ندوات تلفزيونية - قناة انفينيتي - مكارم الأخلاق - الدرس ( 28-30 ) : التأمل
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-03-29
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
الأستاذ عدنان :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أيها الأخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأرحب بكم في حلقة جديدة في برنامج مكارم الأخلاق ، وباسمكم أرحب بفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً ومرحباً بكم دكتور .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً .
الأستاذ عدنان :
المناظر الخلابة يتأمل ويسبح ربه ومن الناس من يأخذ الأمر على عجل ، لكن الذي يتأمل يجد في نفسه حاجة هامة يمكن أن يتابعها ليوحد الله ربه ، ترى التأمل في هذه الحالة كيف يكون تعريفاً لنصل من بعد ذلك إلى آفاق جديدة في التأمل ؟
من تفكر في خلق السماوات والأرض عرف الله :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ عدنان بادئ ذي بدء كتاب الله بين أيدينا إذا قرأنا في القرآن آية أمر ماذا يقتضي منا ؟ أن نأتمر ، و إذا قرأنا في القرآن آية نهي ماذا تقتضي منا ؟ أن ننتهي ، إذا قرأنا في القرآن قصة أمة سابقة ينبغي أن نتعظ ، إذا قرأنا في القرآن مشاهد يوم القيامة وصفاً لأهل الجنة ينبغي أن نطلب الجنة ، إذا قرأنا مشهداً من مشاهد يوم القيامة في النار ينبغي أن نتقي النار ، إذاً ما من آية في القرآن الكريم إلا ينبغي أن يكون لنا موقف منها ، فإذا كان في القرآن الكريم ألف وثلاثمئة أية تتحدث عن الكون ، هل يعقل أن يندرج في القرآن الكريم آيات كثيرة تقترب من ألف وثلاثمئة دون أن يكون لنا موقف منها ؟ مستحيل فآيات الكون في القرآن الكريم تقتضي التفكر ، آيات الكون في القرآن الكريم رؤوس موضوعات للتفكر ، منهج للتفكر ، لأن الله عز وجل جعل الكون مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى ، لأن الإنسان إذا تفكر في خلق السماوات والأرض عرف الله .
ارتباط التأمل في خلق السماوات و الأرض بمكارم الأخلاق :
مرة ثانية قد يسأل سائل ما علاقة التفكر والتأمل بمكارم الأخلاق ؟ الإنسان حينما يعرف الله يبحث عن منهجه ، منهج الله أخلاقي ، القرآن الكريم أمر بالصدق ، والاستقامة ، والأمانة ، والعفة ، وضبط اللسان ، وأداء الحقوق ، أنت حينما تعرف الله دون أن تشعر تبحث عن طريقة تتقرب به إليها ، وطريقته منهجه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، فكما أن التوحيد مرتبط أشد الارتباط بمكارم الأخلاق ، التأمل في خلق السماوات والأرض مرتبط أشد الارتباط بمكارم الأخلاق .
تعريف التأمل :
التأمل في الحقيقة تدقيق النظر في الكائنات ، بفرض الاتعاظ (التذكر)، أو هو استعمال الفكر والعقل ، طبعاً العقل والفكر أحياناً اسمان لمسمى واحد ، وأحياناً العقل في القلب :
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
( سورة الحج الآية : 179 )
لكن بشكل أو بآخر هذا الجهاز الإدراكي الذي أودعه الله فينا ، هذا الجهاز ينبغي أن نستعمله لما خلق له ، معظم الناس يستخدمون عقولهم لغير ما خلقت لها ، لتحقيق مصالحهم فقط ، للإيقاع بين الناس ، للتآمر على الناس ، أما هذا العقل الذي هو أعظم عطاء على الإطلاق ، ينبغي أن يستخدم لما خلق له ، هو خلق ليتفكر في خلق السماوات والأرض وليزداد معرفة ، وليزداد انضباطاً ، وليزداد إحساناً ، إذاً التفكر هو النظر في ملكوت السماوات والأرض ، بغرض المعرفة والموعظة والانطلاق إلى طاعة الله أو هو استخدام العقل لما خلق له ، تماماً كما لو اقتنيت آلة طبع ملونة هذه الآلة صنعت كي تستخدمها في تصميم الأغلفة ، التقاويم ، البطاقات ، أما حينما تستخدم هذه الآلة الغالية جداً ، الثمينة جداً ، النافعة جداً في تزوير العملة نقول لقد استخدمتها لغير ما صنعت له ، لأوردتك السجن ، والإنسان أحياناً يفكر :
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19﴾
(سورة المدثر)
أحياناً يستخدم عقله لغير ما خلق له .
العقل أعظم عطاء من الله عز وجل ينبغي أن يُستخدم لما خلق له :
مرة ثانية أقول قد يكون هذا العقل في ضلال شديد لأنه لم يستنر بوحي الله عز وجل ، كيف أن العين تحتاج إلى ضوء يتوسط بينها وبين المرئيات كذلك العقل يحتاج إلى وحي الذي عجز عن إدراكه يخبره الوحي به ، إذاً التأمل في خلق السماوات و الأرض هو جزء أساسي من أخلاقيات الإنسان ، ولكن ورد في بعض الأحاديث :
(( أمرني ربي بتسع خشية الله في السر والعلانية ، كلمة العدل في الغضب والرضا ، القصد في الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعني ، وأن أعفو عمن ظلمني ، وأن أعطي من حرمني ، وأن يكون صمتي فكراً ، ونطقي ذكراً ، ونظري عبرة ))
[القرطبي في تفسيره عن أبي هريرة]
موضوع هذا اللقاء في أن يكون صمتي فكراً ، ونطقي ذكراً ، ونظري عبرة .
الأستاذ عدنان :
دكتور أحياناً يمكن أن تكون موضوعات التأمل في الطبيعة ولا تتعداها ، ولكن في بعض الأحيان ينتقل الإنسان وهو الذي استعمل عقله وفطرته السليمة إلى أن يقول يا رب ما أجمل صنيعك ، إذاً ينتقل من شيء إلى شيء من خلال التأمل والتفكر ، بالتالي تختلف أنواع التأملات .
لمعرفة الله عز وجل طرائق ثلاث :
الدكتور راتب :
أستاذ عدنان ، الله عز وجل لا تدركه الأبصار ، يعني مستحيل وألف ألف مستحيل أن ندركه بحواسنا ، ولكن العقول تصل إليه ولا تحيط به ، لذلك الله عز وجل جعل لمعرفته طرائق ثلاث خلقه ، وأفعاله ، وكلامه .
1 – التفكر في مخلوقاته :
الآن أمرنا أن نتفكر في مخلوقاته :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
( سورة آل عمران )
أنا حينما أتفكر في خلق السماوات والأرض أرقى .
البعوضة أهون مخلوق على الله من آياته الدالة على عظمته :
بعوضة وردت في القرآن الكريم ، أنا لا أصدق أن هناك مخلوقاً أهون على الله من بعوضة ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أكد هذا المعنى :
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
[ رواه الترمذي عن سهل بن سعد ]
هذه البعوضة من يصدق أنه بعد اكتشاف المجهر الإلكتروني الذي يكبِّر الشيء مئات ألوف المرات تبين بعد وضعها تحت المجهر أن في رأسها مئة عين ، وفي فمها ثمانية وأربعون سناً ، و لها ثلاثة قلوب ، قلب مركزي وقلب لكل جناح ، وفي كل قلب أذينان وبطينان ودسامان ، جهاز لا تملكه الطائرات جهاز استقبال حراري ، ترى الأشياء لا بأشكالها و لا بألوانها و لا بأحجامها و لكن ترى الأشياء بحرارتها فقط ، طفل نائم حرارته (37)لا ترى غيره في الغرفة في الليل ، حساسية هذا الجهاز واحد على ألف من الدرجة المئوية ، شيء آخر عندها جهاز تحليل دم ما كل دم يناسبها ينام أخوان على سرير واحد يستيقظ الأول وقد ملئ بلسع البعوض والثاني لا شيء فيه ، إذا ً معها جهاز تحليل دم فإذا ناسبها الدم وقعت على صاحب هذا الدم ، لكن لزوجة الدم لا تسمح له أن يمر عبر خرطومها الدقيق معها جهاز تمييع للدم ، تميع الدم ، ولئلا يقتلها الإنسان وهي تلدغه معها جهاز تخدير تخدره أما حينما يحاول قتلها تكون في الجو يكون انتهى مفعول التخدير يتوهمها على يده وهي في الغرفة تضحك عليه .
وعندها أجهزة استقبال حرارية ، و جهاز تحليل دم ، وجهاز تمييع دم ، وجهاز تخدير ، و في خرطومها ست سكاكين ، أربع سكاكين لإحداث جرح مربع وسكينان تلتئمان على شكل أنبوب تمتص به الدم :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
( سورة البقرة الآية : 26 )
للبعوضة محاجم إذا وقفت على سطح أملس ومخالب إذا وقفت على سطح خشن :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
( سورة البقرة الآية : 26 )
الآيات القرآنية في كتاب الله عز وجل رؤوس موضوعات للتفكر :
الآيات القرآنية في كتاب الله عز وجل والتي تزيد عن ألف وثلاثمئة آية هي رؤوس موضوعات للتفكر ، فإذا جعلنا من هذه الموضوعات منهجاً لنا للتفكر عرفنا الله ، وإذا عرفنا الله أطعناه وسعدنا بقربه ، في الدنيا والآخرة .
إذاً النوع الأول من التفكر في خلق الله في السماوات ، في الأرض ، في المجرات ، في الجبال ، في الأنهار ، في الأسماك ، في الأطيار ، في النباتات ، في الحيوان ، في جسم الإنسان ، في حواسه ، في شعره .
شعر الإنسان يقترب من ثلاثمئة ألف شعرة وفي الشَّعر ، جعل لكل شعرة وريداً ، وشرياناً ، وعصباً ، وعضلة ، وغدة صبغية ، وغدة دهنية .
في شبكية العين مئة وثلاثين مليون مخروط وعصية ، أحدث آلة تصوير رقمية احترافية بالميلمتر مربع فيها عشرة آلاف مستقبل ضوئي ، بينما في شبكية العين بالميلمتر منها يوجد مئة مليون مستقبل ضوئي من أجل دقة الرؤية ، لذلك أنت بالعين تفرق بين ثمانية ملايين لون ولو درج أحد الألوان ثمانمئة ألف درجة لفرقت العين بين درجتين .
التأمل أكبر عبادة على الإطلاق :
لذلك التأمل أكبر عبادة على الإطلاق لذلك قال تعالى :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ﴾
( سورة آل عمران )
ورد في بعض الأحاديث : تفكر ساعة خير من قيام ليلة .
ولو تفكرنا في عظمة الله ما عصى أحد ربه ، هذا الباب الأول التأمل في مخلوقاته .
2 – التفكر في أفعاله :
الآن له أفعال ، هناك زلازل ، هناك براكين ، هناك هلاك أمم ، هناك أمطار غزيرة ، هناك شح في المياه في تقنين ، أمرنا الله عز وجل أن ننظر في أفعاله :
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
( سورة الأنعام )
هؤلاء الذين وقفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم افتدوه بأرواحهم ، وأيدوه ، ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، هم في لوحة الشرف ، بينما الذين وقفوا ضده وحاربوه هم في مزبلة التاريخ .
كل إنسان مأمور بالتفكر في خلق السماوات و الأرض و التفكر بأفعال الله تعالى :
لذلك :
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
( سورة الأنعام )
فكما أنني مأمور أن أتفكر في خلق السماوات والأرض أنا مأمور أيضاً أن أتفكر في أفعال الله عز وجل ، ولكن لابد من تَحَفظ ينبغي أن أبدأ بالكون ، أن أبدأ بمخلوقاته وأثني بكلامه كي يعطيني التأمل في خلقه وتدبر كلامه رؤية خاصة لفهم أفعاله ، لأن عدل الله لا يدرك بالعقل وحده إلا بحالة مستحيلة أن يكون لك علم كعلم الله .
التفكر في خلق الله عز وجل يكشف للإنسان العظات و العبر :
الباب الثاني أن أتفكر في خلق السماوات والأرض بل في أفعال الله عز وجل :
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾
( سورة هود)
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
( سورة الأنعام )
من لطائف التفسير أن هناك آيتين الأولى :
﴿ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)﴾
( سورة النحل )
فانظروا بالفاء ، والآية الثانية :
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
( سورة الأنعام )
يوجد ثم ، الفاء تفيد الترتيب على التعقيب ، وثم الترتيب على التراخي ، أحياناً يرتكب الإنسان معصية كبيرة أو جريمة ولا يعاقب عليها في القريب العاجل هذه مغطاة بقوله تعالى :
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
( سورة الأنعام )
أحياناً يحلف الإنسان يميناً غموساً كاذبة ، ما إن ينتهي من حلف اليمين إلا يقع مشلولاً هذه :
﴿ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)﴾
( سورة النحل )
أنا كما أنني مأمور أن أتفكر في خلق السماوات والأرض ، مأمور أن أنظر في أفعال الله وأن أستنبط منها العظات والعبر .
تحقق الوعد والوعيد أحد أسباب الإيمان بالقرآن الكريم :
أستاذ عدنان القرآن الكريم فيه وعد وفيه وعيد ، أحد أسباب الإيمان بالقرآن الكريم تحقق الوعد والوعيد مثلاً :
﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)بِنَصْرِ اللَّهِ (5)﴾
( سورة الروم)
حينما تحقق وعد الله للروم بانتصارهم على الفرس هذا التحقق دليل أن هذا الكلام كلام الله عز وجل ، أحد أكبر أسباب أن هذا القرآن كلام الله تحقق الوعد والوعيد ، الوعد في الخير والوعيد في العقاب .
3 – التفكر في كلامه :
باب آخر من أبواب التأمل هو تدبر القرآن الكريم ، القرآن الكريم وصف الله عباده المؤمنين أنهم يتلونه حق تلاوته ، ومن أدق ما قاله المفسرون في حق تلاوته : أن تقرأه قراءة صحيحة وفق قواعد اللغة العربية ، ثم أن تقرأه قراءة مجودة وفق أحكام التجويد ، ثم أن تفهمه ، ثم أن تتدبره ، ما الفرق بين فهمه وبين تدبره ؟ الفهم أن تفهم المعاني وقال بعض علماء القرآن : تؤخذ ألفاظه من حفاظه وتؤخذ معانيه ممن يعانيه .
تدبر آيات القرآن الكريم لفهم معانيها و تطبيقها :
أما الشيء الذي أريد أن أقوله التدبر أن تسأل نفسك دائماً أين أنت من هذه الآية ؟ هل أنت مطبق لها ؟ هل تشملك ؟ هل تعنيك ؟ حينما يتساءل الإنسان أين أنا من هذه الآية ؟ هذا هو التدبر ، مثلاً :
﴿ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا (102)﴾
( سورة التوبة)
هل أنا منهم ؟
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
( سورة فصلت الآية : 20 )
هل أنا من هؤلاء ؟ آيات كثيرة تصف حالات المؤمنين أنا حينما أتدبر القرآن أسأل نفسي دائماً أين أنا من هذه الآيات ؟
التفكر في خلق السماوات والأرض ، والنظر في أفعال الله ، والتدبر في القرآن الكريم ولكن قراءة صحيحة ، وقراءة مجودة ، وفهم لمعاني الكتاب ، ثم التدبر ، ثم التطبيق ، أنا حينما أطبق أكون قد تلوت القرآن حق تلاوته ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام :
(( ورُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه ))
[ ورد في الأثر]
و :
(( ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ))
[ أخرجه الترمذي عن صهيب ]
هذه بعض أنواع التأمل .
الأستاذ عدنان :
دكتور تعدد هذه الأنواع يعني من طرف آخر تعدد المظاهر في التأمل فما هي المظاهر ؟
مظاهر التأمل :
1 ـ التأمل في الكون يعرفني بالله :
الدكتور راتب :
الحقيقة التأمل أولاً يدفع الناس إلى ربهم ، هي أزمة معرفة ، وإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، أنا حينما أعرف الله لأنني بالأصل أنا مجبول ومفطور على حبّ وجودي ، وعلى حبّ سلامة وجودي ، وعلى حبّ كمال وجودي ، وعلى حبّ استمرار وجودي ، فانا حينما أعرف الحقيقة أتمسك بها ، الأزمة أزمة علم فقط بل إن أهل النار :
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} ﴾
( سورة الملك )
أنا حينما أتأمل وأتعرف إلى الله عز وجل عندئذ أتجه باتجاه تطبيق شرع الله ، هذه واحدة ، إذاً التأمل في الكون يعرفني بالله .
2 ـ التأمل يعرفني بمنهج الله :
التدبر بالقرآن الكريم يعرفني بمنهج الله ، هذه الثانية .
3 ـ التأمل يُمكنني من معرفة الآمر :
الثالثة خير معين على طاعة الله أن أعرف الآمر ، إنني إن عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر ، إذاً خير معين على طاعة الله ، بل إن التأمل قيمة علمية عالية ، الإنسان أودع الله فيه قوة إدراكية وما لم يلبِ الحاجة العليا فيه هبط عن مستوى إنسانيته ، أنا حينما أتفكر في خلق السماوات والأرض أؤكد إنسانيتي ، وأؤكد هذه القدرة الإدراكية التي أودعها الله في .
4 ـ انقلاب الإيمان من إيمان فطري تصديقي إلى إيمان تحقيقي :
شيء آخر ينقلب الإيمان من إيمان فطري تصديقي قد يكون هشاً لا يقاوم ضغطاً أو إغراءً إلى إيمان تحقيقي ، فرق بين الإيمان التصديقي والإيمان التحقيقي ، الإيمان التحقيقي يجعل الإنسان عابداً ، و لعالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد . ثم إن التفكر في خلق السماوات والأرض دليل رجاحة العقل ، طبعاً أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .
التأمل في خلق السماوات والأرض فوائده لا تعد و لا تحصى :
إذاً نحن أمام فوائد لا تعد ولا تحصى من التأمل في خلق السماوات والأرض ، ومرة ثانية هناك ارتباط وشيج ودقيق ومتين بين التفكر في خلق السماوات والأرض وبين مكارم الأخلاق ، أنا حينما أتعرف على الله أتواضع ، حينما أتعرف إلى الله لا أتأل على الله ، لا أستعلي على عباد الله ، لا أسخر الناس لخدمتي ، لا أبتز أموالهم ، أخاف من الله لا أبني مجدي على أنقاض الآخرين ، لا أبني حياتي على موتهم ، لا أبني أمني على خوفهم ، لا أبني عزي على ذلهم ، هذا كله من نتائج الإيمان ولا تصح الحياة إلا بالإيمان ، لا يستقيم البشر إلا بالإيمان ، أما إذا شردوا عن الله عز وجل انظر إلى حياتهم صراعات وحروب ، يعني حماقات البشر حينما يدفعون ثلثي دخلهم لقتل البشر .
الأستاذ عدنان :
دكتور الأشياء الداعية للتأمل موجودة أمام الناس جميعاً ، لماذا فلان يتأمل فيصل إلى الله عز وجل وفلان يتأمل ثم يشرد وكأن شيئاً لم يكن ؟
من اتخذ قراراً بمعرفة الله عز وجل كل شيء في الكون يدله عليه :
الدكتور راتب :
قضية اتخاذ قرار بمعرفة الله ، إن اتخذت هذا القرار في أعماقي كل شيء أمامي يدلني على الله ، وإن لم أتخذ هذا القرار لو كنت في محطة ناسا الفضائية ، لو كنت في مجهر إلكتروني لو وضع تحت يدي حقائق مذهلة في علم الأحياء وفي علم المجرات لا أؤمن لأن الإيمان يحتاج إلى قرار سابق ، تماماً آلة تصوير غالية جداً احترافية ثمنها مليون من دون فيلم لا شيء ، اطلاع على حقائق لكن لا يوجد شيء تنطبع عليه ، إذا في طلب للحقيقة كل هذه الحقائق ترسم على الفيلم عندئذ يرقى الإنسان .
الأستاذ عدنان :
هل توالي التأمل يدعو إن لم يكن يدعُ مبدئياً يدعُ في النهاية إلى أن يكون الإنسان مؤمناً بالله تعالى ؟
دور الدعاة لا أن يجبروا من حولهم على طاعة الله بل يقنعوهم بطاعة الله :
الدكتور راتب :
هذا قاله الإمام الغزالي : أردنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون لله . الإنسان منطقي ويحب ذاته ، فإذا أقنعته أن مصلحته في طاعة الله يطيع الله ، لذلك دور الدعاة الصادقين لا أن يجبروا من حولهم على طاعة الله ، أن يقنعوهم بطاعة الله .
(( علموا ، ولا تعنفوا))
[ الجامع الصغير بسند ضعيف عن أبي هريرة ]
الإجبار لا قيمة له ، القمع لا يفعل شيئاً ، البطولة أن تقنعني لا أن تقمعني ، البطولة أن تثير حماستي لهذا لموضوع لا أن تجبرني على أن أفعله ، لأن الله عز وجل قال :
﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
( سورة البقرة الآية : 256 )
فالبطولة بالإقناع .
الأستاذ عدنان :
في بعض الأحيان يمكن أن يكون التأمل في منعكس على النفس وذات الإنسان محلقاً به ، وفي بعض الأحيان لا يكون ذلك ، قد يكون هذا الرفض الداخلي من رفض في وجود الله تعالى ، وقد يكون هذا التأمل في مزيد من الرفض ترى هذه الناحية التأمل في هذا الوضع ماذا يفيد ؟
الإنسان مخير لا مسير :
الدكتور راتب :
الإنسان مخير :
﴿ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى (17)﴾
(سورة فصلت)
الله عز وجل كل شيء يدل عليه ، الإنسان إذا اختار الشهوة والمصلحة والعلو في الأرض لا يرى شيئاً ، حبك الشيء يعمي ويصم .
الأستاذ عدنان :
أستطيع أن أقول : إن التأمل أيضاً بحاجة إلى أن يكون الإنسان متبعاً لفطرته السليمة التي تدعوه للإيمان ، وبعد ذلك التأمل ينميها وينمي طريق وصوله إلى الله عز وجل .
الدكتور راتب :
تثقل المعلومات الإيمانية بالتفكر .
الأستاذ عدنان :
في هذا الأمر أيضاً ومن خلال التأمل نتابع معكم الموضوع العلمي ، ومن خلال التأمل نرجو الله عز وجل أن يزيدنا الله إيماناً ، فمن جملة أنواع التأمل كما بينتم التفكر في خلق السماوات والأرض .
الموضوع العلمي :
طيور البحر (الكالاموس):
الدكتور راتب :
في سواحل أوربا الشمالية طيور البحر المسماة الكالاموس ، هذه الطيور تبني أعشاشها هنا في الصخور العالية على طول هذه السواحل ، عند مجيء شهر آب تقوم صغار الطيور بأول تجربة طيران لها ، وتحاول الطيران باتجاه البحر ، وهذه تجربة شاقة بالنسبة لها ، فالبحر بعيد عن الصخور ما يقارب كيلو متراً والعش عال جداً ، وأخيراً يلقي أول الصغار نفسه من العش إلى الجو باتجاه الأسفل ، يحلق نحو البحر تحت إشراف الطيور الكبيرة وبهذا تتم أول تجربة طيران بنجاح ، ثم تليه بقية الصغار .
مع أن هذا الطيران خطير جداً في البحر ولكن لا بد لها من التدرب على الطيران لتأمين حياة الصغار ، فالثعالب المتربصة بها موجودة في الساحل .
الله تعالى خلق كل كائن وألهمه التضحية لحماية صغيره :
قضية التدريب قضية أرادها الله في كل مخلوقاته ، وإن أطول أعمار الطفولة هي طفولة الإنسان ليزداد تدريباً وتجربة من والديه ، في إحدى تجارب التدريب على الطيران لم يصل هذا الصغير إلى البحر واضطر للنزول الإجباري في الساحل ولكن أمه لم تتركه وحده كما ترون ، تحاول الأم بكل قوتها أن توجه الصغير بسرعة نحو البحر ، لأن الثعالب قد رأتها ، تدفع الأم الصغير إلى البحر باستمرار ، ومن جهة أخرى ترفرف بجناحيها لتشد انتباه الثعالب إليها ، توشك الثعالب أن تصل إلى الصغير ، تقوم الأم بتضحية مثالية نادرة لا شبيه لها لتكسب الصغير المزيد من الوقت وتنقذه فتلقي بنفسها أمام الثعالب ، لتفتدي صغيرها بحياتها لعلها تستطيع إنقاذه ، الصغير الذي لا علم له بما جرى من الحوادث خلفه ينجح في الوصول إلى البحر ، الطائر الصغير ينادي أمه فبقاؤه في الحياة وحده مستحيل ، وتجيب لندائه الطيور الأخرى وتقبل بين صغارها ، هناك تفسير واحد فقط لقيام الحيوان بتصرف عاطفي وإيثار بهذا الشكل بل وتضحية بحياته لأجل صغاره ، الله تعالى خلق هذا الكائن وألهمه التضحية التي قام بها لحماية الصغير .
هذه من آيات الله الدالة على عظمة الله ، أم تضحي بحياتها من أجل صغيرها ، فإذا وجدت إنساناً يقصر في العناية بأولاده ماذا نقول عنه ؟
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾
( سورة البينة )
لكن الذين شردوا عن الله :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾
( سورة البينة )
خاتمة وتوديع :
الأستاذ عدنان :
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين .
والحمد لله رب العالمين
http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=2487&id=189&sid=799&ssid=809&sssid=841