ندوات تلفزيونية - قناة انفينيتي - مكارم الأخلاق - الدرس ( 15-30 ) : الأخلاق
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-03-16
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
الأستاذ عدنان :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله، وأرحب بكم في برنامج: "مكارم الأخلاق"، وباسمكم أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين، أهلاً ومرحباً بكم دكتور .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ عدنان جزاك الله خيراً .
الأستاذ عدنان :
دكتور في حياتنا الاجتماعية نقول عن فلان: إنه مخلص، بل نزيد ونقول: إنه غاية في الإخلاص، وقد يكون الأمر غير مستبين بأعمال كبيرة، لكن تطلق مع هذا هذه الصفة ترى ما هو السبب؟ هل السبب هو أننا عرفنا أن ما في داخله هو الإخلاص قد يترجم من خلال الأعمال إلى أعمال جيدة، وهل يكون موضع الإخلاص من خلال القلب أم من خلال الجوارح؟مقدمة :
الإخلاص عبادة القلب :
مقدمة :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، أستاذ عدنان علة وجود الإنسان أن يعبد الله، لقوله تعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
[ سورة الذاريات الآية :56]
والإنسان جوارح وقلب، عبادة الجوارح معروفة؛ الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والعبادات التعاملية، ولكن الإخلاص عبادة القلب:
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ﴾
[ سورة البينة الآية :5]
فلذلك الجوارح علاقتها بالقلب، فالقلب إذا أخلص لله عز وجل قبلت عبادة الجوارح، وإن لم يخلص القلب في عبادته لله لم تجدِ عبادة الجوارح.
الأستاذ عدنان :
إذاً القلب هو مظلة الأعمال.
الإخلاص هو الدين كله :
الدكتور راتب:
الذين يقولون: إن الإخلاص نصف الإيمان، الحقيقة هو الإيمان كله، لأنه إن لم يكن هناك إخلاص فالأعمال لا قيمة لها، من هنا حينما قال الله عز وجل:
﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾
[سورة النمل الآية:19]
متى يرضى الله عن العمل الصالح؟ قال بعض العلماء: إذا كان خالصاً وصواباً، صواباً ما وافق السنة، وخالصاً ما ابتغي به وجه الله، فالإخلاص ينفع معه كما تفضلتم كثير العمل وقليله، بينما عدم الإخلاص لا ينفع معه لا كثير العمل ولا قليله، فكأن الإخلاص هو الدين كله.
الأستاذ عدنان :
هل لهذا السبب يقال: نية المؤمن خير من عمله؟
الدكتور راتب :
بل إن الحديث المتواتر الذي يعد أصلاً في هذا الدين:
(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))
[ متفق عليه عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ]
أي إنما قيمة الأعمال محصورة في نياتها، الأعمال مهما بدت عظيمة قد يجعلها الله هباءً منثوراً:
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾
[سورة الفرقان الآية:23]
لذلك الإخلاص هو الدين كله.
الأستاذ عدنان :
في هذه الحالة ذكرتني بأشياء كثيرة تتصل بموضوع الإخلاص حينما يكون واضحاً جلياً عند الإنسان المؤمن، إذ إنه عندما يكون على غير ذلك ليقال عنه: إنه عالم، ليقال عنه: إنه جاهل، ليقال عنه: إنه أنفق، وقد قيل: انتهى عمله، أي لا فائدة من عمله على الإطلاق، إذاً نعود لقولكم الواضح البين في هذا الأمر، موضع الإخلاص هو القلب، ويترجم بعد ذلك في كثير العمل أو قليله ويكون مقبولاً، مكان الإخلاص من الإيمان؟
مكانة الإخلاص من الإيمان :
الدكتور راتب :
أنا أضرب مثلاً لو أن إنساناً سأل طبيباً من المتفوقين أن يعلمه فقط كيف يكتب الوصفة، يقول له الطبيب: الوصفة محصلة أربعة وثلاثين عاماً من العلم، ملخصة كلها في كتابة الوصفة، لو أنك سألت ما قيمة العملة في الاقتصاد؟ هي تعبير عن الاقتصاد، قوة البلد، صناعته، تجارته، ربحه، طاقاته، طاقات أبنائه، ثرواته الطبيعية، نظامه الاقتصادي، نظام تكافؤ الفرص، كل العوامل تلخص بسعر العملة، فلذلك الإخلاص يضغط الدين كله:
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ﴾
[ سورة البينة الآية :5]
فمكانة الإخلاص من الدين هي مكانة الرأس من الجسد، فما لم يكن هناك إخلاص ليس هناك ديناً، والأحاديث كثيرة أن الذي قرأ القرآن ليقال عنه قارئ وقد قيل، والذي تعلم العلم ليقال عنه عالم وقد قيل، كل هذه الأعمال التي تبدو كبيرة هي في حقيقتها لا قيمة لها، أضرب مثلاً بنظام البلديات؛ الأرض المشاع لها سعر، أما إذا نظمت إلى محاضر يتضاعف سعرها إلى مئات المرات، لو أن إنساناً يملك آلاف الدونمات، وجاءه من يقول له: لو تبرعت بخمسة دونمات لمسجد، ستنظم عندئذ أرضك ويرتفع سعرها، فتبرع بهذه الدونمات بنية أن يرتفع سعر أراضيه، ويحقق ثروة طائلة، وقد لا يصلي هو بالأساس، ظاهر هذا العمل عمل عظيم، محسن كبير، تبرع بأرض لكن الله يعلم أنه تبرع بهذه الأرض لا حباً بالله، ولا تقرباً إليه، إنما تبرع بها من أجل أن تزداد ثروته، لذلك:
(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))
[ متفق عليه عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ]
وقد سمى الصحابة رجلاً أنه: مهاجر أم قيس، أم قيس امرأة في المدينة اشترطت على من أحبها وهو في مكة أن يهاجر إليها، فهاجر من مكة إلى المدينة ابتغاء أن يتزوجها، سمي عند الصحابة مهاجر أم قيس، إنما الأعمال بالنيات.
الأستاذ عدنان :
دكتور هنا ينطلق سؤال آخر من خلال هذا الكلام، نحن كثيراً ما نشهد الناس يقومون بأعمال الخير، لكن هذه الأعمال قد تكون مرتبطة كما ضربت مثلاً بقطعة أرض تبرع صاحبها بقسم منها من أجل مسجد، ولكن الغاية كانت من أجل أن يرتفع سعر أرضه، من ناحية ثانية يمكن أن يقول هذا الإنسان: والله سأعمل أعمالاً لله، وفي نفس الوقت أكسب شيئاً من المال، وقد يكون على غير هذا و ذاك، قد يقول: إن الأرض كلها لله تعالى، أما وإنهم طلبوا قسماً معيناً منها فليكن للمسجد وبقية الأرض لله تعالى، ما نصيب هذا من الأجر والثواب؟
الإخلاص يرفع قيمة العمل إلى أعلى عليين :
الدكتور راتب :
له نصيب بقدر ما بذل، مرة حاجب مدرسة فقير جداً، عنده ثمانية أولاد، ودخله لا يكفيه أياماً، ورث أرضاً، وكانت مناسبة لمسجد، فجاء الذي يشتريها ليكون عمله صالحاً بإنشاء مسجد، أعطاه قسماً من ثمنها، فقال له: أين الباقي؟ قال له: عند التنازل في الأوقاف، فقال: أنا أستحي أن أبيع أرضاً تغدو مسجداً، أنا أهبها لله، يقول هذا المحسن المليونير: والله ما صغرت في حياتي أمام إنسان كما صغرت أمام هذا الإنسان الفقير، الذي قدم لله كل ما عنده مخلصاً بهذا العمل، فالإخلاص يرفع قيمة العمل إلى أعلى عليين، لذلك يقال: رب درهم سبق ألف درهم، رب درهم بإخلاص سبق ألف درهم برياء .
الأستاذ عدنان :
من خلال هذه القصة التي ذكرتها يتبين الإخلاص جلياً في مظاهر متعددة، يمكن أن تكون البسمة القلبية أوضح من البسمة على الشفاه ، ويمكن أن يكون الرضا القلبي أعلى بكثير وأجلب للسعادة من أموال يكسبها الإنسان، مظاهر الإخلاص عندما يكون هذا الإخلاص متمكناً في القلب كيف تكون؟
مظاهر الإخلاص :
الدكتور راتب :
أستاذ عدنان حينما يستوي عملك أمام الناس وفي خلوتك فهذه علامة إخلاص، عباداتك، أعمالك، انضباطك، يجب أن يستوي هذا عندما تكون في بيتك أو عندما تكون مع الناس ، العمل إذا لم يختلف في خلوتك وفي جلوتك فهذه علامة إخلاص طيبة.
شيء آخر: العمل لا يختلف إذا أعقبه ثناء الناس أو ذمّ الناس، لأنك تعمل هذا من أجل الله، فلا تعلق أهمية على مدح الناس، وعلى ذمهم، ومن عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به.
إذاً الإخلاص يستوي فيه العمل سراً وجهراً، في الخلوة والجلوة، مع مديح الناس ومع ذمهم، فهذه علامات مؤشرة.
وأنا أقول دائماً هناك أوامر كثيرة في الدين تلتقي مع القوانين، كتحريم السرقة فالذي لا يسرق لا ندري لم يسرق خوفاً من القوانين أم خوفاً من الله؟ لكن هناك أوامر ينفرد بها الدين، منها غضّ البصر، منها الصيام، تدخل إلى البيت ولا أحد يراقبك، والماء بارد في الثلاجة، وأنت صائم، وأنت تتمنى أن تضع قطرة ماء في فمك، ولا تفعل هذا، هذه عبادة الإخلاص، لا يمكن إلا أن تفسر بالإخلاص، فربنا رحمة بنا أعطانا عبادات نعرف ما إذا كنا مخلصين أو غير مخلصين.
الأستاذ عدنان :
دكتور يمكن أن يقدم الإنسان على عمل خير، وأن يقدمه بإخلاص كامل لله تعالى وبنية متكاملة بالإخلاص، بعد أن يقدمه وليس في نيته شيء من مرائه يأتيه إنسان ويقول له كلاماً جميلاً، أنت أحسنت، أنت عملك جيد، أنت ممتاز، هنا قد يداخل هذا الإنسان المحسن في إخلاصه شيء ما بعد أن تكون نيته في البداية مخلصة لله تعالى، ثوابه في هذه الحالة هل يختلف؟
الفرق بين المؤمن الصادق المخلص و بين المؤمن ضعيف الإيمان :
الدكتور راتب:
((إذا مدح المؤمن الصادق المخلص ربا الإيمان في قلبه))
[أخرجه الطبراني عن أسامة بن زيد]
أما إذا مدح ضعيف الإيمانف يكبر بهذا المديح ويستعلي على من حوله لذلك:
((إذا مدح المؤمن في وجهه ربا الإيمان في قلبه ))
[الطبراني عن خلاد بن السائب رحمه الله ]
((إذا لِقيتم المدَّاحِينَ فاحثوا في وجوهم الترابَ ))
[مسلم عن عبد الله بن سخبرة رضي الله عنه ]
حديثان يبدوان متناقضين، إذا مدحت إنساناً ضعيف الإيمان يستعلي بهذا المديح ويعلو على الناس ويستكبر، أما إذا مدحت إنساناً مخلصاً يزداد بهذا المديح محبة لله وتواضعاً.
الأستاذ عدنان :
دكتور في هذه الميادين ـ ميادين الإخلاص ـ وكنت قد تحدثت عن موضوع الدعوة في هذا المجال عندما يكون الإنسان مخلصاً وداعية لله تعالى يجب أن تتوفر فيه صفات عديدة، ولا أظن أن الله عز وجل بكرمه ورحمته يترك هذا الداعي إلا ويجلل بالنصر والنجاح في دعوته، موطن الإخلاص في الدعوة وآثاره أيضاً؟
مواطن الإخلاص في الدعوة و آثاره :
الدكتور راتب :
الحقيقة أن الدعوة يمكن أن تتذبذب بين أن تكون أقدس عمل يرقى إلى صنعة الأنبياء، و بين أن تكون أتفه عمل لا يستأهل إلا ابتسامة ساخرة، بالإخلاص تقترب الدعوة من صنعة الأنبياء، وبالارتزاق بالدعوة تقترب من أتفه الأعمال، لذلك يقول الإمام الشافعي: "والله لأن أرتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين".
تكون الدعوة قريبة من صنعة الأنبياء إذا رافقها الإخلاص، وتسقط من عين الله ومن عين الناس إذا لم يكن أساسها الإخلاص، فلذلك الإخلاص في الدعوة شيء مهم، لذلك هناك علامة دقيقة، الإنسان حينما يخلص ويرفع هذا العمل بإخلاص يقول الناس: جاءه ثواب، ثاب أي رجع، أنت إذا رفعت عملك إلى الله عاد هذا العمل سكينة في قلبك تشعر بها، فأحد أكبر علامات الإخلاص تلك السكينة التي يشعر بها المؤمن، هو عمل عملاً ابتغى به وجه الله، وأراد رضوان الله، والتقرب إلى الله، ولأنه لا يعبأ بكلام الناس مدحاً أو ذماً، ولا يعبأ بالظرف وحده أو مع الناس، ولأنه رفع هذا العمل لوجه الله عز وجل، الله عز وجل تفضل عليه بأن أعاد عليه من هذا العمل سكينة يسعد بها ولو فقد كل شيء، ويشقى بفقدها ولو ملك كل شيء.
الأستاذ عدنان :
اللهم اجعلنا من المخلصين، ونتابع إخلاص قلوبنا من خلال التطلع إلى عظيم خلق الله في خلقه.
معجزة الهجرة :
الدكتور راتب:
الحقيقة أستاذ عدنان هناك معجزة اسمها معجزة الهجرة، شيء محير، شيء معجز، هذه الطائرات المقاتلة كيف تطير؟ على شكل ثمانية، لماذا؟ يشكل كل طائر في هذا السرب منفذ هواء في تقاطع الجناح للطائر الذي خلفه وهذا يحقق مقاومة الهواء الأقل، عندما يمشي الطائر وراء الطائر هناك منفذ هوائي جاء من حركة الطائر الأول، هذا المنفذ الهوائي يعين الطائر على مزيد من الطيران، ويخفف عليه مقاومة الهواء، ويخفف عليه بذل الطاقة، فقال العلماء: الطائر الذي يأتي من خلفه لمواجهة هواء أقل، واستهلاك طاقة أقل، وهكذا يقتصد في الطاقة بنسبة عشرين بالمئة من مجموع الاستهلاك ، لذلك هذه الطيور العجماوات حينما تهاجر إلى أماكن بعيدة، وتقطع عشرات ألوف الكيلومترات، أحياناً سبعة عشر ألف كيلو متر تقطعها فلابدّ من أن تهاجر على شكل أسراب بشكل ثمانية، والطيران الحربي الآن يعتمد هذا في الطيران، لأن الطائر خلف الطائر فالمقاومة أقل، وبذل الطاقة أقل، لأن هناك منفذ هوائي، لكن الطائر الأول يضع جهداً كبيراً جداً، لذلك تتناوب الطيور على مقدمة هذا السرب، لأن فيها جهداً كبيراً، بينما الطائر الذي بعده يستفيد من هذا المنفذ الهوائي فيقلل من مقاومة الهواء، ويقلل من بذل الطاقة، هذه قضية مهمة جداً ومعجزة، والحقيقة أن بدراسة قوانين الطيران يستنبط هذه الحقائق، لذلك كل أسراب الطيران تطير على شكل ثمانية، أما أن يأتي حيوان طائر لا عقل له، يستخدم هذه التقنية الرائعة في توفير الطاقة والجهد، عن طريق الطيران على شكل ثمانية، وأن هذا الذي في مقدمة السرب يبذل جهداً كبيراً جداً لذلك لابدّ من التناوب، من علم الطائر هذه التقنية؟ من علم الطائر هذا النظام البديع في الطيران؟ من علم الطائر هذه الحكمة في الطيران؟
الطائرات التي صنعها الإنسان تطير تقريباً أربع عشرة ساعة باستمرار، هناك طيور تطير ستاً وثمانين ساعة بدون توقف، ألم أقل مرات عديدة: إن أعلى طائرة صنعها الإنسان لا ترقى إلى مستوى الطائر، قال تعالى :
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴾
[سورة الملك الآية:19]
تزامن رفرفة أجنحة الطيور مع بقية الطيور من آيات الله العظيمة :
الآن هناك شيء آخر؛ رفرفة أجنحة الطيور تتزامن مع بقية الطيور، هناك حركة متناسقة في أجنحة الطيور مع بعضها بعضاً، وهذه تؤمن لها مقاومة هواء أقل، وتوفير طاقة، ليس لأنها تمشي وراءها فقط بل لأن حركة الأجنحة متناغمة مع بعضها البعض، وهذه آية كبرى من آيات الله.
الإنسان بذكائه، وعقله، وتفوقه العلمي، وبعد تجارب عديدة، وبعد مئة عام في خبرات الطيران، يتوصل إلى نموذج في الطيران على غرار ما هو عليه الطائر، فمن علم الطائر؟ من أرشده؟ من جعله بهذه الطريقة العلمية؟
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ ﴾
[ سورة الملك الآية : 19]
اهتداء الطيور إلى أهدافها من آيات الله الدالة على عظمته :
الآن هناك سؤال كبير، الطيور كيف تهتدي إلى أهدافها؟ قد تقطع مسافات طويلة جداً، لو فرضنا طائراً يعشعش في دمشق، وطار في الشتاء إلى جنوب إفريقيا، الآن في عودته إلى دمشق بماذا يهتدي؟ لو أن إنساناً عاقلاً يحمل دكتوراه في الطيران، اختل نظام الطائرة معه، لن يهتدي إذا لم يكن معه أجهزة واتصالات مع الأرض، وبوصلة، ومئات الأجهزة التي تعينه على تحديد مكانه، وتحديد هدفه، هذا الطائر سينتقل اثني عشر ألف كيلو متر يا ترى هذا الطير كيف يهتدي في النهار ؟
في الحقيقة هناك علماء كثر أجروا تجارب على هذه الظاهرة، قالوا : كيف تهتدي الطيور المهاجرة إلى جهتها عندما تقطع مسافة آلاف الكيلو مترات؟ رجال العلم الباحثين عن جواب هذا السؤال قابلوه بمعجزة أخرى في الخلق، فضلاً عن بنية عظام الطائر، وعن ريشه، وعن أجهزته، وعن...، وعن...، هناك طريقة هدايته إلى هدفه معجزة أخرى، اللقالق مثلاً ترتحل من قارة إفريقيا إلى قارة أوربا مروراً بالبحر المتوسط، يذهب اللقلق بفصل ويعود بفصل، يذهب والأشجار عارية، بنية اللون، ويعود المنطقة خضراء، هناك تباين كبير بالمنظر الجوي، اكتشف بعض الباحثين أن في أجسام اللقالق أجهزة تُعين لها هدفها عن طريق مغناطيسية الأرض، من خلال هذه الأجهزة تتحدد أهدافها، وخطوط سيرها، وهذا شيء مدهش، وشيء من دلائل عظمة الله عز وجل، رحلتها تبلغ آلاف الكيلو مترات من أفريقيا إلى أوربا عبر المتوسط ومع ذلك لا تخطئ طريقها.
تستخدم الطائرة الحربية أجهزةً إلكترونية كثيرة لتعين خطوط الطول والعرض للطيران، ووجهته ، إلا أن إوزات الثلج التي تطير مسافات أطول بكثير من الطائرات الحربية تعرف من بين السحاب إلى أي جهة يجب أن تتجه دون أن تستخدم أي جهاز.
﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾
[سورة طه]
التكنولوجيا والتصميم في أجسام الطيور كاملان إلى حدٍّ يدعو إلى الدهشة :
الأكسجين قليل جداً في علو آلاف الأمتار لهذا السبب يستخدم الطيارون أقنعة أوكسجين، لكن ليس للإوزات حاجة لأقنعة الأكسجين، فقد خلقت رئتاها وخلايا الدم الخاصة بها بتصميم خاص، تستطيع بفضلها التنفس حتى في مثل هذا العلو ، إضافة إلى بنية الأجسام المخلوقة بتنسيق خاص تحميها من برودة تصل إلى خمسة وخمسين درجة تحت الصفر، هيأ الله في أجسامها ما يعينها على التنفس في هذه الأماكن العالية، وما يحميها من البرد الشديد، إضافة إلى بنية أجسام رائعة، التكنولوجيا والتصميم في أجسامها كاملان إلى حدٍّ يدعو إلى الدهشة. هذا صنع الله :
﴿ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾
[سورة لقمان الآية:11]
مرة ثانية وثالثة أؤكد أن أعظم طائرة صنعها الإنسان لا ترقى إلى مستوى الطائر.
اهتداء الطيور بالنجوم معجزة من معجزات الرحمن سبحانه :
أغرب الخصائص في الطيور المهاجرة أنها تظهر بعد غروب الشمس، تجد الطيور المهاجرة التي تطير في الليل جهتها اهتداءً بالنجوم، هذه معجزة كبيرة بلا شك، لأن هناك ملايين النجوم في السماء، وإيجاد الجهة بالنظر إلى النجوم عمل صعب جداً.
في الحقيقة هذا الأسلوب استخدمه الناس أيضاً في التاريخ، حيث كان البحارون يهتدون إلى جهتهم بحساب زوايا ومواقع النجوم، حتى اخترعوا البوصلة، واستخدموا خرائط النجوم، إضافة إلى ما يملكه الإنسان من عقل وإدراك ، أما الغريب في هذه الطيور الصغيرة فليس في أيديها خرائط للنجوم، ولم تتعلم أماكن أبراجها، وعلى الرغم من ذلك تعرف هذه الطيور بشكل معجز أماكن النجوم، وتجد الجهة بحسبها، وتقطع طريقها في ظلمة الليل دون أن تضيع وجهتها، قال تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾
[سورة النور الآية:41]
الحقيقة أن هذا الكون مدهش، وأن الإنسان كلما زاد في تفكره في خلق السماوات والأرض زاد معرفة بالله، وأصل الدين معرفة الله، والمعرفة التي أساسها التفكر معرفة يقينية تفضي إلى طاعة لله عز وجل.
خاتمة و توديع :
الأستاذ عدنان:
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، في كليات الشريعة و أصول الدين، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين.
والسلام عليكم ورحم الله وبركاته
والحمد لله رب العالمين
http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=4468&id=189&sid=799&ssid=809&sssid=841