ندوات تلفزيونية - قناة انفينيتي - مكارم الأخلاق - الدرس ( 11-30 ) : الثبات
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2008-03-12
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ عدنان :
تقديم وترحيب :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أيها الإخوة والأخوات ، السلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأرحب بكم في برنامج مكارم الأخلاق ، وباسمكم أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً ومرحباً بكم دكتور .
الدكتور راتب :
أهلا بكم أستاذ عدنان ، جزاك الله خيراً .
الأستاذ عدنان :
الثبات : هل هذه الكلمة تعني أن يثبت الإنسان في مكانه ؟ فلا يتحرك يمنة أو يسرى ؟ هل الثبات في الأخلاق أن يبقى عليها في كل أمور الحياة ، وأن يثبت في مكانه ؟ هل هذا هو الثبات ؟ أم يمكن أن يكون من الثبات أن يتقدم الإنسان في وجوه الخير ، أن يزيد منها ، وهل هذا زيادة على الثبات ، فيمكن إذاً أن نقول : إن في الثبات في معناه أن نوضحه في مصطلح ، فما هو تعريفه الاصطلاحي ؟
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الثبات الأخلاقي :
1 – الثبات هو الدوام وعدم الزوال :
أستاذ عدنان ، الثبات هو الدوام ، والثبات عدم الزوال .
إن الإنسان إذا قام بعبادة فالبطولة أن يثبت عليها ، قام بعمل صالح البطولة أن يستمر فيه ، قام بإنفاق مالٍ البطولة أن يتابع هذا الإنفاق ، لأن قضية الثبات من نتائجها التراكم ، لو ثبت على حضور درس علم تتراكم قناعاتك إلى أن تكون عالماً ، لو ثبت على عمل صالح تتراكم وجهتك إلى الله إلى أن تكون مقرباً .
2 – الثبات بقاء في القمة بعد بلوغها :
إن الأعمال الطيبة البطولة لا أن تقوم بها مرة واحدة ، أن تتابع القيام بها ، فلذلك يعد النبي صلى الله عليه وسلم سيدَ من ثبت على مبدئه .
(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته ، هذا يظهره الله أو أهلك دونه ))
[ السيرة النبوية ]
فقضية الثبات تأتي كقضية مهمة جداً بعد الإيمان بالله ، لذلك يمكن أن نصل إلى القمة ، والطريق وعر ، ومتعب ، وفيه عقبات ، وفيه أكمات ، وفيه صوارف ، وفيه بذل جهد ، لكن البطولة ليس أن تبلغ القمة ، أن تبقى فيها ، فالإنسان وهو في القمة قد يصيبه الغرور فينزلق ، ويسقط ، ودائماً البطولة أن تصل إلى القمة ثم تبقى فيها ، أن تحقق هذا النصر ، ثم تحافظ عليه ، أن تقوم بهذا العمل ، ثم تتابعه .
فلذلك الإنسان لا يتألق إلا بالثبات ، أما كومضة ، كجائحة ، أو كشيء طارئ فهذا شيء ممكن ، ومن الممكن لشاب أن يتألق دينياً شهرا أو شهرين ، لكن أدنى إغراء ، أو أدنى ضغط يخرجه عن ثباته ، نقول : هذا مقاومته هشة ، لكن الذين حققوا انتصارات كبيرة في الأرض الأبطال الكبار ، هؤلاء أعظم صفة فيهم أنهم ثبتوا على مبدئهم ، فلا تستطيع سبائك الذهب اللامعة ، ولا سياط الجلادين اللاذعة أن تصرفهم عن أهدافهم .
3 – الثبات على المبادئ بعد تغير الأحوال الدنيوية حُسْنا أو سوءًا :
إن الذي يقود أمة ، أو يقود مجتمعاً ألزم شيء بحاجة إليه أن يكون ثابتاً على مبدئه وعلى قيمه .
مثلاً : لما ينتصر الإنسان نصرا كبيرا ، ويفتح مدينة ، في 99 حالة من فاتحي المدن العظام أصابهم الكبر ، والعلو ، والعنجهية ، والغطرسة ، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكة المكرمة دخلها مطأطأ الرأس ، كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله عز وجل .
من السهل جداً أن تكون متواضعاً ، ولكن البطولة إذا بلغت قمة المجد أن تبقى متواضعاً ، ومن السهل جداً أن تكون كريماً ، ولكن إذا بلغت درجة من الفاقة أن تبقى كريماً ، فالذي يتألق به الإنسان هو الثبات ، الثبات على مبدئه ، الثبات على قيمه ، الثبات على تواضعه ، الثبات على حبه للآخرين .
أحياناً الدنيا تبدّل ، وتغير ، يكون في حال ، ثم يصبح في حال أخرى ، وهذا التبدل في الذي كان يعتقده وهو ضعيف ، ثم بالذي غيَّره بعد أن صار قوياً ، هذا يسقطه من عين الله ومن عين الناس .
لذلك كان عليه الصلاة والسلام حين وصل إلى أعلى درجات القوة ، حين دانت الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها ، وفتح مكة ، وانتصر في حنين ، وانتهى كل شيء بقيت المغانم ، جاء أحد أصحابه يقول له :
(( يا رسول الله ، إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم ، قومه الأنصار ، النبي عليه الصلاة والسلام سأل زعيم الأنصار : أين أنت من قومك يا سعد ؟ قال : ما أنا إلا من قومي ، قال : اجمع لي قومك ، جمع النبي الأنصار ، ووقف فيهم خطيباً ، وقال : يا معشر الأنصار ، أما إنكم لو قلتم فلصدقتم ، ولصدقتم به ، بماذا بدأ ؟ ذكرهم بفضلهم عليه ، أما إنكم لو قلتم فلصدقتم ، ولصدقتم به ، أتيتنا مكذباً فصدقناك ، وطريداً فآويناك ، ثم يقول عليه الصلاة والسلام : يا معشر الأنصار ! ألم تكونوا ضلالاً ـ ما قال فهديتكم ـ قال فهداكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف بين قلوبكم ، يا معشر الأنصار ! أوجدتم علي في أنفسكم في لعاعة من الدنيا ؟ تألفت قوماً ليسلموا ؟ ووكلتكم إلى إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار ، أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم ، فبكوا حتى أخضلوا لحاهم ، وقال لهم : اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ))
[ أحمد عن أبي سعيد الخدري ]
أستاذ عدنان ، بربك هذا الموقف في أي باب يصنف في السيرة ، مع تواضعه ؟ أم مع إخلاصه ؟ أم مع وفائه ؟ أم مع حنكته ؟
4 – ضعاف الإيمان لا يصمدون أمام رياح التغيير :
لذلك الإنسان أحياناً يصيبه التبدل والتغير ، وعندئذٍ لا قيمة للمبادئ التي طرحها يوم كان ضعيفاً ، البطولة أن نثبت على مبادئنا ، وعلى عقائدنا ، وعلى قيمنا .
لذلك ضعاف الإيمان أيّ ضغط يخرجهم عن إيمانهم ، وأي إغراء يخرجهم عن إيمانهم ، وفي آخر الزمان يصبح الرجل مؤمناً ، ويمسي كافراً ، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، فالثباتَ الثباتَ ، وأصحاب النبي الكريم بيَّن الله لنا أنهم ثبتوا على الحق .
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾
( سورة الأحزاب )
لكن ضعاف الإيمان في معركة الخندق قال أحدهم : أيَعِدنا صاحبكم ، لم يقل : رسول الله ، أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟ لذلك يُكشَف الإنسان بالامتحان .
﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾
( سورة آل عمران الآية : 179 )
الله عز وجل لابد من أن يمتحن الإنسان ليعرف نفسه أنه صادق ، فهو معرَّض للابتلاء ، والله عز وجل يقول :
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
( سورة المؤمنون )
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
( سورة العنكبوت )
الله عز وجل عنده أساليب في كشف حقيقة الإنسان لا تعد ولا تحصى ، لذلك تستطيع أن تخدع معظم الناس لبعض الوقت ، ويستطيع الإنسان أن يخدع بعض الناس لكل الوقت ، أما أن يخدع الإنسان كل الناس لكل الوقت فهذا مستحيل ، أما أن يخدع اللهَ ثانية واحدة ، أو أن يخدع نفسه ثانية واحدة فهذا مستحيل ، والله عز وجل تولى امتحان عباده :
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
أنت قل ما شئت ، لكن الله يضع هذا الإنسان في حجمه الحقيقي ، فالثبات بطولة ما بعدها بطولة ، ونحن بحاجة لمن يثبت على قناعاته ومبادئه .
الأستاذ عدنان :
دكتور ، أشرتم في البداية إلى أن الثبات يجب أن يكون ضمن إرادة الله تعالى من خلال الشرع ، فلو أن إنساناً ثبت على الباطل فباطله مستمر فيه ، وهو مستمر بباطله ، هذا مرفوض ، وفي البداية بينتم هذه الناحية ، والثبات عندما يكون منطلقه أن يكون الإنسان على الحق فالله تعالى يبارك له فيه ، ويعطيه مدداً من عنده ، لذلك إذا أردنا أن نتحدث عن البواعث التي تؤدي إلى مزيد من الثبات ، فإننا نجدها عندما يكون منطلقها الائتمار بما أراد الله تعالى ، نوضح هذه الناحية .
الدكتور راتب :
الرجوع إلى الحق لا الثبات على الباطل :
قبل أن أوضحها أشرت إلى قضية مهمة جداً ، إنسان على الباطل هل يعد ثابتاً إذا بقي على الباطل ؟ لا ، هنا تأتي فضيلة أخرى اسمها الرجوع إلى الحق ، لكن أنا أتصور أن هذه الفضيلة الرائعة لا يمكن أن نجدها عند النبي الكريم ، لأنه معصوم ، فكيف نجدها ؟
قال بعض كتاب السيرة : شاءت حكمة الله أن يحجب عن النبي الموقع المناسب في موقعة بدر حجبه عنه وحياً ، وحجبه عنه اجتهاداً ، وحجبه عنه إلهاماً ، فأمر أصحابه بمكان ليس بموقع جيد ، فجاء صحابي يكاد يذوب أدباً مع رسول الله ، قال : يا رسول الله ! هذا الموقع وحي أوحاه الله إليك ، أم هو الرأي والمشورة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : بل هو الرأي والمشورة ، فقال هذا الصحابي الجليل : والله يا رسول الله ليس بموقع ، فما كان من هذا النبي العظيم إلا أن أثنى على هذا الصحابي الجليل ، وأمر أصحابه أن يتحولوا إلى الموقع الذي اقترحه هذا الصحابي عبادة بن المنذر .
النبي الكريم أراد الله أن يظهر على يديه هذه الفضيلة ، وهي الرجوع إلى الحق ، أولاً : حجب عنه الموقع المناسب وحياً ، مع أن الوحي جاءه في موضوعات أقلّ من هذا بكثير ، وحجب عنه الموقع المناسب إلهاماً ، وحجب عنه الموقع المناسب اجتهاداً ، وجعله يظهر هذه الفضيلة ، وهي الرجوع إلى الحق .
فلذلك الإنسان المتفوق لا يتعنت ، ولا يلغي المعارضة ، وإذا أصغيت إلى من ينتقد ترقى ، وإذا منعت الذي ينتقدك أن ينتقدك لا ترقى ، لذلك الذين ينتقدون الإنسان لهم فضل عليه ، لأنهم يسعون دون أن يشعر ، ودون أن يشعروا إلى ارتفاعه .
فلذلك الثبات لا يمكن أن يكون ثباتاً على الباطل ، بل يقابل الثبات على الباطل هو الرجوع إلى الحق .
الباعث على الثبات على الحق :
1 – اتباع التفسيرات القرآنية للحوادث الدنيوية :
أكبر باعث على الثبات الله عز وجل :
﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ ﴾
( سورة إبراهيم الآية : 27 )
أستاذ عدنان ، أنت حينما تقرأ القرآن تجد تفسيراً عميقاً ودقيقاً ورائعاً ومتناسباً ومتناسقاً للكون والحياة والإنسان ، أنت عندك حاجة فكرية قد غذيت ، وقد استجيب لها ، عندك تصور صحيح ، لماذا خلق الله الكون ؟ لماذا خلقنا في الحياة الدنيا ؟ لماذا هناك مرض ؟ لماذا هناك فقر ؟ لماذا هناك عدوان أحياناً ؟ القرآن الكريم قدم لك تفسيراً دقيقاً لكل ما يجري ، فأحد أسباب الثبات أنك تقرأ منهج الله ، وأنك تتطلع على وحي الله ، فأنت كمسلم أعطاك الله عز وجل تفسيرات دقيقة ، حتى إذا رأيت أمة ضالة ، منحرفة ، معتدية ، طاغية ففي القرآن ما يفسر هذا :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾
( سورة الأنعام الآية : 44 )
2 – معاملة الله الحسنة للعبد بعد التوبة :
لكن هناك باعث آخر ، وأنا أعتقد أن الآخر أقوى من الأول ، وأنك حينما اصطلحت مع الله ، ورجعت إليه ، وأقبلت عليه ، وطبقت منهجه ، يأتي الإكرام الإلهي لك بمعاملة خاصة ، لك حفظ ، لك تأييد ، لك توفيق ، لك نصر ، هذه أقوى ما يثبتك على الحق .
لذلك أنا أقول ليس الفكر الديني ، ولا التصور الإسلامي ، ولا العقيدة الصحيحة وحدها تثبت ، بل إن معاملة الله لهذا المؤمن بعد أن اصطلح معه تثبته على هذا الطريق .
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾
( سورة هود )
الإنسان ما الذي يثبته ؟ فكره ، وإيمانه ، ويثبته عطاء الله له ، فكيفي أن يتجلى الله على قلب المؤمن بالسكينة ، وبالرضا ، ويكفي أن يفتح بصيرته .
إن الإنسان حينما يتصل بالله يلقي الله في قلبه نوراً يريه الحق حقاً ، والباطل باطلاً ، لذلك :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾
( سورة الحديد الآية : 28 )
إن الإنسان يقود مركبة في الليل ، و في الطريق منعطفات ، وفيه وادٍ سحيق ، عن يمين الطريق ، وعن يسار الطريق ، و فيه عقبات ، و فيه أكمات ، و فيه حفر ، إذا كان معه مصباح شديد يتقي الوقوع في الحفرة ، ويتقي الانزلاق في الوادي .
إن هذا النور الذي يقذف في قلب المؤمن بعد أن يتصل بالله هو الذي يعينه على السلامة والنجاة ، وعلى الثبات على طريق الحق ، وكلما ارتقى الإنسان أصبحت قيوده متوافقة مع الشرع .
(( نعم العبد صيب لو لم يخاف الله لم يعصيه ))
[ كنز العمال ، قال السيوطي : لم نظفر به في شيء من كتب الحديث ، قال ابن حجر : إنه ظفر به لابن قتيبة لكن بغير سند ]
(( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ))
[ الجامع الصغير عن عبد الله بن عمرو بسند ضعيف ]
لإسلام أمره بالصدق ، وهو صادق ، وهو يحب أن يكون صادقاً .
لذلك أسباب الثبات صحة العقيدة ، واستقامة السلوك ، هذا الذي تفضلت به .
الأستاذ عدنان :
بالمقابل الثبات على الحق ، وقد بينتم أن الطريق إلى الحق فيه مغريات ، إنما باتجاه ما في نفس الإنسان من قوة إيمان ، وبالمقابل فيه صعوبات من خلال ما يمكن أن يكون في هذا الطريق ، إذاً : لا بد للإنسان حتى يثبت من أمور تدفعه ، لكن يضعف هذا الثبات أحياناً .
الدكتور راتب :
الإنسان في حال الضعف لابد له من شحن إيماني :
مرة اقتنيت مصباحاً كهربائياً يشحن بالكهرباء المستمرة ، فأعجبني هذا المصباح ، ألغيت البطاريات كلياً ، لكنني أراه ضعيف الضوء فأقول : يحتاج إلى شحن .
وأنا أقول : إن المؤمن حينما يضعف ضوءه نقول له : أنت بحاجة إلى الشحن هناك شحن يومي ، الصلوات الخمس ، هناك شحن أسبوعي حضور خطبة الجمعة ، هناك شحن سنوي صيام رمضان ، هناك شحن مدى العمر الحج ، فكل هذه العبادات هي مناسبة لشحن الإنسان علمياً وروحياً ، فكلما ضعف ضوءه نقول له : هو بحاجة إلى شحن ، ولا أدل على ذلك من هذا الهاتف الجوال ، إن لم تشحنه يصمت ، وتنطفئ شاشته ، وكذلك المؤمن إن لم يشحن تنتهِ فعاليته ، ويصبح كسائر الناس ، يخاف إذا خاف الناس ، يقلق إذا قلق الناس ، يبخل إذا بخل الناس ، يتبع شهوته إذا فعلوا كذلك ، أما حينما يتصل بالله عز وجل فله مع الله شأن آخر .
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾
( سورة المعارج )
المتصل بالله له شأن خاص .
الأستاذ عدنان :
ولنا نحن المؤمنين في رسول الله أسوة حسنة ، إنه في سيرته عليه الصلاة والسلام ما يشير إلى ثباته على مبدئه ، وقد ذكرتم بعض هذه الأمور ، على كلٍ ضمن هذا الإطار ، وحتى لا نستطرد في موضوع الثبات ، ونترك جانب الموضوع الإعجازي العلمي ، وهذا يثبت الإنسان المؤمن على عقيدته ودينه ، نتابع معكم شيئاً من هذا الإعجاز العلمي إن سمحتم .
الدكتور راتب :
الموضوع العلمي : التمويه :
1 ـ التمويه عند اليرقات :
1 – براعة التمويه عند اليرقة :
هناك كائنات أخرى ، ولا زلنا في موضوع التمويه ، هناك كائنات أخرى تخفي نفسها عن طريق صنع زي لها ، الغريب في الأمر أن بينها يرقات ، وجودها بين الحشرات التي خرجت تواً من بيوضها ، هذه القطع من الفسيفساء المتحركة ليست سوى يرقة صغيرة أمنت لنفسها تمويهاً رائعاً بزيها المكون من قطع الحجر الصغيرة ، التي نسقتها على جسمها بدقة عالية كما ترون ، أزياء اليرقة ليست نموذجاً واحداً ، كما أن لها زياً من قطع الخشب الصغيرة المستقيمة صنعت لنفسها أيضاً فضفاضاً من الأوراق .
هذه الكائنات دودة صغيرة لا تملك أي عقل ، أو أي وعي ، ولا تعرف شيئاً بالنسبة للعالم الخارجي ، قد خرجت تواً من البيضة ، رغم ذلك تحمل على ظهرها هذه الثقال الكبيرة ، ترى لمَ تفعل هذا الشيء ؟
2 – سقوط نظرية التطور :
المدافعون عن نظرية التطور يقفون في حيرة من أمرهم تجاه هذا السؤال ، منهم ألماني كتب في كتابه المسمى الديناصورات الهادئة تفسيرا لهذه التصرفات الذكية التي تصدرها هذه الدودة ، من الأصل في هذا الإبداع الذكي الذي أوقع الإنسان في حيرة ، أثر من ؟ هذه القمة في الإبداع التي أخذت به الدودة منذ ولادتها ، علينا أن نقبل أن هذه الأساليب كلها لا يسلكها إلا إنسان ذكر جداً للحفاظ على حياته ، فليس للدودة الاستطاعة على تخطيط غاية منشدوة ، وليس صاحب هذا العقل الكائنات المنوهة ، بل هي قدرة أخرى حاكمة لها إنها الله .
هاهنا الحقيقة لا يريد التطوريون الاعتراف بها ، كل هذه الخصائص الخارقة في الكائنات خلقت من قبل الله تعالى ، فهذه آية على علمه وخبرته ، لا حدود لها .
2 ـ التمويه بالتمثيل عند الطائر الذهبي :
هناك طائر ذهبي حير الإنسان بصفاته ، بقدرته الفائقة على التمويه ، ومهارته في التمثيل ، وهناك شيء ثانٍ ، شجاعته وتضحيته ، هذا الطائر يبني عشه بين الأعشاب والمراعي ، يغطي بيوضه تماماً من نقوش في بطن الأم قبل أن تبيض ، البيضة منقوشة ، وهي في بطن الطائر الذي سيلد هذه البيضة على شكل البيئة ، التي هو فيها كما نرى على الشاشة ، شيء لا يصدق ، هذه النقوش حماية خاصة لهذه البيوض ، وتأمين لها من الأخطار ، وهكذا لا تتميز البيوض عن الأعشاب التي بينها ، وعند اقتراب الخطر من عشها من قبل طير جارح ، أو إنسان ، يقوم هذا الطائر بعملية تمثيل ، و ليس التمثيل قاصرًا على الإنسان ، هذا الطائر يمثل أيضاً ، ماذا يفعل ؟ يقوم بحركة محيرة جداً ، تنطلق من عشها ، ثم تمثل دور طائر جريح مكسور الجناح ، الغريب أن كلما اقترب منها أحد تبدأ مرة أخرى بالتمثيل ، وأن تظهر نفسها كطائر مكسور الجناح جريح .
الغريب أنه كلما أصابها هذا الخطر فعلت هذا الفعل ، فإذا ابتعد الخطر عادت إلى ما كانت عليه ، هدفها الوحيد إبعاد عين الغريب المقترب عن العش ، وإذا ابتعد الخطر بما فيه الكفاية ينتهي التمثيل ، ويعود الطائر إلى عشه .
إذاً : هذا يموه بالتمثيل ، يظهر نفسه مكسور الجناح جريحاً ، هذا الطائر يظهر تصرفا فائقا ، أن يلقي العصفور الصغير نفسه في التهلكة هذا أمر مستحيل على سلامة وجوده ، أما أن يقدم تضحية من أجل صغاره فهذا شيء مدهش ، عند الحيوان رحمة تفوق حد الخيال ، لا تفسر بأي شيء آخر .
لذلك النظرية التطورية ترفض أن يكون هناك تعقيدات في الحيوان ، والحيوان عندهم خلق صدفة ، فلمَ هذا التعقيد في التمثيل ، أو في التضحية ؟ وفي الإيثار ؟ وفي حب الصغار ؟ كل كائن حي له هذه الصفات ، وقد أودعها الله فيه ، ولكن هذا الطائر الذهبي يفسد هذه الفرضية ، ويوضح لنا مرة أخرى أن صفاته ، وشجاعته ، وتضحيته ، وتصرفاته الذكية إلهام من الله عز وجل ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾
( سورة طه )
لابد من التفكر في مخلوقات الله :
كلما تأملنا في الطبيعة نواجه الحقائق نفسها ، فالكائنات ذات بنية معقدة في قمة التصميم تبطل زعم المصادفة في نظرية التطور ، كل كائن على حدا دليل للخلق ، لكل نوع من الكائنات خصائص فائقة يختلف بعضها عن بعض ، صاحب كل هذه المخلوقات البديعة هو الله تعالى .
﴿ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾
( سورة الدخان الآية : 7 )
و الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
( سورة الجاثية )
أستاذ عدنان ، كما أقول دائماً : إن أسرع طريق إلى الله التفكر في خلق لسماوات والأرض ، وقد قال الله عز وجل :
﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾
( سورة القدر )
هذه الآية تبنى على آية أخرى :
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾
( سورة الزمر الآية : 67 )
إذاً أحد أكبر معالم الإيمان أن تقدر الله حق قدره :
﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾
فإذا تفكرت في مخلوقات الله ، وعظمت ربك ، هذا خير من أن تعبد الله ثمانين عاماً عبادة جوفاء لا معنىً لها ، لذلك :
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
( سورة فاطر الآية : 28 )
إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أرادتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطِك شيئاً .
الأستاذ عدنان :
خاتمة وتوديع :
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، وكل الشكر أيضاً للإخوة المشاهدين .
والسلام علكم ورحمة الله وبركاته .
والحمد لله رب العالمين
http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=2470&id=189&sid=799&ssid=809&sssid=841