ندوات تلفزيونية - قناة انفينيتي - مكارم الأخلاق - الدرس ( 20-30 ) : التوكل على الله ـ أسرار النحل
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-03-21
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
الأستاذ عدنان:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله، وأرحب بكم في برنامج: "مكارم الأخلاق"، وباسمكم أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، في كليات الشريعة وأصول الدين، أهلاً ومرحباً بكم دكتور.
الدكتور راتب:
بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً.
الأستاذ عدنان:
دكتور في موضوع التوكل نشهد أقوالاً ترتبط بثلاث حالات؛ أولاً: من الناس من يقول: نحن نتوكل على الله، هذا كلام عام لا معنى له قط، إنهم يتوكلون على الله لا يؤدون الأسباب، إذ إن الله عز وجل قادر على كل شيء.
نوع ثان: يعملون ويؤدون الأسباب كاملة ويقولون: لا داعي للتوكل على الله، فالأسباب ستأتي بالنتائج حتماً، قد تعترضها اعتراضات لكنها لا قيمة لها، النتائج يجب أن تكون مواتية و مناسبة لأسباب المقدمة، الثالث من الأقسام يقول: نحن نؤدي الأسباب كاملة وبعد ذلك نقول: يا رب هذه وسيلتنا قد أديناها والباقي من عندك، نتوكل عليك حقّ التوكل، التوكل إذاً يدخل في الناحية العقدية بالنسبة للإنسان المؤمن المسلم، ترى ما هذه الناحية العقدية بالنسبة للتوكل عند المسلم؟
العقل البشري لا يفهم شيئاً بلا سبب :
الدكتور راتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أستاذ عدنان جزاك الله خيراً، الله عز وجل خلق هذا الكون على نظام السببية، هكذا شاءت حكمته أن يكون لكل شيء سبباً، وهذا النظام له أصل في عقل الإنسان، فالعقل البشري لا يفهم شيئاً بلا سبب، وكما أن هذا العقل لا يفهم شيئاً بلا سبب، فالكون في نظامه مطابق للعقل، فكل شيء له سبب:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾
[ سورة الكهف الآية :83-85 ]
ولكن علماء العقيدة يرون أن السبب يأتي قبل النتيجة، وليس سبباً كافياً لخلق النتيجة، النتيجة من خلق الله عز وجل، ولكن ضماناً لاستقرار الحياة، وللوصول إلى النتائج عن طريق الأسباب، جعل الله لكل شيء سبباً، لذلك قال بعض علماء العقيدة: " عندها لا بها ". أي عند إرادة الله أن يقع هذا الشيء لا بالأسباب التي تأتي قبل الشيء.
على كلٍّ الله عز وجل قادر أن يلغي الأسباب، أو يعطلها.
الأستاذ عدنان:
هو خالقها أصلاً.
التوحيد أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تعتمد على الله وكأنها ليست بشيء :
الدكتور راتب:
سيدنا آدم خلق من دون أب أو أم، إذاً ألغيت الأسباب، وقد تجد شابين في ريعان الشباب يتزوجان فلا ينجبان، هنا عطلت الأسباب، فالأسباب تلغى أو تعطل، لذلك هناك من يأخذ بالأسباب، ويعتمد عليها، وينسى ربه، هذا الإنسان وقع في الشرك، وهناك من لا يأخذ بها جهلاً وسذاجة، فيقع في المعصية، لذلك قد يغلب على الغرب أنه أخذ بالأسباب، واعتمد عليها، وقد يغلب على الشرق أنه لم يأخذ بها.
على كلٍّ الموقف الأمثل، طريق على يمينه واد سحيق، وعلى يساره واد سحيق، إن أخذ الإنسان بالأسباب واعتمد عليها وقع في وادي الشرك، وإن لم يأخذ بها وقع في وادي المعصية، الكمال في هذا الموضوع منطلق من التوحيد أن تأخذ بالأسباب و كأنها كل شيء، وأن تعتمد على الله و كأنها ليست بشيء:
(( إِن الله يَلُومُ على العَجْز، ولكن عليكَ بالكَيْس، فإِذا غَلَبَك أَمر، فقل حَسبيَ الله ونعم الوكيل ))
[أخرجه أبو داود عن عوف بن مالك ]
إن الله يلوم الإنسان إن لم يأخذ بالأسباب، وعليه بالكيس أي أن يأخذ بها،
(( فإِذا غَلَبَك أَمر، فقل حَسبيَ الله ونعم الوكيل ))
ولا يصح أن تقول: حسبي الله ونعم الوكيل ولم تأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى النتائج.
المؤمنون نسوا الأخذ بالأسباب فكانوا في مؤخرة الأمم :
إذاً الموقف الكامل أن تأخذ بالأسباب و كأنها كل شيء، وأن تعتمد على الله و كأنها ليست بشيء، أستاذ عدنان من السهل جداً أن نأخذ بالأسباب، وأن نعتمد عليها، ومن السهل أيضاً ألا نأخذ بها، وندعو ربنا أن ينصرنا من دون أخذ بالأسباب، لكن البطولة هذا الموقف الذي يجمع بين الأخذ بها وبين الاعتماد على الله، هنا البطولة، دائماً التطرف سهل، أما أن تجمع بين النقيضين هذا شيء يحتاج إلى كياسة، وإلى علم، لذلك المؤمن الصادق الكامل يأخذ بالأسباب و كأنها كل شيء، أما إذا اتجه إلى الله فيعتمد على الله و كأنها ليست بشيء.
مثلاً عندك سفر طويل يجب أن تراجع المركبة مراجعة دقيقة جداً، أن تفحص فيها كل شيء، وأن تصلح كل شيء، وأن تجهز كل شيء، وفي أعماق أعماقك تقول: يا رب أنت الحافظ، أنت المُسلّم، يا رب اعتمدت عليك، هذا الموقف الإيماني الرائع، لذلك حينما نسي المؤمنون الأخذ بالأسباب كانوا في مؤخرة الأمم، وحينما أخذ أعداؤهم الأسباب ونسوا ربهم أحبط عملهم أحياناً، فالبطولة أن تأخذ بالأسباب و كأنها كل شيء، وأن تعتمد على الله و كأنها ليست بشيء.
الأستاذ عدنان:
دكتور هذا يقودنا إلى التعرف على حقيقة التوكل.
حقيقة التوكل :
الدكتور راتب:
صِدْقُ اعتماد القلب على الله، هناك من يدعي أنه متوكل لكنه لا يتوكل، التوكل من عمل القلب، صدق اعتماد القلب على الله، كيف لو أن لك صديقاً قوياً جداً، وهو أقرب الناس إليك، فإذا أردت أن تفعل عملاً تشعر أنه بأية لحظة تتصل به فيلبيك، هذا للتقريب، لكن المؤمن يرى أن الله هو الفعال، بيده كل شيء:
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
[ سورة هود الآية: 123 ]
لا تنشأ عزتك إلا إذا آمنت أن أمرك بيد الله:
(( ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يغفر الله أكثر ))
[ أخرجه ابن عساكر عن البراء ]
(( وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ))
[ أخرجه أحمد في مسنده والطبراني، عن أبي الدرداء رضي الله عنه ]
ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، لذلك التوكل في حقيقته أن تعتمد بصدق على الله، هناك حالات ليست لنا، للأنبياء الكبار، سيدنا إبراهيم ترك زوجته وابنه في واد غير ذي زرع، سألته زوجته إلى من تركتنا؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لن يضيعنا الله عز وجل، نحن حينما نسافر نؤمن لأهلنا كل شيء، لكن الأكمل أن تؤمن لهم كل شيء، وأن تقول: يا ربي أنت الرفيق في السفر، والخليفة في الأهل، والمال، والولد، هذه هي حقيقة التوكل، صدْق اعتمادك على الله.
النصر يحتاج إلى إيمان بالله أولاً و إعداد له ثانياً :
ثم تعتمد عليه في شيئين، في استجلاب المصالح، وفي درء الأخطار، هذا هو التوكل في حقيقته يحتاج إلى إيمان، يحتاج إلى فهم بالأسباب، أنا لا أتصور أن يستطيع إنسان لم يفعل شيئاً أن ينتصر على أعدائه، قال تعالى:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾
[ سورة الأنفال الآية: 60 ]
النصر يحتاج إلى إيمان بالله يحملك على طاعته، وإعداد لما أتيح لك، وعلى الله الباقي.
الأستاذ عدنان:
إذا أردنا أن نجمل ما سبق من توضيح في تعريف للتوكل ليكون راسخاً في أذهان الأخوة المشاهدين.
التوكل هو الثقة بما عند الله و اليأس بما في أيدي الناس :
الدكتور راتب:
الحقيقة أدق ما في التوكل الثقة بما عند الله، واليأس بما في أيدي الناس، سُئل بعض كبار العلماء ـ الحسن البصري ـ بمَ نلت هذا المقام؟ فقال: باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي.
لا تسألن بني آدم حــاجة واسأل الذي أبوابه لا تغلقُ
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضبُ
* * *
عظمة التوكل أنك تستغني عما في أيدي الناس، إن استغنيت عما في أيدي الناس أحبك الناس، وإن طمعت بما عند الله أحبك الله، لكن بعض الناس يستغنون بما عند الله ويطمعون بما عند الناس، لذلك يخيب ظنهم ويحبطون في أعمالهم.
الأستاذ عدنان:
نسمع كلمتي التوكل والتواكل، لا شك أن الفارق كبير بينهما كيف نوضح هذا الفارق؟
التوكل و التواكل :
الدكتور راتب:
سيدنا عمر رأى أناساً يتكففون الناس في الحج، سألهم: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض، ثم توكل على الله.
أن تأخذ بالأسباب أولاً، مثلاً: طالب يقول: أنا متوكل على الله في النجاح، هذا أحمق، يدرس ثم يتوكل، تجري مراجعة لمركبتك ثم تتوكل، تأخذ ابنك إلى الطبيب وتطبق الأدوية بدقة ثم تتوكل، ما من عمل أصاب المسلمين بالشلل كالتواكل، هم يتوقعون معجزات من الله، هم لا يعملون، لا يقدمون الأسباب، ينتظرون النصر بلا أسباب، فيخيب ظنهم أحياناً، لذلك التواكل خطير جداً، التوكل أن تأخذ بالأسباب، والتواكل ألا تأخذ بها، وأن تستعين بالله بشكل ساذج، بشكل ليس ينطلق من علم التوحيد.
لكن هناك نقطة ثانية، مرَّ سيدنا عمر برجل معه جمل أجرب، قال له: يا أخا العرب، ما تفعل به؟ قال: أدعُ الله أن يشفيه، قال له: هلا جعلت مع الدعاء قطراناً؟ أنا أضع يدي الآن على أخطر مشكلة في حياة المسلمين، يجب أن يعدوا العدة، يجب أن يقووا أنفسهم، وبعدئذٍ يقولون: يا رب نصرك الذي وعدتنا، أما نصرك الذي وعدتنا وهم قاعدون ولا يحركون ساكناً هذا هو التواكل.
الأستاذ عدنان:
دكتور موضوع التواكل وموضوع التوكل في الأصل الإنسان المؤمن يؤدي ما عليه، وبعد ذلك إن كانت هذه الأسباب التي أداها لا تكفي للوصول إلى النتائج يأتي مدد الله عز وجل لإيصال يرممها، لعل هذه الناحية جعلت في نفوس بعض الناس شيئاً من الدخول إلى موضوع التواكل، لكن أن ينسوا أن عليهم أن يؤدوا الأسباب هذا مرفوض جملة وتفصيلاً، لذلك موطن التوكل كيف يكون ومتى يكون؟
التوكل مكانه القلب و مكان العمل هو الجوارح والعكس مشكلة كبيرة :
الدكتور راتب:
التوكل مكانه القلب، والجوارح مكان للأخذ بالأسباب، الخطورة في هذا الموضوع أن بعض المسلمين عكسوا الآية فجعلوا جوارحهم مكاناً للتوكل عليه، ما فعلوا شيئاً، وجعلوا قلبهم الذي هو مكان للتوكل في يأس من رحمة الله، التوكل مكانه القلب، والجوارح مكان السعي لذلك، الآية الكريمة دقيقة جداً:
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾
[ سورة الكهف الآية: 110 ]
لذلك الله عز وجل ما سمح لأحد أن يسأله شيئاً إلا بالعمل:
﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾
[ سورة القصص الآية : 105]
فلذلك مكان التوكل هو القلب، ومكان العمل هو الجوارح، فإذا عكست الآية كنا في مشكلة كبيرة، مثلاً الشيء بالشيء، يذكر الله عز وجل من خلال نبيه الكريم أمرنا أن نحسن حياتنا، أن نجدد في حياتنا، وأمرنا أن نحافظ على عقائدنا، وعلى عبادتنا، فنحن ماذا فعلنا؟ قلدنا في دنيانا، وابتدعنا في عقائدنا، هنا الخطر، العقيدة والعبادات توقيفيات لا يجوز أن يضاف عليها أو أن يحذف منها، نحن تطورنا في عقائدنا، وفي فهمنا لبعض المستجدات فهماً بعيداً عن فهم الصحابة الكرام بهذا القرآن الكريم، وفي حياتنا قلدنا، فالأولى أن نطور في حياتنا، وأن نحل مشكلاتنا، ونهيئ فرص عمل لشبابنا، نهيئ مساكن لشبابنا، ثم بعدئذ نقلد في عقائدنا، وفي ديننا، حينما تتبدل الأوراق مشكلة كبيرة.
الأستاذ عدنان:
من خلال ما ذكرتم في موضوع التوكل إن طبقه الإنسان حيث أخذ بالأسباب قدر طاقته واستطاعته ثم ترك الباقي على الله عز وجل، لا شك أن النتائج ستكون خيرة، يجد سكينتها في نفسه و قلبه، ويجد نتائجها في جوارحه وأمام عينيه، فلذلك ما ثمار هذا التوكل؟
من ثمار التوكل :
1 ـ كمال إيمان المؤمن أن يتوكل على الله وان يأخذ بالأسباب :
الدكتور راتب:
هو من كمال الإيمان، هناك إيمان وهناك كمال إيمان، كمال إيمان المؤمن أن يتوكل على الله في قلبه، وان يأخذ بالأسباب بجوارحه.
2 ـ التوكل يجلب محبة الله للإنسان :
شيء آخر: التوكل يجلب محبة الله للإنسان:
﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾
[ سورة إبراهيم الآية : 12]
﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
[ سورة المائدة الآية : 23 ]
يجلب التوكل محبة الله.
3 ـ يحفظ التوكل المؤمن من الشيطان :
شيء آخر: يحفظ التوكل المؤمن من الشيطان، الشيطان حينما لا يأخذ الإنسان بالأسباب يقول له: الله خذلك ولم يستجب لك، لم ينصرك، فأصبح المؤمن عرضة لوساوس الشيطان، أما إذا أخذ بالأسباب واعتمد على الله حقق النصر، عندئذ أغلق على نفسه باب الشيطان، التوكل يوقف الإنسان عند الحدود الشرعية فلا يتجاوزها، لا يوجد عنده لأهداف نبيلة وسائل غير نبيلة، أخذ بالأسباب ثم توكل على الله.
4 ـ التوكل على الله يقطع الناس عن الطمع بالإنسان :
شيء آخر: أنت حينما تتوكل حق التوكل أي أن تأخذ بالأسباب تقطع الناس عن الطمع بك، يرونك إنساناً ملء السمع والبصر، تعرف ما ينبغي أن تفعل، أما حينما يرى الناس مؤمناً ساذجاً يطمعون فيه، يطمعون أن يأخذوا ما عنده، يظنونه أبلهاً، أما إذا أخذ بالأسباب قطع أطماع الناس عنه، التوكل يعطي راحة للبال، الذي لا يأخذ بالأسباب ويتوكل يبقى خائفاً، أما الذي يأخذ بالأسباب، ويتوكل على الله، أدى الذي عليه وبقي الذي له، ومن أسباب سعة الرزق الأخذ بالأسباب، ومن أسباب تمام المعرفة أن تتوكل التوكل الذي أراده الله عز وجل.
الأستاذ عدنان:
الحقيقة هذا توضيح كامل في موضوع التوكل ليكون الإنسان معتمداً على الله عز وجل كلياً، بعد أن يؤدي الأسباب التي يقدر عليها كليةً، وحتى لا تضيع الأمور بين التوكل والتواكل كانت هذه الفسحة القولية منكم لتوضيح حقيقة الأمر في التوكل والتواكل.
التوكل أحد أسباب قوة الإنسان :
الدكتور راتب:
نقطة واحدة ضرورية، النبي عليه الصلاة والسلام قبيل معركة بدر رفع يديه ودعا الله بحرارة، إلى أن سقط الرداء عن كتفيه، قال له الصديق: بعد مناشدتك ربك إن الله ناصرك، هناك من يحلل هذا الدعاء الحار، النبي عليه الصلاة والسلام واثق أن الله قوي، وأنه هو الذي ينصر، ولكن كان يخاف أن يكون قد قصر بالأخذ في الأسباب، والله أستاذ عدنان لو تتبعنا تاريخ المسلمين لوجدت أن أخذهم بالأسباب شيء مدهش، يأخذون بالأسباب وكأنها كل شيء ويتوكلون على الله وكأنها ليست بشيء، لذلك التوكل أحد أسباب قوة الإنسان، لكن التوكل مع أنه أحد أسباب قوته هو أحد أسباب مظهره القوي أمام الطرف الآخر.
الأستاذ عدنان:
دكتور إذا تابعنا موضوع ما يتصل باعتماد الإنسان على ربه في كل شيء، بعد أن يأتي بالأسباب يمكن من خلال هذه الناحية أن نتطلع إلى إعجاز الله عز وجل الذي يأتي للإنسان بما يريد رغم أنه قدم قليلاً أو كثيراً، مع هذا فإن الله عز وجل يعطيه ويسعده بإعجازات إلهية، ومتابعة للإعجازات الإلهية في خلقه نتابع معكم موضوعاً من الموضوعات.
أسرار النحل :
الدكتور راتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، نحن أمام سرّ من أسرار النحل الذي يدهش العقول، عند خروجنا إلى المروج في يوم مشمس يشد انتباهنا الجمال الأخاذ للأزهار، وحين ندقق في هذه الأزهار عن قرب أكثر نشاهد كائناً عجيباً آخر هو النحل، والنحل أمهر المعماريين نظاماً في الطبيعة، وتعيش النحل على شكل مستعمراتٍ، وتنتج العسل الذي هو واحدٌ من أكبر الأغذية على وجه الأرض، أما العسل الذي تنتجه فتخبئه في الخلايا التي تبنيها بنفسها بأشكال سداسية، هل فكرنا لماذا أنشأ الله النحل وهذه الخلايا السداسية حصراً؟ بحث علماء الرياضيات عن جوابٍ لهذا السؤال، ووصلوا إلى نهايةٍ عجيبةٍ بعد حساباتٍ طويلة، الطريقة المثلى لإنشاء خزانٍ يستهلك أقل المواد، ويستوعب أكبر حجمٍ تخزيني، هو أن تبنى جدرانه بشكلٍ سداسي، لنقارن بالأشكال الأخرى، لو أنشأت النحل خلاياها بدل السداسي بشكل أسطواني أو خماسي مثلاً لظهرت في الأطراف فراغاتٌ بينية لا تستخدم، وبهذا لا تستعمل النحلة كل الأمكنة للتخزين.
الأستاذ عدنان:
دكتور بالمناسبة كما أرى أن هذا الشكل السداسي يزيد الخلية قوة، إذ إنه لو كان رباعياً لم نجد فراغات ولكن قوته تختلف.
الدكتور راتب:
وهذا سيأتي، أما تخزين العسل في أقراص مثلثة أو مربعة، فيمكن دون أن يبقى فراغ بينها كما نرى، ولكن هناك مغزى أدركه علماء الرياضيات، فالشكل المسدس أقصر محيطاً من بين الأشكال الهندسية المختلفة، لذلك على الرغم من كون هذه الأشكال بالأحجام نفسها ستكون المواد الأساسية المطلوبة في الأقراص المسدسة أقل من المطلوب في المثلث والمربع، أي تقديم أقل التكلفة بأكبر النتائج، كأن لها عقلاً.
وباختصارٍ الخلية السداسية تؤمن أكبر مكانٍ للتخزين، وبأقل شمعٍ ممكن، فالنحلة تستقدم أمثل شكلٍ ممكن.
من علمها؟ من ألهمها وهي ليس لها عقل؟
الخصائص المحيرة للنحلات :
أما الخصائص المحيرة الأخرى للنحلات فتتجسد في ذلك التعاون الرائع في أثناء بناء الخلايا، عندما يرى الإنسان خليةً أنهي بناؤها يظن أنها أنشئت كقطعة واحدة، هل تستطيع أن تكلف إنساناً يعمل في التبليط أن يبدأ من طرف وإنساناً من طرف آخر وأن يجتمعان على حجم مثالي؟ مستحيل، هكذا تفعل النحلات.
أما الخصائص الأخرى، تبدأ النحل بناء الخلايا من زوايا مختلفة، تبدأ مئات النحل من ثلاثةٍ أو أربعة أماكن متفرقة لإنشاء الخلايا، وباستمرار بناء الخلية تجتمع في النهاية في الوسط، ليس هناك أي خطأً أو عدم تناسقٍ في نقطة الالتقاء.
تحسب النحل أثناء نسج الخلية الزوايا بين فتحات الخلية أيضاً، فتحات الخلية التي تبقى ظهراً لظهرٍ، تنشأ حتماً بزاوية مائلةٍ ـ ثلاث عشرة درجة نحو الأرض ـ هذا الميل يمنع سيلان العسل وانزلاقه على الأرض، مع أن هذه الخلايا تبنى غالباً في أماكن مظلمة لا يدخل إليها ضوء الشمس إطلاقاً، هناك حقيقةٌ مدهشةٌ جداً.
النحل آية من آيات الله الدالة على عظمته :
تظهر النحل هذه الخصائص الفائقة اعتباراً من ولادتها، لا تتعلم صنع الخلية، أو تعيين الجهة تدريجياً، بل تكون على استعداد للقيام بهذه الأعمال المعجزة بمجرد ولادتها، من علم النحلة هذه الهندسة المعمارية؟ لقد ورد جواب هذا السؤال في القرآن الكريم، يبين الله تعالى سرّ هذه المملكة المدهشة للنحل، قال تعالى:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
[ سورة النحل الآية :68-69 ]
إلهام الله تعالى للكائنات هو سرّ تصرفاتها الفائقة، هذا ليس للنحل فحسب بل تدخل فيه كل الكائنات جميعاً، هذا من آيات الله الدالة على عظمة الله عز وجل.
الأستاذ عدنان:
دكتور كما ترون الله عز وجل خلق هذه المخلوقات، وقدر لها أسلوب حياتها، وتعايشت معه، وابتكرت، وألهمها الله عز وجل فيما ابتكرت، فكان إعجازاً علمياً واضحاً، الآن إذا عدنا إلى موضوع التوكل ونحن نتحدث فيه، ترى هل يمكن للإنسان عندما يتوكل على الله عز وجل، وقد أدى الأسباب، أن تبتكر في ذاكرته وفي مخيلته أمور لم يكن حسب لها حساباً، إذ إن التوكل قاده إلى انفتاح أمام مخيلته وعقله ليرى أشياء لم يكن يحسب حسابها.
على كل إنسان أن يؤدي الذي عليه ويطلب من الله الذي له :
الدكتور راتب:
الحقيقة أن الإنسان إذا أدى ما عليه رمم الله له ما بقي من جهده، الحقيقة مطبقة في كل الاتجاهات، أدِّ الذي عليك واطلب من الله الذي لك، أنت حينما تأخذ بالأسباب المتاحة لك، الآن ما نقص من قدرة الأسباب على تحقيق الإنجاز يأتي الله به من عنده معونة لك، فلذلك عليك أن تأخذ بالأسباب، عليك أن تتوكل، أما الذي يأخذ بالأسباب من دون توكل قد تكون أسبابه غير كافية لتحقيق النتائج فيصاب بالإحباط، نحن مع الأعداء مع الأقوياء مطالبون أن نأخذ بالأسباب المتاحة فقط، والدليل:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾
[ سورة الأنفال الآية: 60 ]
لكن الله يتولى بحكمته، وتأييده، وتوفيقه، وحفظه، ونصره، ما تبقى من أسباب من أجل تحقيق النتائج، هذا الذي يعد جواباً لتساؤلكم.
الأستاذ عدنان:
دكتور موضوع التوكل على الله عز وجل عند المسلمين كما بينتم يهبهم أن الله عز وجل يتمم لهم الأشياء الناقصة التي ما كان بمقدورهم أن يؤدوها، ويأتوا عليها، ترى هل هذه الناحية بحدِّ ذاتها هي التي أدت إلى التواكل، فإن كان هذا هو السبب الذي يؤدي عند المسلمين إلى التواكل فكيف نقطع دابر هذا الأمر؟
العلم هو الخطوة الأولى كي يصح العمل وتتحقق النتائج :
الدكتور راتب:
الحقيقة لابدّ من العلم، إذا أردت الدنيا فعلك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل.
أستاذ عدنان، أزمة أهل النار في النار أزمة علم، الدليل:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾
[ سورة الملك الآية : 10]
لذلك مزيد من العلم، مزيد من المعرفة، مزيد من التفقه بالدين، نحن كلما ازداد علمنا صحّ سلوكنا، ما من حركة غير صحيحة إلا وراءها جهل، لذلك العلم هو الخطوة الأولى كي يصح العمل، وكي تتحقق النتائج.
الأستاذ عدنان:
عندما يتوكل الإنسان على الله نحن نعلم أن في الحياة أسباباً، ترى هل يمكن أن تخرق الأسباب، فالله هو خالقها، وهل يمكن أن تأتي النجدة الإلهية من حيث لا أسباب ولا شيء.
من يأخذ بالأسباب المتاحة له يتولى الله الباقي يقيناً :
الدكتور راتب:
من حيث لا أسباب مطلقة لا أظن ذلك، لكن لو أخذت بالأسباب قدر الإمكان، تأتي النجدة الإلهية، الدليل:
﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
[ سورة البقرة الآية : 249]
سيدنا خالد طلب مدداً ليواجه عدواً، أُرسل له رجل واحد ، اسمه القعقاع بن عمرو، فلما وصل إليه قال أين المدد؟ قال له: أنا المدد، قال له: أنت؟ قال له: أنا، معه كتاب، قرأ الكتاب، يقول سيدنا أبو بكر: فو الذي بعث محمداً بالحق، إن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم.
وانتصروا، أحياناً حينما تأخذ بالأسباب المتاحة لك يتولى الله الباقي يقيناً.
خاتمة و توديع :
الأستاذ عدنان:
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والحمد لله رب العالمين
http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=2478&id=189&sid=799&ssid=809&sssid=841