ندوات تلفزيونية - قناة انفينيتي - مكارم الأخلاق - الدرس ( 16-30 ) : التوبة، الألوان عند الطيور
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-03-17
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
الأستاذ عدنان:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله، وأرحب بكم في برنامج:" مكارم الأخلاق"، وباسمكم أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين، أهلاً ومرحباً بكم دكتور .
الدكتور راتب:
بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً .
الأستاذ عدنان:
من منا لا يحتاج إلى التوبة؟ ومن منا لم يقصر حتى يتوب بعد ذلك؟ التوبة في حياة المسلمين ضرورية، وهي تهب التائب نفساً جديداً ـ كما يقال ـ وروحاً جديدة، وأملاً جديداً، ترى ما مكانة التوبة في الدين الإسلامي؟
مكانة التوبة في الدين الإسلامي :
الدكتور راتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أستاذ عدنان لأن الإنسان مذنب تواب، لأن:
(( كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ ))
[ الترمذي عن أنس بن مالك]
لأن الإنسان قد يغفل عن الله، وقد تغريه الشهوة، فتزل قدمه، ولهذا كانت التوبة، التوبة صمام أمان، قارب نجاة، حبل نعتصم به، ولا نعرف قيمة التوبة إلا إذا تصورنا أن ديننا ليس فيه توبة، ما الذي يحصل؟ أن الذي يرتكب ذنباً صغيراً، وهو يعلم أن الله لن يتوب عليه يتابعه بذنب أكبر، وذنب أكبر إلى أن يفجر، عندئذ يهلك الناس جميعاً، ولكن الله عز وجل برحمته ما أمرنا أن نتوب إلا ليتوب علينا، وما أمرنا أن نستغفر إلا ليغفر لنا، وما أمرنا أن ندعوه إلا ليستجيب لنا، فالله يريد أن يتوب علينا، يريد:
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾
[ سورة النساء الآية: 27]
من أروع ما وصف النبي عليه الصلاة والسلام قيمة التوبة بأن:
(( أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ))
[ مسلم عن أنس بن مالك]
وقد نطق بكلمة الكفر، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "لله أفرح بتوبة عبده من ذاك البدوي بناقته":
((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ))
[ مسلم عن أنس بن مالك]
(( لله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد))
[ذكره السيوطي في الجامع الصغير عن أنس]
باب التوبة مفتوح على مصارعه لكل إنسان :
لذلك باب التوبة مفتوح على مصارعه، والله عز وجل يحب التوابين، أي ما من شيء يصيب الإنسان وحلّه في التوبة، أي ذنب يقترفه الإنسان مهما كبر، التوبة تلغي هذا الذنب، التائب من الذنب كمن لا ذنب له:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
[ سورة الزمر الآية: 53 ]
لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي، لذلك الإنسان بالتوبة ينفذ نفسه من أخطائه، وكأن التوبة فتح صفحة جديدة مع الله، رمضان إلى رمضان:
(( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ))
[ متفق عليه عن أبي هريرة ]
(( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ))
[ متفق عليه عن أبي هريرة ]
(( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ))
[ متفق عليه أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
((... الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا ))
[رواه مسلم عَنْ عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، التوبة أكبر رحمة من الله عز وجل، فالمؤمن مذنب تواب:
(( كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ ))
[ الترمذي عن أنس بن مالك]
وأنت بالتوبة تفتح مع الله صفحة جديدة، وتزيل عن كاهلك ذنوباً كالجبال.
الأستاذ عدنان:
دكتور أحياناً كلنا نخطئ ثم نتوب، لكن أحياناً يخطئ الإنسان ثم يتوب ثم يخطئ ثانية، لا من باب أن الإنسان يمكن أن يخطئ، وأنه مشدود بترابيته إلى الأرض فيخطئ ثم يتوب ولكن من باب الإصرار على المعصية فكأنه المستهزئ بربه ـ والعياذ بالله ـ، هذا يشير بشكل ما إلى أن للتوبة شروطاً وأركاناً يجب أن تتبع وإلا فنكون كالمصرين على الذنب.
أركان التوبة :
الدكتور راتب:
الحقيقة أن للتوبة ثلاثة أركان، علم وحال وعمل، قبل ذلك أحد علماء الاجتماع اسمه دورك هايم عمل قانوناً لعلاقة الإنسان بمحيطه، هذا القانون ثلاث كلمات مترابطة؛ إدراك، انفعال، سلوك، أنا أمشي في بستان، رأيت أفعى، إذا صحّ إدراكي أنها أفعى وأن لدغتها قاتلة لا بدّ من أن أضطرب، فإذا صحّ اضطرابي لا بدّ من أن أتحرك، إما لأقتلها أو لأهرب منها، إن رأيت إدراكاً مزعوماً ولا اضطراب معه، فالإدراك كاذب، إنسان قال للثاني على كتفك عقرب، بقي هذا الإنسان هادئاً جداً، متمتعاً بتوازنه، والتفت إلى من قال له هذه الملاحظة وقال له: أنا شاكر لك على هذه الملاحظة، وأسأل الله أن يعينني على أن أكافئك عليها، لم يفهم ما قيل له، لو فهم لقفز ولخرج من جلده، لذلك ما لم يكن الإدراك صحيحاً ليس هناك مع الإدراك اضطراب، وما لم يكن الاضطراب صحيحاً ليس مع الاضطراب سلوك أو حركة، فعلامة أن الإنسان قد أدرك خطأه يضطرب، وعلامة اضطرابه سلوكه.
1 ـ العلم :
لكن الركن الأول في التوبة العلم، الإنسان كيف يعالج ضغطه المرتفع ـ والضغط المرتفع هو القاتل الصامت ـ؟ يعالجه إذا علم أن معه ضغطاً مرتفعاً، لذلك الإنسان حينما يطلب العلم يقيّم نفسه، هذا الدخل فيه حرمة، هذا الإنفاق حرام، هذه العلاقة شائنة، هذا الكلام كذب، هذا الكلام تغرير، هذا الحديث غيبة، الإنسان إذا طلب العلم ولا سيما طلب مفردات منهج الله عز وجل، يقيّم نفسه تقييماً صحيحاً، فما لم يطلب الإنسان العلم قد يرتكب ذنوباً كثيرة و يظن أنها ليست بذنوب، لذلك قال العلماء: كلما كبر الذنب عند الإنسان صغر عند الله، وكلما صغر عند الإنسان كبر عند الله، بل إن ذنب المنافق كالذبابة، بينما ذنب المؤمن كجبل جاثم على صدره، وكلما عظم الذنب عندك صغر عند الله، وكلما صغر عندك عظم عند الله، لذلك العلم هو الذي يقيّم الإنسان، الإنسان أحياناً يستثمر ماله فرضاً بربح ثابت، يظن أنه استثمار، ما دام الربح ثابتاًً و لا يوجد ربح وخسارة، هذا أقرب إلى الربا منه إلى الاستثمار، فالإنسان إذا طلب العلم عرف مكانه الصحيح من هذا الدين عندئذ يتوب، فلا توبة قبل طلب العلم، الإنسان قد يكون الران على قلبه، يرتكب المعاصي والآثام، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾
[ سورة الكهف الآيات: 103-104]
2 ـ الاضطراب أو الندم :
إذاً الركن الأول في التوبة هو العلم، العلم الحقيقي الصحيح الخالص لله، يعقبه اضطراب، يعقبه ندم، يعقبه تمزق، يعقبه أسف، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((الندم توبة))
[أحمد عن أنس بن مالك]
وهذا من إيجازه الشريف، لأن الندم لا بدّ من علم سببه ولا بدّ من إقلاع يتبعه، فالتوبة علم وحال وعمل، حال التائب حال النادم، حال الذي يقترف المعصية هو حال النادم، ولأن منهج الله عز وجل متوافق تماماً مع الفطرة السليمة، فأي إنسان يقترف الذنب يشعر بانقباض، يشعر بألم، يشعر بندم، ولولا هذه الفطرة السليمة لما تاب إنسان إطلاقاً، لكن هناك فطرة سليمة أنبأته بأنك مخطئ، والخطأ انعكس كآبة، وضيقاً، وضجراً، فجاءت التوبة فأزاحت عن كاهله هموماً كالجبال، فلذلك العنصر الثاني هو الاضطراب، أو الانفعال، أو الندم، لكن الندم الحقيقي لا بد من أن يفضي إلى عمل:
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ﴾
[ سورة الكهف الآية: 110 ]
الله ما ربط الفلاح إلا بالعمل، بالحركة:
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾
[ سورة الأنفال الآية: 72]
3 ـ العمل :
إذاً الإنسان إذا كان من أركان التوبة العلم الذي يقيّم الأخطاء، بصراحة لو أن إنساناً ضعيفاً باللغة، وقرأ نصاً، وارتكب فيه عشرات الأخطاء، سمع قراءته إنسان أجهل منه يقول له: ما شاء الله على هذه القراءة، لو كان هناك لغوي ومتقن لعمله يكشف له عشرين غلطة في الصفحة الواحدة، فالعلم هو الذي يكشف الخطأ، أما الجهل لا يكشف الخطأ، لذلك طلب معرفة أحكام الشرع فريضة بعد الفريضة، لا بدّ من أن أعرف تفاصيل الشريعة، إذاً التوبة علم، والتوبة حال انفعال، ألم، ندم، والتوبة عمل، العمل ينشطر إلى ثلاثة أشطر، ندم على ما كان، وإقلاع فوري، وعقد عزم على ألا يعود لهذا الذنب، ندم على ما كان، وإقلاع فوري، وعزيمة صادقة على ألا يقع في هذا الذنب ثانية.
أركان التوبة علم، وحال، وعمل، العمل هو الأصل، لأن الله عز وجل في بعض الآيات يقول:
﴿ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾
[ سورة التوبة الآية: 118 ]
شيء يحير، بعض العلماء قال: تاب عليهم ليتوبوا، أي ساق لهم من الشدائد ما يحملهم على التوبة:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
[ سورة السجدة الآية: 21]
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
[ سورة الروم الآية: 41]
الإنسان حينما يتوب إلى الله يرجو أن يقبل الله توبته :
التوبة أحياناً تبدأ بشدة من الله يسوقها للإنسان، العلماء قالوا: كل شِدة وراءها شَدة إلى الله، وكل مِحنة وراءها مَنحة من الله عز وجل:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾
[ سورة البقرة الآيات: 155-157 ]
إذاً التوبة علم، والتوبة حال، والتوبة عمل:
﴿ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾
[ سورة التوبة الآية: 118 ]
أي ساق لهم من الشدائد ما يحملهم بها على التوبة، الآن تابوا فتاب عليهم، أي قبل توبتهم، فلذلك الإنسان حينما يتوب إلى الله يرجو أن يقبل الله توبته.
الأستاذ عدنان:
دكتور قوله تعالى:
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾
[ سورة النور الآية: 31]
أولاً: أيها المؤمنون، ثانياً: توبوا جميعاً، هم مؤمنون هل هم مقصرون حتى يحتاجون إلى التوبة؟ ما توضيح هذه الآية؟
الإنسان لا يقطف ثمار هذا الدين العظيم إلا بتوبة جماعية :
الدكتور راتب:
التوضيح معك هاتف، ولك خمسون صديقاً، وليس مع هؤلاء جميعاً هاتف، ما قيمة هاتفك؟ لا قيمة له إطلاقاً، أي التوبة لا تقطف ثمارها إلا إذا تاب المؤمنون جميعاً، إذا تابوا جميعاً سرى بينهم العدل، سرت بينهم الثقة، سرت بينهم المحبة، أما أن تتوب وحدك لك أجر وتنجو، لكن لا تقطف ثمار هذا الدين العظيم إلا بتوبة جماعية، أنت إذا كنت مع أولادك، كلهم يخاف الله، إذا أمرك الله ألا تأخذ مالاً حراماً، أمر المليار والخمسمئة مليون ألا يأخذوا منك مالاً حراماً، إذا أمرك أن تكون صادقاً أمر المليار والخمسمئة مليون أن يصدقوا معك، أنت تظن أن التدين فيه عبء، هؤلاء الذين أمروا مثلك أن يستقيموا معك هو في أوراقك الرابحة، إذاً:
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾
[ سورة النور الآية: 31]
كأن الله عز وجل ينتظر منا أن تكون توبتنا جماعية حتى نقطف ثمار هذا الدين، لو أن الباعة جميعاً كانوا منسجمين مع منهج الله، مطبقين له، لا يأكلون مالاً حراماً، لا يغشون أبداً، البيع والشراء فيه راحة كبيرة جداً، لكن الآن البيع قد يكون معركة، تخاف أن تغش، تخاف أن يدلس عليك، تخاف أن تكون هذه العلامة غير صحيحة مزورة، تخاف أن يكون السعر مرتفعاً، تخاف أن يكون هذا الاستيراد من بلد شرقي لا من بلد غربي، مثلاً فهناك أساليب كثيرة يفعلها الناس ليأكلوا مالاً حراماً، إذا كانت التوبة عامة عاش الناس في بحبوحة، وفي يسر، وفي سعادة.
الأستاذ عدنان:
﴿ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾
[ سورة النساء الآية: 17]
تأخير التوبة يولد قسوة في قلب الإنسان :
الدكتور راتب:
الحقيقة الإنسان حينما يؤخر توبته يقسو قلبه، عندئذ تصعب التوبة، الذنب كله خاطرة تظهر في ذهن الإنسان، هذه الخاطرة تنقلب إلى فكرة، هذه الفكرة تنقلب إلى إرادة، هذه الإرادة تنقلب إلى عمل، هذا العمل إذا تابعه الإنسان، ينقلب إلى عادة، فإذا أصبحت العادة محكمة في حياتنا يصعب التوبة منها، فلذلك الخواطر لا تحاسب عليها بالأصل، الإنسان لا يحاسب على خواطره ولكن يحاسب على خواطره التي تابعها فانتقلت من خاطرة إلى فكرة إلى شهوة إلى عمل إلى متابعة إلى عادة، فلذلك:
﴿ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾
أي بين الذنب وبين التوبة يجب أن تكون المسافة قصيرة جداً، والزمن قليل جداً، وإلا أَلِف الإنسان هذه المعصية، ومن أصعب العادات أن يعتاد على شيء معين عندئذ لا يستطع تركه، التوبة من قريب تعني أن الإنسان يقظ، سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: << تعاهد قلبك >> . والمؤمن دائماً يفكر فيما يفعل، أما الذي انساق وراء شهوته دون أن يحاسب نفسه، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
من أعدّ للموت عدته كان من أسعد الناس :
البطولة أستاذ عدنان لا أن تعيش الماضي، ولا أن تعيش الحاضر، أن تعيش المستقبل، أخطر حدث مستقبلي مغادرة الدنيا، والإنسان ينتقل من كل شيء إلا لا شيء، إلى قبر، فإذا كان قد أعدّ لهذا الوقت عدته يكون أسعد الناس، لذلك قال تعالى:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
[ سورة العصر الآيات: 1-3]
ما معنى في خسر؟ أي مضي الزمن يستهلكه، من أدق تعريفات الإنسان أنه: بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، لذلك: ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة .
إذاً الإنسان حينما يعيش المستقبل يسارع إلى التوبة، أستاذ عدنان لا يستطيع واحد منا أن ينكر حدث الموت، لكن الناس يتفاوتون لا في تصديقه أو عدم تصديقه، يتفاوتون في الاستعداد له، يستعد للموت بالتوبة، يستعد للموت بالعمل الصالح، بإنفاق المال، بتربية الأولاد، بأداء العبادات، لذلك التوبة أحد أكبر المنجيات، لكن التوبة عند الغرغرة:
﴿ وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ﴾
[ سورة الأحزاب الآية: 18]
هذه التوبة لا تقبل ولا تجدي نفعاً إطلاقاً.
التوبة أكبر عطاء إلهي :
إذاً الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، والتوبة نواجه بها الحدث الأخير في الحياة الدنيا، إذاً التوبة من قريب تجعلك مهيئاً للقاء الله عز وجل، بل إن بعض الأعراض التي تصيب الإنسان بعد سن الخمسين إنما هي إشارات لطيفة من الله عز وجل أن يا عبدي قد اقترب اللقاء، فهل أنت مستعد له؟ فالتوبة أكبر عطاء إلهي، التائب من الذنب كمن لا ذنب له، الله يحب التوابين:
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾
[ سورة النور الآية: 31]
﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
[ سورة الأنعام الآية: 45]
الأستاذ عدنان:
دكتور موضوع أن يكون الإنسان بعد ذنب تائباً، وأن يزمع على التوبة لكنه ينقضها بعد حين قد تكون قليلة في عدد النقض ولكن يمكن أن تكون أيضاً متوالية كثيرة.
من أعاد الذنب صعبت عليه التوبة :
الدكتور راتب:
الحقيقة أن أهون توبة هي أول توبة، بكلمة يا رب لقد تبت، يقول: عبدي وقد قبلت، قيل مرة إذا قال العبد: يا رب وهو راكع، يقول الله له: لبيك يا عبدي، فإذا قال: يا رب وهو ساجد، يقول الله له: لبيك يا عبدي، فإذا قال: يا رب وهو عاصٍ يقول الله له: لبيك، ثم لبيك، ثم لبيك، أي أهون توبة هي التوبة الأولى، والله يفرح بهذه التوبة، لكن التوبة الثانية أصعب، والثالث أصعب وأصعب، فكلما أعاد الذنب صعبت التوبة، ولكن أقول لمن ينقض توبته: لا بدّ من أن تتوب إلى ما لا نهاية، ليس لنا إلا الله، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ))
[أحمد عن عَنْ أَبِي ذَرٍّ ]
إنسان كان مخطئاً فتاب إلى الله فقبل الله توبته، ثم إذا هو يقع في الذنب مرة ثانية، الآن ضعفت همته على التوبة، شعر أنه نقض عهده مع الله، الآن يرمم هذا الضعف بصدقة:
((وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))
[أحمد عن عَنْ أَبِي ذَرٍّ ]
أحياناً الصيام يضاف إلى التوبة، الصدقة تضاف إلى التوبة، على كلٍّ باب التوبة مفتوح على مصراعيه إلى ما قبل الموت، وما دام القلب ينبض فالأمل كبير، قال تعالى:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
[ سورة الزمر الآية: 53 ]
أنا أعجب ممن يقع في الذنب ولا يتوب، لا يكلفه إلا أن يقول: يا رب لقد تبت إليك، يقول: عبدي وأنا قد قبلت، الدنيا ساعة اجعلها طاعة، والنفس طماعة عودها القناعة.
الأستاذ عدنان:
نسأل الله أن نتوب، وأن يقبل توبتنا، وإذا ما استعرضنا معكم شيئاً من إعجاز الله عز وجل، ونرى ونمعن ونفكر فإننا نقول: يا رب قد تبنا إليك.
الإعجاز العلمي :
الألوان عند الطيور :
الدكتور راتب:
الطائر له ألوان أخاذة، وكأن الهندسة الوراثية مبرمجة على هذه الألوان، أحياناً ترى اللون الأحمر الدقيق، أستاذ عدنان مهندسو الألوان من أساتذتهم؟ الطيور والفراشات، الألوان الرائعة جداً أساسها ألوان الطيور، الطير خصه الله بألوان أخاذة، ألوان متناسبة، ألوان معتدلة، ألوان مضبوطة، الآن يقول لك: اللون الأحمر ألف درجة، أثناء استخدام الألوان رقم الدرجة 3380 فرضاً، فالألوان لها درجات، هذا كله في الطيور، لذلك كان دارون الذي جاء بنظرية التطور كلما رأى الطاووس دهش، أن هذه تتناقض مع نظريته، ما دام الخلق عشوائياً، خُلِق هذا الطائرة صدفة، أين له هذه الألوان الرائعة؟ لو تأملت في جمال الفراشات والطيور بحسب ألوانها لكان الشيء مدهشاً، دائماً وأبداً المؤمن يتلمس جمال كائنات الله عز وجل، لأن غير المؤمن يستمتع بالجمال الصناعي، بينما المؤمن استشرفت نفسه الجمال المطلق، نحن حينما نستمتع بالحياة الدنيا نأخذ مسحة من جمال الله عز وجل، أما لو اتصلنا بالله عز وجل لاتصلنا بالجمال والكمال، فلذلك المؤمن ينطوي على سعادة لو وزعت على أهل بلد لكفتهم، الطيور لها ألوان ولها خطوط متناسقة، والطير محبب، قال تعالى:
﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ﴾
[ سورة يس الآية: 42 ]
هناك حيوانات غير محببة، من أجل أن تعلم أن تحبيب الطيور لنا شيء ممكن، بينما أي حيوان قد يكون بحجم الطير، وقد يكون له خطوط انسيابية، لكنك تخرج من جلدك إذا رأيته، لذلك:
﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ﴾
[ سورة يس الآية: 42 ]
الإنسان حينما يقول الله عز وجل:
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾
[ سورة الإسراء الآية: 44]
﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
[ سورة الحشر الآية: 24]
خاتمة و توديع :
الأستاذ عدنان:
نسأل الله تعالى أن نكون على طريق التوبة، وخاصة من خلال ما ذكرتم ووضحتم من الإعجاز الذي نشهده في إعجاز الخلق الذي أراده الله عز وجل، في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة و أصول الدين، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
والحمد لله رب العالمين
http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=2474&id=189&sid=799&ssid=809&sssid=841