بل الشهوات سبب عروجنا إلى الله، لا بدّ من أن أتقرب إلى الله، هناك شخص بيده كل شيء ـ ملك ـ ما السبيل إليه؟ لا بدّ من طريق سالكة إليه، لا بدّ من وسيلة أصل إليه، لا بدّ من خطة أنتهجها فأكون على بابه، الله عز وجل هو الذات الكاملة، هو خالق السماوات والأرض، الرحمن الرحيم، كيف أسعد به؟ كيف أتقرب منه؟ كيف ألوذ به؟ لا بد من وسائل، أحد أكبر الوسائل أن الله أودع فينا الشهوات كي نرقى بها تارة صابرين، وتارة شاكرين، إلى رب الأرض والسماوات.
الإنسان حينما يأخذ الجانب المسموح به يحقق الشهوة ويرقى إلى الله :
بشكل أو بآخر أودع الله فينا شهوة ولتكن شهوة المال، بإمكانك أن تأخذ المال بألف طريق وطريق، تأخذ المال ـ لا سمح الله ـ سرقة، واحتيالاً، وسلباً، ونهباً، وغشاً، وكذباً، وقهراً، أو بالكسب المشروع، فأنت مخير أن تمارس هذه الشهوة مئة وثمانين درجة، جاء الشرع الحكيم أعطاك حيزاً محدوداً، سمح لك بالكسب المشروع، وحرم عليك السرقة، والغش، والاحتكار، والكذب، والتدليس، والنهب، والسلب وما إلى ذلك.
أولاً: ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، أي في الإسلام حرمان؟ الطرف الآخر يتوهم أن الإنسان إذا تدين أصبح محروماً، أقول بالدقة التامة: ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، فالإنسان حينما يأخذ الجانب المسموح به يحقق هذه الشهوة، ويرقى إلى الله، فإذا أخذ الجانب الممنوع يدمر نفسه ومن حوله، تماماً كالوقود السائل في المركبة إن وضع في المستودع المحكم، وسال في الأنابيب المحكمة، وانفجر في الوقت المناسب، ولّد حركة نافعة ، أقلتك أنت وأهلك إلى مكان جميل، فالبنزين الذي في المركبة حيادي، يمكن إذا صبّ هذا الوقود على المركبة ، وأصابته شرارة، أحرق المركبة ومن فيها، ويمكن إذا وضع في المستودع المحكم، وسار في الأنابيب المحكمة، ولّد حركة نافعة.
الشهوات حيادية :
إذاً الحقيقة الأولى في هذا اللقاء الطيب أن الشهوات حيادية، يمكن أن تكون سلماً نرقى بها، أو دركات نهوي بها، حيادية، الشهوة حيادية لذلك الله عز وجل قال:
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾
[ سورة الفجر ]
جاء الجواب مع الردع :
﴿ كَلَّا ﴾
[ سورة الفجر ]
أي يا عبادي ليس عطائي إكراماً في الدنيا، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء وحرماني دواء، هل يعد المال نعمة؟ الجواب: هو نعمة ونقمة، هو نعمة إذا أنفق وفق منهج الله، ونقمة إذا أنفق لإفساد البشر، الشهوات حيادية يمكن أن تكون سلماً نرقى بها، أو دركات نهوي بها، الشهوة حيادية السبب لأن الإنسان بالأصل مخير، كل شيء في حياته حيادي، خصائصه حيادية، حظوظه، آتاه الله ذكاءً، علماً، طلاقة لسان، قوة إقناع، كل حظوظه حيادية، وكل شهواته حيادية، وكل خصائصه حيادية.
الأستاذ أحمد :
بما أن هذه الشهوة التي تحدثت عنها فضيلتك حيادية، إذاً ليس صحيحاً ما كان يظنه كثيراً من الناس من أن الشهوة هي سبب شقاء الإنسان، تجد كثيراً من الذين يهوون في المعاصي يقولون: إن الشيطان هو السبب، أو إن المعصية الفلانية هي السبب، أو إن إغراء النساء هو السبب، إذاً الشهوة حيادية إما أن يرتقي الإنسان بها، أو يهوي بها.
الشهوة حيادية إما أن يرتقي الإنسان بها أو يهوي بها :
الدكتور راتب :
لا بد من تعليق:
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ﴾
[ سورة إبراهيم الآية : 22 ]
الشهوة حيادية ، يمكن أن تكون سلماً ترقى بها إلى أعلى عليين، والشهوة نفسها يمكن أن تكون دركات تهوي بها إلى أسفل سافلين، فالمال ليس نعمة وليس نقمة، هو نعمة إذا كان في الخير، ونقمة إذا كان في الشر.
الأستاذ أحمد :
سيدي إذا كان الأمر كذلك لماذا يقول الله عز وجل:
﴿زين للناس حب الشهوات﴾
الشهوة موجودة لماذا تزين؟ هذه زيادة على الحيادية، كأن الصورة هكذا.
الأشياء الأساسية الموجودة بالإنسان ليحافظ على بقائه :
الدكتور راتب :
الإنسان لماذا يأكل؟ ليعيش، هل تتصور أن يصدر قانون في بعض الدول يلزم المواطن بتناول الطعام؟ مستحيل، لأن الحاجة إلى الطعام فطرية مودعة في أصل كيان الإنسان، فالإنسان يأكل ليحافظ على وجوده، لماذا يتزوج؟ ليحافظ على نوعه، لماذا يحب تأكيد ذاته؟ ليحافظ على بقاء ذكره، هذه أشياء أساسية؛ يأكل ليحافظ على وجوده، يتزوج دون أن يشعر ليحافظ على نوعه، يؤكد ذاته ليحافظ على ذكره.
الأستاذ أحمد :
سيدي هذا السؤال يستدعي سؤالاً آخر لو أن الحياة الدنيا لم يكن فيها شهوات، على سبيل المثال الإنسان خلق بشهوة وأمر بأن يوجه هذه الشهوة، لكن الملائكة أساس خلقتها وفطرتها أنها لا تعصي الله ما أمرها، ولذلك كان للإنسان تميزاً على الملائكة، فهل الحياة يمكن أن تستقيم أو أن تكون مقبولة أو يكون الإنسان مساوياً للملائكة؟
من اتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه :
الدكتور راتب :
هل تتصور حياةً بلا شهوات؟ لا ترى شيئاً، لا ترى بيتاً، ولا ترى بناءً، ولا ترى مدرسة، ولا مستشفى، ولا اختراعاً، ولا جسراً، لا ترى شيئاً، لماذا أتحرك؟ لا أشتهي شيئاً، هذه الطاولة هل يمكن أن تبدع؟ لا تحتاج إلى شيء لو أبقيتها آلاف السنين تبقى على ما هي عليه، الإنسان يحتاج أن يأكل إذاً يعمل، إذاً يتقن عملاً، إذاً يبني بيتاً، إذاً يخترع، إذاً يطلب العلم، ما من شهوة إلا هي سبب لبناء الأمة، لولا الشهوات لما رأيت شيئاً، النقطة الدقيقة في قوله تعالى:
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
[ سورة القصص الآية : 50 ]
أنا قلت قبل قليل: الشهوة حيادية، المعنى المخالف أنه من اتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه، وأنت في أعلى درجات القرب من الله تتزوج، وتلتقي مع زوجتك، وتأكل، وتشرب، الشيء الذي يحجب عن الله أن تمارس الشهوة بخلاف منهج الله، الشهوة يمكن أن تمارسها بمستوى مئة وثمانين درجة، بينما منهج الله سمح لك بمئة درجة، فهناك منطقة مسموح بها، وهناك منطقة عندها خط أحمر، من هو المؤمن؟ الذي أوقع حركته في الحياة ضمن المنطقة المسوح بها، ضمن الحيز المشروع، لذلك هو يأكل، ويشرب، ويدرس، ويؤسس عملاً، ويحمل دكتوراه، ويأخذ أهله نزهة، ويأكل أطيب الطعام، وهو في أعلى درجات القرب من الله عز وجل، لأن الشهوات التي أودعها فينا حيادية، فيها جانب خير جانب مسموح به.
من خرج عن منهج الله عز وجل لابدّ من أن يعتدي على الآخرين :
بالمناسبة لو تعمقنا قليلاً؛ الإنسان حينما يخرج عن منهج الله في ممارسة الشهوات لا بد من أن يعتدي على الآخرين، أي أنت حينما تكسب المال المشروع، أنت مرتاح مع الله، أما حينما تخرج عن منهج الله، سوف تأخذ ما ليس لك، سوف تبني مجدك على أنقاض الآخرين، سوف تبني غناك على إفقارهم، سوف تبني عزك على ذلهم، لمجرد أن تخرج عن منهج الله لا بد من أن تعتدي على الآخرين:
﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾
[ سورة المؤمنون الآية :74]
الشهوات حيادية.
الأستاذ أحمد :
لذلك قال الله عز وجل:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
[ سورة النازعات ]
ثمن الجنة هو التناقض بين الطبع والتكليف :
الدكتور راتب :
هنا الكلام يحتاج إلى شرح، كيف؟ الإنسان جسمه يحتاج إلى النوم، التكليف أن يستيقظ ليصلي الفجر، التكليف يناقض الطبع، طبعه يميل إلى النوم، بينما التكليف يدعوه إلى الاستيقاظ، تناقض، الآن الجسم يحتاج إلى المال لأنه مادة الشهوات، التكليف أن ينفق المال، الجسم يميل على أن يملأ الإنسان عينيه من محاسن النساء، والتكليف أن يغض البصر، الآن من هذا التناقض بين الطبع والتكليف يكون ثمن الجنة، ويؤكد هذا الآية الكريمة:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
[ سورة النازعات ]
الجنة هي ثمرةُ دفعِ الثمن وهو مخالفة الهوى، إذاً الشهوات نرقى بها مرتين، نرقى بها شاكرين و نرقى بها صابرين، كالمنشار تماماً، أنت حينما تتعفف عن مال لا يحل لك ترقى إلى الله صابراً، حينما تتعفف عن امرأة دعتك إلى شيء لا يرضي الله ترقى إلى الله صابراً، وحينما تتزوج ترقى إلى الله شاكراً، حينما تأخذ المال الحلال ترقى إلى الله شاكراً، فالإنسان يرقى بالشهوات مرتين، يرقى إذا ترك الجانب المحرم منها، ويرقى إذا أخذ الجانب الحلال، هي حيادية ترقى بها إلى أعلى عليين، أو يهوي بها الإنسان إلى أسفل سافلين.
ثانياً: ترقى بها مرتين؛ إن أخذت ما هو مشروع ترقى، وإن عففت عما هو غير مشروع ترقى، الرقي مرتان.
الأستاذ أحمد :
دكتور إذا عدنا إلى قوله تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[ سورة آل عمران الآية : 14 ]
هل هذه هي الشهوات فقط أم أن هناك شهوات أخرى؟ هل هناك شهوات كبرى وشهوات صغرى؟
اللذة و السعادة :
الدكتور راتب :
كلمة متعة تعني لذة طارئة، ليس لها أثر مستقبلي، مثلاً لو إنسان كان مغرماً أن يجلس في حوض ماء ساخن، لو جلس متى يكون طبيباً؟ لو أمضى وقتاً مديداً في حوض فيه ماء فاتر يرتاح له هل يكون تاجراً كبيراً؟ المتعة لذة آنية ليس لها أثر مستقبلي، أما حينما تدرس تكون طبيباً، حينما تفكر في إنجاز عمل علمي تكون عالماً، لذلك الشهوات تقابلها المتع:
﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
المتعة لذة آنية وهذا يقودنا إلى شيء آخر، إلى المتعة والسعادة، المتعة حسية طبيعتها حسية، المتعة تناول طعام طيب، أو الاقتران بامرأة بارعة الجمال، أو أن تنظر إلى منظر جميل، أو أن تقتني مركبة فارهة، المتع كلها حسية، تأتيك من الخارج، بينما السعادة نفسية تنبع من الداخل، المتع تحتاج إلى أموال طائلة، المال مادة الشهوات، ولحكمة بالغة بالغة جعل الله اللذة حسية، وتحتاج إلى أموال، وتحتاج إلى وقت، وتحتاج إلى صحة، والشيء المؤلم أن أحد هذه العناصر دائماً مفقود، ففي بداية الحياة الوقت موجود، الصحة طيبة لكن ليس هناك مال، في منتصف الحياة المال موجود والصحة موجودة لكن لا يوجد وقت، في خريف العمر الوقت موجود والمال موجود لكن لا يوجد صحة.
الأستاذ أحمد :
هذه من حكم الله عز وجل.
الدكتور راتب :
هذه اللذائذ، بينما السعادة لمجرد أن تعمل عملاً صالحاً:
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾
[ سورة الكهف الآية : 110]
لمجرد أن تعمل عملاً صالحاً تتصل بالله، والاتصال بالله هو السعادة.
من جاءت حركته موافقة لهدفه سلم و سعد في الدنيا و الآخرة :
لذلك الإنسان متى يسعد؟ إذا جاءت حركته موافقة لهدفه، التاجر متى يشعر بالسرور؟ بالبيع الشديد، أما إذا لم يكن هناك بيع، جالس بالمكتب، ومرتاح، وصحف، ومجلات، وقهوة، وشاي، لكن يتألم أشد الألم، الإنسان يسعد حينما تأتي حركته مطابقة لهدفه، فكلمة:
﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
أن هذه المتع ليس لها أثر مستقبلي، أنت جالس بحوض ماء ساخن في الحمام، هذا العمل لعله يريح أعصابك لكن ليس له أثر مستقبلي، أما إذا جلست على طاولة، والكتاب أمامك، وقرأت بحثاً وفهمته، والكتاب مقرر، هذا الكتاب ساهم بنيل شهادة، العبرة أن هناك أعمالاً ليس لها أثر مستقبلي، لذلك يقولون في قوله تعالى:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
[ سورة العصر الآيات : 1-2 ]
لماذا يخسر؟ لأن مضي الزمن يستهلكه.
الوقت إما أن ينفق استهلاكاً أو استثماراً :
الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، هذا الزمن إما أن ينفق استهلاكاً في أعمال ليس لها أثر مستقبلي، أو أن ينفق استثماراً، ينفق استهلاكاً كما يفعل معظم الناس يأكلون، ويشربون، ويتمتعون، ويفاجؤون بالموت، وعندئذ ليس معهم عمل صالح، بينما الوقت إذا أنفق استثماراً قال تعالى:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
[ سورة العصر ]
إذا بحثت عن الحقيقة، وتحركت وفقها، ودعوت إليها، وصبرت عن البحث عنها، والعمل بها، والدعوة إليها، أنت لم تستهلك الوقت بل استثمرته، فهذا الإنسان ناج من الخسارة، إذاً :
﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
تعني أن المتع ليس لها أثر مستقبلي، بينما الإيمان بالله، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على هذه المتاعب، لها أثر مستقبلي، وما من إنسان تألق في حياة الناس إلا بسبب جهد كبير بذله بوقت ما.
الأستاذ أحمد :
سيدي هذا يذكرنا بخبر أخبرتنا به السنة النبوية:
(( جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ، فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟! أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))
[ البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
هذا الحديث يجعلنا نتساءل لو أن إنساناً اعتزل، ونأى بشعب، أو ببيته، وترك الناس، هل من الممكن أن يكون من المفلحين؟
الإسلام دين الحياة ليس فيه رهبانية :
الدكتور راتب :
أنا قلت في وقت سبق من هذا اللقاء: أن الشهوات حيادية، وأنها قوة إيجابية، وقلت قوله تعالى:
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
[ سورة القصص الآية : 50 ]
المعنى المخالف أنه من اتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليك، وذكرت في مطلع هذا اللقاء الطيب أن الإسلام دين الفطرة، أي أنت مخلوق في الدنيا من أجل العمل الصالح، فلو اعتزلت الناس أين العمل الصالح؟ لو لم تتزوج، أبواب العمل الصالح في رعاية الزوجة، وتربية الأولاد، وإنجاب عناصر نافعة للمجتمع ـ الولد الصالح صدقة جارية يدعو لك من بعدك ـ كل هذه الأعمال توقفت، أنت إن لم تطلب العلم لا تكون عالماً، إن لم تطلب المال لا تكون غنياً، الذي معه المال، أو العلم، أو القوة، فرص العمل الصالح أمامه لا تعد ولا تحصى، لذلك ليس في الإسلام رهبانية، الإسلام دين الحياة، كنت أقول دائماً: نحن في أمس الحاجة إلى إنسان يعيش في سبيل الله، كما أننا نصغر أمام إنسان مات في سبيل الله، إننا في الوقت نفسه في أمس الحاجة إلى إنسان يعيش في سبيل الله، فحينما تتزوج تحل مشكلة امرأة، تنجب ولداً صالحاً يدعو لك من بعدك، يسهم في بناء أمته، حينما تتاجر معك المال تطعم الفقراء والمساكين، حينما تتسلم منصباً رفيعاً تحق الحق وتبطل الباطل، أي أنت مخلوق في الدنيا للعمل الصالح، فإن انسحبت من الحياة، واعتزلت كل شيء، توقف عملك، ليس هذا من السنة، فلذلك نحن نقول، ليس الفقير الصابر بأعظم أجراً من الغني الشاكر، وفرص العمل الصالح لا تعد ولا تحصى إذا كانت وفق منهج الله عز وجل، وبسبب الإقبال على الدنيا بمنظومة قرآنية.
خاتمة و توديع :
الأستاذ أحمد :
ونختم حلقتنا بقول الشاعر:
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
***
في ختام هذه الحلقة لا يسعنا أيها الأخوة المشاهدون إلا أن نشكر فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، نستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله رب العالمين
http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=3052&id=189&sid=799&ssid=808&sssid=839