كلامنا اليوم عن عالم من العلماء العاملين ، والأئمة الربانيين شيخ الإسلام والمسلمين ، إمام زمانه ، والمقتدى به في أوانه بركة الزمان وحسنة الأيام ، الذي نقض الغابر عن منهج أهل السنة والجماعة ، وجدد الله ـ عز وجل ـ به شباب الإسلام ، بعد أن أنهكه داء الشرك والوثنية ، والبدع الردية ، أنار الله ـ عز وجل ـ به منار السنة واطفأ نار البدعة.
الإمام الذي بذل نفائس أنفاسه ، وأوقات حياته ينصر الحق وأهله ، ويدفع الباطل ويشكف زيفه ، الإمام شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، وناهيك به شرفا وعلما وفضلا.
اسمه ومولده وصفاته
اسمه :
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن الخشضر بن علي بن عبد الله بن تيمية النميري الحراني الدمشقي أبو العباس تقي الدين شيخ الإسلام.
سبب هذه التسمية (تيمية) :
ذكر ابن المتوفي في تاريخ إربل قال : حدثني الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن عمر الحراني من لفظ قال : حدثني غير مرة وقد سألته عن اسم تيمية ما معناه ؟ فقال : حج أبي وجدي ـ أنا أشك أيهما قال ـ وكانت امرأته حاملا فلما كان بتيماء راى جويرية خرجت من خباء ، فلما رجع إلى حران ، وجد امرأته قد وضعت ، فلما رفعوه إليه قال يا تيمية يا تيمية ، يعني أنها تشبه التي رأى بتيماء، فسمى بها أو كلاما هذا معناه وذكر ابن ناصر الدين الدمشقي في التبيان فقال : إن أم جده محمد بن الخضر كانت واعظة تسمى تيمية فنسب إليها.
وجده أبو البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله الإمام الفقيه المحدث.كان جمال الدين بن مالك يقول : ألين للشيخ المجد كما ألين لداود الحديد : وهو صاحب المنتقى من أحاديث الأحكام ، والمجزر في الفقه ، والأحكام الكبرى.
وأبوه شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام قرأ المذهب على والده حتى أتقنه ، ودرس وأفتى وصنف ، وصار شيخ البلد بعد أبيه ، قال الذهبي ، وكان الشيخ شهاب الدين من أنجم الهدى وإنما اختفى بين نور القمر وضوء الشمس ، يشير إلى أبيه وابنه.
مولده : ولد ـ رحمه الله ـ بمدينة حران في يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة.
صفته :
قال الشوكاني : قال الذهبي : " وكان أبيض أسود الراس واللحية قليل الشيب ، شعره إلى شحمة أذنية كأن عينيه لسانان ناطقان ربعة من الرجال ، بعيد ما بين المنكبين ، جهوري الصوت ، فصيحا ، سريع القراءة ، تعتريه حدة لكنه يقهرها بالحلم.
النشأة:
هيأ الله ـ عز وجل ـ له أسباب الشرف والعزة والرفعة في الدنيا والآخرة ، فقد نشأ في بيت علم وفضل وسنة ، فجده المجد أبو البركات شيخ الحنابلة ، وابوه شهاب الدين عبد الحليم من أنجم الهدى ، وإنما خفي اسم أبيه لأ،ه وقع بين نور القمر وضوء الشمس ، كما قال الإمام الذهبي يشير بنور القمر إلى جده أبي البركات ، وبضوء الشمس شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ، ولم يقتصر شرف وعلم هذه الأسرة المباركة ، كلهم عالم فاضل.
نشأ شيخ الإسلام في هذه الأسرة المباركة ، وبدأ في تحصيل العلم في سن مبكرة ، وأخذ عن أكثر من مائتي شيخ وقد وهبه الله ـ عز وجل ـ عقلا لماحا ذكيا ، وقلبا طاهرا نقيا فنشأ أتم نشأة ، وكان شديد الحرص على أوقاته يضن بأنفاسه ولحظاته فتصدر للفتيا والدرس وهو في العشرين من عمره وجلس مكان أبيه بعد وفاته ، وما زال في انتفاع وارتفاع ، حتى صار شيخ الإسلام ، واستحق الصدارة عن جدارة وتأثر به علماء عصره ، وصبغهم بصبغته السلفية.
منهم الإمام المزي وإن كان أكبر منه سنا وأطول باعا في علم الحديث إلا أنه تأثر بمدرسة ابن تيمية السلفية ، وكذا تلميذه ابن القيم ، والذهبي ، وابن كثير ، وابن مفلح ، فرحم الله الجميع.
قال ابن عبد الهادي ـ رحمه الله ـ لم يبرح في ازدياد من العلوم ، وملازمة للاشتغال ، وبث العلم ونشره ، والاجتهاد في سبيل الخير ، وحتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل والزهد والورع والشجاعة والكرم والتواضع والحلم والإنابة والجلالة والمهابة .."
وساعد على تفوقه على أقرانه وسيادته أهل زمانه أنه لم يشتغل بشيء من الدنيا ، وزهد في أعراضها الدنية وشهواتها الدنيوية.
قال البزار " .. وإلا فمن رأينا من العلماء من قنع من الدنيا بمثل ما قنع هو منها ، أو رضى بمثل حالته التي كان علهيا ، لم يسمع أنه رغب في زوجة حسناء ، ولا سرية حوراء ، ولا دار فوراء، ولا مماليك وجوار ، ولا بساتين و لا عقار ، ولا شد على دينار ولا درهم ولا رغب في دواب ولا تعم ، ولا ثياب ناعمة فاخرة ، ولا حشم ، ولا زاحم في طلب الرئاسات ، ولا رؤى ساعيا في تحصيل المباحات .. "
والدارس لترجمة شيخ الإسلام يعلم يقينا لمذا لم يتزوج ، وترك هذه السنة العظيمة مع أنه كان أحرص الناس على السنة والجواب : أنه ما وجد هدنة أو فرصة في حياته التي تجاوزت الستين عاما حتى يتزوج ، فقد كان من معركة إلى معركة ، ومن سجن إلى سجن ومن مناظرة إلى مناظرة ، وهذا خطاب أرسله شيخ الإسلام لأمه يعتذر إليها عن شغله عنها ، وعدم تمكنه من السفر إليها يقول فيه ـ رحمه الله ـ : " وتعلمون أن مقامنا في هذه البلاد ، إنما هو لأمور ضرورية ، متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا ، ولسنا والله مختارين للبعد عنكم ، ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم ، ولكن الغائب عذره معه ، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور فإنكم ولله الحمد ما تختارون الساعة إلا ذلك ، ولم نعزم على المقام والاستيطان شهرا واحدا ، بل كل يوم تستخير الله لنا ولكم ، وادعو لنا بالخيرة ، فسأل الله العظيم أن يخير لنا ولكم وللمسلمين ما فيه الخير في خير وعافية ".
وقد ترك شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ دررا فاخرة وثروة علمية باهرة من الكتب والفتاوى والتقريرات ومن رحمة الله ـ عز وجل ـ بهذه الأمة حفظ الله ـ عز وجل ـ لنا وله الحمد والمنة على كل نعمة ـ شيئا من تراثه فصدر من مصنفات شيخ الإسلام أكثر من سبعين مجلدا ، وكم من تراث علمي ما يزال حبيس دور المخطوطات ، لم ير النور ولم ينتفع به المسلمون على كر الدهور ، وكم من تراث ضاع واندثر فلم نقف له على خبر ، فرحم الله شيخ الإسلام ونفعنا بعلومه ، فقد فارق الدنيا وهو صابر محتسب عاكف على كتاب الله في قلعة ، فما أحوج طلاب العلم وعوام الناس إلى دراسة تراجم هؤلاء الأعلام ، عسى أن تتجددد همة لأحد الطلاب فينهض لينل هه الرتب العالية ، والدرجات الرفيعة السامية ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
ثناء العلماء عليه
قال الحافظ شمس الدين الذهبي ـ رحمه الله ـ : شيخنا الإمام شيخ الإسلام ، فرد الزمان ، بحر العلوم ، تقي الدين ……
وقال : وله خبرة تامة بالرجال ، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ، ومعرفة بفنون الحديث ن وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم ، مع حفظه متونه الذي انفرد به فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه ، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه ، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة ، والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال : " كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث " أ.هـ
وقال العلامة ابن دقيق العيد لما لقيه وسمعه :
لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد.
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي ـ رحمه الله ـ :
فوالله ما رمقت عيني أوسع علما ، ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له ابن تيمية ، مع الزهد في المأكل والملبس والنساء ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن. أ.هـ.
نشأته وطلبه للعلم ـ رحمه الله
نشأ شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في تصون تام وعفاف واقتصاد في الملبس والمأكل ، ولم يرد على ذلك خلقا صالحا برا بوالديه تقيا ورعا ناسكا صواما قواما ، ذاكرا لله ـ تعالى ـ في كل أمر وعلى كل حال ، رجاعا إلى الله ـ تعالى في سائر الأحوال والقضايا ، وفاقا عند حدود الله ـ تعالى ـ وأوامره ونواهيه ، أمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، لا تكاد نفسه تشبع من العلم ، ولا تروي من المطالعة ، لا تمل من الاشتغال ، ولا تكل من البحث.
وكان ـ رحمه الله ـ منذ صغره ومخايل النجابة عليه واضحة ودلائل عنايه الله ـ عز وجل ـ به لائحة.
قال الحافظ البزار : أخبرني من أثق به عمن حدثه أن الشيخ ـ رحمه الله ـ في حال صغره كان إذا اراد المضي إلى المكتب يعترضه يهودي ـ كان منزله بطريقه ـ بمسائل يسأله عنها ، لما كان يلوح عليه من الذكاء والفطنة وكان يجيبه عنها سريعا حتى تعجب منه ثم غنه صار كلما اجتاز به يخبره بأشياء مما يدل على بطلان ما هو عليه ، فلم يلبث أن اسلم وأحسن إسلامه ، وكان ذلك ببركة الشيخ على صغر سنه.
وكان من صغره حريصا على الطلب ، مجدا على التحصيل والدأب ، ولم يكن ـ رحمه الله ـ وقت صغره يعني بما يعنى به أترابه من اللعب والبطالة ، إذ كان لا يؤثر على الاشتغال بالعلم لذة أي لذة ، ولا يؤثر أن يضيع منه لحظة في غير العلم.
قيل إن أباه وأخاه وجماعة من أهله سألوه أن يذهب معهم يوم إجازة ليتفرج ويتنزه ، فتهرب منهم ولم يذهب فلما عادوا آخر النهار لاموه على تخلفه عنهم ، وفواته تلك النزهة عنه ، مع تفرده وحده ، فقال لهم ، أنتم ما تزيد لكم شيء ، ولا تجدد ، وأنا حفظت في غيبتكم هذا المجلد وكان ذلك الكتاب " جنة الناظر وجنة المناظر ".
ومن المواقف التي تكشف عن قوة ذكائه وسرعة فهمه واستنباطه على صغر سنه حادثة ذكرها ابن القيم ـ رحمه الله ـ فقال : كان صغيرا عند بني النجار ، فبحث معهم فادعوا شيئا أنكره فأحضر النقل فلما وقف عليه ألقى المجلد من يده غبطا ، فقالوا له : ما أنت إلا جريء ترمي المجلد من يدك وهو كتاب علم ؟ فقال سريعا : أيما خير أنا أو موسى ؟ فقالوا : موسى فقال إيما خير هذا الكتاب أو ألواح الجوهر التي فيها العشر كلمات ؟ قالوا : الألواح ، فقال إن موسى لما غضب ألقى الألواح من يده أو كما قال.
وقال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ قدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير ، فسمع الحديث من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبدان والشيخ شمس الدين الحنبلي والشيخ شمس الدين بن عطاء الحنفي والشيخ جمال الدين بن الصيرفي ومجد الدين بن عساكر والشيخ جمال الدين البغدادي والنجيب بن المقداد وابن أبي الخير وبان علان وابن أبي بكر اليهودي والكحلي عبد الرحيم والفخر علي وابن شيبان والشرف ابن القواس ، وزينب بنت مكي وخلق كثير سمع منهم الحديث وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث.
تفوقه في العلم وبراعته في كل فن .. وإشارة العلماء إلى أنه مجدد عصره ودرة دهره
قال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ
كان آية في الذكاء وسرعة الإدراك ، راسا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف ، بحرا في النقليات ، هو في زمانه فريد عصره علما وزهدا وشجاعة وسخاء وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، وكثرة تصانيفه ، قرأ وحصل ، وبرع في الحديث والفقه وتاهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة ، وتقدم في علم التفسير والأصول وجميع علوم الإسلام أصولها وفروعها ، دقعها وجلها سوى علم القراءات ، فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه ، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق ، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا ، وسرد وابلسوا ،واستغنى وأفلسوا ، وإن سمى المتكلمون فهو فردهم وإليه مرجعهم وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلم وتيههم ،وهتك استارهم ،وكشف عوارهم ، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة ، وهو أعظم من أن يصفه كلمي ، أو ينبه على شأوة قلمي ، فإنه سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته تحتمل أن توضع في مجلدتين وهو بشر من البشر له ذنوب ، فالله ـ يغفر له ، ويسكنه أعلى جنته فإنه كان رباني الأمة ، وفريد الزمان ، وحامل لواء الشريعة ، وصاحب معضلات المسلمين وكان راسا في العلم.
وقال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ :
اشتغل بالعلوم ، وكان ذكيا كثير المحفوظ ، فصار إماما في التفسير وما يتعلق به ، عارفا بالفقه فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره ، وكان عالما باختلاف العلماء ، عالما في الأصول والفروع والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية ، وما قطع في مجلس ، ولاتكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك من الفن فنه ، ورآه عاراف به متقنا له ، وأما الحديث فكان حامل رايته ، حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيمه عارفا برجاله ، متضلعا من ذلك ، وله تصانيف كثيرة ، وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع ، كمل منها جملة ، وبيضت وكتبت عنه وقرأت عليه بعضها ، وجملة كبيرة لم يكملها وجملة كملها ولم تبيض إلى الآن ، وأثنى عليه وعلى علومه جماعة من لماء عصره ، مثل القاضي الخوبي ، وابن دقيق العيد ، وابن النحاس والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري ، وابن الزملكاني وغيرهم ، ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال : اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف ، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين ،
وقال العلامة ابن عبد الهادي : وللشيخ ـ رحمه الله ـ من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد مالا ينضبط ولا أعلم أحدا من متقدمي الأمة ولا متأخريها جمع ما جمع ، ولا صنف نحو ما صنف ، ولا قريبا من ذلك ، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه وكثير منها صنف في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب.
وقال ابن العماد الحنبلي : يشير بهذا إلى انه المجدد ، وممن صرح بذلك الشيخ عماد الدين الواسطي وقد توفى قبل الشيخ ، وقال في حق الشيخ بعد ثناء طويل جميل ما لفظه : " فوالله ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علما وعملا وحالا وخلقا وأتباعا وكرما وحلما وقياما في حق الله عند انتهاك حرماته ، أصدق الناس عقدا ، وأصحهم علما وعزما ، وأنفذهم واعلاهم في انتصار الحق وقيامه همه ، وأسخاهم كفا وأكملهم إتباعا لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل ن يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الإتباع حقيقة.
وقال الألوسي : وكان العلم كأنه اختلط بلحمه ودمه وسائره ،فإنه لم يكن له مستعارا بل كان له شعار ودثار ، جمع الله ما خرق له العادة ، ووفقه في جميع عمره لأعلام السعادة ، وجعل مآثره لإمامته من أكبر شهادة ، حتى أنفق كل ذي عقل سليم أنه ممن عنى نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله " عن الله يبعث على رأس كل مائة سنة ، من يجدد لهذه الأمة امر دينها " فقد أحيا الله به ما كان قدر درس من شرائع الدين وجعله حجة على أهل عصره أجمعين والحمد لله رب العالمين.
عبادته وزهده ـ رحمه الله ـ
قال البزار : أما تبعده فإنه قل أن سمع بمثله ، لأنه كان قد قطع جل وقته ومانه فيه ، حتى أنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله ـ تعالى ـ " ما يراد له لا من أهل ولا من مال ، وكان في ليله منفردا عن الناس كلهم خاليا بربه ـ عز وجل ـ ضارعا مواظبا على تلاوة القرآن العظيم ، فإذا دخل الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميله يمنه ويسره ، وكان قد رعفت عادته لا يكلمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر ، فلا يزال في الذكر يسمع نفسه وربما يسمع ذكره إلى جانبه مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء : هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس وتزول وقت النهي عن الصلاة.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الصبح ثم جلس يذكر الله إلى قريب من منتصف النهار ، ثم التفت إلى وقال : هذه غدوتي ولو لم أتغد سقطت قويت ، أو كلاما قريبا من هذا ، وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر أو كلاما قريبا هذا معناه.
أما عن زهده : فإن الشيخ ـ رحمه الله ـ نظر إلى هذه الدنيا نظرة ازدراء ، تلاشت عنده مظاهرها ، وتجلت حقيقتها ، ومن ثم أراح نفسه من تعب الدنيا ونصبها في خدمة البدن ، وشمر سائرا لله والدار الآخرة ، فارغ القلب من الشهوات ، ممتلئة بمحبة الله ورسوله ، وبوعود الله ورسوله وقد فتح الله عليه بهذا الزهد من صغره ، حتى كان شعارا له وصفه أطبق مترجموه على ذكرها ، حدث شيخه الذي علمه القرآن قال : قال لي أبوه وهو صبي ـ يعني الشيخ ـ أحب إليك أن توصيه وتعده بأنك إن لم تنقطع عن القراءة والتلقين أدفع إليك كل شهر اربعين درهما وقال : ودفع إلي أربعين درهما ، وقال : أعطه إياها فإنه صغير وربما يفرح بها فيزداد حرصه في الاشتغال بحفظ القرآن ودرسه ، وقال له في كل شهر مثلها فامتنع من قبولها ، وقال : يا سيدي إني عاهدت الله تعالى ـ أن لا أخذ على القرآن أجرا ولم يأخذها.
قال البزار : وإلا فمن راينا من العلماء من قنع من الدنيا بمثل ما قنع هو منها ، أو رضي بمثل حالته التي كان عليها ؟ لم يسمع أنه رغب في زوجة حسناء ، ولا سرية حوراء ، ولا دار قوراء ، ولا مماليك وجوار ، ولا بساتين ولا عقار ، ولا شد على دينار ولا درهم ، ولا رغب في دواب ولا نعم ، ولا ثياب ناعمة فاخرة ، ولا حشم ، ولا زاحم في طلب الرئاسات ولا رؤى ساعيا في تحصيل المباحات.
أخلاقه رحمه الله
قال ابن عبد الهادي ـ رحمه الله ـ : لم يبرح شيخنا في ازدياد من العلوم ، وملازمة للاشتغال ، وبث العلم ونشره ، والاجتهاد في سبيل الخير ، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل والزهد الورع والشجاعة والكرم والتواضع والحلم والإنابة والجلالة والمهابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر أنواع الجهاد ، مع الصدق والأمانة والعقة والصيانة ، وحسن القصد والإخلاص والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه ، وكثرة المراقبة له ، وشدة التمسك بالأثر والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق ، ونفع الخلق والإحسان إليهم والصبر على من أذاه ، والصفح عنه والدعاء له ، وسائر أنواع الخير ، فمن أخلاقه : الكرم ، والتواضع ، والشجاعة والحلم والصفح.
كرمه ـ رحمه الله ـ :
قال الإمام البزار : وحدثين من أثق به أن الشيخ ـ رحمه الله ـ كان مارا يوما في بعض الأزقة فدعا له بعض الفقراء وعرف الشيخ حاجته ولم يكن مع الشيخ ما يعطيه ، فنزع ثوبا على جلده ودفعه إليه وقال : بعه بما تيسر ، وأنفقه ، واعتذر إليه من كونه لم يحضر عند شيء من النفقة ، وهذا من أبلغ إخلاص العمل لله ـ عز وجل ـ فسبحان الموفق من شاء لما شاء.
وسأله إنسان ذات يوم كتابا ينتفع به فقا ل: خذ ما تختار فرأى ذلك الرجل بين كتب الشيخ مصحفا قد اشترى بدراهم كثيرة فأخذه ومضى ، فلام بعض الجماعة الشيخ في ذلك فقال : أكان يحسن بي ان أمنعه بعدما سأله ، دعه فلينتفع به.
وبين ابن القيم ـ رحمه الله ـ كذلك أن كرمه كذلك كان في العلم فقال : فكان إذا سئل عن مسألة من العلم ذكر مذاهب الناس فيها ، ومأخذ فيها ، وترجيح القول والراجح ، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته فيكون فرحة بتلك المتعلقات واللوازم أعظم فرحه بمسألته ، وكان خصومه يعيبونه بذلك ، ويقولون : سأله السائل عن طريق مصر ـ مثلا ـ فيذكر له معها طريق مكة والمدينة وخراسان والعراق والهند ، وأي حاجة بالسائل إلى ذلك ؟ وعلمر الله ليس ذلك بعيب ، وإنما العيب : الجهل والكبر وهذا موضع المثل المشهور :
لقبوه بحامض وهو خل مثل من لم يصل إلى العنقود
تواضعه ـ رحمه الله ـ :
قال البزار : وكان لا يسأم ممن يستفتيه ، بل يقبل عليه ببشاشة وحب ، ولين عريكة ن ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه ولا يجبهه ولا يحرجه ، ولا ينفره بكلام بوحشه بل يجيبه ويفهمه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط ، وكان يلزم التواضع في حضوره مع الناس ومغيبه عنهم ،في قيامه وقعوده ومشيه ومجلسه ومجلس غيره.
وحكى البزار عن بعض أصحابه قال : " ولقد بالغ معي في حال إقامتي بحضرته في التواضع والإكرام حتى إنه لا يذكرني باسمي ، بل يلقبني بأحسن الألقاب ، وأظهر لي من الأخلاق والمبالغة في التواضع بحيث أنه كان إذا خرجنا من منزله بقصد القراءة يحمل هو بنفسه النسخة ولا يدع أحدا منا يحملها عنه ، وكنت أعتذر إليه من ذلك خوفا من سوء الأدب فيقول : لو حملته على رأسي لكان ينبغي ، ألا أحمل ما فيه كلام رسول الله ـ صلى الله وعليه وسلم ـ ؟
وكان يجلس تحت الكرسي ويدع صد المجلس ، حتى إني لأستحي من مجلسه هناك ، وأعجب من شدة تواضعه ، وكان هذا حاله في التواضع والتنازل والإكرام لكل من يرد عليه أو يصحبه أو يلقاه ، حتى أن كل من لقيه يحكي عنه من المبالغة في التواضع نحو مما حكيته وأكثر من ذلك ، فسبحان من وفقه وأعطاه وأجراه على خلال الخير وحياه .."
شجاعته ـ رحمه الله ـ :
قال الألوسي ـ رحمه الله ـ : " وأما شجاعته وجهاده فامر متجاوز للوصف فكان ـ رحمه الله ـ كما قال الحافظ سراج الدين أبو حفص في مناقبه : هو من أشجع الناس وأقواهم قلبا ما رأيت أحدا أثبت جأشا منه ولا أعظم في جهاد العدو منه كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده ولا يخاف في الله لومة لائم.
وأخبر غير واحد أن الشيخ كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم إن راي من بعضهم هلعا أو جنبا شجعه وثبته ووعده بالنصر والظفر والغنيمة وبين له فضل الجهاد والمجاهدين وكان إذا ركب الخيل يجول كأعظم الشجعا ، ويقوم كأثبت الفرسان وينكي العدو من كثرة الفتك بهم ويخوض بهم خوض رجل لا يخاف الموت وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكا أموارا من الشجاعة يعجز الواصف عن وصفها ، قالوا : ولقد كان السبب في تملك المسلمين إيهاها بفعله ومشورته وحسن نظره.
ولما ظهر السلطان ابن غازان على دمشق المحروسة ، جاءه ملك الكرج ، وبذل له أموالا كثيرة جزيلة على أن يمكنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق ، فوصل الخبر إلى الشيخ فقام من فوره ، وشجع المسلمين ورغبهم الشجاعة ، ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف ، فانتدب منهم رجال من وجوههم وكبرائهم وذوي أحلامهم ، فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غازان ، فلما رأى الشيخ أوقع الله فه في قلبه هيبة عظيمة ، حتى أدناه منه وأجلسه ، وأخذ الشيخ في الكلام معه في عكس رأيه من تسليط المخذول ملك الكرج على المسلمين ، وأخبره بحرمة دماء المسلمين ، وذكره ووعظه فأجابه إلى ذلك طائعا وحقنت بسببه دماء المسلمين وجميت ذراريهم وصين حريمهم.
قال الشيخ كمال الدين بن الأنجا كنت حضارا مع الشيخ فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره ، ويرفع صوته على السلطان ، ويقرب منه في اثناء الحديث ، حتى لقد قرب أن يلاصق بربكبته ربكة السلطان والسلطان مع ذلك مقبل عليه بكليته مصغ لما يقول ، شاخص إليه لا يعرض عنه ، وإن السلطان من شدة ما أوقع الله في قلبه من المحبة والهيبة سأل من هذا الشيخ فإني لم أر مثله ، ولا أثبت قلبا منه ، ولا أوقع من حديثه في قلبي ولا رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه ، فأخبر بحاله ، وما هو عليه من العلم والعمل ، فقال الشيخ للترجمان : قل لغازان أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا ، فغزوتنا وأبوك وجدك كانا كافرين ، وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا ، وأنت عاهدت فغدرت ، وقلت فما وفيت ، وجرت ثم خرج من بين يديه مكرما معززا بحسن نيته الصالحة من بذل نفسه في طلب حقن دماء المسلمين فبلغه الله ـ تعالى ـ ما اراده ، وكان أيضا سببا لتخليص غالبا اسارى المسلمين من أيديهم ، وردهم على أهليهم وحفظ حريمهم وهذا من أعظم الشجاعة والثبات وقوة التجاسر.
وكان يقول : لا يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه ، فإن رجلا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال : لو صححت لم تخف أحدا ، أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك.
وحكى أحد الحجاب الأمراء عن معركة شعحب قال : قال لي الشيخ يوم اللقاء وقد تراءى الجمعان ، يا فلان أوقفني موقف الموت قال : فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار ، وقلت له : هذا موقف الموت فدونك وما تريد ، قال فرفع طرفه إلى السماء وأشخص بصره ، وحرك شفتيه طويلا ، ثم أنبعث وأقدم على القتال ، وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصره نصر ودخل جيش الإسلام إلى دمشق المحروسة.
حلمه وصفحه ـ رحمه الله ـ
قال الأستاذ ناصر بن عبد الله الميمان : امتلأ قلب الشيخ ـ رحمه الله ـ بحب العلم والحق والخير ن ولم يكن فيه مجال لحظوظ النفس ، والانتقام لها ، والثأر لمصالحها ومن هنا تجده يقف من خصومه وأعدائه الذين سعوا ما أمكنهم في إذاء ، وتجاوزوا في خلافهم معه حدود العلم إلى الصراع الشخصي ، والرغبة في إذلاله ، وكبت أمره ، وتقليل شأنه ، نجد الشيخ ـ رحمه الله ـ يقف منهم موقفا حميدا ينم عن قلب طاهر نقي ، فو يحلل ويسامح كل من ظلمه وأذاه.
جاء في رسالة كتبها في مصر إلى إخوانه في دمشق : " ….. وقد أظهر الله نور الحق وبرهانه ، ما رد به إفك الكاذب وبهتانه ، فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه ، فإني قد أحللت كل مسلم ، وأنا أحب الخير لكل المسلمين ، وأريد لكل مسلم من الخير ما أحبه لنفسي والذين كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي ، وأما ما يتعلق بحقوق الله ن فإن تابوا تاب الله عليهم ، وإلا فحكم الله نافذ فيهم ، فلو كان الرجل مشكورا على سوء عمله لكنت أشكر من كان سببا في هذه القضية لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة ولكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يقضي للمؤمن قضاءا إلا كان خيرا له ".
وأكبر من ذلك وأعظم موقفه من خصومه من علماء مصر الذين أمروا بسجنه وسعوا في قتله ، فإنه لما عاد الملك الناصر إلى القاهرة واسترد حكمه كان أول شيء فعله أن طلب شيخ الإسلام من الإسكندرية ، فلما قدم عليه أكرم وفادته ، واستقبله أحسن استقبال ن ثم أخذه إلى طرف المجلس وتحدث معه ساعة.
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا من ذلك الشباك الذي جلسا فيه ، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه ، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ، ومبايعة الجاشنكيروانهم قاموا عليك وأذوك أنت أيضا ، وأخذ يحثه بذلك على ان يفتيه في تقل بعضهم ن وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكز ففهم الشيخ مراد السلطان ، فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء وينكر أن ينال أحدا منهم بسوء ، وقال له : إن قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم فقال له : إنهم قد أذوك ، وأرادوا قتلك مرارا,
فقال الشيخ : من آذاني فهو في حل ، ومن أذى الله ورسوله فالله ينتقم منه وأنا لا أنتصر لنفسي ، وما زال به حتى لحم عنهم السلطان وصفح.
قا لوكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول : ما رأينا مثل ابن تيمية ، حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا..
محنة الشيخ ـ رحمه الله ـ
قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ وقع للشيح ـ رحمه الله ـ من أهل عصره قلاقل وزلازل ، وامتحن مرة بعد أخرى في حياته وجرت فمن عديدة ، والناس قسمان في شأنه ، فبعض منهم مقصر به عن المقدار الذي يستحقه بل يرميه بالعظائم ، وبعض منهم يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد ويتعصب له كما يتعصب أهل القسم الأول عليه ، وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ، ويفوق أهل عصره ، ويدين بالكتاب والسنة فإنه لابد وأن يستنكر المقصرون ، ويقع له معهم محنة ، ثم يكون أمره الأعلى وقوله الأولى ، ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ ولا يكون لغيرة ، وهكذا حال هذا الإمام ، فإنه بعد موته عرف الناس مقدار ، واتفقت الألسن بالثناء عليه ، إلا من لا يعتد به ، وطارت مصنفاته ، واشتهرت مقالاته.
فقد تعرض شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ لمحن كثيرة متابعة ، فلا يكاد تمر عليه فترة من الزمن حتى يتعرض لمحنة أو يشارك في معركة ، أو تقع بينه وبين بعضهم مخاصمة ، أو مناظرة حتى ختمت حياته بقلعة دمشق ن وهو صابر محتسب وقد حيل بينه وبين الكتابة والإفادة ، فعكف على تلاوة القرآن ، فختمه إحدى وثمانين ختمة انتهى في ىخر ختمة قوله تعالى " إن المتقين في جنات ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر " ( القمر : 54-55).
ثمن المحن التي تعرض لها شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أن أهل حماة كانوا قد وجهوا للشيخ سؤالا سنة 698هـ فأجابهم بما عرف بالفتوى الحموية الكبرى التزم فيها قانون السلف في الأسماء والصفات والبعد عن التأويل والتعطيل وكان الحسد قد استقر في قلوب كثير من الفقهاء ، فألبوا عليه بعض الولاة ، ولكن التتار كانوا مستمرين في زحفهم ، ففر الولاة والفقهاء ، وصمد لها الشيخ ـ رحمة الله ـ فلما من الله بالنصر على التتار ، واستقرت امور العباد ، وعاد الشيخ إلى الإفادة والتصنيف تحرك الحسد من جديد في قلوب الحاقدين لغلو كعب الشيخ وارتفاع مقامه عند العامة والولاة على السواء.
ومن ذلك ما حدث بينه ـ رحمه الله ـ وبين أبي حبان في القاهرة سنة 700 هـ وكان أبو حيان قد استقبل شيخ الإسلام استقبال حسنا وقال : ما رأت عيناي مثل هذا الرجل وامتدحه بأبيات من نظمه تقدم ذكرها ثم دار بينهما كلام فجري ذكر سيبوية فأغلظ ابن تيمية القول في سيبوية ، فنافره أبو حيان وقطعه ، وصير ذلك ذنبا لا يغفر ، وسئل عن السبب فقال : ناظرته في شيء من العربية ، فذكرت له كلام سيبويه فقال : ما كان سيبويه نبي النحو ، ولا كان معصوما بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعا ما تفهمها أنت.
فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره البحر بكل سوء ، وكذلك في مختصره النهر ، ومن ذلك ما حدث له بسبب الطائفة الأحمدية الرفاعية سنة 705هـ ، وكانوا يلبسون أطواق الحديد في أعناقهم ويدهنون بدهن خاص ، ثم يدخلون النار لا يحترقون ، يمخرقون بذلك على العامة من أهل الإسلام ، فاشتد نكير الشيخ عليهم حتى شكوه إلى نائب السلطنة ، يطلبون أن يكف الشيخ عنهم وأن يتركهم وحالهم فقال الشيخ : هذا لا يمكن ولابد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب السنة قولا وفعلا ، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه ، ومن أراد منهم أن يدخل النار فليدخل أولا الحمام ، ويغسل جسده جيدا ، ثم يدخل إلى النار بعد ذلك إن كان صادقا ، ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل ، فإن ذلك لا يدل على صلاحه ، ولا على كرامته ، بل حالة من أحوال المخالفة للشريعة إذا كان صاحبها على السنة فما الظن بخلاف ذلك ، وانتهى الحال على أن يخلعوا أطواق الحديد من رقابهم ، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.
ثم ورد في السنة نفسها كتاب من السلطان يحمل الشيخ إلى القاهرة ، فتوجه إليها على البريد ، وخرجت جموع المسلمين باكية حزينة لوداعة ، وهو واثق يرجو ويأمل فلما وصل إلى القاهرة عقد له مجلس في القلعة ، اجتمع فيه القادة وكبار رجال الدولة والقضاء والفقهاء ، فلم يمكنوه من الكلام وتولى الإدعاء عليه زين الدين بن مخلوف قاضي المالكية ، فأخذ الشيخ في كلام فحمد الله وأثنى عليه ، فقيل له : أجب ولا تخطب ، فعلم أنها المحاكمة لا المجادلة ، فقال من الحاكم في ؟ فقيل له القاضي المالكي ، فقال له الشيخ : كيف تحكم في وأنت خصمي ، وآل أمر الشيخ إلى الحبس في برج أياما ، نقل بعدها ليلة عيد الفطر إلى السجن المعروف بالحب ، وحبس معه أخواه شرف الدين وزين.
ولبث في السجن نحو ثمانية عشر شهرا حتى إذا كان شهر ربيع الاول 707 هـ خضر حسام الدين مهما بين عيسى أمير العرب إلى مصر ، ودخل السجن ، واخرج الشيخ بنفسه بعد أن استأذن في ذلك.
وخرج الشيخ فأقام بالقاهرة يعلم الخير ، وينشر العلم ويجتمع عليه الناس ، حتى تقدم الصوفية بشكاية ضده إلى القاضي وذكروا أنه يتناول ابن عربي وغيره من أعلام التصوف في الكلام ، وهؤلاء عند الصوفية حريم مقدس لا يمس ، فخير الشيخ بين أشياء : أن يقيم بدمشق أو يقيم بالإسكندرية بشروط أو يحبس ، فكان أن اختار الحبس مؤثرا له على قبل تلك الشروط ، ودخل السجن في العام الذي خرج فيه.
ورغب أصحاب الشيخ إليه أن يجيب في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرطوه عليه ، فأجاب وركب متوجها إلهيا فأبى خصومه إلا يكون في قبضتهم وتحت أعينهم ، فصدر الأمر برده إلى القاهرة ، فرد من الغد إليها ، وأرسل إلى حبس القضاة ، وأذن بأن يكون عنده من يخدمه ، وكان السلطان الناصر بن قلاوون عارفا قدر الشيخ ، محبا له ، إلا أنه في تلك الفترة كان قد عزل نفسه ، وتولى السلطنة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير، وكان تلميذا لنصر المنبجي الصوفي الذي يصدر عن شرب ابن عربي في آرائه وأقواله ، فأصبح شيخ الإسلام عدوا سياسيا على نحو ما ، إذ ينظر إليه على أنه من أنصار الناصر بن قلاوون ، ويقول في أمور الاعتقاد بغير ما يقول به السلطان بيبرس وشيخ المنبجي الصوفي .
وتقرر نفي الشيخ إلى الإسكندرية في الليلة الأخيرة من شهر صفر سنة 709هـ ، ومكث بها نحو ثمانية أشهر " مقيدا ببرج مليح نظيف له شباكان أحدهما إلى جهة البحر ، يدخل إليه من شاء ، ويتردد عليه الأكابر والفقهاء والأعيان يبحثون معه ويتعلمون منه.
قال الألوسي ـ رحمه الله ـ : ولما دخل الحبس وجد المحابيس مشغولين بأنواع من اللعب يلتهون بها غما هم فيه كالشطرنج والنرد ، مع تضييع الصلوات ، فانكر الشيخ ذلك عليهم وأمرهم بلازمة الصلاة والتوجه إلى الله ـ تعالى ت بالأعمال الصالحة والتسبيح والاستغفار والدعاء ، وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه ، ورغبهم في أعمال الخير وحضهم على ذلك، حتى صار الحبس بالاشتغال بالعلم والدين خيرا من كثير من الزوايا والربط والخوانق والمدارس ، وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده ، وكثر المترددون إليه حتى كان السجن يمتليء منهم.
وظل الشيخ بالإسكندرية حتى عاد السلطان الناصر إلى عرش مصر في يوم عيد الفطر سنة 709هـ فأمر بإطلاق سراح الشيخ وحمله إلى القاهرة مكرما ما فخرج الشيخ منها متوجها إلى القاهرة ، ومعه خلق من أهلها يودعونه ويسألون الله ان يرده إليهم ن وكان وقتا مشهودا ، ووصل إلى القاهرة في الثامن عشر من شوال ، واجتمع بالسلطان في يوم الجمعة الرابع والعشرين منه.
واستمر الشيخ بالقاهرة ينشر العلم ، ويخارب البدع ، حتى توجه الجيش المصري قاصدا عزو التتار ، فلما وصل معهم إى عسقلان توجه إلى بيت المقدس ، ومنه إلى دمشق ، وجعل طريقه على " عجلون " ووصل دمشق أولى يوم من ذي القعدة سنة 712هـ وكان مجموع غيبته عن دمشق سبع سنين وسبع جمع.
عاد الشيخ إلى الشام فعاد إلى نشر العلم ، وتصنيف الكتب ، والإفتاء كلاما وكتابه يدور مع الكتاب والسنة حيث دارا.
وأفتى الشيخ ـ رحمه الله ـ في مسائل كثيرة من مسائل الفقه على حسب ما أدى إليه اجتهاده ، فكان أن أفنى في الحلف بالطلاق بعدم الإلزام ، وأنه لا يقع به طلاق ، وفرق بين الطلاق المعلق وبينه ، وخالف بذلك ما عليه الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب ، واستنكر الفقهاء من أتباع المذاهب فتوى الشيخ ، وجاهروا باستنكارهم ، وكان ذلك في سنة 718 هـ ، واشار قاضي قضاة الشام على الشيخ بالكف عن الإفتاء في هذا المسألة ـ مسألة الحلف بالطلاق ـ فقبل ـ رحمه الله ـ ووردت إشارة من السلطان بمنع الشيخ من الإفتاء بهذه المسألة ، ونودي بذلك في البلد ، ولكن الشيخ امتنع قليلا ثم عاد إلى الإفتاء حتى لا يقع في إثم كتم العلم.
وانعقد مجلس بدار الحكم بحضرة نائب السلطة حضره القضاة والفقهاء ، والمفتون من المذاهب الاربعة ، وعاتبوا الشيخ دون جداله ، وتكرر العتاب والرجاء ، ولم يفد كل ذلك شيئا فتقرر حبسه بأمر نائب السلطنة واستمر محبوسا خمسة أشهر وثمانية عشر يوما ، تبدأ من اليوم الثاني والعشرين من رجب سنة 720هـ ، وأفرج عنه بأمر السلطان في اليوم العاشر من محرم سنة 721هـ.
وعاد الشيخ إلى دروسة من جديد ، إلا أن الأعين المتربصة به ، والقلوب الناقمة عليه ، كانت له بالمرصاد ، واجتمع المتأمرون عليه ، وكاتبوا السلطان فجاء الأمر إلى دمشق في السابع من شعبان سنة 726 هـ بحبس الشيخ في القلعة قلعة دمشق.
وفرح الشيخ الحبس هذه المرة ، وأخذ يطالع في سجنه وينصف التصانيف ويرسلها خارج سجنه ، حتى ورد مرسوم السلطان بإخراج ما عنده من كتب وأوراق ومحابر وأقلام ومنع منعا باتا من المطالعة ، وكان ذلك في اليوم التاسع من جمادي الآخرة سنة 728هـ.
ولم يطل الأمر بالشيخ ـ رحمه الله ـ فقد مرض في محبسه وكانت مدة مرضه بضعة وعشرون يوما واستأذن الوزير شمس الدين في الدخول عليه لعيادته فإذن له الشيخ في ذلك ، فلما جلس عنده أخذ يعتذر له عن نفسه ، ويلتمس منه أن يحله مما كان منه ، فأجابه الشيخ أنه قد أحله مما كان منه لكونه فعل ذلك مقلدا غير معذورا ولم يفعله لحظ نفسه ، وقال : قد أحللت كل أحد مما بيني وبينه إلا من كان عدوا لله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ثم توفى الشيخ رحمه الله ليلة الأثنين لعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، وكان بعد إخراج كتبه قد عكف على كتاب الله عز وجل ، فكان يختم كل عشرة ايام ختمه.
آثاره العلمية رحمه الله :
وهي كثيرة جدا متنوعة تضيق هذه الترجمة المختصرة على استيعابها ، و أشهرها من المنشور :
مجموع القتاوى سبع وثلاثون مجلدا
الفتاوى الكبرى خمس مجلدات
درء تعارض العقل والنقل تسع مجلدات
منهاج السنة النبوية
اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم
الصارم المشهور على شاتم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
الصفدية مجلدان
الاستقامة مجلدان
السياسة الشرعية للراعي والرغبة
الفتاوى الحموية الكبرى
نقض المنطق
أمراض القلوب وشفاؤها
الحسنة والسيئة
مقدمة في علم التفسير.
وفاته رحمه الله
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ ما ملخصه
وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين المذكورة ـ أي ليلة العشرين من ذي القعدة سنة سبع مائه وثمان وعشرون هـ ـ فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة بها ، وتكلم به الحراس على الأبرجة فيما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم ، والأمر الجسيم فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه ، فحارت الدولة ماذا يصنعون وجاء الصاحب شمس الدين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه ، وجلس عنده ، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب ، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية فجلسوا عنده يبكون ويثنون " على مثل ليلى يقتل المرء نفسه " وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي ـ رحمه الله ـ وكشفت عن وجه ونظرت غليه وقبلته ، وعلى رأسه عمامة مغروزة ، وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه ، وأخبر الحاضرين أخوة زين الدين عبد الرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة وشرعا في الحادية والثمانين فانتهينا إلى آخر اقتربت الساعة إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر من سورة القمر
فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيران : عبدالله بن المحب ، عبد الله الزرعي الضرير ـ وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما ـ فابتدءا من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى.
ثم شرعوا في غسل الشيخ ، وخرجت إلى المسجد هناك ، ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الأخيار أهل العلم والإيمان ، فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة ، وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم ، ثم ساروا به إلى الجامع ودخلوا بالجنازة إلى الجامع الأموي والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمنيها وشمالها مالا يحصى عدتهم إلا الله ـ تعالى ـ فصرخ صارخ وصاح صائح وهكذا تكون جنازة أئمة السنة ، فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ ، ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة ، وجلس الناس من كثرتهم وزجمتهم على غير صفوف ، بل مرصوصين رصا ، وجاء الناس من كل مكان ونوى خلق الصيام ، لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب ، وكثرة الناس كثر لا تحد ولا توصف.
وبالجملة كان يوما مشهودا لم يعهد مثله بدمشق إلا أن يكون في زمن بني أمية ،حين كان الناس كثيرين وكانت دار الخلافة ، ثم دفن عند أخيه قريبا من أذان العصر على التحديد ولا يمكن أحد حصر من حضر الجنازة.
المصدر: http://www.alresalah.net/morenews.htm?id=408_0_2_0