ندوات تلفزيونية - قناة انفينيتي - مكارم الأخلاق - الدرس ( 23-30 ) : الأدب
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-03-24
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
الأستاذ عدنان :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أيها الأخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأرحب بكم في حلقة جديدة في برنامج مكارم الأخلاق ، وباسمكم أرحب بفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً ومرحباً بكم دكتور .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً .
الأستاذ عدنان :
كلمة الأدب ما أجملها وما أروع وقعها عندما يسمعها الإنسان ، الأدب خصلة من الخصال الرائعة التي يتحلى بها الإنسان المؤمن فتزيده قوة ، ومحبة ، ورفعة في عيون الآخرين وعند الله عز وجل ، والأدب مطلوب ، ومن منا لا يحبه ، وبالمقابل من منا لا ينفر من سوء الأدب ، لكن الأدب في جملته يمكن أن تكون له صفات ، من خلال هذه الصفات يمكن أن يكون له تعريف ، هل نطّلع على ذلك ؟
الأدب سلوك راق جداً يؤدب النفس و يهذبها :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ عدنان قبل أن نعرف الأدب إذا تصورنا أن الإسلام شكل مثلث له أربعة أقسام ، في قسمه الأول العقائد ، وفي القسم الذي يليه العبادات ، وفي القسم الثالث المعاملات ، وفي القسم الرابع الآداب ، هناك عقيدة وهناك عبادة وهناك حكم شرعي في التعامل وهناك آداب إسلامية .
أولاً كيف أن الإنسان يجري تمارين رياضية ليقوي جسمه ، الرياضة التي نألفها السويدية رياضة الجسم ، والأدب رياضة النفس ، هناك نفس رعناء ، نفس جافية ، نفس وقحة ، نفس فيها غلظة ، فيها قسوة ، فيها تطرف ، فيها اجتراء ، فيها استعلاء ، فيها كبر ، كلما اقترب الإنسان من الله تأدب بالآداب التي ترقى به ، قضية الأدب رقي ، قضية الأدب حضارة ، قضية الأدب سلوك راق جداً ، مرة طالبان يقفان في مكان في جامعة في لندن لهما صديق بريطاني ، كلما اقترب منهم تكلموا بالإنكليزية ، هذه الظاهرة لفتت نظره سألهم ما القصة ؟ قالوا لأن نبينا عليه الصلاة والسلام أمرنا إذا كنا ثلاثة ألا يتناجى اثنان دون الثالث فإن هذا يحزنه ، فإذا تابعا كلامهما باللغة العربية حزن هذا الصديق الثالث ، أخذ بهذا الأدب الرفيع الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم فكان هذا الأخذ بهذا الأدب الرفيع سبب إسلامه .
المؤمن كتلة من الآداب بعد معرفته بالله و صلته به :
الحقيقة : الإسلام مجموعة آداب عالية جداً ، حتى إنه لما قيل للنبي ما هذا الأدب يا رسول الله ؟ ورد في بعض الكتب أنه قال أدبني ربي فأحسن تأديبي .
المؤمن بعد معرفته بالله ، وبعد الاتصال به هو كتلة من الآداب ، هو قوي لكن مؤدب ، مؤدب في كل شيء ، مؤدب مع ربه ، مؤدب مع نبيه ، مؤدب مع المؤمنين ، مؤدب مع أهل بيته ، مؤدب مع الناس عامة ، لذلك ما من صفة يحبها الإنسان كأن يكون الذي يعامله مؤدباً ، ومن نعم الله الكبرى أن يكون الذين حولك على شاكلتك ، من هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( إن الله اختارني ، واختار لي أصحابًا ))
[الطبراني في الكبير والأوسط عن عديم بن ساعدة ، وابن أبي عاصم في السنة عن أنس]
من سعادة المرء أن يحاط بأناس على شاكلته ، إن كان مؤدباً هم مؤدبون ، إن كان لطيفاً هم لطفاء ، إن كان رحيماً هم رحماء .
الأدب رقي النفس بعد أن تصح عقيدتها و تستقيم معاملتها :
لذلك كلمة أدب كلمة كبيرة جداً ، الأدب رقي النفس بعد أن تصح عقيدتها ، وبعد أن تصح عبادتها ، وبعد أن تستقيم معاملتها ، الآن تتأدب بالآداب الإسلامية ، ونحن حينما تغيب عنا الآداب الإسلامية ونتوهم أن الإسلام أداء لعبادات شعائرية ، أما الإنسان في بيته يصخب ، في بيته يرتكب الأخطاء الكبيرة ، هذا ليس متبعاً للأدب النبوي ، ذلك أن الإنسان حينما يعلو صوته في البيت تجرح عدالته ، وحينما يأكل في الطريق تجرح عدالته ، وحينما يمشي حافياً تجرح عدالته ، وحينما يتنزه في الطرقات ويملأ عينيه من محاسن الحسناوات تجرح عدالته ، وحينما يطلق لفرسه العنان تجرح عدالته ، وحينما يبول في الطريق تجرح عدالته ، هناك آداب إسلامية راقية جداً ، لا أريد أن أدخل في تفاصيلها في كتب الفقه شرح طويل لهذه الآداب ، ولكن الأدب : الإنسان حينما يتصل بالكمال المطلق (بالله عز وجل)يصطبغ بالأدب الذي يليق بالإنسان ويرقى به ، وحينما نعيش مع أناس مؤدبين بآداب الإسلام نكون في جنة ، وحينما نعيش مع أناس متفلتين من منهج الله نرى الكبر والعنجهية والوحشية والقسوة والسخف والدناءة والقذارة .
لذلك الفرق الكبير بين مؤمن وغير مؤمن ليس فرق أداء صلوات إطلاقاً فرق جوهري ، فرق في بنيته النفسية ، فرق في منطلقاته الفكرية ، فرق في سلوكه اليومي ، فرق في معاملاته ، يكاد المؤمن يقطر أدباً ، مثلاً ، النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته لف ثوبه ، هل يمكن أن يوقظ حفيف ثيابه زوجته ؟
كان يقول : لا تحمروا الوجوه ، لا يحب إحراج أحد .
مرة كان يأكل تمراً فكان إذا أمسك بالتمرة وضعها في فمه ، الآن أكلها بقيت النواة ، لو أمسك النواة بأصبعيه ووضعهما على الخوان ما الذي يحصل ؟ أخذ تمرة ثانية فوجدها قاسية فتركها وأخذ الثالثة ، انتقل لعابه الشريف إلى تمرة لم يأكلها فكان من أدبه في الطعام والشراب أنه إذا أكل تمرة وضع النواة بين أصبعيه لئلا تمس أصبعاه النواة التي فيها لعابه ، ما هذا الأدب ؟
الأدب رياضة النفوس :
حينما تقرأ السيرة تجد أن هذا الإنسان على أنه نبي عظيم ، ورسول كريم ، وقائد شجاع ، وزعيم أمة ، هو في علاقاته اليومية ، وفي خصائصه النفسية في أعلى درجات الأدب ، لذلك عندما سئلت السيدة عائشة عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت :
(( كان خلقه القرآن ))
[ مسلم عن عائشة ]
الأدب رياضة النفوس ، هناك أشخاص عندهم لياقة رياضية ، يعني جسم رشيق حركته سهلة ، نبض قلبه منخفض جداً نشاط عال ، جهد كبير جداً مارسه حتى بلغ هذا المستوى من اللياقة الجسمية ، وهناك جهد بآلاف الأضعاف يبذلها المؤمن ليكون رياضياً من الداخل ، يعني رياضة النفس ، يعني أديب ، لا يوجد إنسان دخل مدينة فاتحاً إلا ويستعلي ويستكبر ويحقر من حوله إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة المكرمة ، وكان منتصراً دخلها مطأطئ الرأس ، كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله عز وجل ، وما رئي ماداً رجليه قط بين أصحابه ، كان يمشي مع الخادم ، كان يجلس مع امرأة ضعيفة تكلمه طويلاً في حاجتها ، يمشي في الطريق استوقفته امرأة ضعيفة ، فقيرة فوقف معها طويلاً يكلمها في حاجتها ، معه عدي بن حاتم ، ملِك ، قال : والله ما هذا بأمر ملِك ، هذا نبي ، وليس ملِكاً .
سيدنا الصديق له خدمة لبعض جيرانه كان يحلب لها الشياه ، فلما تولى الخلافة غلب على ظن جارته العجوز أن هذه الخدمة قد توقفت ، الذي حصل أنه في صبيحة اليوم الأول طرق باب العجوز ، العجوز قالت لابنتها افتحي الباب يا بنيتي من الطارق ؟ قال يا أمي جاء حالب الشاة ، قالت لها إنه أمير المؤمنين يا ابنتي .
الأدب صلاح اللسان والعمل :
الإنسان حينما يرقى له أساليب في تعامله مع الخلق تفوق حدّ الخيال ، في تواضع في رحمة ، لكن هو قوي ، الإسلام فيه قوة :
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)﴾
( سورة الشورى)
لكن في الآداب العامة :
﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35)﴾
( سورة فصلت )
فالأدب نهاية الكمال ، لكنه منوع جداً .
على كل رياضة النفس ، أو محاسن الأخلاق ، أو صلاح اللسان والعمل ، مثلاً امرأة تريد أن تشتكي على زوجها قالت : يا أمير المؤمنين ، إن زوجي صوام قوام ، ما انتبه لها ، قال : بارك الله لك بزوجك ، سيدنا علي قال : إنها تشكوه ، ما هذا الأدب الرفيع ؟ لأنه لا يقاربها أبداً ، في النهار صائم ، وفي الليل قائم .
القرآن الكريم كله آداب :
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ ﴾
( سورة المعارج )
كل أنواع الشذوذ الجنسي :
﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾
( سورة المعارج )
الدين كله حياء :
هناك من يقول لا حياء في الدين ، والله أنا أرى العكس الدين كله حياء :
﴿ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ (43)﴾
( سورة النساء)
﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا ﴾
( سورة الأعراف : 189)
كل العبارات التي تخدش الحياء ابتعد عنها ، القرآن الكريم قد يسمع هذه الآية طفل صغير يفهم أن الزوج مست يده يد زوجته .
الآداب علامة رقي الإنسان و تواضعه :
إذاً الآداب باب واسع جداً هو علامة رقي الإنسان ، أنا لا أفهم من الأدب أنه ضعيف ، لا ، قد يكون قوياً في أعلى درجات القوة ، وقد يكون متمكناً ، وقد يكون حقق نجاحاً كبيراً ، لكنه متواضع جداً مع من حوله ، لأن المؤمن ليس عنصرياً ، النبي صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه في سفر ، أرادوا أن يعالجوا شاة ، فقال أحدهم : عليّ ذبحها ، وقال الثاني : عليّ سلخها ، وقال الثالث : عليّ طبخها ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعليّ جمع الحطب ، قالوا : نكفيك ذلك ، قال : أعلم أنكم تكفونني ، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه .
كان يجلس حيث ينتهي به المجلس ، يدخل أعرابي على النبي وأصحابه ، فيقول : أيّكم محمد ؟ من تواضع ما بعده تواضع ، من محبة ما بعدها محبة ، فلذلك رياضة النفوس ، محاسن الأخلاق ، صلاح الدنيا والآخرة ، صلاح اللسان والعمل ، اللسان في أدب ، مثلاً سيدنا عمر مرّ بقوم أمامهم نار متقدة قال السلام عليكم يا أهل الضوء ولم يقل السلام عليكم يا أصحاب النار ، فرق كبير ، لو تتبعنا آداب الصحابة الكرام لكان شيئاً مذهلاً ، مثلاً قيل للعباس : أيّكما أكبر أنت أم رسول الله ؟ عمه العباس ، فقال : أنا ولدت قبله ، وهو أكبر مني .
قصدي عندما يكون في الأسرة هذه الآداب ، في المجتمع ، في المدرسة ، في الجامعة ، في المعمل ، في مقامات ، في آداب ، في حدود ، أما حينما يتفلت الإنسان من منهج الله يصبح دابة متفلتة ، شأنه أن يؤذي بكلام قاسٍ ، بازدراء ، أحياناً باستعلاء ، بعنجهية ، هذا الذي نتمنى أن يبتعد عنه المسلمون في شتى بلادهم .
الأستاذ عدنان :
سيدي من هذه الناحية ذكرتني أيضاً بعبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ أنه خرج من المسجد فإذا بمجموعة من الصحابة أيضاً يخرجون معه التفت فرآهم ، قال ما شأنكم ؟ قالوا : رأيناك تسير وحدك أحببنا أن نسير معك ، قال : لا ، اذهبوا فإنها فتنة للمتبوع ومذلة للتابع ، أدب فعلاً ما بعده أدب ، هذا الذي كان يتحاشاه يركض إليه كثير من الناس .
الأدب في الإنسان المؤمن يكون مع الله و رسوله :
الدكتور راتب :
مرة اطلعت على كلمة قالها أحد كبار العلماء عبد الله بن المبارك : دخل إلى المسجد وهو مكتظ بأتباعه ، وطلاب العلم ، وعظموه كثيراً فبكى وقال : يا رب لا تحجبني عنك بهم ، ولا تحجبهم عنك بي . كلام عميق جداً ، لا تحجبني عنك بهم ، أنني أرى أناساً يحترمونني ويكبرونني فأنسى طاعتك يا رب ، ولا تحجبهم عنك بي ، أحياناً الإنسان ينسى الله ويخضع لإنسان مثله فيرضيه ولا يرضي الله ، فهناك مذلة قدر ، على كل كلما كان الإنسان قريباً من الله كان صاحياً لا تزل قدمه في هذا المجال .
الأستاذ عدنان :
سيدي من هذا المنطلق يمكننا أن نقول : إن الأدب في الإنسان المؤمن يكون مع الله عز وجل ، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أتباعه مع الخلق أجمعين .
الأدب مع الله يكون بـ :
1 – أن تصون العمل من أن يخالف منهج الله :
الدكتور راتب :
الحقيقة الأدب مع الله أن تصون عملك ، ألا يكون مخالفاً لمنهج رسول الله :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
(سورة الشعراء)
ما القلب السليم ؟ القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله ، ولا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله ، وسلم من عبادة غير الله ، وسلم من تحكيم غير شرع الله ، هذه من صفات القلب السليم ، النقطة الدقيقة في هذا الموضوع أن يراك حيث أمرك ، وأن يفتقدك حيث نهاك ، وليس الولي الذي يطير في الهواء ، وليس الولي الذي يمشي على سطح الماء ، هذه خرافات ، الولي بالتعريف القرآني :
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)﴾
( سورة يونس)
تعريف جامع مانع طبيعي واقعي ، الذين آمنوا وكانوا يتقون ، فلذلك ليس الولي الذي يطير في الهواء ، وليس الولي الذي يمشي على سطح الماء ، ولكن الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام .
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
( سورة الحجرات الآية : 13 )
2 ـ صيانة القلب عن أن يحب غير الله :
الأدب مع الله أن تصون العمل من أن يخالف منهج الله ، أي حياتك ، كسب مالك ، إنفاق مالك ، تربيتك لأولادك ، بيتك ، رحلتك ، سفرك ، إقامتك ، الفرح ، المأساة ، العلاقات كلها وفق منهج الله ، هذه طاعة الله وهذه التقوى ، لكن هناك معنى آخر صيانة القلب عن أن يحب غير الله :
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
( سورة الأنعام )
يعني الله عز وجل إذا نظر إلى عملك فهو وفق منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا اطلع على قلبك لا يرى فيه شريكاً له ، خالص في محبته لله عز وجل :
(( لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا ، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي ، وَقَدْ اتَّخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا ))
[ متفق عليه ، واللفظ لمسلم عن عبد الله بن مسعود]
3 ـ صيانة الإرادة عن أن تتجه لغير الله :
شيء آخر صيانة الإرادة عن أن تتجه لغير الله ، هناك إرادة وهناك قلب وهناك فعل ، فالفعل مطابق لمنهج الله والقلب ممتلئ محبة لله :
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾
( سورة المؤمنون)
اللغو ما سوى الله ، الآن الإرادة أن تتجه إلى مرضاة الله ، إلهي أنت مقصودي ، ورضاك مطلوبي ، هذا هو الأدب مع الله أن أصون إرادتي أولاً وقلبي ثانياً وعملي ثالثاً ، فإذا كانت إرادتي أن تتجه إلى الله ، وقلبي ممتلئ بحب الله ، وعملي متوافق مع منهج الله ، فأنا متأدب مع الله ، فالذي يتأدب مع الله له عند الله مكانة كبيرة جداً .
الأستاذ عدنان :
مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
الأدب مع رسول الله يكون بـ :
1 – اتباع منهجه دون أن نقترح تعديلات أو حذفاً أو إضافة لمنهجه بعد مماته :
الدكتور راتب :
مع النبي صلى الله عليه وسلم ، الله عز وجل قال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (1)﴾
( سورة الحجرات)
النبي صلى الله عليه وسلم له سنة صحيحة ثابتة ، قال تعالى :
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (7)﴾
( سورة الحشر )
الأدب مع رسول الله ألا تقترح على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ولا بعد مماته ، أن تقول هذا التوجيه النبوي لا يصلح لهذا العصر ، أنت قدمت بين يدي رسول الله كلاماً آخر :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (1)﴾
( سورة الحجرات)
2 – أن نحسن الظن برسول الله :
الأدب مع رسول الله أن تحسن الظن برسول الله ، مرة قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقتلوا عمي العباس ، وكان في مكة وكان مسلماً وكانت عينه على قريش ، فلو أنه قال عمي مسلم أنهى مهمته ، ولو أن عمه لم يشارك في الحرب كشف نفسه ، ولو سكت النبي لقتل لأنه محارب ، أحد الصحابة قال أينهانا عن قتل عمه ؟ أي ما أعجب هذا ، فلما كشفت له الحقيقة قال : ظللت أتصدق عشر سنين رجاء أن يغفر الله لي سوء ظني برسول الله .
فمن الأدب أن تحسن الظن به لأنه إنسان جعله الله سيد البشر ، ولكن الإنسان إذا كان عدواً قد يجد بعض ما يتوهم أنه ثغرات ، لا ، لما تحدث الناس عن السيدة عائشة :
﴿ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(12)﴾
( سورة النور)
فمن الأدب مع رسول الله حسن الظن به والبحث عن التفسير الذي يليق بمكانته ، إذاً اتباع منهجه دون أن نقترح تعديلات أو حذفاً أو إضافة لمنهجه بعد مماته ، ثم الأدب معه بحسن الظن به وهذه كلها من آداب المؤمن مع رسول الله ويقع في قمتها اتباع منهجها .
الأستاذ عدنان :
مع الخلق ؟
الأدب مع الخلق يكون بـ :
1 – معاملة الخلق بما يليق بهم :
الدكتور راتب :
الحقيقة مع الخلق معاملتهم بما يليق بهم ، أن تعامل الصغير بالمحبة ، الكبير بالاحترام ، الصديق بالتعاون ، فكل إنسان له مكانة ، الأب له مكانة ، الأم لها مكانة ، الابن له مكانة ، الزوجة لها مكانة ، الأخوات لهم مكانة ، إنسان يشتري من عندك له مكانة ، أنت حينما تعطي كل ذي حق حقه تكون أديباً معه ، حينما تنزل الناس منازلهم ، حينما لا تستهين بأقدار الناس ومكانتهم ، حينما تعامل الصغير بما ينبغي أن يعامل به ، تعامل من هو أكبر منه بما ينبغي أن تعامل به :
(( مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ ))
[ الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
هذا بحث أستاذ عدنان والله لا تكفيه مجلدات ، في كتب كثيرة أفردت آلاف الصفحات في الحديث عن الآداب مع الخلق .
الأستاذ عدنان :
على هذا يمكن أن نعمم مبينين أن الأدب يمكن أن يكون أيضاً في المجتمع بشكل عام وهناك فارق كبير ، إذ الأدب فيه وضوح الكلام دون التفات أو لوي لبعض مقاصده ، هنا يمكن أن تطرح أمور عديدة منها الشجاعة الأدبية ، فليس الضعف أدباً إنما الشجاعة الأدبية هي الأدب ، وفي هذا أدب الحوار .
2 ـ الأدب مع الطرف الآخر :
الدكتور راتب :
الأدب الذي تعامل به الطرف الآخر ، في آداب أيضاً :
﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ (7)﴾
( سورة التوبة )
﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)﴾
( سورة الممتحنة)
الأستاذ عدنان :
إذاً الأدب مطلوب في كل وجوه الحياة مع الإنسان ذاته ، مع أولاده ، مع زوجته ، في محيطه ، في مجتمعه ، حتى مع أعدائه .
الأدب مطلوب في كل وجوه الحياة :
الدكتور راتب :
حتى في المصطلح الأدبي ، الأدب هو التعبير المثير عن حقائق الحياة ، التعبير الأدبي راق جداً ، تعبير فني ، تعبير يلفت النظر :
رماني الدهر بالأرزاء حتى كأني في غشاء مـن نبـال
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال
***
قد تقول أصابتني مصائب كثيرة هذا تعبير عادي ، أما التعبير الأدبي تعبير جميل يأخذ بالألباب .
الأستاذ عدنان :
الحقيقة كما قلتكم دكتور الأدب يجب أن يكون في كل شيء ، وكما بينتم أن الأدب اللغوي هو في حلة رائعة ، ويصغى إليه ، جعلنا الله ممن يتأدبون مع ذاته العلية ومع رسوله الكريم ومع الخلق أجمعين ، هذا الأدب يجعلنا أيضاً نقف في محراب التطلع إلى عظمة خلق الله فيما أبدع وخلق وفي الإعجازات لنقف أيضاً في أدب عند هذا المحراب ، نتابع معكم الموضوع العلمي دكتور .
الدكتور راتب :
العنكبوت من الآيات الدالة على عظمة الله :
إن شاء الله ، الحقيقة اليوم الموضوع عن العنكبوت ، يرى كل إنسان خلال حياته كائنات تدعى بالعنكبوت مرات عديدة ، في الصحراء ، أو في حديقة المنزل ، هذا الكائن الصغير الذي لا يشد انتباه أكثر الناس هو في الأصل واحد من الآيات الدالة على عظمة الله ، و لمعرفة هذا علينا أن نراقب العنكبوت عن كثب ، عندما يقال عنكبوت أول ما يخطر بالبال شبكة العنكبوت و بالتأكيد هذه الشبكة واحدة من خوارق التصميم .
لشبكة العنكبوت مخطط معماري مميز ، لها حسابات هندسية مناسبة لهذا المخطط ، لو كبرنا العنكبوت بالنسبة إلى حجم الإنسان ، فشبكة العنكبوت التي تنسجتها تعادل مئة و خمسين متراً تقريباً ، وهذا يساوي علو ناطحة سحاب ذات خمسين طابقاً ، لو تمكن العنكبوت من صنع شبكة عرضها خمسون متراً لكانت هذه الشبكة من القوة بحيث تستطيع إيقاف طائرة نفاثة ، إذاً كيف تنشئ العنكبوت شبكتها بهذه الخصائص ؟ لإنجاز مثل هذا العمل يجب عليها أولاً رسم مخطط كما يفعل المهندس المعماري ، ذلك لأن بناءً بهذا التصميم وبهذا الحجم و المتانة لا يبنى دون مخطط هندسي ، بعد رسم المخطط يلزمك مهندس معماري لحساب المنطقة التي تتحمل الثقل الآتي ، و بدون هذا لن تقوم للشبكة قائمة .
شبكة العنكبوت معجزة حقيقيةتكمن في خيطهاو صناعتها :
عند مراقبة كيفية بناء الشبكة تظهر لنا معجزة حقيقية ، تترك العنكبوت أولاً الخيط الذي أنتجته في الهواء وبمساعدة جريان الهواء تربطه مع إحدى النقاط الثابتة وهكذا يبدأ البناء ، يستغرق بناء الشبكة ساعة أو أكثر ، الآن نتابع هذا العمل مسرّعاً بستين ضعفاً ، تنشر العنكبوت خيوطها المشدودة من المركز باتجاه الخارج ، و تجهز هيكل الشبكة ، بعد ذلك تنسج خيطاً رقيقاً و لاصقاً راسمة حلقات من الخارج باتجاه الداخل ، وبذلك يصبح الفخ جاهزاً.
ليس تصميم شبكة العنكبوت معجزة فحسب بل المعجزة تكمن في خيطها أيضاً ، فخيط العنكبوت أمتن بخمسة أضعاف من الفولاذ في السماكة نفسها ، فالمتر المربع من خيط العنكبوت يتحمل مئة و خمسين ألف كيلو غرام ، و لو صنع حبل من خيط العنكبوت لتمكن من حمل مئة وخمسين سيارة مركبة بعضها فوق بعض ، شيء عجيب ، شيء مدهش .
أنتج رجال العلم تأسياً بخيط العنكبوت مادة خاصة تسمى كافلار تستخدم هذه المادة في إنتاج الدروع الفولاذية الذي يرتديها الإنسان لئلا يتأثر بالرصاص ، باستطاعة الطلقة ثقب أي شيء أمامها بسرعة مئة وخمسين متراً في الثانية ، إلا أننا لا نستطيع ثقب قطعة من قماش مصنوع من الكافلار .
خيط العنكبوت أمتن مادة في العالم :
خيط العنكبوت الذي هو أدق من الشعر و أخف من القطن و أقوى من الفولاذ ، يوصف على أنه أمتن مادة في العالم ، الفولاذ أمتن المواد التي يملكها الإنسان ، ينتج الفولاذ بطبخ الحديد وباستخدام الأفران العالية التي تصل حرارتها إلى آلاف الدرجات ، في مصانع الصناعات الثقيلة صمم الفولاذ خصوصاً لتحمل قوى الشد ، ويستخدم البشر الفولاذ في إنشاء المصانع الكبيرة و الأبنية الضخمة و بناء الجسور .
إلا أن العنكبوت تنتج مادة أمتن من الفولاذ بخمسة أضعاف ، مع أنها ليس لها نصيب في استخدام التقنيات الحديثة ، و لا تملك أفراناً ذات حرارة عالية إنها حشرة صغيرة لعابها بعد أن يلامس الهواء يصبح خيطاً أقوى من الفولاذ بخمسة أضعاف ، إنتاج خيط أمتن من الفولاذ من قبل حشرة صغيرة ثم استخدامها كالمهندس المعماري في إنشاء أبنية ضخمة بلا شك معجزة كبيرة .
خاتمة وتوديع :
الأستاذ عدنان :
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين .
والحمد لله رب العالمين
http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=2481&id=189&sid=799&ssid=809&sssid=841