ترعرع ابن النفيس في ربوع حمص ونشأ في وسط حقولها وحدائقها الغناء وكانت حمص هذه حاضرة مهمة من حواضر العالم الإسلامي حيث نبغ فيها علماء في الفقه والحديث وفي علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبيان ومعان وبديع
ومضى علاء الدين أبو العلاء ابن النفيس إليها وانضم إلى مدارس الفقه والحديث فيها وعكف على دراسة علوم العربية وبيانها وصرفها وأدرك معانيها وبديعها في زمن قياسي لم يعتده دارس قبل ابن النفيس فكان إطراء الأساتذة على تلميذهم النابه شديدا مشجعا حتى خيل للبعض أن ابن النفيس سيكون عالم فقه وحديث من الطراز الأول
ولكن ابن النفيس ذهب في اتجاه آخر حيث وجد نفسه تواقا للعلم والطب ولعل الدافع إلى دراسته للطب تعرضه في سنة ستمائة وتسع وعشرين للهجرة لأزمة صحية ألمت به يقول هو عنها قد عرض لنا حميات مختلفة وكانت سننا في ذلك الزمان قريبة من اثنين وعشرين سنة ومن حين عوفينا من تلك المرضة حملنا سوء ظننا بأولئك الأطباء الذين عالجوه على الاشتغال بصناعة الطب لننفع بها الناس
ولكن هذه الرغبة جوبهت بمعارضة شديدة من الأهل لأن دراسة الطب في تلك السنوات كانت شيئا جديدا على مجتمع حمص الذي كانت مجالس العلم فيه عامرة بالفقه واللغة والحديث ولذلك أدهشهم اختيار ابن النفيس للطب وكان والده أول المعترضين على رغبته في ذلك ولكن ابن النفيس أصر على دراسة الطب راجيا أباه أن يمنحه هذه الفرصة واعدا إياه بالعمل على بلوغ مركز متقدم فيها
وبعد نقاش طويل أقنع ابن النفيس والده بأهمية دراسة الطب فوافق على سفر ابنه إلى دمشق كي ينتظم في البيمارستان النوري نسبة إلى نور الدين زنكي منشئ هذا البيمارستان
وكانت دمشق في تلك الفترة تحت حكم الأيوبيين الذين كانوا يعتنون بالعلم عامة وبالطب خاصة وجعلوا من دمشق حاضرة للعلوم والفنون وكانت تضم في ما تضم مكتبة عظيمة تحوي نفائس الكتب وبيمارستانا عظيما اجتذب أمهر أطباء العصر الذين توافدوا إليه من كل مكان
وفي هذا المعهد درس ابن النفيس الطب على يد مهذب الدين عبد الرحيم طبيب العيون الشهير وعمران الإسرائيلي وكان طبيبا فذا وصفه ابن أبي أصيبعة بقوله وقد عالج أمراضا كثيرة مزمنة كان أصحابها قد سئموا الحياة ويئس الأطباء من برئهم فبرئوا على يديه بأدوية غريبة يصفها أو معالجات بديعة يعرفها
وفي سنة ستمائة وثلاثة وثلاثين للهجرة نزح ابن النفيس إلى القاهرة ويقال إنها كانت على أثر خصومة حادة مع ابن أبي أصيبعة فالتحق بالبيمارستان الناصري واستطاع بجده واجتهاده أن يصير رئيسا له وتلميذا للمدرسة الطبية الملحقة به ثم انتقل بعد ذلك بسنوات إلى بيمارستان قلاوون على أثر اكتمال بنائه سنة ستمائة وثمانون للهجرة
كما صار طبيبا خاصا للسلطان بيبرس البندقداري ملك مصر والشام طوال السنوات الاثنين والعشرين الأخيرة من عمر الظاهر بيبرس
ذاع صيت ابن النفيس الطبيب ولكنه لم ينس الاهتمام بدراسة الفقه على المذهب الشافعي فالتحق بالمدرسة المسرورية وقد عاصر في مصر أحداثا هامة كان لها تأثيرها على المنطقة والعالم منها الحروب الصليبية في الشام واجتياح هولاكو والتتر لبغداد وهدم التتار لها ما آلمه أشد الألم
بعد مضي تسع وثلاثين عاما على وجوده في مصر حل بها وباء اجتاح المدن والقرى وأصاب الناس إصابات بالغة
تصدى ابن النفيس لهذا المرض بكل شجاعة وعندما استفحل المرض واتسعت دائرة انتشاره وراح يفتك بالرجال والنساء والأطفال شكل فريقا طبيا كبيرا لتنفيذ وصاياه في معالجة المرضى
وبعد حوالي ستة أشهر استطاع هذا الطبيب السيطرة على المرض والقضاء عليه فكرمه المصريون وقدموا له الهدايا ولقبوه بالمصري وأغدقوا عليه الأموال ما مكنه من شراء دار فسيحة وعاش في بحبوحة وتردد على مجلسه العلماء والأعيان وطلاب العلم يطرحون عليه مسائل الفقه والطب والأدب ووصفه معاصروه بأنه كريم النفس حسن الخلق صريح الرأي متدين على المذهب الشافعي ولذلك أفرد له السبكي ترجمة في كتابه طبقات الشافعية الكبرى باعتباره فقيها شافعيا
اقترن اسم ابن النفيس باكتشافه الدورة الدموية الصغرى أو دوران الدم الرئوي التي سجلها في كتابه شرح تشريح القانون لابن سينا وقبل العالم الطبيب الإنجليزي هارفي الذي بحث في دورة الدم بعد ما يزيد على ثلاثة قرون ونصف من وفاة ابن النفيس وظل الناس يتداولون هذا الوهم حتى أبان عن الحقيقة محي الدين التطاوي في رسالته العلمية
غير أن اكتشاف الدورة الدموية الصغرى هي واحدة من إسهاماته العديدة بل يعزى إليه أنه اكتشف الدورتين الصغرى والكبرى للدورة الدموية ووضع نظرية باهرة في الإبصار والرؤية وكشف العديد من الحقائق التشريحية وجمع شتات المعرفة الطبية والصيدلانية في عصره وقدم للعلم قواعد للبحث العلمي وتصورات للمنهج العلمي التجريبي
وابن النفيس هو أول من طالب مرضاه بضرورة الاعتدال في تناول الملح وقدم أدق الأوصاف لأخطار الملح وأثره على ارتفاع الضغط كما أنه أبدع في تشريح الحنجرة وجهاز التنفس والشرايين وبين وظائفها
مؤلفات ابن النفيس
لابن النفيس مؤلفات كثيرة نشر بعضها وما يزال بعضها الآخر حبيس رفوف المخطوطات لم ير النور بعد من هذه المؤلفات
شرح فصول أبقراط الموجز في الطب شرح تشريح القانون وهو من أهم الكتب وتبرز قيمته في وصفه للدورة الدموية الصغرى واكتشافه أن عضلات القلب تتغذى من الأوعية المبثوثة في داخلها لا من الدم الموجود في جوفه ويظهر في الكتاب ثقة ابن النفيس في علمه؛ حيث نقض كلام أعظم طبيبين عرفهما العرب في ذلك الوقت وهما جالينوس وابن سينا غير أن أعظم مؤلفاته تتمثل في موسوعته الكبيرة المعروفة بالشامل في الصناعة الطبية
وكان ابن النفيس قد وضع مسودات موسوعته في ثلاثمائة مجلد بيض منها ثمانين وهي تمثل خلاصة الجهود العلمية للمسلمين في الطب والصيدلة لخمسة قرون من العمل المتواصل وقد وضعها ابن النفيس لتكون نبراسا ودليلا لمن يشتغل بالعلوم الطبية
كان ابن النفيس إلى جانب نبوغه في الطب فيلسوفا وعالما بالتاريخ وفقيها ولغويا له مؤلفات في اللغة والنحو حتى كان ابن النحاس العالم اللغوي المعروف لا يرضى بكلام أحد في القاهرة في النحو غير كلام ابن النفيس وكان يقضي معظم وقته في عمله أو في التأليف والتصنيف أو في تعليم طلابه
كتاباته الإسلامية
اهتم ابن النفيس شأنه شأن الكتاب المسلمين وعلمائهم بالعلوم الإسلامية كالسير والأحاديث وقد بقي من كتبه التي قيل عنها إنها كانت كثيرة كتاب في سيرة الرسول تحت عنوان الرسالة الكاملية في السيرة المحمدية وكتاب آخر في أصول الحديث تحت عنوان مختصر في علم أصول الحديث
وله رسالة في علم الكلام عارض فيها كتاب أبو حيان التوحيدي حي بن يقظان وهذه الرسالة تحت عنوان فاضل بن ناطق
كما كتب ابن النفيس كتبا في الفقه ولكنها كانت شرحا على التنبيه للشيرازي
ويقال إن ابن النفيس كتب في الفلسفة شرحا لكتاب الإشارات وآخر لكتاب الهداية في الحكمة للشيخ الأديب والرئيس ابن سينا ونلاحظ أن معظم مؤلفاته كانت تصنيفا وشرحا للكتب الشهيرة
وفاته
وفي أيامه الأخيرة بعدما بلغ الثمانين من العمر مرض ستة أيام مرضا شديدا وحاول الأطباء أن يعالجوه بالخمر فدفعها عن فمه وهو يقاسي عذاب المرض قائلا لا ألقى الله تعالى وفي جوفي شيء من الخمر ولم يطل به المرض؛ فقد توفي في سحر يوم الجمعة الموافق الحادي والعشرين من ذي القعدة ستمائة وسبعة وثمانين للهجرة الموافق السابع عشر من ديسمبر عام الف ومئتين وثمانية وثمانين للميلاد
المصدر: http://www.alresalah.net/morenews.htm?id=379_0_2_0