بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلي الله عليه وسلم، رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. أهلا وسهلا بكم فى الجزء الرابع من برنامج خدعوك فقالوا. اشتقت إليكم واشتقت إلى برنامج خدعوك فقالوا الذي في جزءه الرابع لن يكون بعيدا عن الأحداث التي نشهدها في عالمنا العربي والإسلامي.
هدفنا الكبير هو بناء العبد الرباني المتخلق بصفات وأخلاق الله عز وجل والذى هو خليفة الله فى أرضه. سنقدم لهذا العبد الرباني حلقة كل أسبوع هدفها هو تصحيح المفاهيم التى تساعد على بناء عقل وقلب هذا العبد الرباني الذي نأمل أن نكون كلنا هو.
السُنن الربانية
لما خلق الله سبحانه وتعالى الكون وضع له قوانين تسرى على جميع ما به من مخلوقات وعباد. القوانين التى يُسَيرَ بها الله سبحانه وتعالى الكون تُسمى السُنن الكونية وهى الثوابت أو كما يقول أهل العلم "عادة الله فى إدارة شئون مخلوقاته". يقول الله عز وجل: (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُون َ* وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ َ* وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ َ* لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس:37-40). فالنظام الكوني هو أن يخرج الليل من النهار فتظلم الدنيا وأن يَتبع النهارُ الليلَ. والقانون الكوني يُحتم أن تجرى الشمس من المشرق إلى المغرب، ولا يجوز لهذا القانون أن يتغير إلى أن يأتي يوم القيامة فتخرج الشمس من المغرب. وكذلك القمر له قانونه الذي يسيره فهو يزيد ويقل في الحجم إلى أن يصبح كالعرجون القديم أي الهلال، كما أن الشمس لا تستطيع أن تلحق بالقمر ولا لليل أن يأتي قبل النهار. والمقصود هنا هو أن نعلم أن هناك نظام كوني ثابت يُدار به هذا الكون وقوانين هذا النظام تسمي السنن الربانية.
أهمية التعرف على السُنن الربانية
في الجزء الرابع من برنامج خدعوك فقالوا سنتناول السنن الربانية وفى كل حلقة سنتناول سنة من سنن الله عز وجل وقانون من قوانينه التي يسير بها شؤون المخلوقات التي منها نحن عباد الله. وما يدعونا إلى الاهتمام بمعرفة ودراسة سنن الله عز وجل هو أنه لا يستقيم لعبد رباني يريد أن يكون خليفة الله عز وجل في الأرض أن لا يعلم عن سننه وذلك لأنها تُعلم عن الله سبحانه وتعالى، وبما أن "الحكم عن الشيء فرعٌ عن تصوره"، وَجَبَ علينا أن نتصور وأن نفهم كيف يعاملنا الله سبحانه وتعالى فنعلم كيف لنا وينبغي لنا أن نُعامل الله سبحانه وتعالى. وسأقرب لكم المعني بهذا المثل، ولله المثل الأعلى.. كيف لك أن تعمل في شركة وتنجح في عملك وأنت لا تعرف نظام الشركة وقوانينها التي تطبق عليك وطُبقت على كل من جاء من قبلك وستطبق كل من سيجيء من بعدك؟! وبالمِثل فنحن في حاجة إلى أن نعلم وأن نعرف ما هي القوانين التي يطبقها الله سبحانه وتعالى علينا لأنه لا يستقيم لنا أن نعيش ونحن لا نفهم لماذا الأحداث التي تحدث من حولنا تحدث، ولا يستقيم لنا أن نعيش ونحن مصدومون بأحداث الدنيا، ولا يستقيم لنا أن نعيش ونحن لا نعلم تفسيرا للأحداث التي تأتي مغايرة لتوقعاتنا. فمثلا من المعلوم أن لكل ظالم نهاية ولكن منا من لا يفهم لما قد يؤخر الله عز وجل الانتقام من الظالمين وإنهاء ظلمهم، بل ولما - في بعض الأحيان- قد يُوسع الله عز وجل على الظالمين في رغد الحياة.
ومنا من يقول أنا أتمني أن أنجح في هذه الحياة وأن أعيش سعيد وأن يعزني الله عز وجل وأن ينحل عني العسر الذي أعانيه في حياتي، والسؤال الجوهري الذي يجب أن يسأله كلٌ منا لنفسه هو لكي أحقق هذه الأمنيات ما هو القانون الذي أسير عليه فيحقق الله عز وجل لي هذه الأمنيات. نحن في حاجة إلى معرفة الثوابت التي إن فُعلت تحققت النتائج التي قال لنا الله عز وجل عنها. يقول الله عز وجل: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) (الفتح:23) وفي هذه الآية يشير الله عز وجل صراحةً إلى أن هناك قوانين سرت على من قبلنا وتسير علينا وستسير على من بعدنا. وأهمية معرفة هذه السنن هو أن معرفتها لا تجعلنا نعيش ونحن مخدوعون في الأحداث وجاهلين بحكمة الله تعالى في أفعاله. والتعرف على هذه السنن هو موضوع الجزء الرابع من برنامج خدعوك فقالوا.
إن الله سبحانه وتعالى يقدر عقولنا نحن البشر ولذلك فهو عز وجل أراد أن يُعلمنا بأفعاله سبحانه وتعالى معنا وفي هذه رحمة منه بنا. قال الله رب العالمين: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النساء: 26). ولكي نستطيع فهم واستيعاب هذه الآية سأضرب لكم مثلا.. هل تعلم عندما يربي الأب ابنه ولا يوضح له لماذا يفعل ما يفعله معه فإن عاقبه لا يقول له لماذا عاقبه، وإن سأله الابن عن السبب قال له لا تسأل والنظام هو أن لا تسأل. ولكن الله الرب الذي يربينا سبحانه وتعالى رحيم بنا ويقول لنا أنه يحب أن يبين لنا لماذا يفعل ما يفعله معنا وأنه يحب أن يبين لنا القوانين التي ستسري علينا من أجل أن نختار ما نريده أن يُفعل بنا، فإذا أردنا اليسر ما الذي نفعله فنجد اليسر، وإذا أردنا النصر ما الذي نفعله فنُنصر، وإذا أردنا التمكين ما الذي نفعله فيمكننا الله تعالى في الأرض، وإذا خفنا الهلاك ما هي الأفعال التي تنجينا من الهلاك. كل هذه سنن وثوابت ربانية يدير بها الله عز وجل شؤون الخلق. ومن منا يعلم هذه السنن فسيهتدي، استمع إلى قول الله عز وجل واستشعر حنانا من لدنه: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النساء: 26) استمع إلى الله سبحانه وتعالى وهو يحكي لنا عما فعلته أمم من قبلنا لتخرج من عثرة الفساد والكساد التي عاشت فيها لسنين مديدة وتصبح من أصحاب الحضارات وهذا هو ما تحتاجه شعوبنا الإسلامية الآن، واستمع أيضا إلى الله سبحانه وتعالى وهو يحكي لنا عما فعلته أمم هي من أصحاب الحضارات فوجب عليها الهلاك وتعلم عن سنة الهلاك. استمع إلى الله سبحانه وتعالى وهو يعلمنا عن سنة الرزق وكيف يُوسع الله على الخلق في الرزق، وعن سنة اليسر ولما وكيف ييسر الله لعباده. ويختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بالتأكيد على أنه "عَلِيمٌ" فهو سبحانه وتعالى عليم بأحوالنا، و بأنه "حَكِيمٌ" فهو سبحانه وتعالى حكيم في الثوابت التي شرعها وقدرها على الخلق. نحن في أشد الحاجة إلى معرفة ثوابت الله عز وجل وقوانينه لكي نفهم ومن ثم نحسن الاختيار في أمورنا كلها وهذا سينعكس على علاقتنا بالله عز وجل وسيساعدنا على التقرب منه عز وجل.
سيدنا علي رضي الله عنه هو أحد تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الدنيا تحكمها سنن وثوابت ربانية وأن الله سبحانه وتعالى قد امتلك العلم فلا تستجد عليه معلومة تتطلب منه أن يغير من أجلها قانون من قوانينه التي شرعها في تسيير الخلق. يقول سيدنا علي رضي الله عنه: "إذا أردت أن تعلم ما سيكون فانظر إلى ما كان فأن الأمور اشتباه" وذلك لأن الرب واحد وسننه سنن ثابتة تسير على كل عباده وجميع خلائقه. كان الله سبحانه وتعالى دائم التثبيت لرسوله مُحمَّد صلى الله عليه وسلم وكان مما يثبته به أن يعلمه أن ما يحدث له من اضطهاد قد حدث للرسل الذين سبقوه وأن الله عز وجل نصرهم لأن سنته هي أن ينصر المظلومين وأن يهلك الظالمين، وفي الآية التالية تثبيت وتذكير لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السنة: (وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء:67) (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ) (الإسراء:77). وتوضح هذه الآية أن سنة الله تعالى بمن يريد أن يخرج الحق - وأنت يا مُحمد رمزه - فسيهلك، وهذه هي سنة الله سبحانه وتعالى في من يريد إخراج رسله من أرضه ولا تغيير لهذه السنة، فها هو الله سبحانه وتعالى يهلك سبعين رجلا من كبار رجال قريش في موقعة بدر بعد عامين من إخراجهم لرسول الله من مكة وقيادتهم لحملة إخراجه. وذلك لأن سنن الله سبحانه وتعالى تجري على كل العباد وستجرى علينا كما جرت على من قبلنا وستجري أيضا على من بعدنا.
كيفية التعرف على السُنن الربانية
استمع إلى كلام الله سبحانه وتعالى وهو يأمرنا أن نسير في الأرض ونتعرف ونفهم سننه في أرضه، (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ...)(الروم: 42). والسير في الأرض يكون بطريقتين إما السير بالأقدام والسفر في أنحاء العالم فنتعلم من غيرنا، فنرى مثلا كيف أن الأمم السابقة أقامها الله لما أخذوا بأسباب سنة قيام الحضارات، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم لما انتهجوا منهاجا استتبع أن يجري الله عز وجل عليهم سنة الهلاك. وبخلاف السير بالأقدام فهناك السير بالعقول ويكون هذا السير بقراءة التاريخ وتدبره لكي نتعرف على مصائر الأمم السابقة ونستشرف مصائرنا نحن. وماذا عمن لا يصدق ويؤمن بهذه السنن؟ فهناك أيضا سنة للمكذبين. يقول الله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (آل عمران: 137) ولا تنخدع إن رأيت مكذبا لم تجري عليه من بعد سنة المكذبين، فهناك حكمة معينة لتأخير تنفيذ السنة على المكذب ولكنها حتما ستحدث، فاثبت على عقيدتك لأن السنن ثابتة والرب واحد.
أمثلة للسُنن الربانية
وبالإضافة إلى السنن التي ذكرناها من قبل، هناك سنة حفظ النعمة ومنع زوالها. فنحن كثيرا ما ندع الله سبحانه وتعالى ونستعيذ به من زوال النعم ولكن أفعالنا قد تتسبب في أن تجري علينا سنة زوال النعم، يقول الله عز وجل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل: 112). وهذه الآية لا تشير فقط إلى سنة زوال النعم بل هي أيضا توضح سنة الله عز وجل في تسير شئون عباده، فالأول هو إحداث الفعل المستوجب للإيقاع بالسُنة " فَكَفَرَتْ" ثم يستتبع الله عز وجل السُنة " فَأَذَاقَهَا".
وهناك أيضا سنة التمكين، تلك السنة التي يطلبها الكثير من الناس ويقولون "يا رب مكّن لأهل الحق في الأرض، يا رب ارفع عنا الظلم واحفظ أهل الخير"، فيقول لنا الله عز وجل هناك سنة للتمكين ويشير سبحانه وتعالى إلى سنته بـ "َتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ".. (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف:137). بني إسرائيل هم قوم سابقين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في مواطن كثيرة من القرآن الكريم ليقص الله عز وجل علينا قصتهم فنعتبر منها وقد جعل الله عز وجل ثلث القرآن قصص تقص علينا من أجل أن نعتبر ونتعلم. فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة الذين من قبل أو كيف كانت عاقبة المكذبين أو كيف كانت عاقبة المفسدين وهكذا. ويشرح الله عز وجل أنه "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ" أي القوم الذين كانوا يضطهدون في بلادهم "مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا" وحدثت السنة بأن "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى" وذلك نتيجة "بِمَا صَبَرُوا". فما هي الأسباب التي إن أخذنا بها مكن الله لنا في أرضه واستخدمنا في إعلاء كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله "؟
وهناك سنة أخرى مهمة وهي أنك إذا كنت صالحا سيختم لك بخاتمة صالحة وستذهب إلى الله سبحانه وتعالى عندما يحين الوقت عبدا صالحا، أما إذا كنت بعيدا عن الله سبحانه وتعالى ستذهب إليه عندما يحين الوقت بعيدا عنه. وهذه السنة ثابتة لا تتغير منذ أن أقرها الله عز وجل مخاطبا آدم وحواء: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) (طه: 123) وتلك هي سنة السعادة في الدنيا. ويكمل الله عز وجل لنا شرح سننه ويقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124) وتلك هي سنة الشقاء في الدنيا، ( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (طه:125-126)) وفي هذه الآية بيان لنا عن الخدعة التي قد يعيشها شخص ما والتي تتضح له يوم القيامة فيسأل: " رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا"؟ فيرد الله عز وجل عليه ويقول له " كَذَلِكَ" في إشارة إلى أن ما هو عليه يوم القيامة هو نتيجة لما فعله من قبل في الدنيا، ويقر الله سبحانه وتعالى أن هذه هي سنته التي يسيرها على كل البشر (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه: 127)). سنن الله عز وجل ثابتة تسري على البشر، لا تتغير.. فلا تعيشوا مخدوعون لأنكم لا تعلمون عن الله عز وجل.
ميدان التحرير.. والسُنن الربانية
السنة الربانية هي عادة الله في تسيير شئون الخلق، وأن كلمة سنة تأتي في خاطرنا على أنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن السنة الربانية هي الثوابت والقوانين التي يُدار بها شئون حياتنا، وأننا إذ لم نتعلم هذه السنن قد يتسلل لنا شك في أن ما يحدث مخالف لما وعد به الله تبارك وتعالى الآن، لكن وعد الله تعالى سيتحقق ولو بعد حين. عندما نأخذ بأسباب تحقيق السنة فنحن لابد أن نفهم كيف تتحقق السنن، كيف ينصر المظلوم، كيف تُبنى الحضارة ويمكّن الله لنا.. كيف ينجح الله تعالى فرد، فماذا يفعل هذا الفرد لكي ينجحه، وماذا يفعل لكي يسعده، وكيف يرزق فرد.. ماذا يفعل لكي يرزقه، وماذا يفعل لكي يهلكه.. إننا في حاجه كي نفهم هذه السنن، وماذا نفعل لكي تسري علينا، وماذا نفعل لكي ينجينا الله من سنة قد يكون فيها هلاك لنا.
أقوى شيء أن تجد سنن ربانية تحدث في أيام قليلة متتالية، ويكأن الله يقول للناس "احذروا.. الله حي"، يدير هذا الكون وشئون العباد، وقد رأينا في تونس ومصر سنن ربانية، سنن تمكين ونصر في فترة قليلة جدًا، ورأينا سنن ربانية تحققت في مصر في أيام قليلة..
رأينا داخل ميدان التحرير سنن ربانية كثيرة حدثت، منها أن وعد الله لا يتخلف.. وفي ميدان التحرير حدثت القصة، القصة التي علمتنا أن التاريخ يعيد نفسه، وأن سنن ربنا الذي يسير بها شئون عباده تتكرر في كل زمان ومكان، قصة عشناها وستظل دائما حيه بداخلنا.. في ميدان التحرير كانت مواجهة من أصعب المواجهات، أهل الحق تركوا بيوتهم لمحاربة الفساد وإزالة مرارة سنوات طوال عشنا فيها، وفي ذروة مواجهة الفساد قيل عنهم عملاء لجهات أجنبية، وأنهم سيضيعوا البلد، وأنهم مخدوعين...الخ، ومع ذلك كله ثبتوا.. لأنهم يعلموا أن سنة الله في عباده أن أي تغيير للأفضل لابد وأن يكون محفوف بالفتن.
وفي هذا المكان "ميدان التحرير" دارت أكبر معركة بين الشباب العُزل وبين بلطجية يقذفونهم بالحجارة، وبـ تيل الفرامل، ومن أسطح البنايات كانوا يقذفون عليهم قنابل تسمى "قنابل المولوتوف"، ومن أسطح بنايات أخرى هناك قناصة بأحدث بندقيات ليُصوبوها على الرأس مباشرةً، و آخرون يركبون جمال وخيول ومعهم عصي وسيوف لكي يضربوهم بها، يضربوا شباب مصر العُزل، شباب مصر الثابت، ومع كل هذا ثبتوا على هذه الأرض، ثبتوا لأن سنة الله تبارك وتعالى تحققت فيهم.. أن الله تبارك وتعالى ينصر أهل الحق، حتى لو كانوا قلة..
وفي مسجد "عمر مكرم" كانت هناك المستشفى الميداني.. كان كل ثانية يدخلها مصاب والصرخة في دمه في سبيل الوطن، وكل دقيقة يدخل شهيد محمول على الأكتاف وكأنها زفة.. شهيد رائحته مسك، ودمه حُر، وإذا نظرت في حياته لرأيته كان يحيا بروح الشهيد لكي يتحقق فيه سنة الله التي هي: "من عاش على شيء مات عليه"، وأن الجزاء من جنس العمل.
في وسط الميدان آلاف المصريين، كبار وصغار، كل منهم يضع قلبه على يديه ولا يفكر في شيء سوى أن يعين ويساعد من حوله.. فإذا أردت الجلوس تجد ألف شخص يجلسك، وإذا أردت أن تأكل تجد من يُطعمك، الكل يتبرع بدمه كي يسير دمه في عروق أخيه.. الطبيب جاء ليعالج ويساعد، والفنان أتى ليرسم ما بقلب أخيه ليضعه على لوحه ويعبر بها أمام العالم، لذلك كان الأمر الطبيعي أن الله يساعدهم ويعلي من شأنهم، لأن من سنة الله تبارك وتعالى أن الذي يعين ويساعد ويكون في خدمة أخيه، الله تبارك وتعالى يعينه، ويساعده، ويرفع شأنه.
وأجمل مشهد ممكن أن تراه عينيك أن تجد مسيحي يسكب الوضوء للمسلم، والمسلم يقف في ظهر المسيحي وهو يؤدي صلاته. كل الأفكار، كل الاتجاهات، حتى العقائد المختلفة نبذت الخلافات التي كانت بينها ووحدوا أيديهم من أجل مصلحة الوطن، ويتحقق فيهم سنة الله تعالى وهي: "يد الله مع الجماعة".
وكنا نتسائل مرارًا وتكرارًا، لما يترك الله تبارك وتعالى الظالمين يظلموا ويطغوا على الضعفاء ويأخذوا حقهم؟! في ميدان التحرير وجدنا الإجابة وتحققت سنة الله تبارك وتعالى أنه قد يمهل للظالم ويتركه يعيش بيننا ويعطه فرصة ليتوب ويُعيد الحق لأهله، لكن إن ظل يتكبر وأفسد في الأرض، فهلاكه حتمي ولو بعد حين.
في كل جزء من الميدان وجدنا سنة من سنن الله تبارك وتعالى تتحقق، سنن يسير الله بها شئون عباده الأحرار الذين ولدوا أحرارًا، ولابد أن يحيوا أحرارًا.
مؤمن آل فرعون..
كان هناك شخص يُدرك سنن الله تبارك وتعالى، والناس من حوله لم يكونوا مدركين كيف يسير الله تعالى شئون خلقه، فلم ينخدع بالأحداث التي تحدث من حوله.
هو مؤمن آل فرعون الذي وقف أمام فرعون ووزراء فرعون وجنود فرعون، وقتما كان سيدنا موسى عليه السلام يتحدث إليهم.. فقال لهم اتبعوا موسى، لا يغرنكم أن الله تبارك وتعالى تارككم وأنتم مكذبين بالرسل، فالمكذبين بالرسل سيحدث معهم كما حدث مع الأقوام السابقين.. يقول الله تبارك وتعالى على لسان مؤمن آل فرعون: [يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا- إذا نزل علينا انتقام الله تبارك وتعالى من الذي ينصرنا- قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى– الذي آراه هو الصواب- وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ] {غافر:29}، أنت لم تفهم شيئًا يا فرعون لأنك لم تتعلم سنة الله في كونه.. [وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ- التكرار- قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ- مثلما كان يفعلوا هذه الاقوام، والذي سيحدث لكم مثل ما حدث لهم- وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ]{غافر31:30}، وبعد ذلك [وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآَخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ] {غافر39:38}، ثم قال لهم سنة الله تعالى في مكافأه المحسنين وعقاب الظالمين: [مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ]{غافر:40}، وقد ثبته الله تعالى لأنه فهم السُنن أمام هذا الجمع، لأن الله تبارك وتعالى ينصر أهل الحق ولو كانوا قلة، فهو ليس بمهزوز بل ثابت العقيدة، لذلك قال الله تبارك وتعالى: [فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ] {غافر:45}، فأجرى الله عليهم سنة هلاك المكذبين، وأجرى عليه سنة تثبيت الله له ونُصرة أهل الحق ولو كانوا قلة.
الختام
لا يجب على من يسير بعكس اتجاه السير أن يتذمر حينما يعاقب، ذلك لأنه خرق النظام المتعارف عليه، وإن كانت مشكلته هي مجرد سوء فهم، فهذه مشكلة تخص هذا الشخص وحده، فالنظام متعارف عليه ويسري على غيره كما يسري عليه.. وكذلك من يسلك طريقًا غير طريق السنن الربانية سيواجه نفس المصير.
سيدنا علي بن أبي طالب مع السُنن الربانية..
وجد سيدنا علي كرم الله وجهه نفسه في موقف لم ينجده منه سوى علمه بالسُنن الربانية. فوقت أن كان قاضيًا أوتيَ إليه بلص، فأمر بقطع يده، فظل الرجل يقسم على أنها كانت أول مرة له، وجعل يترجاه في أن يسامحه. فقال له سيدنا علي سنة ربانية.. قال: لا، إن الله لا يفضح عبده من أول مرة، وقطع يده، فجاءته أم هذا الشاب، فسألها إن كان ابنها قد سرق من قبل أم لا، فأجابت بأن هذه هي المرة السابعة عشر التي يسرق فيها!!
ما جعل سيدنا علي الحُكم في الأمر بما أنزل الله، أنه يعرف أن الله لا يفضح العبد من أول مرة يرتكب فيها الذنب.. فعلمه وإدراكه بالسنن الربانية جعلته يثبت على موقفه.
السيدة خديجة رضي الله عنها مع السُنن الربانية..
أتذكرون موقف السيدة خديجة يوم أن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في غار حراء..؟ حينها جاء رسول الله للسيدة خديجة وقال: "زَمِّلُونِى زَمِّلُونِي" وقد كانت هذه هي أول مرة يرى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام.. ساعتها قال لها رسول الله "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى" فقالت له السيدة خديجة سنة من السنن الربانية: "كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ" وكأنها تقول له: "يا محمد لا يمكن أن يضيعك الله طالما كنت تعين غيرك" فسبحان الله أن تكلمت عن السنن الربانية قبل دخولها الإسلام.
سنسعى لتقوية عقيدتنا بالله عز وجل عن طريق تعلم سنة من سننه كل أسبوع.. فعندما نفهم، نتوصل إلى الطريقة التي يجب أن نتعامل بها مع الله سبحانه وتعالى.
الواجب العملي
في كل حلقة سنتفق على واجب عملي، وسنطلق عليه اسم "ثورة". والحقيقة أنه لا يجوز أن تثور الشعوب لإنهاء الفساد واسقاط الأنظمة التي لا ترضى عنها، بينما لا تثور على نظامها الداخلي، الذي قد لا يتفق مع سنن الله عز وجل.. ففي كل مرة سنقسم الواجب العملي إلى قسمين:
وصلى اللهم وبارك على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين.
قام بتحريرها: قافلة التفريغ والإعداد بدار الترجمةDaraltarjama.com© جميع حقوق النشر محفوظةيمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخرى فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع للاستعلام: management@daraltarjama.com
http://mustafahosny.com/article.php?id=1348